الأصولية في الأديان: الدوافع والسمات المشتركة

الأصولية في الأديان: الدوافع والسمات المشتركة

عامر الحافي*

تسعى هذه الدراسة إلى كشف أوجه الشبه والتماثل بين الأصوليات الدينية بغض النظر عن عناوينها الخاصة وأسمائها المختلفة، وذلك من خلال تناولها كظاهرة اجتماعية وإنسانية لا تقتصر على مجتمع بعينه.

وبعبارة أخرى سوف نختبر مدى صحة الفرضية التي توحد بين الأصوليات وتردّها جميعاً إلى دوافع ومنطلقات متشابهة وهذا لن يكون دون مقارنة موضوعية لتلك الأصوليات.

ولا شك أن هناك من يفهم بأن مجرد المقارنة بين الأصوليات المختلفة قد ينطوي على شعور بانتقاص ما لاتجاهه أو معتقده وهذا يؤكد مدى صعوبة الخوض في هكذا قضية. هذا بالإضافة إلى التأثير الكبير للتوجيه السياسي والإعلامي الغربي لمصطلح الأصولية واختزاله بالأصولية الإسلامية.

الأصولية كظاهرة اجتماعية لها تمثلاتها الفكرية والسياسية على مدى التاريخ الإنساني وبين شتى أتباع الأديان والثقافات تنطوي على مشكلة داخلية قبل أن تكون خطراً على الآخر فهي تعتقل عقل الإنسان وتختزل مدركاته وهي تمثل حالة من الاحتجاج الغاضب نتيجة لعدم الاستقرار النفسي والاجتماعي وغياب الحقوق الأساسية للإنسان.

دوافع الأصولية وعلم النفس الاجتماعي

يركز علم النفس الاجتماعي الحديث في دراسته لدوافع السلوك الاجتماعي على الجوانب الشعورية المعرفية أكثر من تركيزه على الدوافع اللاشعورية المرتبطة بالعواطف والرغبات وإذا اختبرنا هذا الاتجاه في دراسة الحركات الأصولية الدينية فإننا نتجاوز جانباً غاية في الأهمية يتمثل في البنية النفسية العاطفية لتلك الأصوليات.

من الأهمية بمكان أن نقارب بين دراسة الاتجاهات التعصبية في علم النفس الاجتماعي وبين دراسة الأصوليات الدينية خاصة وأن مجمل الدوافع والسمات العامة لما يطلق عليه: (اتجاهات تعصبية) ينطبق على الحركات الأصولية الدينية، فـ(الإسقاط) مثلاً والذي يعتبر من أهم دوافع السلوك الاجتماعي والمفسر الأساسي المستعمل في دراسة الاتجاهات التعصبية ضد الآخر (الأقليات مثلاً) والذي يبرر الكراهية والعداء بسبب شعور المتعصب أن الآخرين يضمرون له نفس الكراهية والعداء دون أن يدري بأن هذا الشعور قد يكون مجرد إسقاط لشعوره على غيره.

تمثل مفهوم (التمركز العرقي) أحد أهم المفاهيم المستعملة في تفسير ظاهرة التعصب وهو يعني النظر إلى الجماعة التي ينتمي إليها على أنها مصدر للحقيقة والأحكام على الآخرين وهي (الجماعة لعرقية) تترفع وتتميز عن الجماعات الأخرى وسوف نلاحظ أن هذه المفاهيم تتجلى بصورة واضحة في الفكر الأصولي الديني.

يعرف جارودي الأصولية بأنها: (تقوم على معتقد ديني أو سياسي مع الشكل الثقافي أو المؤسسي الذي تمكنت من ارتدائه في عصر سابق من تاريخها، وهكذا تعتقد أنها تمتلك حقيقة مطلقة وأنها تفرضها)(1). فالأصولية تمثل استعداداً فكرياً للذين يكرهون التكيف مع ظروف الحياة الحديثة ينتج عنه جمود وتصلب في معارضة كل نمو أو تطور من خلال استنادهم إلى عقيدة تراثية، وقد تطور هذا المصطلح من الاستخدام الديني ليشمل كل مذهب (محافظ متصلب في موضوع المعتقد السياسي)(2).

فكل حركة دينية أو سياسية تدَّعى امتلاك حقيقة أخيرة، كاملة، مطلقة، وكان ذلك اصطفاء إلهي، وتدعي أن رأي الآخرين لاغٍ ولا قيمة له(3).

حدد روجيه غارودي المكونات الأساسية للأصوليات بالعناصر الآتية(4):

1– الجمود ورفض التكيف ومعارضة التطور.

2– العودة إلى الماضي والانتساب إلى التراث.

3– عدم التسامح والعداء مع الآخـر.

4– الانغـلاق.

فأي حركة أو جماعة يتسم فكرها بالعناصر المذكورة سابقة فإنها تكون حركة أو جماعة أصولية سواء كانت دينية أم غير دينية.

وضع إيان لوستيك في دراسته عن الأصولية اليهودية ثلاثة محددات لمصطلح الأصولية وهي(5):

1– أن تبني نشاطها على معطيات لا تقبل المساومة.

2- أن يكون سلوكها موجه من مصدر السلطة المتعالية.

3– أن تعمل على إحداث التغيير الشامل.

وقد أخرج لوستيك بهذه المحددات العديد من الحركات الدينية اليهودية مثل اعودات، ينطوري كارتا، الطوائف الحسيدية، وكأن الأصولية اليهودية محصورة في غوش ايمونيم (جماعة لايمان) ولا تخرج عنها.

ويلاحظ عند المقارنة بين المحددات عند كل من جارودي ولوستيك بأن جارودي أضافَ البعد التاريخي الذاتي في حين ركز لوستيك على الجانب العملي والسياسي على حساب المنطلقات العقدية والفكرية، وأظهر الأصولية اليهودية وكأنها ظاهرة جديدة في التاريخ اليهودي.

ويؤكد هذا التباين مدى الإشكالات في التعاطي مع مصطلح الأصولية بين الباحثين المعاصرين. فليست جميع الحركات الدينية هي حركات أصولية، فالحركات الإسلامية التي تهدف إلى تحرير العقل الإسلامي من الجمود وفتح باب الاجتهاد والحوار والاستفادة من تجارب الشعوب كما يتجلى ذلك مع الأفغاني ومحمد عبـده ومحمد إقبال ليست حركات أصولية وإنما هي حركات إصلاحية تنويرية تتجاوز القوالب النمطية للفكر الأصولي وتسعى إلى تطوير المفاهيم والتصورات الدينية على ضوء المعارف العلمية والإنسانية الحديثة.لذا؛ فالأصولية الدينية تمثل امتداداً للفكر الذي يرفض تعليل الأحكام والتحسين والتقبيح العقلي ويخلط بين الأصول والفروع ولا يعطي للظروف التاريخية والاجتماعية دورها في صياغة الآراء والمواقف.

الأصولية الدينية ودوافع التدين

تذهب بعض الدراسات إلى أن العقيدة الدينية قد بدأت من النظر والتفكر في الطبيعة ثم راحت تبحث في كائنات روحية تقف خلفها وتُسيطر عليها، ومن خلال هذه (الغريزة العقلية) التي تتطلع إلى فهم الطبيعة والعالم جاءت تصورات الألوهية(6) بمعانيها الإنسانية.

لقد صاغ الفكر الديني مفهومه (للمقدس) و(غير المقدس) في سياق بحثه الدؤوب عن الحقائق الروحية والذي يرجع إلى إحساس بثنائية (الإلهي) و(الإنساني)، وهذه الدوافع النفسية لهذه الثنائيات ما يزال لها الحضور الأوفى في الثنائيات الدينية المفاهيمية والصراعية والتي تشكل إحدى أهم السمات في الفكر الأصولي الديني حتى يومنا هذا.

إذا انطلقنا من المقولة التي تشير إلى أن دوافع الإنسان النفسية تسير جنباً إلى جنب مع حياته المادية، فإن دوافع الأصولية الدينية هي دوافع متجددة ومتواصلة مع المحيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي للإنسان الأصولي.

يمثل الشعور بالخوف دافعاً أساسياً في نشأة العقيدة الدينية فإن هذا الشعور بالخوف والرهبة من القوى العلوية لا يكفي لتفسير الفكرة الدينية، ولا بُد من شعور آخر يوازيه ويلطف من حدته. ذلك أن الخوف إذا استأثر بالنفس سحق الإرادة وولد اليأس من إمكانية الخلاص، ولذلك لا بُد للإنسان باستمرار من شعور بالأمل والرجاء ليصل إلى نقطة التوازن(7) وهذه المعادلة نفسها لها حضورها في الفكر الأصولي الديني وآليات خطابه الذي يجمع بين استغلال مشاعر الخوف من العقاب والإحساس بالذنب ويوجهها نحو الثواب العظيم والسعادة في العالم الآخر.

ويذهب (أوجيست ساباتيه) إلى أن العقيدة الدينية تتولد في الإنسان منذُ نشأته على أثر شعوره بمناقضة جوهرية بين حساسيته وإرادته، وهما القوتان اللتان تتألف منهما حياة النفس في أيسر مظاهرها فالنفس تقوم على حركتين معاكستين: إحداهما تتجه من (الخارج إلى الداخل)، والأخرى من (الداخل إلى الخارج). فالحركة الأولى تمثل تأثير الأشياء على النفس بواسطة الإحساس والحركة الثانية تمثل مجاوبة النفس على الأشياء بتوسط الإرادة وهاتين الحركتين لا تنطبقان تمام لانطباق، ذلك أن الحساسية تسحق الإرادة وتكبتها، فكلما اندفعت الإرادة من داخل النفس، وارتطمت على صخرة الأشياء الخارجية فانكسرت عليها رجعت كئيبة مبتئسة، وهذه الصدمات والمنازعات المستمرة بين النفس والعالم الخارجي هما السبب الأول لكل أنواع الآلام، ولكنهما في الوقت نفسه هي منبع النور(8).

فالإحساس والإرادة والتناقض بينهما يمثل دافعاً أساسياً في البحث عن صيغة دينية تضفي على الواقع الإنساني الاستقرار والرضا ولا شك أن إحساس الحرية والبحث عن الهوية والكرامة وتجاوز القهر والاستبداد يمثل دافعاً أساسياً عند الإنسان الأصولي خاصة إذا تأملنا في صخرة الواقع الاستبدادي والطبقي في محيطنا الاجتماعي والسياسي.

وعندما يصل الفكر الإنساني إلى نقطة (المناقضة العامة)(9) بين إحساسه وإرادته وبين العلم والعمل وبين التفكير والحركة بين قوانين الطبيعة وقوانين الأخلاق فإنه يجد الأصولية في انتظاره.

لا بُد هنا من دراسة العلاقة بين دوافع التدين عموماً والدوافع التي تقف وراء الاتجاهات الأصولية، هذا بالرغم من أن الأصوليين لا يقبلون بهذا التفريق ويعتبرون دوافعهم باستمرار هي دوافع أخلاقية ودينية.

والذي يزيد من صعوبة التفريق بين المتدين والأصولي هو ندرة الدراسات النفسية والاجتماعية للدين في العالم العربي واعتبار التدين كظاهرة فطرية ميتافيزيقية تتجاوز عالم الأسباب لذلك قد يعتقد البعض أن نقد دوافع الأصولية الدينية يمثل نقداً للإيمان وتجاوزاً للفطرة.

