إلى من يُقلِّمون أجنحتنا في مُحاوَلةٍ لطمسِها؛ ما أمكن.
وإلى الضَّوء الَّذي يشقُّ مساره إلينا باستمرار ليمسحَ قُروحنا الوجوديَّة المفتوحةَ على العالم برمَّته؛ والَّتي لا تتوقَّف عن النَّزيف.
………….
لأنَّي أخافُ من الآخر؛ أكتبُ لأُعلِنَ عن خوفي ولِأضمرَه في آنٍ معاً.. لأزجَّه في خبايا النَّصّ حيث أنتمي ولا أنتمي في مُحاوَلةٍ لفهم هذه الدَّوائر اللَّولبيَّة الموجودة داخلَ رأسي وأحشائي كخربشات الأطفال الَّتي لا معنى لها أو كدهاليز الوجود المُبهَمة والغامضة.
أحاولُ أن “أتعزَّى بشيءٍ.. بغابٍ.. بوادٍ.. بظلَّةِ تين”[1] على طريقة نازك الملائكة، فأسقطُ من مدني الطُّوباويَّة إلى قاعِ الواقع السَّحيق فتلطمني تناقضاته، وتخلخلُ جسدي وتمزجُه في ثنايا أتربتها وألوانها السَّوداء الدَّاكنة لأرى نفسي ضائعاً داخل جوفِ القاع مُحاوِلاً أن أمدَّ يدي للسَّماء.. للأعلى.. على أملِ النَّجاة، فتبتلعُني الأوحال وأنخرطُ في أتربةِ المجهول.
أعيدُ روتيناً يوميَّاً لا مجالَ لتفاديه: هربٌ من الواقع وانجذابٌ إليه، طمسٌ للذَّات ومعاودةُ تشذيبها من جديد لتتراءى بصورٍ وأشكالٍ جديدةٍ لا أهمِّيَّة لها على الإطلاق، فألتفُّ بالثُّنائيَّات الَّتي تُحاصِرُ جسدي وتُكبِّلُه بالأصفاد وتحجُبُ عنه الرُّؤية.
أستيقظُ في الصَّباحات الخاوية من أصوات الضَّجيج، حاملاً درويش بين ذراعي ومردِّداً: “سأمدحُ هذا الصَّباحَ الجديد، سأنسى اللَّيالي، كُلَّ اللَّيالي.. وأمشي إلى وردةِ الجار، أخطفُ منها طريقتها في الفرح”[2]، فأمشي على مهلٍ أملاً بانطلاقةٍ جديدةٍ خاليةٍ من كلِّ شيء.
أتناولُ مِلعقةً واحدةً من العسل عَلّي أُهدي جسديَ بعضاً من القوَّة، ثمَّ أشربُ الماء وأشردُ لأنسى المكان وقليلاً من الزَّمان، فاستعيدُ وعيي بعد وقتٍ قصير لأمشي مُجدَّداً دون أيَّة ابتسامات؛ وكأنّي جَمَلٌ أحدبٌ مُثقَّلٌ بحمولةٍ زائدةٍ مليئةٍ بجشعِ الإنسان وفاهه الفتَّاكة.
أُقلِّبُ أوراقيَ منذ الصَّباح، أُنظِّمُ عالماً عماهيَّاً لا مجالَ لتنظيمه فأفرده بين يدّيّ كجناحي فراشةٍ أصرَّتْ أن تتحوَّلَ إلى صقرٍ جارحٍ ومفترس ينقضُ على فرائسه بغتةً… أقرأُ الكلمات ذاتَها، أطرحُ التَّساؤلات عينَها فيتمخَّض عني شبحٌ رماديُّ اللَّون يمشي على مهل، فأشعرُ بأنَّ العالم ساكنٌ لا حِراك فيه، فيتراءى لي حينها بارمنيدس في اتِّحاد الخيال بالواقع، وهو يُلوِّح لي بيدِّه المتآكلة والمُتحرِّكة ببطءٍ وسكينة، ليقولَ لي: “لا جديدَ تحتَ الشَّمس”[3]، فارقدْ مجدَّداً في سريرك.
أصحو غفلةً وأُدرِكُ أنَّي تحتَ الماء، فتنبِّشُ ذاكرتي كلَّ وساوسيَ الوجوديَّة لأشعرَ بأنَّي لستُ هنا ولا هناك؛ كأنَّ نبوءةَ السَّفر عبر الزَّمن قد أصبحتْ واقعةً تفقه العين ولا مجالَ للشَّكِّ فيها، فأرى جسدي للمرَّة الأولى وأنظرُ إليه بلا خجلٍ لأُدرِكَ أنَّني عارٍ تماماً من ملابسي، ومن الزَّمان والمكان، ومن أَحجِبةِ العقل وأغطية الجسد وتابوهات البطرياركيَّات الَّتي نُقِشت على جسدي ولُقِّنْتُها مع وجبات طعامي منذ الطُّفولة باعتبارها مُسلَّمات لا مجالَ للرَّيبة فيها.
أعاودُ السَّير في دوامةٍ مُحدَّبةِ الرَّأس تُوصِلني إلى اللَّاشيء، ثمَّ أقومُ بتنظيمِ أوراقي وعوالمي وكتبي وحقيبة الظَّهر الَّتي أرتديها يوميَّاً، وأُلمِّع ملابسي لأدعَ جسدي يسير في شوارعِ المدينة الَّتي ائتلفتُها حتَّى الثَّمالة، لأُفاجَأ بضوءٍ ساطعٍ مسائيٍّ يباغتني فجأةً ويعبثُ بعدميتي دونَ أن يأبه لرسوخيَّتها وتجذُّرها في الرَّأس والرُّفوف، وتحتَ مخدة النَّوم، وداخل شرايين عُنقي، وأسفل عامودي الفقريِّ.. فيسير جسدي بخفَّةِ الطَّريق ونعومةِ هواء الخريف ليتمازجَ مع الانتظار، فأنخرطُ في الذُّهول وأبدأُ بالتَّعرُّف على ذاتي المدفونة في اللَّحد، والَّتي تصهلُ كفرسٍ جامحٍ بعدما كانتْ مطمورةً تحت تراب الأسئلة الوجوديَّة لأراها أمامي تصفع دوائريَّ اللَّولبيَّة بيدها اليمنى وتركضُ للقاء غيرَ مُكترِثةً بالعدم ومُقدِّمَةً نفسها كذبيحةٍ إلهيَّةٍ للضَّوء.. تسرعُ للقاء وتُغنِّي بكلِّ حرارة الواقع وحميميَّته دون أن تكترث للوجود، فيهتزُ جسدي طرباً لها، وينتشيان معاً من لذةِ الانتظار إلى ذلك اليوم.. الَّذي لم يأتِ بعد.
******
[1] من قصيدة الشَّاعرة العراقيَّة نازك الملائكة “بعنوان “يوتوبيا الضَّائعة“.
[2] من كتابات الشَّاعر الفلسطينيِّ محمود درويش.
[3] بارمانيدس: فيلسوف يونانيِّ من أنصار فلسفة الثَّبات.
*الصُّورة للرَّسام ميشيل لانغ بعنوان: “العماه المُحتوى“.