خطاب التجديد مسار تاريخي ونظري لم يكتمل
محمد فراس أدنى
ما إن بدأت الحداثة الغربية تمارس ضغطها على الشعوب العربية والإسلامية حتى راحت تلك الأخيرة ضحية الاستلاب لحضارة صناعية موّارة بالحركة والأفكار؛ حيث رأى الشيخ الذي أصبح على تماسٍّ مباشر مع تلك الحركة نفسه مفلسا أمام ذلك التحول الذي لم تشهد مثله أجيال السلف السابقة.
أمام الشعور بالعجز عن صد هجمة الحداثة الشرسة وجد المفكر الإسلامي نفسه مضطراً لصياغة خطاب جديد يتناسب والحالة المستجدة؛ ليتلاءم مع أوضاع الحياة العصرية ومعطياتها القائمة.
وإذا كان الغرب بما يشتمل عليه من حضارة وأفكار وقيم عاملا أساسيا في بروز خطاب إسلامي جديد؛ فهذا يعني أن تحديد العلاقة مع الغرب يمثل أحد المحاور الأساسية في الصياغة الفكرية للخطاب الإسلامي الجديد، كذلك التحول عن الخطاب السلفي الكلاسيكي يلح على رسم حدود الاتصال والانفصال عنه.
ولطالما امتدت مسيرة الخطاب الإسلامي الجديد على ما يقارب قرنا ونصفا بغض النظر عن فترات توقفه وملامح التغيير في إستراتيجياته، مؤكدا في استمراره على ضرورة التجديد لمواكبة التطور الذي اتسعت شُقته مع تقدم التاريخ.
يرسم الكتاب معالم خطاب إسلامي جديد يقارب من خلالها مفهوم التجديد وأولوياته، ويحدد الموقف من الحداثة وما بعدها، والسلف ونتاجه المعرفي.
تبدو قراءة مسيرة الخطاب الجديد من مولده حتى اللحظة الراهنة قراءة تحليلية ناقدة مع الوقوف على إستراتيجياته ومعايرتها على قدر من الأهمية، لتجاوز مشكلاته بالإجابة على أسئلتها على طول قرن من الزمن وبقية راهنه حتى اليوم.
يأتي كتاب “خطاب التجديد الإسلامي” (1) الصادر عن “الملتقى الفكري للإبداع” مضطلعا بهذه المهمة، وعاملا في الوقت ذاته على رسم معالم جديدة يقارب من خلالها مفهوم التجديد وأولوياته، ويحدد الموقف من الحداثة وما بعدها من جهة، والسلف ونتاجه المعرفي من جهة ثانية.
وعلى الرغم من صعوبة إيجاد خيط واحد يجمع بين بحوث الكتاب التي لا تشترك فيما بينها إلا في الحديث عن التجديد، سواء بالسلب أم الإيجاب، وعلى المستوى المعرفي تارة والتطبيقي تارة أخرى.. فإننا سنحاول إيجاد صيغة توظيفية توضح ذلك الإطار المعرفي العريض لخطاب تجديد “الملتقى” بطريقة سردية توضح معالم التمايز في مشروعات مجددي القرن الماضي من جهة، ودعوات التجديد المعاصرة من جهة ثانية.
الصراع على المصطلح
في ظل تزايد الدعوة إلى التجديد الديني حدة نقف على تلك الصيغ المتباينة للتجديد الذي يلتقي فيه السلفي مع اليساري والليبرالي، كلّ يراهن عليه بطريقته، “وهذا يعيق تطور المصطلح معرفيا، ويعيد تشغيله في حلقة مفرغة تتراوح بين الادعاء والاتهام”؛ مما يجعل الحفر في تاريخ المصطلح وتحولاته واستخداماته مهمًّا لاستفادة طهارته وخصوصية ولادته، ما دام أنه حتى على الصعيد الاصطلاحي المعاصر لا يعني أكثر من “فهم الدين وفق متطلبات العصر وروحه وبما ينسجم مع معطيات الواقع”، مما يجعله مصطلحا قابلا للتوظيف ضمن أنساق أيديولوجية متباينة.
بدأ استخدام “التجديد” كتسمية للأدباء العلمانيين في بواكير القرن الماضي والذي كان مقابلا للإصلاح الإسلامي، إلا أن “تصاعد المد القومي ثم اليساري” طوى صفحة الصراع بين المعممين والمطربشين. حيث أخذ التجديد بعدا جديدا “ليعبر عن الاتجاه الفكري الإسلامي الذي يعتبر نفسه وريث الإصلاحية”، ليتميز بذلك عن التحديث والحداثة “التي كانت من نصيب الخطاب المؤسس على العلاقة الاتصالية مع الغرب”؛ حيث بنيت عليه مشاريع متعددة ذات طابع إسلامي جديد، إلا أن المصطلح تلبّس بالعلمانية ثانية بعد أن تجاذبته النخب اليسارية والليبرالية لاحقا لإعادة قراءة التراث من منظور أيديولوجي؛ مما جعل مصطلح التجديد ملوثاً بأيديولوجيات متباينة يضعها السلفي في سلة واحدة.
مساءلة التراث
لم يكن خطاب التجديد الإسلامي على طول رحلته على الدرجة نفسها في قبول التراث أو ردِّه يرى المجدد السلفي وظيفته كامنةً في “تطهير الدين من الغبار المتراكم عليه”، ولم يختلف الإصلاحي كثيرا عن هذا المنظار “والذي يقول بوجود إسلام حقيقي حجبته التصورات الخاطئة” ليصبح التجديد مقتصرًا على تخليص الدين من الانحرافات والبدع، وهذا يعني أن تصور الإصلاحي قائم على تصور إسلام منجز، قادر على تخليصنا من محنة الحداثة، وما علينا سوى البحث عنه واستخراجه من ركام التاريخ.
مع بداية بروز مصطلح التجديد الإسلامي مطلع القرن الماضي يمكن الحديث عن موقف جديد لجيل يرى في المنظومة السلفية أرضية عرف عيوبها ودعا إلى تطويرها عبر ما أسماه “بالاجتهاد المفتوح، والدعوة إلى تجديد المناهج وأصول الفقه… إلخ”، حيث يمكن اعتبار أطروحة مثل أطروحة العالمية الإسلامية وإسلامية المعرفة نموذجا مطورا عن هذا الجيل الذي لا يزال قائماً حتى الآن.
وعلى خلفية انقضاء الصراع الماركسي الإسلامي يمكن الحديث عن جيل جديد يعتبر “مركزية النص” بشقيه: القرآني والنبوي المرجعية الأولى ضمن نسق تفكيره، بغض النظر عن المنتج التاريخي المتعلق به؛ ذلك أن التراث لا يعدو كونه نتاجا بشريا قاصرا لا يمكن الخلط بينه وبين النص الإلهي المطلق، وبهذا “فهي لا ترى التجديد مقصورا على ما يسمى بالفروع والمتحولات؛ بل يمكن أن يطاول الثوابت”، ما دام التجديد لا يعني فقط النسخ والإلغاء، وهذا يعني أن الجيل الأخير يحاول إيجاد تراتبيته الخاصة فيما يتعلق بكل من نص الشارع ونص الفقيه، في الوقت الذي غابت فيه تلك الحدود الفاصلة من الناحية العملية على الأقل في المراحل السلفية المتأخرة؛ بل إننا نطالع كيف “تحول نص الفقيه إلى مصدر تشريع بالنسبة إلى المقلّد”؛ حيث طبقت غالب القواعد الأصولية على نص الفقيه، تماما كما هي على نص الشارع؛ حتى فيما يتعلق بالتعارض والترجيح، إلا أنها في الوقت نفسه ترى في التراث ثروة لا يمكن الاستغناء عنها، ما دام “هناك الكثير مما لم يتم استنفاده أو حتى الاستفادة منه”.
الغرب وخصوصية الحضارة
ما إن بدأ التواصل بين الشرق والغرب القسري والطوعي حتى انكمش السلفي، وأظهر كل عدائيته تجاه كل ما يتصل بالحداثة حتى أشيائها، معتصماً بالتراث والتاريخ كمرجعية يعتمد عليها لشرعنة ذاته، “مكتفياً بإيمانه بكفاءة المرجعية التراثية” للخروج من المحنة، بينما كان الإصلاحي الأكثر انفتاحا يحاول إيجاد صيغة يبرر بها علاقته مع الغرب من جهة، ويثبت قدرة الإسلام على التطور من جهة أخرى، عن طريق تبيئة المصطلحات والمفاهيم الجديدة في إطار المنظومة السلفية وتأصيلها فيها.
لم يكن الإصلاحي على وعي “بالخصوصية إلا في حدود قليلة، وإذا كان مالك بن نبي أول من طرح مفهوم الخصوصية” وحاول التنظير له؛ فإن طريقة التعامل مع الحداثة ومنتجاتها المعرفية أصبح بطريقة معروفة: الإصلاحي كان يحاول حدثنة الإسلام، والتجديدي يحاول أسلمة الحداثة وعلومها، إنه باختصار “يقوم على تقبل الحداثة مع بعض التعديلات”.
وما إن ظهرت الحداثة المابعدية (أو ما بعد الحداثة) حتى تحمس الكثير من المجددين -والمتأخرون منهم على وجه الخصوص- للاستفادة من مناهجها النقدية لتشريح الحداثة، ومن ثم الإجابة على مشكلاتها من منظور إسلامي، من غير اعتبار للنماذج المعرفية المتباينة والرؤى المختلفة للكون والحياة؛ مما يعكس ضعف البعد الأبستمولوجي في مشروعها من جهة أولى، وقلة الوعي بالخصوصية الحضارية من جهة ثانية.
بدأت جماعة “الملتقى الفكري للإبداع” تعول على كثير من منتجات الحداثة -المعرفية على الأقل- وخصوصاً فيما يتعلق “بالدراسات اللسانية ومناهج النقد الأدبي المعاصر باعتبارها نتاج العصر الراهن”، لتدرك أن مهمتها أولا في الوقوف على البعد الوضعي لتلك العلوم ومحاولة تحييده في إطار التعامل مع النص المطلق (الوحي)، إنها تدعو إلى “الاقتباس -مع قدر من التجاوز- يحقق للذات فعاليتها”، ومع كونها ترى إمكان الاعتماد على الحداثة المابعدية ومناهج نقدها تدرك أنها خطاب “غير متجرد عن نموذجه المعرفي الذي يستند إليه”؛ أي أنه غير مستقل عن الحداثة نفسها التي أنتجته.
الرهان على الذات
من الطبيعي أن لا تكون الإجابة عن سؤال الخروج من الأزمة الحضارية واحدة أمام اتجاهات متباينة المرجعيات والأصول؛ فبينما يؤمن المتنور بالمستحيل الذاتي -أي عدم قدرة الذات بإرثها وماضيها الثقيل على تجاوز المحنة ليرى في الحداثة قارب النجاة الوحيد لأمة غارقة في الماضي والتاريخ- فإن الاتجاهات الإسلامية تراهن على الممكن الذاتي وإن كان بصيغ متباينة، تابعها العلماني فيما بعد، محاولا الاستفادة من هذا المصطلح لعلمنة الإسلام من جهة، وجرِّه عبر “توفيقية متماسكة وضرورية لتعبئة مفاهيم الحداثة في الوعي الإسلامي” من جهة أخرى، سعيا منه لزواج الأرنب بسمكة الشبوط لاستيلاد الممكن من سفاح الآخر بالماضي وهيمنته عليه.
في المقابل أدرك المجدد -المتأخر خصوصا- أن الحديث عن التجديد “لا بد أن يتمتع بالمشروعية التي لا تتأسس إلا في قلب الإطار المرجعي المعرفي، ثم بالضرورة التاريخية التي تعكس الحاجة إلى الإصلاح”؛ ليقف على مشكلة الاقتباس التي تبدأ بتلك “القيم التي تنهض وفقها النظم القانونية والدستورية”، والتي اختصرها “في الانتقال من القيم الأخروية إلى القيم الدنيوية”.
أما المجدد في أجياله الأولى فعلى الرغم من رهانه على الممكن الذاتي (حيث الذات يمكنها التطور والتقدم دون استعارة لباس غيرها) فإنه لم يستطع صياغته بشكل كاف في ظل معالم واضحة للتعامل مع الغرب والتراث معا، وفشله في المطابقة بين الصياغة النظرية والممارسة العملية للتجديد المنشود، وحيث يشهد الممكن الذاتي صياغة جديدة مع جيل الملتقى يتأسس على “اعتراف بالغرب بطريقة مختلفة، قائمة على روح نقدية متقدمة، تحاول استيلاد ممكنها من رحم التفاعل العملي مع الغرب”.
إن ما يميز الخطاب الإسلامي الجديد هو ذلك التوازن النفسي “في زوال سحر الغرب والتراث معا”، والذي ربما افتقدته أجيال الإصلاح والمجددون الأول، بالإضافة إلى السوية المعرفية؛ كونه أكثر وعيا بالحداثة وما بعدها، ويمتلك في الوقت ذاته “رصيد تجربة تاريخية امتدت لأكثر من قرن”؛ بحيث أصبح على معرفة بمشكلات التجديد وإشكالياته ليحاول حلها وتقديم بعض الاقتراحات كالانتقال “من مقاربات التجديد الفردية إلى العمل المؤسسي (…) ومن التنظير إلى التطبيق”، والدعوة إلى فهم الذات والآخر لمحاولة معرفة الأسس النفسية والأيديولوجية التي تحكم العلاقة بينهما.
ويجدر بي التنبيه إلى تلك البحوث التجديدية التي تناولها الكتاب ذات الطابع التطبيقي، كدراسة نص الفقيه، ومقاصد الشريعة، والدراسات النقدية لمناهج التفسير المعاصرة، إلا أنني آثرت في هذه المراجعة عرض ذلك الإطار النظري لأجيال الإصلاح والتجديد بصورة مقتضبة لا تغني عن قراءة كتاب يغص بالأفكار والموضوعات والمساءلات، ويطرح من المشكلات بقدر ما يحل منها؛ محاولة منه لدفع عجلة التجديد الإسلامي إلى الأمام.
المصدر: https://islamonline.net/33208