من اللافت للنظر أن بعض الأصوليين اليهود يتعاملون مع مصطلح الأصولية بنفس المنطق الذي يطرحه بعض الأصوليين المسلمين عندما يجعلون من وصفهم بالأصولية أو الإرهاب سبباً للفخر والاعتزاز دون إدراك الدلالات السياسية والإعلامية لهذه المصطلحات. فهذا جوناثان ساكس رئيس حاخامات بريطانيا يقول: (إذا كانت اليهودية تأمرنا بأن نكون أصوليين، فلنكن كذلك وبكل افتخار ودون دفــاع)(10).

الغرب كان له الدور الأكبر في إنتاج الأصوليات وهو بحسب تعبير جارودي (أم الأصوليات) فهو الذي أنتج الأصوليات الدينية والرأسمالية والصهيونية في حين أن الأصوليات الإسلامية ليست إلا (أصوليات منعكسة)(11). فبالرغم من الدوافع الداخلية العديدة للأصولية الإسلامية إلا أن الأسباب الخارجية يبقى لها الأثر الأكبر في تشكيل خطابها وتحديد أهدافها.

فهي تأتي كردة فعل على الشعور بالقمع والاضطهاد والانحلال الأخلاقي وكمحاولة للانفلات من الهيمنة الاستعمارية.

ومن أهم الأسباب التي تدفع إلى الأصولية الشعور بالإهمال والاغتراب أمام النماذج الثقافية والسياسية التي تبنتها بعض الدول الإسلامية دون الالتفات إلى مدى التباين الثقافي والحضاري بين تلك النماذج والبناء الفكري والثقافي السائد.

وقد أدى إخفاق الدول القطرية أمام التحديات السياسية والعسكرية الخارجية خاصة هزيمة 1967م إلى حدوث صدمة قوية مزدوجة أثرت في نشأة الأصولية الإسلامية التي بدأت تُعيد النظر في الفكر القومي واليساري وتعود إلى الصيغة القديمة للانتصار فسقوط (القدس) كان بمثابة الزلزال الذي هز الثقة بالهوية والعقل الإسلامي. ومن ناحية ثانية أسهم استيلاء الدولة الصهيونية على القدس إلى إحداث صدمة في الوجدان اليهودي الذي رأى فيه نوعاً من تحقيق النبوءات وتأكيداً على موثوقية النص الآخر الذي سيعطي للعديد من الحركات الأصولية اليهودية الكثير من الأتباع والأنصار.

السمات الفكرية المشتركة للأصوليات الدينية

تضخم النزعة العقدية

تتعامل الأصولية الدينية مع الدول والمجتمعات الأخرى كمعطيات عقدية لا تتحرك إلا في دائرة الدين والعقيدة، ومن هُنا كان تركيز الأصولية اليهودية (كاخ، وعوش ايمونيم مثلاً) على كراهية المسلمين والعرب لهم بسبب منطلقاتهم الدينية وبنفس المنهج فإن التعامل مع الغرب وإسرائيل كدول دينية عقدية تهدف إلى النيل من الدين والقضاء عليه. كل ذلك يؤكد أن الأصولية تسعى إلى مقابلة الأصولية بالأصولية والعقيدة بالعقيدة فما دام الآخر (العدو) قد انتصر بالعقيدة فالرجوع إلى الدين يأتي هُنا (كنكاية) بالعدو أكثر مما هو خيار إنساني حر.

الشعور بالاضطهاد

استغل الخطاب الأصولي الكوارث والمآسي التي تقع لاتباع ديانتهم في استقطاب الأنصار والاستحواذ عليهم فالأصولية اليهودية استثمرت الهوليكوست (المحرقة النازية لليهود) وفسرتها كعقوبة إلهية على الخطايا التي وقع بها اليهود وكحافز للتوبة والعودة إلى كنف العناية الإلهية(12).

وقد أقرَ (اللورد جاكوبتس) رئيس حاخامات انجلترا السابق بـ أثر هذه التفسيرات اللاهوتية للمحرقة في زيادة نفوذ وحيوية الأصولية اليهودية(13).

الآخر في الفكر الأصولي الديني

- المبالغة والتضخيم في إظهار خطر الآخر ومؤامراته المستمرة في القضاء على الذات، أو في وصف مشكلات الإنسانية بطريقة تهويلية بهدف تسويغ الخطاب الشمولي والإنقاذي للأصولية. وكمثال على ذلك التهويل في الحديث عن المحرقة اليهودية وتلك القصص التي يذكرها الحاخام مائير كاهانا في كتابه: (شوكة في عيونكم)(14). والتي يذكر فيها روايات مأساوية لقتل اليهود في فلسطين على أيدي المسلمين!.

- النظر إلى الآخر وقراءة مواقفه من خلال العقل الأصولي وآلياته وليس من خلال الفهم الموضوعي للآخر فالفكر الأصولي يلبس منطلقاته لخصومه، وهكذا يصبح أي صراع يمثل حرباً دينية ممتدة ومستمرة لحرب قديمة (الاستعمار الغربي كامتداد للحروب الصليبية) و(العرب هم امتداد للأعداء القدماء لبني إسرائيل (العمالقة) كما هو الحال مع غوش ايموينم والمعركة الفاصلة (هرمجدون) كامتداد للأعداء القدماء للمسيح في الفكر الأصولي البروتستانتي.

وهذا يؤكد مدى التشابه في بناء التصورات وتفسير التاريخ لدى الحركات الأصولية الدينية.

أن الآخر هو النقيض المطلق للذات فلا يمكن قبول التسوية معه أو حتى احترامه لأن ذلك يمثل تهديداً مباشراً لتفرد الذات وقداستها.

فـ(الغوييم) و(الكفار) و(أعداء المسيح) جمعيها مصطلحات تتفق في مضامينها الإقصائية والاستعدائية وتنطلق من مقولة: (من ليس معي فهو ضدي) كما يتجلى في الخطاب الأصولي للمحافظين الجُدد.

- النظرة الثنائية للعالم ومجتمعاته البشرية فالعالم يقسم إلى معسكرين الأول هو معسكر الخير، الإيمان، الحق والذي يتمثل (بالذات الأصولية)، والثاني: هو معسكر الشر، الكفر، الباطل والذي يتمثل بالآخـر.

كما تتجلى هذه الثنائية من خلال القديم والجديد والأصالة والمعاصرة والدين والعلم رغم تأكيد الخطاب الأصولي على وحدة المعرفة ووحدة الحقيقة.

الأسس المعرفية للفكر الأصولي الديني.

- ترتكز الأصولية الدينية على (نص مقدس) سواء الأصولية اليهودية أم المسيحية وخاصة البروتستانتية والإسلامية وخاصة السلفية، والنصوص الدينية تنتج نمطاً من المفاهيم المشتركة والمعرفة الخاصة باتباع تلك النصوص(15). فاليهود الأصوليون ينظرون إلى التوراة على أنها (فوق التاريخ وذات صلاحية أبدية)(16). وهو ما يقوله الأصوليون الإسلاميون في النظر إلى المصادر الدينية.

يصدر الفكر الأصولي الديني عن موقف هدمي للعقل الفلسفي والعلمي؛ لذلك لا يأبه لمدى التناقض بين نصوصه المؤسسة وبين العقل أو العلم. فالفهم الأصولي للدين يشير إلى أزمة في فهم الدين، ومشكلة في الهوية في الدرجة الأولى ثم إلى إشكالات اجتماعية وسياسية في الدرجة الثانية، بالرغم من محاولة الأصوليين إنكار ذلك والقفز فوق جميع المعطيات الواقعية.

والعقل الأصولي في تمثلاته الدينية يتجاوز السنن الاجتماعية والقوانين الطبيعية كما أنه لم يستوعب آليات تنزيل الأحكام وظرفيتها فالخطاب الأصولي ينتزع النصوص الدينية من سياقها ويحولها إلى معانٍ مطلقة تطبق على كل المجتمعات والأجيال(17).

- الوثوقية المطلقة في الآراء والمواقف ورفض النقد والاجتهاد؛ لأنها تمثل نقيضاً للإيمان وتشكيكاً في قداسته، ولذلك لا يمكن للأصولي أن يعترف بشرعية الآخر وحقه بالاعتقاد.

- العجـز عن نقــد الــذات: أحد السمات الأساسية للأصولية هو عجزها عن نقد ذاتها أو مراجعة أفكارها ومواقفها وهذا يعود إلى عدم اشتمالها على (نظرية نقدية) فالنقد يعني وفق القاموس الأصولي الشك ونقصان الثقة بالعقيدة المطلقة.

كما يعود سبب ضعف القدرة على نقد الذات أو مراجعة الأفكار للتداخل والتماهي بين ذات الأصولي وعقيدته النظرية، فالأصولية الدينية تدمج بين طريقة فهمها للدين وبين حقيقة الدين وهذا يجعل إمكانية إعادة الفهم أو المراجعة أمراً غاية في الصعوبة لأنه سوف يفسر عندهم بأنه انتقاد للدين ذاته.

الأصولية الدينية والخلاص المسيحاني

تمثل عقيدة المسيح المنتظر ومعتقدات نهاية الزمان عاملاً أساسياً في توجيه المواقف والأفكار بين إتباع الاتجاهات الأصولية: فالمسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة تنظر إلى دعم إسرائيل كخطوة نحو الخلاص المسيحاني وموقف اليهودية الصهيونية المتمثلة بالحاخام كوك والأحزاب الدينية القومية تنظر إلى الصهيونية على أنها خطوة لتسريع مجيء المسيح وأما في الأصولية الإسلامية فإن عقيدة المسيح المنتظر -وإن كانت أقل حضورا- إلا أنها ترتبط باستمرار بالمعارك النهائية والفاصلة في نهاية الزمان والتي تمثل فلسطين قاعدتها الأساسية.

واللافت في هذا النمط من المعتقدات الغيبية الأخروية أنه يمثل قاعدة في فهم التاريخ وتحليل أحداثه بل وصناعته وليس مجرد عقيدة غيبية، والمثال على ذلك هو ما كان يعتقده بعض اليهود الحسيديون في غزو نابليون لروسيا بأنه بمثابة حرب (يأجوج ومأجوج)(18) وموقف أحد رموز السلفية من حركة جهيمان العتيبي وإمكانية تأييده فيما لو كان هو المهدي !.

كما أن تحطيم المسجد الأقصى يرتبط بعملية الخلاص اليهودي كما هو الحال في أدبيات غوش ايمونيم واتباع الحاخام كوك(19) وهو يمثل مرحلة ضرورية لمجيء المسيح وقد أسهمت عقيدة الخلاص المسيحاني الإعجازي في جمود الفكر السببي في ذات الوقت التي شكلت فيه الرؤية السياسية لكثير من الحركات الدينية الأصولية(20).

الاعتقاد باقتراب نهاية العالم وأنه لا بُد أن يحدث النزال الأخير والحاسم بين أتباع الحق واتباع الباطل وأن النظر في ذلك النزال سيكون حليفاً لاتباع الحق. وهذه العقيدة ليست مجرد عقيدة إيمانية وإنما هي رؤية مستقبلية تاريخية تصيغ المواقف والآراء السياسية وتنتج نوعاً من الاعتقاد بحتمية الصراع بين الجماعة الأصولية والأمم الأخرى وأنه لا يتوقف حتى يتحقق الانتصار الحاسم.

الاعتقاد بوجود خطة إلهية توجه التاريخ نحو ذات الأهداف التي تؤمن بها تلك الجماعة، وبذلك فهم ينظرون إلى أنفسهم على أنهم منفذين لإرادة الله ومشيئته وهذا يقدم تسويغاً جاهزاً في نظرهم لكل عمل يمكن أن يقوموا به.

(البقية) المؤمنة أو الطائفة الثابتة على الحق هو اعتقاد مشترك بين الأصوليات الدينية فهناك مجموعة استثنائية ومميزة تمثل الحق في كل مرحلة من مراحل التاريخ وهم امتداد لأنموذج قديم يعبر عن المرحلة الذهبية للفكر الأصولي وهذه (البقية) هي التي تملك الحلول الكاملة لمشاكل الإنسانية جمعاء.

الأصولية الدينية والقيم الأخلاقية

- الانحدار وتراجع القيم: إحدى القواعد الأساسية لدى كثير من الأصوليين الحريديم اليهود يكمن في اعتقادهم بأن (الأجيال آخذة في الانحدار) ولذلك فإن الحريديم ينظرون إلى الوراء في التعليم والقيادة والورع والقدوة(21)، وهذا الرجوع إلى الأنموذج الأسمى القديم والذي يمثل (المرحلة الذهبية) يعتبر احد أهم العناصر في الفكر الديني الأصولي عموماً. كذلك الجماعات الأصولية الدينية الإسلامية المعاصرة المطالبة بالرجوع إلى السلف.

- الازدواجية القيمية: يعطى الأصولية لنفسه من الحقوق ما لا يعطيه لغيره، فهو يصدر عن فكر ينطوي على ازدواجية غير واعية في بعض الأحيان ومقدسة في أحيان أخرى ولذلك فهم يشعرون بالاستعلاء والتميز غير المعلل كجماعة أو حزب يرتبط برباط خاص مع الله وينطوي تحت مشروع إلهي يمتد من القديم وحتى نهاية العالم.

- الطاعة الكاملة والولاء المطلق للقيادات الدينية: تعتبر طاعة القيادات الدينية من أهم سمات الأصوليين فهذه الطاعة تمثل جزءاً من نسيج مترابط يشتمل على الإله، النصوص المقدسة، الشروحات الدينية القديمة(22).

وأخيرا فإن الإنسان الأصولي يمثل ردة على الإنسان الحضاري ويظهر حجم العوائق التي تحول دون الوصول إلى مجتمع إنساني متحضر فعندما يفقد الإنسان الثقة بالقيم الاجتماعية السائدة وبالنظم السياسية فإنه يبحث عن صيغة جاهزة وقديمة لتحقيق الأمل المنشود. فالأصولية مهما كانت صيغتها (تقنوقراطية أم ستالينية، مسيحية يهودية أم إسلامية) تمثل خطراً على المستقبل، وذلك لأنها تعتقل (المقدس) وكل المجتمعات البشرية في مذاهب متعصبة منغلقة على نفسها وبالتالي تتجه نحو المصادمة(23).

***********************

الحواشي

*)باحث من الأردن.

1- روجيه جارودي، المرجع السابق، ص13.

2- روجيه جارودي، المرجع السابق، ص13.

3- روجيه جارودي، المرجع السابق، ص37.

4- روجيه جارودي، المرجع السابق، ص13.

5- إبان لوستيك، الأصولية اليهودية في إسرائيل، ترجمة حسني زينة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، ط1، 1991م، ص11.

6- دراز، الدين، ص123.

7- دراز، الدين، ص(132-133).

8- دراز، الدين، ص(142، 143).

9- دراز، الدين، ص144.

10- لانداو، الأصولية، ص92.

11- جارودي، الأصوليات، ص7.

12- لانداو، الأصولية، ص214.

13- لانداو، الأصولية، ص215.

14- الحاخام مائير كاهانا، شوكة في عيونكم، دار الجليل، عمان، الأردن.

15- لانداو، الأصولية، ص248.

16- لانداو، الأصولية، ص257.

17- أحمد موصلي، الخطاب الإسلامي الأصولي، ص105.

18- لانداو، الأصولية، ص30.

19- لانداو، الأصولية، ص339.

20- الفاروقي، الملل المعاصرة، ص100.

21- لانداو، الأصولية، ص144.

22- لانداو، الأصولية اليهودية، ص(88-89).

23- روجيه جارودي، الأصوليات، ص11.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=495

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك