نشطاء حقوق الإنسان وإشكالات “الحرب على الإرهاب”
رزان زيتونة
في السادس والعشرين من يونيو الجاري، يحتفل العالم باليوم العالمي لمناهضة التعذيب ومساندة ضحاياه. هذا التاريخ الذي دخلت فيه اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهنية، حيز النفاذ من عام 1987 .
144 دولة صادقت على تلك الاتفاقية حتى الآن، و102 دولة، وقعت بها حالات تعذيب ومعاملة سيئة على أيدي قوات الأمن أو الشرطة أو غيرها من السلطات الحكومية، كما هو موثق في تقرير منظمة العفو الدولية للعام 2007.
ليس الأمر فقط أن تحسنا ملحوظا لم يطرأ على سجلات الدول التي تمارس التعذيب، بل أن نطاق ممارسته قد اتسع واكتسب “شرعية” ضمنية في إطار ما بات يعرف ب”الحرب على الإرهاب”.
ضحايا الحرب إياها يحظون بالنصيب الأكبر من التعذيب وإساءة المعاملة في طول العالم وعرضه. بعض هؤلاء مارسوا عنفا بشعا ضد آخرين، بمثل ما مورس عليهم لاحقا- أو سابقا في بعض الأحيان. كثيرون، جرى ترحيلهم من بلدان غربية إلى دولهم العربية، من أجل التحقيق معهم وفقا لما اعتادت تلك الدول، أي “الشبح والكرسي الألماني وصعقات الكهرباء” وغيرها من أساليب التعذيب المتعددة. ومن “غوانتانامو” الأمريكي إلى نسخه العربية التي لا تعد ولا تحصى – وفي الحقيقة معظمها سابق على نظيرها الأمريكي- يسعد وحش التعذيب بضحاياه الوافدين بغزارة، إلى جانب المعتقلين السياسيين ودعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وحتى السجناء الجنائيين في كثير من دول العالم الثالث.
اختلف تعامل المنظمات الحقوقية المحلية منها والعالمية، مع ضحايا “الحرب على الإرهاب”، وهو ما انعكس بالتالي على الموقف من تلك المنظمات في الأوساط الحقوقية والفكرية على السواء، وخلق جدلا غير معلن ما بين المدافعين عن حقوق الإنسان بمعزل عن أية اعتبارات أخرى، وبين من يتوجهون بالنقد لأولئك باعتبارهم “يتورطون فيما لا يحبذ للناشط أن يتورط فيه” وفقا لتعبير أحد النشطاء السوريين.
{{المنظمات الحقوقية}}
كان للمنظمات الحقوقية الدولية، الدور الأكبر في فضح انتهاكات حقوق الإنسان في ظل “الحرب على الإرهاب” ومساندة ضحاياها. وأشد الحملات التي أطلقت في سبيل إغلاق معتقل غوانتانامو، كانت من قبل المنظمات الحقوقية الأميركية قبل غيرها.
في المقابل، أخذت بعض المنظمات العربية المتمركزة في الدول الغربية، على عاتقها، الخوض في معركة محاربة “الحرب على الإرهاب” في أشكالها اللاإنسانية، كالاعتقال التعسفي والتعذيب والترحيل القسري والسجون السرية وغيرها. وذلك على أساس عدم جواز وجدوى الحل الأمني في مواجهة الإرهاب والعنف، لأن ذلك “يضرب العلاقات المدنية ودولة القانون والقانون الدولي” وفقا للدكتور هيثم مناع الناطق باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان في باريس. وجدير بالذكر أن تركيز تلك المنظمات انصب على انتهاكات الدول الغربية في “حربها ضد الإرهاب”، ولم يقارب إلا قليلا انتهاكات الدول العربية في هذا المضمار.
هذا بينما اكتفت معظم المنظمات المحلية، بإصدار البيانات المنددة بين حين وآخر بتلك الانتهاكات، من غير التركيز عليها أو إعطائها أولوية في نشاطاتها، على الرغم من أن معظم تلك الانتهاكات تمارس في بلدانها منفردة، أو بالتعاون مع بعض الدول الغربية.
خلال “دردشات” أجريتها مع عدد من النشطاء السوريين، لم يدافع أحد على الإطلاق عن الانتهاكات التي ترتكب في خضم “الحرب على الإرهاب”. مع ذلك، يمكن للمرء أن يلمس تململا حينا واستنكارا حينا آخر، تجاه النشاط الحثيث لبعض المنظمات العربية في الغرب، في قضايا مثل معتقل غوانتانامو و”سامي الحاج وتيسير علوني. هذا الأخير متورط في الإرهاب وقد أدانته محكمة إسبانية، لا نحلم أن نحظى بمثل عدالتها يوما. لماذا ينبري هؤلاء للدفاع عنه ويقيمون الدنيا من أجله، بينما في بلدنا نجد مثقفين ونشطاء سلميين بحاجة لمن يؤيدهم ويساندهم بدلا من مساندة أولئك المتطرفين؟” يقول أحد النشطاء.
بينما يثير آخرون ما يسمونه “أزمة أخلاقية” فيما يتعلق بالدفاع عمن يتهمون بأنهم “جهاديون أو تكفيريون”. “العائلة لا تعلم ما فعل ولدها. الأم تبكي وتعاني، ونحن نتعاطف معها، ونصدر البيانات من أجل ولدها، لنكتشف فيما بعد أنه شخص أصولي متشدد وخطر. هذا يضعنا أحيانا في مأزق، حول كيفية التعامل مع هؤلاء”.
يبدو في هذا الجدل أن مساحة رمادية ما لا تزال تظلل فكر المدافعين عن والمناوئين لمبدأ مساندة ضحايا “الحرب على الإرهاب”.
غالبا ما يحاول الأولون تصوير أولئك الضحايا باعتبارهم أبرياء ومظلومين ولم يرتكبوا ما يستأهل العقاب على تلك الشاكلة. و يذهب الفريق الثاني – والتقسيم مزاجي- إلى كون أولئك منتسبين لجماعات متشددة ومتورطين في أعمال عنفية أو أنهم مشاريع عنف مستقبلية.
فيما يبقى الأصل، وفقا لأحد النشطاء، أن مفردة “ضحايا” في هذا المقام، لا صلة لها ببراءة المعنيين أو إدانتهم، والدفاع عن هؤلاء ينطلق من وجوب حمايتهم كبشر من أية معاملة قاسية أو لاإنسانية أو مهينة، وحفظ حقوقهم في معاملة إنسانية ومحاكمة عادلة وفقا لما تنص عليه المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان.
وفي هذه النقطة أيضا، نجد من يجادل، “إلى أي حد يمكن أن أدافع عن حق معتقل بعدم التعرض للتعذيب، وهو تسبب في قتل الأبرياء وأتعاطف مع معاناته وأنا مرتاح الضمير؟ وهل يمكن أن أقول للأجهزة اللبنانية حاليا إياكم أن تمارسوا التعذيب بحق من اعتقلتموهم من فتح الإسلام، أم أنني سأركز على الحصول على اعترافات سريعة من شأنها أن تنقذ أرواح أبرياء؟” وقد يزيد هذا الرأي حدة، عندما يستمع أصحابه إلى رأي المتشددين العنفيين، في التعامل مع المنظمات الحقوقية للوقوف ضد الانتهاكات التي يتعرضون لها من قبل الأجهزة الأمنية.
{{موقف الجماعات المتشددة من المنظمات الحقوقية}}
لحمَلة الفكر الجهادي التكفيري، موقف من التعامل مع المنظمات الحقوقية والمحامين النشطاء ومخاطبة الرأي العام الدولي حول ما يتعرضون له من انتهاكات، يمثل التعذيب وإساءة المعاملة أقساها على الإطلاق. وهذا الموقف يتمثل في اتجاهين، بينهما مواقف تقترب من أحدهما إلى هذا الحد أو ذاك.
أما الاتجاه الأول، فهو الرافض بشكل مطلق للتعامل مع تلك الجهات جملة وتفصيلا، وقد رأينا نماذج لهم في محاكمات بعض المعتقلين من الجماعات الإسلامية المتشددة في بعض الدول الغربية، حيث كانوا يرفضون حتى التعامل مع المحامين المكلفين بالدفاع عنهم. ووفقا لعائلات بعض المعتقلين في “غوانتانامو”، فإن عددا منهم يرفض التعامل حتى مع منظمة الصليب الأحمر التي تضطلع بدور إنساني بحت. ويعود ذلك إما لدرجة التشدد التي وصلوها وتكفيرهم تلك المنظمات وأولئك النشطاء، فضلا عن صدور فتاوى في بعض الأحيان من “أمرائهم” تقضي بعدم التعامل معهم. أو وفقا لما تعتقد عائلات بعضهم، بسبب درجة اليأس والإحباط التي وصلوا إليها بعد معاناة طويلة لم ينفع معها نداء أو مساعدة قانونية أو إعلامية “لم يكن زوجي يرفض التعامل مع الصليب الأحمر في بداية اعتقاله في “غوانتانامو”، لكنه امتنع عن ذلك مؤخرا، وأعتقد أن مرد ذلك إلى كل ما عاناه خلال السنوات الماضية” تقول زوجة أحد أولئك المعتقلين.
أما الموقف الآخر، فهو الذي لا يجد حرجا في التعامل مع تلك المنظمات، إما لأن “الله سّخر لنا هذه الوسائل لإعانتنا في جهادنا” كما أخبرني أحدهم، أو لأنه “يجوز للمسلم إن رجا أن يدفع الظلمعن نفسه، ويرفع الضرر، ويسترد حقوقه، أن يتحاكم إلى جهات لا تحكمبالشريعة، وأن يستفيد من أعراف وضعها غير المسلمين إن كانت توافق الحـق،وتحقق العدالة، إن لم يجـد محاكم أو جهات تحكم بالشريعـة يسترد بها حقه،ويدفع عن نفسه الأذى والضرر .دل على ذلك الكتاب والسنة وفعل الصحابة والاعتبار الصحيح” وفقا لفتوى نشرت في أحد المواقع الجهادية، في رد على سؤال عن حكم التعامل مع المحاكم الوضعية ومنظمات حقوق الإنسان. يورد صاحب السؤال هنا مثالا عن ” أحـد المجاهدين فك الله أسره كان طلب اللجوء السياسي ووضْع محام”!
{{تساؤلات مشروعة}}
قد يكون الظرف الجديد والبيئة الجديدة لذلك “الأخ المجاهد” سببا في تحويله عن خط التشدد الذي سار عليه. ومن الممكن جدا أن يشكل ظرفا آمنا نسبيا له لاستعادة نشاطه ضمن الشبكات المتشددة الناشطة في بلاد الغرب. ولو حصل واشترك في إحدى العمليات الإرهابية في ذلك البلد، لا يمكن الاكتفاء بالقول وقتها، بأن مساعدته كانت واجبا إنسانيا وأخلاقيا بغض النظر عن النتائج!
يقول أحد النشطاء “كنت قد تبنيت قضية مجموعة من المعتقلين على خلفية إسلامية منذ سنوات، وساعدتهم بالطرق المعتادة عبر التواصل مع المنظمات الحقوقية وسواها لما علمت بما يعانون في معتقلهم. وقد أفرج عنهم لاحقا – لا أزعم أن ذلك بفضل جهودي- لأعلم فيما بعد أن أحدهم عاود الالتحاق بإحدى الجماعات الإرهابية خارج القطر وقتل أثناء إحدى العمليات العسكرية. وأنا أتساءل الآن، ما إذا كان من الأنسب وقتها لو كانت حملتي من أجل إبقائهم في السجن، إذا لم يكن من أجل حماية الأبرياء، فمن أجل حمايتهم هم أنفسهم من أنفسهم”.
وإن كان استقصاء النيات ومعرفة البواطن ليس مما يدخل في دور الناشط في مجال حقوق الإنسان، ومن واجبه الدفاع عن أي إنسان يتعرض لانتهاك في حقوقه بغض النظر عن أية ملابسات أخرى، فإن لدوره هذا بعدا آخر كما يقول أحد النشطاء ” إن الانتهاكات الممارسة بحق الأصوليين تساهم في توسيع دائرة العنف واستيلاد المزيد من التطرف والأصولية، وتلك الجماعات تستخدم هذه الممارسات في الترويج لفكرة الأنظمة الكافرة واستهدافها لحملة لواء الإسلام والمدافعين عنه ومن جهة أخرى، فإن ما يلاقيه أولئك من معاناة ومهانة في التعامل معهم أثناء اعتقالهم، يزيد من تشددهم وتمسكهم بأفكارهم، ومساندتنا لهم هي أحد أشكال التخفيف من غلو المشاعر العدائية التي تعتمل في داخلهم تجاه المجتمع والعالم.”.
هذا الرأي أصبح متداولا حتى في بعض أوساط صنع القرار الغربية أو القريبة منها. فهاهو السير ريتشارد ديرلوف الرئيس السابق لوكالة المخابرات البريطانية ما بين 1999-2004، يعلن مؤخرا بأن «وسائلنا التي نتبعها أصبحت ذات نتائج عكسية. فالقاعدة وتوابعها الفيروسية في ازدهار ونمو..وأساليبنا أدت إلى خلق مزيد من الإرهاب عوضا عن منعه..”.
أخيرا، تصادق إحدى الناشطات على ذلك من وجهة نظر مغرقة في الرومانسية ربما، مع الكثير من الأمل: “هناك جوانب مضيئة كثيرة تعتري نشاطنا في هذا الإطار. أنا أراهن بأن مساعدتنا لأولئك الأشخاص تترك في نفوسهم شيئا ما، مهما تكلموا عن (التسخير) وسواه. لا بد أن المحبة تجد طريقها إلى لآخرين رغم كل الحواجز.”.