الفتنة وسياقاتها المعرفية لدى تيارات التشدد

الفتنة وسياقاتها المعرفية لدى تيارات التشدد

محمد حلمي عبد الوهاب*

يمكن القول: إن (وثيقة ترشيد العمل الجهادي) والتي أصدرها سيد إمام، المعروف بالدكتور/ فضل، أحد أهم المنظرين لجماعات الجهاد وعلى رأسها تنظيم القاعدة، قد أعادت فتح ملف المراجعات مرة أخرى. فبعد مرور أكثر من خمس سنوات على نشر كتب مراجعات الجهاد الأربعة تحت عنوان (سلسلة تصحيح المفاهيم) في يناير سنة 2002م، فرضت قضية المراجعات نفسها على الساحة الدينية والثقافية والسياسية بفضل المراجعات الجديدة، والتي يضاعف من أهميتها أن صاحبها يحظى بتأييد يتجاوز حدود مجموعته الجهادية إلى ما هو أشمل منها على المستوى العالمي.

وفي سياق الزخم الإعلامي الذي رافق الإعلان عن نشر المراجعات وصاحبها، لم يتسن لأغلب الباحثين الوقوف على أبعادها ومستوياتها وسياقاتها المعرفية والسياسية على حد سواء. كما لم تطرح أغلب التغطيات تساؤلات (المابعد) فيما يتعلق بمستقبل ومصير وأثر هذه المراجعات بالنسبة للجهاديين وللحياة السياسية، وحتى بالنسبة للشخص العادي الذي دفع فاتورة أخطاء هؤلاء. فهل نحن إزاء تأسيس جديد لمرجعية أخرى داخل المرجعية الأساس للتيار الجهادي؟ أم أن تلك المراجعات لا تعدو كونها مجرد مناورة وخطوة تكتيكية في أفضل الأحوال؟

يمكن القول: إن اختلاف الباحثين بشأن المراجعات وتقييمها ينبع في الأساس من تباين المنهج الذي يعتمدونه في قراءتها، ففي الوقت الذي يميل فيه أغلب هؤلاء لقراءتها وفق آليات (تحليل النص)، يميل البعض الآخر إلى قراءتها من خلال (تحليل الخطاب). ومن ثمة يمكننا إبراز أهم السياقات المتاخمة للقراءتين للخروج بقراءة ثالثة تحلل النص وفقا لسياقاته الأربعة التي سنعرض لها، كما تنتهج تحليل الخطاب في بحث ورؤية مدى التطور الذي حدث بشأن المراجعات.

بداية، تجدر الإشارة إلى أن العالم الإسلامي، وإن كان قد شهد العديد من المراجعات الجهادية، إلا أن حالة جماعة الجهاد المصرية بالتأكيد لها سماتها الشخصية وخصوصياتها الذاتية. فمن ناحية، ترتبط هذه الجماعات بالمناخ المصري العام الذي نشأت فيه، حتى وإن تجاوز تاثيرها حدود دوائرها الأولية. ومن ناحية ثانية، ترتبط هذه الجماعات بالسياق العربي والإسلامي ككل، فضلا عن أنها تتشابه بالمثل مع تراجعات أغلب الحركات السياسية الأيدولوجية العالمية، والتي حدثت ضمن سياقات ورهانات تاريخية محددة.

أضف إلى ذلك، أنه فضلا عن دور صاحب المراجعات ومكانته في العمل الجهادي/الحركي، أثارت أدبياته الجهادية قديما الكثير من الجدل وأثرت بالمثل في تشكيل وعي الآلاف من الجهاديين، وبصفة خاصة كتابيه (العمدة في إعداد العدة)(1) المنشور سنة 1988م، و(الجامع في طلب العلم الشريف)(2) المنشور في 1993م.

وحقيقة القول، إن المراجعات الأولى قد سبقها مناخ ثقافي أتاح لها شيئا من القبول حال ظهورها، حيث مهدت الكتابات التي سبقتها في إعادة النظر لبعض المبادئ الحاكمة للعنف. وضمن هذه الكتابات تقع مقالة كمال حبيب حول (الحركة الإسلامية المعاصرة)(3) والتي نشرت بمجلة (المنار الجديد) في عدد يناير 1998م، وكتابه المهم (الحركة الإسلامية من المواجهة إلى المراجعة)(4).

غير أن الذي يهمنا هنا، ليس تقييم المراجعات أو الحكم عليها، وإنما بحث الإشكالية الخاصة بحكم الخروج على الحاكم والتي خصصت لها الحلقة الخامسة من وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم(5). فعلى الرغم من أن النهي عن الخروج على الحاكم، حتى ولو كان جائرا، ليس أمرا جديدا، وإنما يتواتر في الأدبيات الفقهية والأحكام السلطانية، إلا أن وروده بهذه الوثيقة يكتسب أهمية تاريخية لصدوره من قبل أحد أهم رموز الجهاد المشتغلين به عمليا المنظرين له فقهيا وفكريا في العالم الإسلامي.

وعلى كل حال، سننطلق في مقاربتنا هذه من المراجعات نحو مزيد من التجريد لبحث إشكالية (الخروج/الفتنة) وسياقاتها المعرفية والتاريخية في التجربة الإسلامية. ويمكن القول: إن ثمة العديد من التساؤلات التي تثور هنا حول ما يتعلق بصفة خاصة بالأسباب التي دفعت الفقهاء عموما لتأكيد النهي عن الخروج على الحاكم، حتى ولو كان جائرا، واعتبار ذلك من قبيل الإجماع.

فهل يتعلق صدور هذا الحكم بفداحة ثمن الخروج على الحاكم كما بدا واضحا في سياق التجربة السياسية التاريخية للأمة الإسلامية؟ أم يتعلق بالتعويل على جملة النصوص الواردة بشأن الفتنة في القرآن والسنة؟ أم لا يتعلق الحكم بهذا ولا ذاك، وإنما بمحض الصراع على مشروعية المعارضة بين الفقيه والسياسي وواقع التوظيف السياسي المُحرم لمفهوم الفتنة تاريخيا؟!

أولا: الفتنة وسياقاتها المعرفية

وردت لفظة (الفتنة) في القرآن الكريم لتفيد أحد معنيين رئيسين(6): أولهما، الفتنة بمعنى الاختبار والامتحان والابتلاء الإلهي، سواء كان ذلك على مستوى الفرد المسلم أو الجماعة المؤمنة برمتها قولا وسلوكا وعملا. والفتنة بهذا المعنى وردت فيما لا يقل عن أربعين آية قرآنية، كقوله تعالى: ﴿واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة﴾(الأنفال: 28) وقوله تعالى: ﴿إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم﴾(القمر: 27).

وهي بذلك ترادف لفظة (المحنة)، والتي تعني عموما كل شدة يتعرض لها المرء من مرض ونحوه، غير أنها حين تطلق مقترنة بلفظة العلماء أو أي جماعة فكرية أو دينية، يقصد بها الاضطهاد من قبل ذوي النفوذ والسلطان، بغض النظر عن حجمه: إهانة كان أو تأنيبا، قتلا أو تعذيبا...إلخ(7).

المعنى الثاني: هو الانقسام الداخلي الذي يمزق جسد الجماعة أو الأمة، أو ما يعبر عنه حاليا بالحرب الأهلية. وترد الفتنة في القرآن حسب هذا المعنى في سبعة أو ثمانية مواضع فقط(8) كقوله تعالى: ﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة﴾(البقرة: 93) وقوله: ﴿ألا في الفتنة سقطوا﴾(التوبة: 49)، وقوله: ﴿ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لآتوها﴾ (الأحزاب: 14).

وإذا انتقلنا إلى الأحاديث والآثار الواردة بهذا الشأن، وخاصة تلك التي انتشرت إبان القرنين الأول والثاني الهجريين، لوجدنا أنه يتم الاقتصار على استخدام الفتنة بمعناها الثاني، فيما فضل الكتاب استخدام لفظة (المحنة) بدلا من الفتنة للدلالة على المعنى الأول.

وفي كل الأحوال، ترد لفظة الفتنة في الأحاديث والآثار والنقول والأقوال للدلالة على، والتحذير من، الانقسام الداخلي الذي يهدد كيان الأمة كما يثير الرعب لأقصى درجة من انتشار الفوضى أو (الهرج) حسب التعبير الكلاسيكي.

ومن الملاحظ في هذا السياق أن الرعب الناشئ عن الفتنة لم يكن فقط بسبب سفك الدماء، وإنما أيضا بسبب الخوف من الفوضى، أي انعدام السلطة الضابطة والحارثة للمجتمع، وهو ما بدا واضحا في الفتن الكبرى في تاريخ الإسلام. وهو أمر بديهي ما دام الخليفة يحتل موقعا مركزيا في السلطة، الأمر الذي أباح للصحابي الجليل حذيفة بن اليمان أن يصف مقتل عثمان بن عفان بأنه كان بمثابة (حبل الله الذي انقطع) استنادا لقوله تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا﴾(آل عمران: 103).

ثانيا: تطور الفتنة تاريخيا

شهد دار الإسلام في القرن الأول والثلث الأول من الثاني، أربعة نزاعات كبرى هزت كيان الأمة وأثرت في وجدانها على مستوى كل من الفكر والممارسة. حيث بدأت الفتنة الكبرى بمقتل عثمان -رضي الله عنه-، وبلغت ذروتها بمقتل خلفه علي -كرم الله وجهه-، أي أنها غطت تقريبا الفترة من 35 إلى 40هـ.

اشتملت هذه الفتنة على العديد من المعارك كان أبرزها معركة الجمل بين علي والخارجين عليه، ومعركة صفين بينه وبين جيوش معاوية، وأخيرا حربه ضد المحكِّمة بسبب قبوله التحكيم. وقد راح ضحية هذه الفتنة أربعة من خيرة الصحابة هم: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير.

أما الفتنة الثانية، فبدأت بمقتل الحسين في كربلاء سنة 61هـ، مرورا بمقتل عبد الله بن الزبير وسعيد بن جبير وغيرهما على يد الحجاج، وليس انتهاء بنزاعات الأمويين مع الزبيريين فضلا عن النزاعات التي تمت بين القيسية واليمنية والمختار بن أبي عبيد طوال العشر سنوات اللاحقة لمقتل الحسين. وفي الفتنة الثالثة، والتي سميت بثورة ابن الأشعث من 82 إلى 84هـ، استولى الثوار على سجستان وأجزاء من خراسان كما انفصل العراق عن الشام(9). وفي الفتنة الرابعة بعد مقتل الوليد بن يزيد عام 125هـ انتشار الاضطراب والحروب حتى سقوط الأمويين وقيام الدولة العباسية.

ثالثا: الموقف من الفتنة، جدلية النص والتاريخ

يعكس الموقف العام من الخروج على الحاكم -تأييدا أو معارضة- ضربا من جدلية النص والتاريخ. فمن ناحية، ثمة نوعين من المرويات الخاصة بهذا الشأن تقف كل واحدة منها على طرف النقيض من الأخرى، ففيما تؤيد بعضها شرعية الخروج على الحاكم الجائر، تنزع الأخرى نحو النهي عن الخروج خوفا من وقوع الفتنة والمطالبة بالصبر والطاعة ولزوم الجماعة(10).

فمن الأحاديث الناهية عن الخروج الآمرة بالطاعة، قوله -صلى الله عليه وسلم-: من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع الإمام فقد أطاعني. وما روي عن حذيفة أنه قال: ليس من السنة أن تشهر السلاح على إمامك، وأيضا ما روي عن أنس بن مالك أنه قال: أمرنا كبراؤنا من أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- أن لا نسبّ أمراءنا ولا نغشهم وأن نتقي الله ونصبر، وكذلك ما روي عن الحسن البصري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تسبوا الولاة فإنهم إن أحسنوا كان لهم الأجر وعليكم الشكر وإن أساءوا فعليهم الوزر وعليكم الصبر وإنما هم نعمة ينتقم الله بهم ممن يشاء فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية والغضب استقبلوها بالاستكانة والتضرع.

وعلى الجانب الآخر، نجد أحاديث مؤيدة للخروج على الحاكم، كقوله -عليه الصلاة والسلام-: أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، ومن رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان، وأفضل الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله على ذلك...إلخ.

تعكس أحاديث المجموعتين موقفين مختلفين من السلطة، وتبعا لذلك كان الفقهاء والعلماء ينحازون إلى هذا الجانب أو ذاك، حيث انتظم في خط المقاومة فصائل المعارضة من الشيعة والخوارج وأبو حنيفة والثوري وسعيد بن جبير. فيما كان أغلب الفقهاء، وبخاصة ما بعد العصر الأموي، يميلون إلى عدم تأييد الخروج على الحاكم. وأوضح مثال على ذلك الحسن البصري والذي رغم إدانته المعلنة لممارسات الحجاج ووصفه إياه بأفسق الفاسقين، إلا أنه عندما سئل عن حكم الخروج على الحاكم قال لسائليه: اتقوا الله وتوبوا إليه يكفكم جوره، واعلموا أن عند الله حجاجين كثرا!!(11).

ومع أن الأحاديث السابقة، بجانبيها، لا تؤسس حكما فقهيا بالدرجة الأولى بقدر ما توضح أمرا عاما، إلا أن بعض الفقهاء أحالوا تأويلاتهم لها إلى حكم فقهي قطعي الثبوت والدلالة، فحين سئل أحمد بن حنبل، على سبيل المثال، عن حكم الخلافة بالغلبة أجاب: ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماما عليه، برا كان أو فاجرا!!(12).

ويبدو واضحا أن قوله (لا يحل) يحيل إلى حكم شرعي بتحريم وتأثيم، ليس فقط الخروج على الحاكم، وإنما أن يبيت المرء ليله دون أن يرى فيمن وصل إلى الحكم بغلبة السيف (أميرا للمؤمنين)، أي حرمة أن ينفي المرء عن الحكومة المغتصِبة صفة الشرعية ناهيك عن أن يدعوا للخروج عليها. هنا يخرج الفقيه عن إطار التأريخ لحادثة ما أو تقديم فتوى غير ملزمة لغيره نحو تأطير مبدأ عام وتنظير نظرية وتأصيل حكم شرعي يتسم بالتأبيد والدوام(13).

وفي السياق ذاته، نقرأ في أحد الأحاديث الواردة بالبخاري أن الرسول –صلى الله عليه وسلم- قال لأصحابه: إنكم سترون أثرة وأمورا تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم(14). مما يعني أن حق الأمراء معجل ولا بد من أداءه في الدنيا، فيما حق المحكومين المقهورين مؤجل إلى الآخرة، ومما حدا ابن حجر العسقلاني لأن يفسر الجملة الأخيرة (وسلوا الله حقكم) بقوله: أي سلوا الله أن يلهمهم إنصافكم أو يبدلكم خيرا منهم. الأمر الذي يمتنع معه المشاركة في التغيير وحق تقرير المصير ويبقى ذلك معلقا: إما بيد القدرة الإلهية أو بورع الخليفة وحصول الهداية له، أما الرعية فتبقى دائما وأبدا خارج المعادلة السياسية برمتها.

يعكس المثالين السابقين مأسسة (الفتنة) وتوظيفها سياسيا والواقع، أن توظيف (الفتنة) سياسيا يتجاوز الفقه إلى الأحكام السلطانية، والتي كانت تنتهج نهجا تبريريا وخطابا مجسدا في واقعين: واقع التاريخ وواقع الكلمات مما جعل مفهوم الطاعة يشكل المبدأ السياسي الملازم للسلطة. وعلى جانب الفقه، يبدو أن كثرة مراعاة الفقيه للظروف المحكمة وهلعه من الفتنة أدى به، في النهاية، إلى الخروج عن منطقه الأصولي وأفضى إلى جر المقاصد العامة في السياسة الشرعية للانقلاب إلى عكس مقصودها الأساسي.

ويمكن القول: إن محض النظرة المنتبهة للحجج التي يسوقها الفقهاء في سياق النهي عن الخروج على الحاكم، لتكشف عن مفارقة قارة فيها لم ينتبه لها الكثيرون. ذلك أن المحصلة النهائية لهذه الحجج تؤدي إلى أبدية القناعة التامة بأن الخروج منهي عنه ليس فقط بسبب ما يئول إليه، أي الفتنة أو الحرب الأهلية، ولكنه منهي عنه لأنه فتنة بحد ذاته. ولا أدل على ذلك من أن الجُنيد البغدادي كان يرى أن الخروج على الأئمة من فعل الجهلة الفاسقين.

فلماذا يرتبط الخروج على الحاكم بالحديث عن الفتنة؟ وهل المشكلة تتعلق بالميل إلى أحد الجانبين من الاستدلالات النقلية وتأويل الأخرى، أم تتعلق بإصدار الحكم مراعاة للظرف التاريخي الذي قيلت فيه؟ ولماذا، حتى على المستوى التدويني، يتم الربط بين الخروج والفتنة كما فعل البخاري في إدراجه الأحاديث الواردة بهذا الشأن ضمن كتاب الفتن.

وأيضا: ما المقصود بالكفر البواح كما جاء في الوثيقة، هل هو إعلان الكفر والخروج عن الشريعة الإسلامية فقط؟ وهل يعد خروج الحاكم حاليا عن الشرعية الدستورية وحكم القانون كفرا بواحا هو الآخر أم لا؟ وما معنى قول ابن تيمية في كتابه منهاج السنة: إن الخروج على أئمة الجور كان مذهبا قديما لأهل السنة ثم استقر الإجماع على المنع منه؟(15) ألم يكن المذهب القديم إجماعا في المقابل لا يجوز الخروج عنه؟! وهل المراجعات الحالية، يمكن توصيفها بأنها مراجعات جهاد رغم وصفها لحوادث العنف التي ارتكبتها بالجهاد، مع أنها كانت محض افتئات على السلطة وعدوانا على المجتمع ومن ثم، هل يجب مناقشتها باعتبارها (فتنة)؟

تؤكد وثيقة ترشيد العمل الجهادي أنه لا يجوز الخروج على الحاكم إلا في حالة واحدة وهي كفر السلطان مدللة على ذلك بالحديث المرفوع إلى النبي عن عبادة بن الصامت وفيه (وأن لا ننازع الأمر أهله... إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان). وحقيقة الأمر، أن الآثار الكثيرة الواردة في سياق استفظاع العنف الداخلي ومحاولة وضع الفتنة في مقابل الطاعة ووسم الخروج على الحاكم الجائر بأنه فتنة تعكس في الأساس مدى فعل السلطة في التاريخ.

وسواء أخذت هذه المراجعات انتفاء القدرة والكفاءة حاليا في حسبانها، أو قرأت النص حسب تركيبتها الأولى لمّا كانت تتبنى العنف عقيدة وشريعة ومنهاجا للتغيير، فإن كلا القراءتين منقوصتين وبحاجة إلى مراجعة ثالثة، أو بالأحرى قراءة ثالثة تأخذ في حسبانها حق الأمة في الخروج على الحاكم الجائر وتوسع من الأسباب المؤدية لذلك بدل اقتصارها على العامل الديني فقط، وفي الوقت ذاته، تؤطر لثقافة اللاعنف في المجتمع دونما توظيفه سياسيا.

كلا القراءتين إذاً بحاجة إلى موقف ثالث (وسط)، لأن إطلاق الخروج على الحاكم بدعوى أنه جائز أمر نسبي ومن السهل أن يوظف سياسيا مثلما تم توظيف النهي عن الخروج في المقابل. وأيضا التأكيد على النهي عن الخروج، أمر يحول دون حق الرعية في مساءلة الحاكم حال مخالفته الشرعية الدستورية. لذا فنحن في الواقع لا نميل لا إلى هذه القراءة ولا إلى تلك، وإنما إلى تبني موقف وسط بينهما.

والموقف الوسط ببساطة شديدة يؤكد مبدئيا حق الأمة في الخروج ويوسع من دائرته ليضم إلى جانب الخروج عن الشريعة الخروج عن الشرعية، ولكنه في المقابل يضع من الآليات والوسائل ما يحول دون الوصول إلى (الفتنة) من خلال التأكيد على ضرورة احترام الشرعية الدستورية في إطار العمل السياسي والاجتماعي العام، وتفعيل الآليات الدستورية الحاكمة لعلاقة الحاكم بالرعية، والالتزام بالسلم والسلمية وعدم استعمال العنف بأي شكل من جانب المعرضين.

ومثل هذا الموقف الوسط ما بين الخنوع والعنف، من شأنه أن يعيد مراجعة إشكالية (الفتنة) وفق منظور مختلف يضمن حق الرعية ويحول -في الوقت نفسه- دون الوقوع في (الفتنة). ويبقى القول إن كل نص يرتهن في الأساس إلى سياقاته التاريخية والمعرفية التي نشأ فيها وتأثر بها وهو ما سنناقشه في العنصر القادم.

رابعا: المراجعات وسياقاتها الأربعة

كيف نصف سياق المراجعات إذاً؟. في الواقع، ثمة نمطين رئيسين في كل مراجعة فكرية، الأول يُوصف بالخطوة والتراجع فيما يُطلق على الثاني المراجعة. فما الفارق بينهما؟ إذا قارنا مثلا إعلان الجماعة الإسلامية بمصر تراجعها عن استخدام العنف في 5 يونيو 1978م، بالمراجعات الحالية لاكتشفنا أن تراجع الجماعة الإسلامية كان بمثابة قرار وخطوة أكثر منه مراجعة، أما وثيقة ترشيد الجهاد فعلى العكس من ذلك لا تعد تراجعا وإنما بمثابة نقلة نوعية حددها صاحبها، فيما يؤكد ضياء رشوان، بعمليات أربعة(16):

اثنتان تتعلقان بالماضي، وهما إجراء نقد عميق للأنساق الفكرية العتيقة والتي كانت تحكم هذا الفضاء من قبل، يتواكب مع ذلك نقد جملة الممارسات العملية التي كانت تتم وفقا لذلك السياق الفكري/ العقائدي.

واثنتان تتعلقان بالمستقبل: الأولى، بناء نسق فكري طموح يطرح رؤية جدية ويرسم في المقابل مشهدا مغايرا لمستقبل الجماعة، يرتبط بذلك ضرب من الممارسة العملية والتي تتوقف على حدود المسموح والممنوع في الفضاء السياسي العام.

نحن إذاً إزاء تزاوج على المستويين النظري والعملي من جهة، والزمني الماضوي والمستقبلي من جهة ثانية. أما عن محددات النقلة التي حدثت في فكر صاحب المراجعات، فأمر يكفله المقارنة بين كتابيه العمدة والجامع من ناحية وبين الوثيقة الحالية من ناحية ثانية. ففيما يتبع في مؤلفيه السابقين ذات النهج التقليدي الخاص بالجماعات الجهادية، إن على مستوى الطرح أو الموضوعات، ينزع في الوثيقة الأخيرة نحو قلب المعادلة برمتها سواء على مستوى المنهج أو السياق.

لا يتعلق الأمر إذاً بإقرار حالة الاستضعاف ومن ثم تأجيل العمل بالجهاد لحين الخلاص منها، لأن حالة الاستضعاف هذه ليست أمرا فريدا هنا وغائب عن أدبياته السابقة. ففي كتابه العمدة في إعداد العدة طرح إمام تساؤلا بالمقدمة مفاده: ماذا يفعل المسلمون اليوم وهم على ما هم عليه من المهانة والاستضعاف؟(17). مما يعني أنه يقر بحالة الاستضعاف هذه في كل من الكتاب والوثيقة معا، ولكن كيف كانت إجابته هناك وكيف هي هنا؟ هذا هو بيت القصيد.

في إجابته عن تساؤله هذا في (العمدة) يوجب منظر الجهاديين على المسلمين التغلب على حالة الاستضعاف هذه والإعداد للجهاد. أي أنه لا يجعل الاستضعاف شرطا أو سببا لإلغاء الجهاد، الأمر الذي يبدو واضحا من سياق عنوان الكتاب ذاته (العمدة في إعداد العدة). أما في الوثيقة، فيجعل حالة الاستضعاف هذه سببا وشرطا لانتفاء وسقوط الجهاد؛ وإن لم يكن هذا بحد ذاته نقلة نوعية وثورة في فكر الجهاديين، وهم أكثر الحركات تشددا وانتفاءً لقبول النقد الذاتي والمراجعة، فما الذي يمكننا أن نصف به مثل هذه الخطوة إذن؟!.

أيضا من أهم المؤشرات الهامة الدالة على تطور الوثيقة وفكر صاحبها، نهْلِه من معين أدبيات أصول الفقه. فمن المعلوم أن الفارق بين أي حركة إسلامية وأخرى إنما يتمثل في ترتيب كل حركة لأولوياتها من جهة، وترتيبها أيضا لنسق وهرمية العلوم الإسلامية من جهة ثانية. ففيما تنزع الحركات الجهادية إلى الاهتمام بعلوم العقيدة أولا ووضعها على قمة هذا الهرم، تنحو الحركات اللاجهادية عادة نحو الاهتمام بالشريعة وتطبيقاتها.

وفيما تتوجه الحركات الجهادية دوما للتساؤل حول صحة العقائد في مجتمعاتها، بحيث يبدو كما لو أنه ليس ثمة تساؤل آخر تطرحه بأدبياتها، تكون مسائل الفقه وتطبيق الشريعة بمثابة الشغل الشاغل والهم الأكبر للحركات الإسلامية الأخرى، وهو ما يبدو واضحا حتى من خلال فكرها السياسي والذي تربط فيه قيام الدولة بتحقيق شرع الله في الأرض.

وفي الغالب تتلو الحركات الجهادية تساؤلاتها العقدية بإجابات مفادها أن كل مجتمعات الأرض في حالة من الجاهلية وأن كل حكومات الأرض مرتدة، كما قال سيد قطب من قبل، والذي تفرع عنه تلامذته فيما بعد مرددين نفس التساؤلات وذات الإجابات ما دام هدفهم الأول هو تعبيد الناس لربهم استنادا لقوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾(الذاريات: آية 56).

وتبعا لهذا السياق، غلب على صاحب المراجعات الاهتمام بالعقيدة في كتابيه العمدة والجامع سواء على مستوى ترتيب المباحث أو على مستوى الانشغال والمعالجة. أما فيما يتعلق بالوثيقة فقد غلب عليه -وللمرة الأولى- الاهتمام بالتأصيل الفقهي والتعويل على أدبياته التقليدية.

خامسا: رهانات خاسرة

تثير المراجعات -وفقا للفهم السابق- العديد من التساؤلات منها ما يتعلق بسياقاتها الداخلية أو الخارجية، ومنها ما يتعلق بمدى جديتها والحكم عليها وتقييمها. فما هو السياق العام الذي تتراجع به أي حركة أيديولوجية استخدمت العنف في الماضي لتحقيق أهداف سياسية لتتحول بعد ذلك إلى حركة سلمية وإن لم تمارس العمل العام؟. وماذا بعد المراجعات؟. ومن المخاطب بها؟. وما الدوائر الأوسع، والتي من المحتمل أن تتأثر بها؟. ووفق أي معيار يمكن الحكم عليها وتقييمها؟ وما مجمل الضمانات المحددة إزاء الجماعة لقبول أفرادها وإعادة دمجها مرة أخرى إن على مستوى الحراك السياسي أو العمل الدعوي؟.

يمكن القول إن طرح التساؤل المتعلق بالنوايا وما إذا كانت المراجعات مجرد مناورة أو خطوة تكتيكية، يمثل خطأ منهجيا بحد ذاته لأنه اختبار للنوايا من جهة، كما أنه ينطلق من تصور استاتيكي للجماعة والسياقات العامة المحيطة بها من جهة ثانية. على الرغم من أن نظرة أي جماعة دينية تباشر العمل السياسي، بغض النظر عما إذا كان ذلك بطريقة عنفوية أو سلمية، هي نظرة دينامية بالأساس تتحرك وفق بوصلة من المؤشرات والأحداث تتأثر بها وتؤثر فيها في آن. ومن ثمة يُخرج التساؤل حول نوايا المراجعات هذه الجماعات من إطار السياقات المصاحبة لها ويبحثها بمعزل عنها مما يفقدها أهميتها كما يضيع -في المقابل- فرصة الإفادة منها.

كيف يمكن تفعيل تسونامي المراجعات الجهادية إذاً؟. تدلنا الخبرة التاريخية، فيما يؤكد عمرو حمزاوي(18)، أن ثمة جماعات عنفوية تراجعت في البدء عن استخدام العنف بصورة تكتيكية ثم تحولت بعد ذلك لاتخاذ هذا التراجع موقفا مبدئيا أو جوهريا. لذا يتوجب علينا أن لا نُغلب هنا دور العامل الشخصي على مجموعة العوامل المحيطة به ودون أن نضعها في سياقها الاجتماعي ودون أن ندرك أيضا جملة الضغوط الممارسة عليها، سواء من قبيل الفضاء العام أو من النظام القائم.

وفي إطار السياقات يؤكد البعض أن ثمة عوامل أربعة مهمة شكلت ودفعت بسياق المراجعات للظهور مرة أخرى: أولها، هو الحساب العقلاني للمردود المتوقع من استخدام العنف نهجا سائدا لتحقيق أهداف الجماعة وامتناع العقل الاستراتيجي للحركة المعنية في لحظة محددة عن استخدام العنف وإقراره بأنه بات أمرا غير مُجدٍ ويذهب بالحركة بعيدا عن تحقيق أهدافها. يستوي في ذلك نبذ العنف اللانهائي/ الإطلاقي Indefinite violence، والذي لا يعترف بالحدود الأخلاقية، أو العنف المُرشد/ المعقلن على حد سواء.

ثاني العوامل الحاكمة لسياق المراجعات يتعلق بحالة رفض العنف لدى المجال أو الفضاء العام في حدود الدولة المعنية. فمن يقارن الفضاء المصري العام إبان التسعينيات من القرن الماضي وحدوده الآن، يلاحظ أنه لم يكن ثمة رفض قطعي الدلالة آنذاك لاستخدام العنف، أو على الأقل لم تكن درجة الرفض هذه بنفس الوضوح كما هو ماثل الآن.

العامل الثالث لفهم سياق المراجعات والدافع لها، يتمثل في حدود التغيرات الداخلية التي تطرأ على الجماعة من داخل، فعندما تتعاقب الأجيال ويتم تدويل القيادات داخل حركة ما، عادة ما تراجع الحركة بعض آلياتها ووسائلها الإستراتيجية.

أما العامل الأخير، فيتمثل في العلاقة الحاكمة والمباشرة بين الجماعة والمنظومة السياسية القائمة استنادا لحسابات الربح والخسارة. ذلك أنه عندما تتأكد مثل هذه الحركات من استقرار النظام السياسي لدرجة يتعذر معها تأثره بعملياتها، فضلا عن عدم إمكانية إزاحته كليةً، تتراجع عن استخدام العنف وتركن للمهادنة.

وفيما يتعلق بتساؤل المابعد، فهناك نمطين يمكن استخلاصهما من خبرات الحركات المماثلة خلال عقد السبعينيات من القرن الماضي(19):

أولهما، يرتبط بالتجربة الأوربية وحركات اليسار بها، كالألوية الحمراء بإيطاليا وألمانيا. فواقع الأمر أنه عندما تراجعت هذه الحركات عن استخدام العنف اختفت تنظيميا، وإن بقيت بعض أفكارها مترسبة في الفكر اليساري وقام على أساسها أحزاب سياسية فيما بعد، كحزب الخضر الألماني، أحد أهم الأحزاب السياسية المستقرة هناك. وفي المقابل، ثمة حالات أخرى اختفت فيها تلك الحركات كلية بشخوصها وأفكارها ولم تقم لها قائمة فيما بعد.

النمط الثاني، وهو أسبق تاريخياً، يتعلق بحركات التحرر الوطني والتي تستخدم العنف لتحقيق الاستقرار ثم تتراجع عنه، كالمؤتمر الوطني الإفريقي والجيش الأيرلندي ومنظمة التحرير الفلسطينية وعدد آخر من حركات التحرر الوطني في آسيا وأمريكا اللاتينية، إذ تتسم هذه الحركات بدرجة عالية من البراجماتية ومن ثم، فهي تستغني عن استخدام العنف كليةً حين يتضح لها إمكانية تحقيق هدفها التحرري بطريقة سلمية.

وبحسب عمرو حمزاوي أيضا، فإن ثمة عوامل أربعة حاكمة لسياق ما بعد المراجعات ومستقبل الحركات الجهادية:

أولها: مساحات الدور المحتمل لهذه الجماعات في الفضاء العام وما إذا كانت المنظومة السياسية ستتيح لها مساحة من حرية الحركة لتعلب دورا في الحراك السياسي السلمي في ضوء الشرعية السياسية، أم أنها سترتد إلى نقطة انطلاقها الأولى وتعود إلى مجالها الأصلي (الدعوي).

العامل الثاني، يتمثل في التساؤل حول القدرات البشرية للحركة وإلى أي مدى يمكن إدماجها في النسيج المجتمعي، وإلى أي نوع من المجال العام هي أميل: السياسي أم الدعوي؟.

ثالث العوامل، هو ذلك الذي يتعلق بأنماط التطور العام في السياق الإقليمي وما إذا تم على المستوى الإقليمي دمج مثل هذه الجماعات في الحياة السياسية أم على العكس من ذلك تم إقصاؤها واستبعادها.

أخيرا، من أهم العوامل الدافعة للمراجعات وإمكانية تفعيلها، هو موقف الفضاء المصري العام منها، وما إذا كان حاضرا بشأنها بمختلف قواه الحية وبقناعاته الذاتية ومستعد لأن يبحث عن دور لها في فضاءه أم لا؟

سادسا: الدفاع عن الحصن الأخير

يمكن القول: إنه -وبغض النظر عما إذا كانت المراجعات تراجعا أم نقلة نوعية- لا بد من استثمارها وتفعيلها وعدم إضاعة الجهد والوقت في التساؤل حول أهدافها ونوايا القائمين بها. كما لا بد من إعادة طرحها للنقاش وفقا لثلاثية: النص -السياق- الجماعة.

وفي كل الأحوال نحن أمام طابع عملياتي تدريجي بطبيعته وليس من المنتظر أو المتوقع أن تمنحنا الوثيقة إجابات كاملة. ويكفي أنه، وإن كان المخاطب الأول بها هو قلب الحركة الجهادية ذاتها، إلا أن ثمة دوائر أخرى ستشملها مستقبلا، كالسلطة بتفريعاتها، الأجهزة الأمنية بصفة خاصة، والفضاء المصري العام برمته، والقاعدة بمستوييها القيادي والاتباعي...إلخ، وهي دوائر تبدو حاضرة بدرجة أو بأخرى في سياق الوثيقة المنشورة.

ففي الوقت الذي خُيل فيه للبعض أن الاهتمام بوثيقة ترشيد العمل الجهادي قد انتهى ودون رجعة، كان الرجل الثاني في القاعدة أيمن الظواهري يثابر جاهدا من أجل الرد عليها بكل ما أوتي من قوة. وعلى الرغم من أننا نعرف مقدما موقفه الواضح والقاطع منها حتى دون أن يعلن عن ذلك، إلا أننا لم نكن لنتخيل أن تأتي ردوده في مثل هذا الحجم والكثافة والاستدلال وكثرة النقول، والأهم من ذلك التعويل على مؤلفات صاحب الوثيقة، وبصفة خاصة كتابه العمدة في إعداد العدة.

التساؤل الذي يفرض نفسه هنا هو: كيف يمكن أن نفهم السياقات العامة التي يدور كتاب التبرئة(20) في إطارها؟! في الواقع، ينبغي أن تتجاوز قراءتنا لكتاب التبرئة حدود رد الفعل على الوثيقة نحو إعادة استكشاف منظومة الفكر الجهادي/ القاعدي من جديد وتقصِ طبيعة التحولات التي لحقت به في العشرية الأخيرة، وما إذا كانت استراتيجيات الفكر الجهادي قد تأثرت سلبا أو إيجابا بالمراجعات عامة من جهة، وبسياق انحسار هذا التيار على المستوى العالمي من جهة ثانية.

وفي كل الأحوال، لا يخلو وصف الظواهري الأمة الإسلامية بأنها أمة القلم والسيف من مغزى ربما لا يبدو واضحا للعيان. حيث يزاوج هنا بين سلطة كل من القلم والسيف، الأمر الذي يحيل ضمنا إلى وقوفه على مدى تأثير الوثيقة وصاحبها في فكر وسلوك بعض أعضاء التنظيمات الجهادية على المستوى العالمي. أي أن رسالة الظواهري هذه وفي صميمها رد فعل واع بخطورة التأثير الذي أحدثته الوثيقة في صفوف الجماعات الجهادية.

ومن الملفت للانتباه في هذا النص الطابع المحلي الذي يدور فيه، فعلى الرغم من أن الوثيقة حملت اسم ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم، إلا أن المستهدف هنا -وبنص الظواهري- مصر والتي يأمل في إحداث تغيير جوهري في نظامها السياسي الخارج عن الشريعة بيد الحركات الإسلامية الجهادية.

وفيما يتعلق بالعامل الشخصي في تأليف الكتاب، يؤكد الظواهري أن الوثيقة قد نالت منه على التعيين وأنه وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه فإن هو التزم الصمت (زعم المستفيدون من كتابة الوثيقة أنهم قد نجحوا في تشكيك المجاهدين في منهجهم)(21)، وإن هو عمد إلى الرد ربما يكون رده هذا ليس إلا انتصارا لنفسه ومن ثم (تتحول الوثيقة والرد عليها وما قد يتبعهما من ردود أفعال ترامياً بالنقد والاتهام على مرأى ومسمع من العالم مع إخوة تشرفت في يوم من الأيام بأن أبادلهم المودة الصادقة والإخوة الصافية على درب التضحية والجهاد في سبيل الله)، على حد قوله.

بل نجده يقر صراحة بأن هذه الرسالة التي يقدمها للقارئ اليوم هي (من أصعب إن لم تكن أصعب ما كتبت في حياتي. وقد كنت أحسب أن ردي على الإخوة في حماس هو أصعب ما كتبت في حياتي، حتى جاءت هذه الرسالة). وبعد ذلك يطرح الظواهري ثلاثة أسئلة فيما يتعلق بالسياقات التي صاحبت الإعلان عن الوثيقة وهي: لماذا خرجت الآن؟، ولصالح من نشرت ووزعت؟ وكيف كتبت هذه الوثيقة؟!.

ثم يفصل القول في الإجابة على هذه الأسئلة تباعا فيؤكد بداية، وفي معرض جوابه على التساؤل الأول، أن الوثيقة ليست سوى (محاولة يائسة أو -على أكثر التقديرات تفاؤلاً- شبه يائسة للتصدي للموجة العاتية من الصحوة الجهادية التي تهز كيان العالم الإسلامي هزاً بفضل الله، وتنذر أعداءه الصليبين واليهود بما يكرهون وما يحذرون). وأن الهدف منها إنما يكمن في (كف جهاد المسلمين ومقاومتهم للصليبيين واليهود وأجهزة الحكم العميلة في بلادنا، سواء باليد أو اللسان أو حتى الاحتجاج السلمي كالتظاهر والإضراب والاعتصام والمؤتمرات والاجتماعات. أي أن الرسالة تحرص -بلغة وزارة الداخلية- على عدم تعكير صفو الأمن (الفتنة)(22).

وعلى السياق الدولي، يؤكد الظواهري أن الوثيقة خرجت إلى النور الآن (في وقت قررت أمريكا فيه -نظراً للضربات التي تترنح تحت وطأتها- أن تنصرف عن خطها السابق بالسماح الجزئي ببعض من الحرية لتيار المعارضة عبر الانتخابات، فواجهته بالمنع والتقييد كما حدث في انتخابات مجلس الشورى في مصر والمغرب والأردن، وكما حدث مع حكومة حماس من حصار، ومن اعتبارهم إياها حكومة غير شرعية، وكما حدث في مؤتمر أنابولس، وما يتوقع منه من خيانات وعدوان. وفي وقت قررت فيه أمريكا عياناً بياناً تمويل الخونة في مجالس الصحوة (الإسلامية بالعراق) الصريحة في عمالتها. لتشجع بها أمريكا تياراً أكثر تماوتاً وانهزاماً من تيار المعارضة عبر الانتخابات)(23).

وفي جوابه على التساؤل الثاني: لصالح من خرجت هذه الوثيقة؟ يجيب الظواهري بأن الولايات المتحدة الأمريكية تأتي على رأس قائمة المستفيدين من هذه التراجعات. وهنا نلاحظ أنه أولا لا يسميها بالمراجعات وإنما بالتراجعات كما نلاحظ ثانيا أنه ينظر إليها في إطارها الشامل وعلى المستوى العالمي وليس في حيزها الضيق الذي خرجت منه.

وبحسبه، فإن المجاهدين الأشداء هم الذي أفشلوا المخطط الأمريكي في المنطقة العربية وهم الذي هزموا أقوى دولة في العالم على أرض الواقع وأن أمريكا تعلم جيدا مدى خطورة المجاهدين على أمنها وعلى طبيعة وجودها ومستقبلها في هذا العالم (فالقاعدة لا تطالب فقط بطرد المحتلين الصليبيين واليهود من بلاد المسلمين، بل تطالب أيضاً بأن يباع البترول بسعره الحقيقي، بكل ما تمثل هذه الدعوة من آثار مدمرة على السيطرة الأمريكية على العالم، التي انبنت بدرجة كبيرة على سرقتها لثروات المسلمين)(24).

هنا يؤكد الظواهري وبقوة على العامل الأمريكي في التراجعات بل ويدعو القارئ للبحث عنه ضمن ثناياها. ذلك أن تراجعات الجماعة الإسلامية، والتي بدأت منذ عام 1997م، سرعان ما أصيبت بالركود (إلى أن جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فبدأت موجة أخرى من المراجعات، استنكرها العديد من أعضاء الجماعة الإسلامية، الذين وافقوا على مبادرة وقف العنف، هذه الموجة وصلت بهم لاعتبار السادات شهيداً، والأهم أنها تركزت في معظمها على الهجوم على القاعدة، وبدأت المزايا الحقيقية الدنيوية تتحقق للمتراجعين)(25).

والملاحظ هنا أنه يخلط بين التراجعات والمراجعات فتارة يستخدم اللفظة الأولى، وهو الاستعمال الغالب في هذا السياق، وتارة يستخدم لفظة المراجعات. لكن الأمر الملفت للنظر هنا وبشدة إنما هو تأكيده أن سيد إمام قد (أعلن عن تراجعه في كتابه (الجامع) منذ عام 1994م، وانصرف لحياته الخاصة باسمه الحقيقي في اليمن في تعايش غريب مع أجهزة أمنها، ثم بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001م اعتقلته السلطات اليمنية بأوامر أمريكية، ورحل لمصر، وتصور الأمريكان أنه قد يكون مفيداً في حملتهم الصليبية الجديدة. فبعد فترة من التكتم على اعتقاله بلغت حوالي ثلاث سنوات، لا أشك أنه قد مورس عليه فيها ألوان من الضغط والتقييد والقهر مقرونة بأساليب الترغيب والترهيب، بدأ إبرازه وإحاطته بكل هذه الهالة الإعلامية)(26).

ويخلص الظواهري إلى القول بأن الوثيقة لا تمت بصلة لمصلحة مصر والعالم الإسلامي خاصة في ظل انعدام الأمل من حدوث التغيير في نظام الحكم المصري وعدم السماح حتى بالتظاهر السلمي وهنا يبتعد الظواهري عن لغة الدين والشريعة ليتحدث بلغة السياسة وليتساءل عن موقع الأخلاق، أي منظومة القيم والأعراف والعادات والتقاليد في وسائل الإعلام العربي بل إنه يتحدث عن حقوق الإنسان والتعليم وقضايا الفقر والاقتصاد ليساءل جموع المحتفين بالوثيقة: إلى أين تسير مصر: إلى قيادة وريادة العالم العربي والإسلامي؟ أم إلى التبعية والدونية؟

وفي كل الأحوال، يلتف الظواهري في رسالته هذه حول الحصن الأخير (الجهاد) متذرعا به وداعيا للالتفاف من حوله ولم تغب عن ذهنه القضايا السياسية المعاصرة ولا الأحوال المصرية المتردية بصفة خاصة فضلا عن تناوله القضايا الدينية في إطارها الفقهي الجهادي.

*************************

الحواشي

*) باحث من مصر.

1- منشور بموقع العلم على رابط: http://www.3llm.com

2- منشور بموقع شبكة مشكاة الإسلامية ويمكن مطالعته على رابط: www.almeshkat.net

3- راجع: كمال حبيب، الحركة الإسلامية المعاصرة، مجلة المنار الجديد، عدد يناير 1998م.

4- انظر في ذلك: كمال حبيب، الحركة الإسلامية من المواجهة إلى المراجعة، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى، 2002م.

5- د. فضل، وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعام، الحلقة الخامسة.

6- لمزيد من التفاصيل يرجى الرجوع إلى كتابات رضوان السيد بشأن الفتنة وعلى رأسها:

- الفتنة وأخواتها بين النص والتاريخ، جريدة الحياة، 17 فبراير 2007م.

- تشبيهات الفتنة ومغرياتها والسلوك السليم تجاهها، منشور بموقع الملتقى الفكري للإبداع.

- الاعتزال في الفتنة، الأصول والتداعيات المعاصرة، منشور بموقع جدل نقلا عن جريدة الحياة.

- الفتنة والبغاة والمعارضة السياسية، منشور بموقع جدل نقلا عن جريدة الحياة.

7- راجع في ذلك: محمد عابد الجابري، المثقفون في الحضارة العربية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى،2000م، ص66.

8- محمد فؤاد عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الحديث، القاهرة، الطبعة الأولى، 2001م، مادة (فتنة)، ص623.

9- الاعتزال في الفتنة، الأصول والتداعيات المعاصرة، رضوان السيد.

10- انظر في تفصيل ذلك: هادي العلوي، فصول من تاريخ الإسلام السياسي.

11- محمد حلمي عبد الوهاب، ولاة وأولياء، السلطة والمتصوفة في إسلام العصر الوسيط، أطروحة دكتوراه قيد الطبع، ص224.

12- الماوردي، الأحكام السلطانية، دار الكتب العلمية، بيروت، 1982م، ص20.

13- رضوان زيادة، التوظيف السياسي لمفهوم الفتنة في التاريخ الإسلامي، مجلة التسامح.

14- المصدر السابق.

15- وثيقة ترشيد العمل الجهادي، الحلقة الخامسة.

16- محمد حلمي عبد الوهاب، مراجعات جماعة الجهاد، مناورة أم قطيعة حقيقية مع الإرهاب، الشرق الأوسط، 3 مارس 2008م.

17- العمدة في إعداد العدة، ص18.

18- مراجعات جماعة الجهاد مناورة أم قطيعة مع الإرهاب، مصدر سابق.

19- مراجعات جماعة الجهاد، مصدر سابق.

20- أيمن الظواهري، التبرئة، رسالة في تبرئة أمة القلم والسيف من منقصة تهمة الخور والضعف، نشر موقع السحاب للإنتاج الإعلامي.

21- التبرئة، المقدمة.

22- المصدر السابق.

23- المصدر السابق.

24- المصدر السابق.

25- المصدر السابق.

26- المصدر السابق.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=500

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك