والفتنة أشد.. والفتنة أكبر (تأملات في الفتنة وتداعياتها)
والفتنة أشد.. والفتنة أكبر (تأملات في الفتنة وتداعياتها)
فيصل الحفيان*
هي تأملات تحاول استبطان النصوص واستنطاقها، وتتغيَّا النفاذ إلى عمق الفكرة والتحاور معها، ومجادلتها، بعيداً عن القراءة الخارجية، والإفادة المباشرة، وخروجاً من أسر القيود التي تفرضها السياقات المألوفة في الدرس، فكأن الفكر يستظل بالنص، ويُخَلِّي أو يكاد بين أفقه وأفق المناهج الشكلية، مسلِّماً قياده للانطباع والتأثر الحر، هي إذن تجربة تستظل بالنص ولا تتبعه إلا بقدر. ويرى الباحث أنها قد تصل به إلى نتائج أكثر قرباً من العمق، عمق الفكرة من ناحية، وأوثق اتصالاً بالقضية والمعنيين بها من ناحية أخرى. أما نجاح التجربة، والحكم عليها فذلك متروك للقارئ، ويبقى الاجتهاد للباحث، والأجران إن أصاب، والأجر إن أخطأ.
-1-
عمر الفتنة عمر الإنسان على وجه الأرض. هي إذن معروفة له، مألوفة لديه. وعلى الرغم من ذلك لا تزال لغزاً عصياً على الحل، شيئاً ما (هلاميًّا) يستحيل الإمساك به، كلما تخيلت أنك قبضت عليه، أو تملكته، تفلَّت منك، ولا يلبث أن يظهر في هيئة أخرى جديدة جدًّا، وعلى وجهه قناع لم يظهر به من قبل. والأقنعة كثيرة لا تنتهي، أشكالاً وألوناً.
الفتنة ماكرة، متلوِّنة، تشبه الحرباء، أو الحرباء تشبهها، تملك قدرة أسطورية على التخفي والمباغتة، وتستعين على التلون والتخفي والمباغتة بالزمان والمكان، الأردية والألوان المناسبة التي تجعل منها جزءاً مما حولها، من الرمال تأخذ تموّجها وملاستها وصفرتها، ومن الجبال تقتطع القسوة والصلابة حتى لتبدو حجراً من حجارتها، ومن المياه تأتزر بالليونة والزرقة والشفافية. في النهار تجنح إلى البياض والدفء والحركة. وفي الليل تتماهى مع السواد والعتمة والسكون. في السلم تصبح أكثر وداعة وبشاشة وسماحة، وفي الحرب تحمل السلاح، وترفع الصوت، وتقرع الطبول.
وفجأة تتحرك بعد سكون، أو تسكن بعد حركة، لتنفصل من محيطها الذي لبست لبوسه، وتمارس هوايتها وحرفتها معاً، في الإيذاء والتخريب والإفساد والهدم والقتل.
وهيهات أن يفعل ذلك العاجز المسكين شيئاً، فهي -دائماً- أقدر على الاختفاء، وهو -دائماً- أعجز من أن يتفاداها، أو حتى يفيد من الدرس، فلا يقع في الفخ المقبل. إنه يسقط باستمرار، فلا يرى نفسه إلا مرمياً في المصيدة، وكأنه لم يعرف الفتنة من قبل. في كل مرة هو مأخوذ على حين غِرَّة، والدرس أبدأ جديد، والمسلسل مستمر، كل حلقة منه تؤدي إلى حلقة تالية.
خلاصة القول إننا نعرف الفتنة من أفعالها أو من جرائمها، لكننا أبداً لم نتعرف على وجهها، أو نحدد هويتها، أو نرسم لها صورة، حتى لو كانت تقريبية. دون ذلك خرط القتاد كما قالوا قديماً. على أن هذا لا يمنع من المحاولة، علَّنا نُحيط اللثام عن بعض ذلك الوجه البغيض.
اللغة دائماً مفتاح السر لشخصية الكلمة وعالمها الخفيّ، وخاصة مع كلمة ماكرة مثل (الفتنة). وباب اللغة في حقيقته تاريخي، ولن نستطيع الدخول إلى عالم الفتنة إلا إذا طرقنا هذا الباب وما يتصل به، فالتاريخ اللغوي للكلمة هو الذي يكشف لنا مغاليقها، ويفك طلاسمها.
ابن فارس (ت 392 هـ) حاول أن يمكر مع كلمة الفتنة، ويجمع بين مفاهيمها الماكرة، فرأى أن دلالتها الأصلية هي الاختبار أو الابتلاء. أما العسكري (توفى بعد 395 هـ) فقد تجاوز ابن فارس في تجسيد دلالة المادة بأنه جعل أصل الفتنة: (شدة) الاختبار. وعلى أية حال فإن اللفظين (الاختبار والابتلاء) مترادفان، أو يكادان. وليس فيهما مجردين -فيما نرى- ما يقرنهما بالفساد وما يتصل به، بل على العكس من ذلك تماماً، هما قرينا المسؤولية، والمعادلان الموضوعيان لتحمُّل الأمانة. والمسؤولية وتحمل الأمانة بدورهما يفترضان العقل، فالمخلوقات الأخرى (غير الإنسان) ليست موضع تكليف، وأعني بالمخلوقات الأخرى: الحيوانات، والجمادات.. حتى الملائكة التي تملك عقلاً، لكنه عقل لا خيار له، فهو عقل طاعة، لا عقل اختيار، ومن ثم فهو ليس عقل مسؤولية، أي أنه ليس عقل ابتلاء واختبار، أي أنه ليس موضع فتنة. يمكننا إذن أن نقول إن الفتنة بمعناها اللغوي (الابتلاء والاختبار) خاصة بالإنسان. ومع الإنسان الجانّ، ذلك العالم الآخر الذي منه المؤمنون، ومنه الكافرون، كما ذكر القرآن الكريم، لكنه عالم غائب أو مغيَّب عَنَّا، فلندعه وشأنه.
إذا كانت الفتنة ابتلاء واختباراً فلا ضير فيها. هي شيء بدهي لابد أن يحدث مع كل ذي عقل، لنعرف حقيقته، ونقف على قدرته على تحمل المسؤولية، أو لنقل: ليظهر أثر عقله وأهليته، كأنها (الفتنة) تجلٍّ من تجليات العقل في المخلوق الذي منحه الله هذه النعمة.
على أن الاختبار أو الابتلاء ليس قصراً -من الناحية اللغوية الصِّرفة- على العاقل، فنحن نمتحن الذهب بالنار، لكن الثمرة مع العاقل مختلفة. امتحان العاقل يعقبه ثواب أو عقاب، رضا أو سخط، نعمة أو نقمة، ارتفاع أو سقوط، إعجاب أو ازدراء، أما غيره فلا يترتب عليه من اختباره شيء، كل ما في الأمر أن حقيقته تنكشف لنا، فيبرز على صورته التي خلقه الله عليها. وعليه يستطيع (العاقل) أن يتعامل معه، ويفيد منه، ويوظفه، وبلغة القرآن يسخِّره لغرض الإعمار، وتحقيق الخلافة، خلافة الله في الأرض.
استعمل العرب الفتنة مع الذهب، ذلك المعدن النفيس الذي حرصوا على أن يخضعوه أو يحرقوه بالنار ليتأكدوا من جوهره، ويخبروا حقيقته، ولو أنه (الذهب) كان حديداً لما كانت هناك حاجة لإحراقه.
قد يستدعي ذلك إلى الذهن الإنسان نفسه: مخلوق كريم يفضل غيره من المخلوقات، ولذلك لابد أن يخضع لاختبار، أو فتنة من نوع أخرى حتى يظهر معدنه، وتتبين أهليته للمسؤولية التي اختاره الله لها.
الفتنة إحراق، والإحراق فتنة، لكن أيهما الأول. بعبارة أخرى: هل المعنى الحسي (الإحراق) أسبق، ثم جاء المعنى العقلي (الابتلاء)، أم العكس؟
في المنطق اللغوي يسبق الحسُّ (البسيط) العقلَ (المركب). نقل ابن فارس عن الخليل (ت 170 هـ) أن الفَتْن هو الإحراق، وقال الراغب (ت 502هـ): أصل الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستُعملَ في إدخال الإنسان النار (المفردات 371).
لا شك أن ابن فارس يعرف المنطق اللغوي، ويعرف أن الفتن أصلاً إحراق، وهو الذي نقل عن الخليل، لكنه أراد أن يستخلص معنى أو دلالة تجمع أو تنطوي تحتها دلالات الألفاظ المختلفة المشتقة من المادة جميعاً. إن دلالة الابتلاء تالية لدلالة الإحراق، وقد التقطها ابن فارس، لأنها الغاية من الإحراق، ولأنها الخيط الذي يربط كل دلالات المادة. لعل هذا منطقه، لكن من يدقق النظر ربما يصل إلى أن الراغب قد مضى مع الصواب شوطاً أطول، فدلالة (فتن) ليست الإحراق منفرداً، ولا الاختبار منفرداً، لكنهما معاً، كأن الدلالة مركبة في الأصل، إلا أن اللغة لما كانت متفلته على الضوابط، متأبية على القواعد دائماً، فإنها قد تكتفي بجزء من الدلالة أو بشطرها الأول مرة، وقد تقتصر على شطرها الثاني مرة أخرى، وقد تجمع بينهما على الأصل -ثالثة- وقد تنسى أو تخرج من إهاب الدلالتين معاً لتخلص لدلالة أخرى جديدة، ولا يبقى من الدلالة الأصلية المركبة أو أحد شطريها سوى ضبط باهت لا يتنبه إليه إلا المتخصصون، الذين يستهويهم الإبحار في تاريخ اللغة وأثريتها.
وربما كان أبو هلال العسكري أوضح في الربط بين الاختبار والإحراق، قال: أصل الفتنة: شدة الاختبار، من قولك: فتنت الذهب، إذا أدخلته النار، لتعلم جودته من رداءته).
قد يكون قول العرب: شيء فتن، أي تحرق، شاهداً على تحمل هذا اللفظ دلالة الإحراق مجرداً بعيداً عن الغرض، إذ لا مكان للاختبار هنا، كما أنهم قالوا لـ(الحَرَّة) هي: فَتين، كأن حجارتها مُحرَقة. ويمكن أن يكون المعنى: حجارتها مُحْرِقة. وعندها قد تحتمل الدلالة الأصلية على حد تعبير ابن فارس، لأن هذه (الحَرَّة) تمتحن قدرة العابر فيها على الصبر.
إن دلالة الإحراق كثيرًا ما تغيب أو تختفي. أما دلالة الابتلاء فإنها غالباً ما تظل حاضرة، وإن كانت متوارية. ومن هذه وتلك تتوالد دلالات جديدة جداً، تتساند جميعاً لتعرِّي لنا الوجه البغيض (أو بعضه) لذلك الشيء الذي نطلق عليه (الفتنة)، والذي حذَّر الله –سبحانه- منه مستخدماً تلك المادة اللغوية التي تتكرر كثيراً في القرآن الكريم، وتقترن اقترانًا مباشرًا بـ(النار) أعني مادة (وقي)، قال تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ كما قال في مواطن كثيرة: ﴿وَاتَّقُوا النَّارَ﴾، ﴿قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً﴾.
-3-
لعل خير ما يقفنا على الدلالات الجديدة لـ(الفتنة) التي أشرنا إليها هو القرآن الكريم، فقد استخدم الفاء والتاء والنون تسعاً وخمسين مرة، في تسع وعشرين سورة من سوره، بتجليات عديدة، وظلال مختلفة، وسياقات متباينة، وفيها كلمة (فتنة) تحديداً (مُعرَّفةً ومُنكَّرةً ومضافةً) أربعاً وثلاثين مرة.
إن وقفتنا الطويلة (نسبياً) في الفقرة السابقة مع الدلالات لم تقفنا على وجوه الفتنة، ولذلك فنحن محتاجون إلى مطاردة الدلالات الأخرى، سعياً نحو الإحاطة أو مقاربتها. وقد يكون من المفيد أن نذكر لتلك الدلالة المركبة التي ذكرها الراغب لننطلق من جزأيها، وننظر كيف تتراكب الدلالات، وتتوالد بعضها من بعض.
هذه الدلالات تجعل من (الفتنة) لفظاً من ألفاظ الوجود والنظائر، ذلك الذي يطلقون عليه في الدراسات اللغوية الحديثة (متعدد الدلالة). من المعلوم أن الألفاظ المتناظرة ذات الوجوه أو المعاني المتعددة، شغلت القدماء من المفسرين واللغويين، والآخرون من علمائنا أسموها: المشترك. ولدينا ضمن علوم القرآن علم خاص، هو علم الوجوه والنظائر، فيه سلسلة من المؤلفات المستقلة بدأت بهارون بن موسى (ت 292هـ) ولعلها لم تنته بالسيوطي (ت 911هـ). وقد عدوا للفتنة اثنى عشر وجهاً (معنى) يقترب بعضها من بعض، وينأى بعضها عن بعض، ويتعاور معنيان (بل أكثر) أحياناً على اللفظ في السياق نفسه.
الفتنة إحراق كما ذكر الخليل، والفتنة أيضاً عذاب، والمسافة بين الإحراق والعذاب ليست بعيدة، قالوا في تفسير ﴿ذوقوا فتنتكم﴾: عذابكم، وفي ﴿يوم هم على النار يفتنون﴾: يعذبون، وفي ﴿من بعد ما فتنوا﴾: عُذِّبوا. ويلفت في الآية الأولى استخدام الذَّوق، وهو لفظ كثر استعماله في القرآن مع العذاب -كما قال الراغب- قال -تعالى-: ﴿ليذوقوا العذاب﴾ ﴿وقيل لهم ذوقوا عذاب النار﴾ ﴿فذوقوا العذاب﴾ ﴿إنكم لذائقوا العذاب الأليم﴾. ذوق العذاب وذوق الفتنة لا يختلفان، على أن الذوق يجري أيضاً مع الرحمة ﴿ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة﴾. هل أراد القرآن أن يشير من طرف خفي إلى أن ذوق القليل من الفتنة (أو العذاب) فيه كفاية لشدته، أم أن الذوق الذي هو للقليل يصلح أيضاً للكثير.
والفتنة تعذيب (العذاب اسم للحدث لا يجاوزه، أما التعذيب ففيه التعدي والتجاوز)، قالوا في تفسير ﴿إن الذين فتنوا المؤمنين﴾، أي عَذَّبوهم.
والفتنة حيرة وضلال، وهما (الحيرة والضلال) نتيجة طبيعية للإخفاق والغش في الاختبار، إن الفاشلين لابد أن يضلوا، ويقعوا في حيرة: حيرة الندم على ما فات، وحيرة مواجهة عواقب ما جنته الأيدي، لقد فسروا: ﴿ومن يرد الله فتنته﴾ بأنه -تعالى- يريد: ضلالته. وقد تتجاوز الفتنة معنى الضلال لتصبح إضلالاً، ولهذا فسروا ﴿وما أنتم عليه بفاتنين﴾: بُمضِلِّين.
والفتنة كفر وترك، وهما أيضاً نتيجة للإخفاق والفشل في الاختيار، ألا يذكرنا بذلك بكفر إبليس الذي فتنته نفسه، وأعجبته عبادته وصلاته، فرفض الانصياع لأمر الله بالسجود لآدم، وكما فتن إبليس نفسه فكفر، حكى الله عن فريق من الناس مثل ذلك فقال: ﴿ولكنكم فتنتم أنفسكم﴾، أي كفرتم، وعن فريق آخر (لقد ابتغوا الفتنة).
والفتنة إثم، والفرق بين هذا الوجه أو المعنى وسابقه محكوم بالسياق، فعندما يكون الأمر صغيراً فالفتنة إثم، وعندما يكون كبيراً، فهي كفر وشرك، لقد استشهدوا لكون الفتنة إثماً بقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ﴾ وبقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي﴾.
والفتنة قتل وهلاك، شيء آخر بين الكفر والشرك، والاثم، قال تعالى: ﴿إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا﴾، وقال أيضاً: ﴿على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم﴾.
والفتنة صدّ وحيلولة بين الإنسان والحق. لماذا هي صدُّ؟ وما العلاقة بين الصد والإحراق والاختبار؟ قد تنكشف العلاقة إذا نظرنا إلى الفتنة من زاوية عكسية، الفاتن فيها يريد أن يوقع الساعي إلى الخير في الشدة ليبعده عن مقصده، قال تعالى: ﴿وإن كادوا ليفتنونك﴾ وقال ﴿واحذرهم أن يفتنوك﴾، إنهم (المشركين) يريدون أن يصدوا الرسول الكريم عن الاستمرار في رسالته، ويصرفوه عن المهمة التي كلفه به الله –سبحانه-، ولو حدث ما أرادوا لوقع في بلاء ما بعده بلاء.
والفتنة عذر وعِلَّة، (ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا) أي عذرهم والسبب الذي يقدمونهم بين يدي. وعَبَّر العسكري عن هذا المعنى (العذر) بـ(الجواب)، وفسر الآية: (إنهم حين سئلوا اختبر ما عندهم بالسؤال فلم يكن الجواب عن ذلك الاختبار إلا هذا القول).
والفتنة في النهاية جنون وغفلة، وهو وجه قريب من الحيرة والضلال، لأن الإخفاق في الاختبار قد يصل بالمخفق إلى الجنون، وهذا ما فسروا به قوله تعالى ﴿بأيكم المفتون﴾ أي الجنون.
والفتنة عبرة قال تعالى: ﴿لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين﴾ وقال أيضاً ﴿لا تجعلنا فتنة للذين كفروا﴾، قال العسكري في تفسير الآية الأخيرة: (أي يعتبرون أمرهم بأمرنا فإذا رأونا في ضُرًّ وبلاء ورأوا أنفسهم في غبطة ورخاء ظنوا أنهم على الحق وأننا على الباطل) والعلاقة بين المعنيين (العبرة والاختبار) قريبة، فالفتنة أو الاختبار الواقع على المؤمنين سيكون بدوره فتنة أو اختباراً للكافرين، لأنهم سيتوهمون الأمور على غير حقيقتها، فيظلون سائرين في غيهم.
وإلى هذه المعاني ثمة معان -أو لنقل إطلاقات- أخرى، ففي العربية: الفتنة تطلق على الحرب، وعلى الشيطان، وعلى الدرهم والدينار، إطلاقات تصب كذلك في الكشف عن وجه الفتنة. إذا كانت الفتنة هي الحرب، فإن الحرب تعني القتل والخراب والدمار، وتستدعي الدمار والأشلاء وأمورًا أخرى كثيرة. وإذا كان الفتان هو الشيطان فإن لنا أن نتخيل ماذا يفعل رمز الشر الذي عصى الله، وأقسم بعزة الخالق أن يكرِّس وجوده للغواية والإضلال وسوق بني آدم إلى النار. وإذا كان الفتانان هما الدرهم والدينار فإن الاقتصاد بمعناه السيء أعني التكالب على جمع المال يعني الصراع والاقتتال والسطو وأكل الحقوق ونهب خيرات الآخرين.
وبهذه المعاني تخرج الفتنة من إهاب الاختبار والابتلاء مجردة لتقفز إلى الغش والضعف والعجز وسقوط الهمة وعدم الأهلية والقدرة على تحمل المسؤولية، مما يستوجب المحاسبة والعقاب.
وقد تبتعد الفتنة عن الإحراق، وعن الابتلاء، وعن الكفر والضلال، والحرب وما إلى ذلك، لتصبح مجرد إعجاب لا يجاوز ذلك إلى ما هو أبعد، فالجميل الذي يحركك: فاتن، فحسب، ولا نظر إلى بعد الإعجاب مما قد يقع من فتنة وما قد تعنيه من عذاب أو ابتلاء...إلخ.
تلك بعض وجوه (الفتنة) كما صورها القرآن الكريم، وفي لغة العرب، وسوف نضع خطين جديدين في اللوحة السوداء بالتلبث قليلاً عند ثلاث آيات من الآيات وردت فيها (كلمة الفتنة، أولاها: ﴿والفتنة أشد من القتل﴾ (البقرة 191)، ومثلها: ﴿والفتنة أكبر من القتل﴾ (البقرة 217) وثالثتها: ﴿ألا في الفتنة سقطوا﴾.
الآيتان تقربان الفتنة بكلمتين: القتل، والسقوط، ويمكن من خلالهما أن نفهم الفتنة. والجدل بين الكلمات الثلاثة يضع صورة الفتنة في إطار جديد يقربها إلينا أكثر.
الآية الأولى الفتنة في كفة واحدة مع القتل، وعلى الرغم من قبح القتل وفظاعته واستنكاره في الرؤية القرآنية، حتى إن آية أخرى تجعل قتل فرد واحد يوازي قتل الناس جميعاً، وقد جاءت هذه الآية عقيب الآيات التي تحكي قصة ابني آدم: قابيل الذي قتل أخاه هابيل، وترتبط بها، تقول الآية: ﴿ومن أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً﴾ (المائدة 32)، والقتل كما يفهم من آيات قابيل وهابيل نتيجته النار، وصاحبه ظالم، وهو من الخاسرين النادمين.
والآية الثانية ترد في سياق الرد على سؤال المؤمنين للرسول الكريم عن جواز القتال في الأشهر الحرم، وقد كان الجواب بالإيجاب، ذلك أن عدم القتال قد يؤدي إلى تحقيق غرض المشركين، من فتنة المسلمين في دينهم، وصدهم عنه، تقول الآية ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا﴾ (البقرة:217). إن الفتنة التي تعني العودة إلى الكفر هي أكبر وأشد من القتل، على كره القرآن لهذا القتل وتقبيحه له، هذا المعنى تعضده آيتان أخريان يقرَّان الأمر بالقتال لدرء الفتنة والحيلولة دونها ﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾ (البقرة 193) ﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾ (الأنفال 39) ولأن القتال ليس مقصوداً لذاته، فإن الآيتين تختتمان ﴿فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين﴾ ﴿فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير﴾. والظالمون هنا هم أولئك الذين يريدون إطفاء نور الله والقضاء على دينه، فإن انتفى ذلك منهم لم تعد هناك مشروعية للقتال، لأن القتل جريمة كبرى في الإسلام، والمهم أن ينتهوا ويبقى أمر ما في نفوسهم لله، المطلع على سرائرهم.
لا شيء يزيد على القتل وسفك الدماء في المفهوم القرآني سوى الفتنة التي تعني الكفر أو الشرك أو العودة إليهما.
الآية الثالثة ﴿ألا في الفتنة سقطوا﴾ (التوبة 49) وفيها (سقطوا) لفظ يصور لنا الفتنة وكأنها حفرة عميقة سقط فيها المنافقون الذين تحدث عنهم القرآن فنفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر، وقال عنهم ﴿وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون﴾ (التوبة 45) هؤلاء ﴿يبغونكم الفتنة﴾ (التوبة 47) و﴿ابتغوا الفتنة﴾ (التوبة 48) وعلى الرغم من أنهم يكتمون ما ابتغوا ويبتغون، ويقول فريق منهم بألسنتهم ﴿ائذن لي ولا تفتني﴾ (التوبة 49) فإنهم كما قالت الآية ﴿أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ﴾ لقد سقطوا في الفتنة، وما الفتنة إلا جنهم التي أحاطت بهم وبالكافرين من كل جانب.
الفتنة إحراق وعذاب وتعذيب وكفر وشرك وإثم وقتل وهلاك وضلال.. إلخ هذا صحيح، لكن الفتنة قد تكون أيضاً سلامة ونعيماً وإيمانا (ظاهرياً) وثواباً وهداية. الفتنة تحتمل ذلك كله، وجوه ونقائضها، لكنها في النوع الأول من الوجوه ظاهرة، قريبة، لا يكاد يختلف فيها أو عليها الناس، أما في النوع الثاني فهي خفية، بعيدة، لا يكاد ينتبه إليها معظم الناس أو حتى يلتفتوا إليها. المصيبة فتنة، والنعمة فتنة، الأولى ظاهرة، والثانية خفية. وقلَّ من يصبر على الأولى، أو يتنبه للثانية، وينفذ إلى حقيقتها.
والإنسان أيضاً مصدر فتنة لنفسه ﴿ولكنكم فتنتم أنفسكم﴾ (الحديد 14)
وللفتنة مصادر متعددة، الله مصدر، ﴿وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ (طـه:131)، والناس (الآخرون) مصدر، والدنيا بما فيها مصدر، والشيطان مصدر. ثمة فرق بين فتنة وأخرى باعتبار ﴿وكذلك فتنا بعضهم ببعض﴾ (الأنعام 53).
الفتنة من الله لابد أن تكون لحكمة، فالعبث لا يكون من الخالق، ذي الأسماء الحسنى والصفات العالية، والأفعال التي تليق به سبحانه. قد تخفي الحكمة لكنها أبداً موجودة. أما فتنة الإنسان لنفسه وفتنة الدنيا فأمر مختلف، إذ الحكمة فيها منتفية غالباً، وضعف النفس وأهواء البشر وأغراضهم، وبهارج الدنيا وخداعها داخلةٌ في نسيج الأفعال وما توحي به. أما فتنة الشيطان (إبليس وذريته) فهي شرٌّ صرف، ذلك أنه عدو لآدم وبنيه، وعداوته قديمة بدأت بعصيانه أمر الله بالسجود لآدم، وستستمر حتى قيام الساعة ﴿يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان﴾ (الأعراف 27). الشيطان هو أعظم الفتانين، الأشرار، لهذا كان من أسمائه (الفتان). والناس -غالبا- مغترون بالظواهر والألوان والأشكال، قصيرو النظر -بحكم بشريتهم- لا يرون في المصيبة إلا أذاها الآني، وألمها القريب، ولا يجدون في النعمة إلا حلاوتها الحاضرة، ومتعتها الظاهرة. يبتهجون بالامتلاك، ويسؤوهم الفقد، يسرهم العطاء، ويحزنهم الأخذ، وقد يكون الامتلاك والعطاء فقداً وأخذاً، والفقد والأخذ امتلاك وعطاء.
الإيمان وحده يضع الحدود الفاصلة بين الأشياء، ويعين المؤمن على تجاوز الظاهر، والقبض على الباطن، ذلك أنه (الإيمان) يحمل معه أمرين: التسليم، والصبر. وبهذين تنكشف وجوه الفتن وتسقط القشرة الخارجية، وتقع اليد على الجواهر لا الأعراض. التسليم والصبر هما سلاح الأنبياء عبر التاريخ البشري.
-6-
عمر الفتنة عمر الإنسان على وجه الأرض، بل هو أقدم. قبل أن يهبط الإنسان كانت فتنته، فتنه إبليس عندما أغراه بالشجرة المحرمَّة، وزين له أكلها ليكون من الخالدين. يومها وجد نفسه وزوجه عاريين، العصيان في جوهره عري، لأنه خروج من حظيرة طاعة المنعم. وقبل فتنة آدم كانت فتنة إبليس نفسه، فتنة من نوع آخر، فتنة النفس والإعجاب بالطباعة، والابتزاز برداء الكبرياء الذي يقصم الله من ينازعه فيه. الفتنة ذلة، وهي أيضًا ذلة ومن الضروري أن تنتبه إليها وتقوم منها، بالإنابة وعدم الإصرار. ذلك هو الفرق بين فتنة آدم وفتنة إبليس، أو معصية آدم ومعصية إبليس.
ومسلسل الفتن مستمر عبر التاريخ. بعد آدم جاءت فتنة ابنيه قابيل وهابيل، ومدخل الفتنة هذه المرة كان الحسد، والنظر إلى ما في يد الأخ، وهكذا أراق قابيل دم هابيل ليؤسس شرعة القتل، ويبوء بإثم كل الذين قَتَلوا وكل الذين قُتلوا من بعد.
أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام تعرض أيضاً للفتنة، بمعناها المشار الحسي القريب: الإحراق، وما ترتب عليه من ابتلاء. لقد أوقدوا له النار، ورموه فيها ليردوه عن التوحيد، لكن الله خرق له السنن، وأبطل قوة النار، فلم تحرقه ﴿قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم فأرادوا به كيداً فجعلناهم الأسفلين﴾ (الصافات 97، 98) ﴿قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم﴾ (الأنبياء 98، 69).
أما محمد الرسول الخاتم فقد تعرض لفتن كثيرة، حاولت قريش فتنته بالمال والملك ففشلت، وحاولت فتنته بالإيذاء والإخراج والقتل فلم تصل إلى شيء، أجمعت أمرها، وبذلت كل ما تستطيع، حتى إن القرآن عبر عن ذلك بالقول ﴿وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك﴾ (الإسراء 73) ولكن أنى لها ذلك، ونور الله أقوى من كيدها. وقد كان الله لها بالمرصاد، فحذر نبيه ﴿واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك﴾ (المائدة 49).
-4-
ونحن اليوم نعيش فتناً، لكنها فتن ليس لها من ملامح الفتن القديمة إلا القليل.
-5-
الفتن اليوم شيء آخر، صبغتها العولمة بصبغتها، أصبحت أكثر قبحاً وشراسة وتوحشاً وامتداداً واتِّساعاً وتعقداً وتشابكاً. العرب كانوا يقولون لـ (الحرب): فتنة، ويطلقون على الدرهم والدينار: الفتَّانين، وكان الشيطان عندهم فتاناً. هل نستطيع أن نوازن بين حرب الأمس وحرب اليوم، حرب السيف والرمح والحصان والفيل، وحرب الطائرات والصواريخ والقنابل الذكية وما إلى ذلك؟ وأين يقع الدرهم والدنيار في الماضي، من الاقتصاد العالمي والشركات عابرة القارات والبنك الدولي؟ حتى الشيطان كانت أدواته بدائية ساذجة إذا ما وصفت إلى جانب الأدوات التي أصبح يوظفها اليوم.
عالم اليوم يعيش فتناً كثيرة: فتنة الحروب التي لا تتوقف، تتزاحم تزاحماً، ولا يحدها مكان، إنها لا تسكت في مكان إلا لتعوي في مكان آخر، ويرتفع صوتها النشاز في غير مكان، في وقت آخر.
وفتنة الظلم، والاضطهاد، والتفرقة، والفساد، والإفساد، والظلم، والخداع. هي فتن قديمة لكن العولمة جعلت منها ظواهر عامة، وشاملة، وقبل ذلك منظمة ومقننة، لها قوانين ولوائح ودساتير، وتضع أقنعة دول ومؤسسات وبنوك ومراكز بحوث.
وثمة فتن جديدة: فتنة الاستهلاك، وفتنة المرأة، وهذه الأخيرة بمعنى استغلال المرأة واستنزافها واعتصارها لأغراض غير إنسانية. وفتنة الإعلان، وفتنة الإعلام الذي تحول إلى ذراع لفئات أو شعوب تعيش على حساب فئات وشعوب أخرى، مستخدماً سلاحه في غسيل الأدمغة وتسطيح العقول، وإلباس الخطأ لبوس الصواب والعكس، والكذب لبوس الصدق والعكس.
لكن ما ينبغي تأكيده وسبق الإلماح إليه هو أن الفتنة ليست دائماً شيئاً قبيحاً، حرباً أو شيطاناً، أو شيئاً ما محايداً كالدرهم والدينار، بل إن لها وجوهاً عدة: المرأة وجه، والولد وجه كما أن فقده وجه، والعزّ وجه، كما أن الذل وجه، والنعيم وجه، كما أن الشقاء وجه. ولهذا قال الشاعر الجاهلي عمرو بن أحمر الباهلي:
إما على نفسي وإما لها والعيش فَِتْنان فحلوٌ ومرُّ
العيش فتنان: وجهان، أو لونان، كل وجه، أو لون يمكن أن يدخل إلى الإنسان الامتحان عن طريقه، العبرة إذن أبداً بالمستهدف (المفتون) أو الذي يمكن أن يتعرض للفتنة، كيف يتعامل مع هذه الوجوه، وكيف يزيح الأقنعة عن حقيقتها، فيدرك أنها زائلة، فلا يفرح فيطغى، ولا بأس فينكسر، تتساوى عنده الوجوه جميعاً، ولا ينخدع بها ﴿لكيلا تفرحوا بما آتاكم ولا تحزنوا على ما فاتكم﴾ (الحديد: 23).
***********************
*) باحث من سورية.