نظرة في الأصولية المسيحية

نظرة في الأصولية المسيحية

مصطفى بوهندي(*

لم تكن الدعوة المسيحية مع السيد المسيح -عليه السلام- إلا ثورة على التشدد الديني بكل أنواعه، ومنه التشدد اليهودي الذي حوّل الدين إلى أوزار وأغلال طوقت عنق اليهودي حتى كادت تخنقه؛ ومنعت غير اليهودي من أن يدخل في رحمة الله التي هي خاصة بالشعب المختار؛ ولم تكن دعوته عليه السلام إلا محاولة لإزالة تلكم الأوزار وكسر تلكم الأغلال، التي تحملتها البشرية حينا غير قصير من الدهر، وتبشيرا برحمة الله التي تشمل كل كائن حي، ولا تختص بفئة على حساب الفئات الأخرى من الناس؛ فآمنت طائفة من بني إسرائيل بدعوته وكفرت طائفة، وادعت الكافرة منها أن المسيح الذي بين ظهرانيهم ليس إلا مسيحا دجالا، وكل معجزاته التي رأتها أعينهم إنما هي سحر مبين، وهي من القدرات التي سخرها الله على يده، ليفتن بها عموم الناس، وعلى المؤمنين حقا أن يكفروا به ولا يغتروا بآياته، وأن ينتظروا المسيح الحقيقي الذي يظهر في آخر الزمان، وهو سيقتله؛ وسيملأ الأرض عدلا، بعد أن ملئت ظلما؛ وسيجلس على كرسي أبيه سليمان ويعيد مجد مملكة أبيه داود، ويتحقق على يديه الوعد الذي قطعه الله لجده إبراهيم، بملكية أرض الميعاد ملكا أبديا له ولنسله من بعده؛ وعلى ذلكم الأمل استمر اليهود بعد ذلك الزمان في انتظار مجيء المسيح ابن سليمان ابن داود ابن إبراهيم، الذي يحقق الوعد ويقيم المملكة ويحكم بين الناس في آخر الزمان.

كانت رسالة المسيح -كما هي رسائل أنبياء بني إسرائيل -عليهم السلام- عموما، دعوة إلى التوبة إلى الله وترك المعاصي والذنوب، وإعادة الاعتبار للعمل بدل النسب، والاهتمام بعمق الدين لا بشكله: (توبوا فقد اقترب الملكوت)، و(اعملوا أعمالا تليق بالتوبة)(1)، و(لا تقولوا في أنفسكم إن لنا إبراهيم أبا، فإن الله قادر على أن يخرج من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم)(2)، و(لو كنتم أبناء إبراهيم لعملتم بأعمال إبراهيم)(3)؛ وكان -عليه الصلاة والسلام- ينبه إلى أن المعبد إنما وضع للإنسان لا الإنسان للمعبد، وأن الصلاة والصيام والصدقة وكل أشكال القربان، إذا كانت من أجل أن يراها الناس فهي لا تصل إلى الله، ولذلك فإذا صلى الإنسان وصدّق وصام، فليكن بينه وبين ربه وليس بينه وبين الناس؛ وأقام من أجل محاربة المرائين حملة كبيرة؛ وبيّن أن العبادة التي يقبلها الله أكثر من أي عبادة أخرى هي ما ينفع الناس ولا يضرهم: (فإن قدمت قربانك إلى المذبح، وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك، فاترك هناك قربانك قدام المذبح، واذهب أولا اصطلح مع أخيك، وحينئذ تعال وقدم قربانك)(4).

وكانت رسالته -عليه السلام- دعوة إلى الكمال الإنساني، الذي لا يكتفي بعدل الشريعة والقانون وإنما يتجاوزهما ليصل إلى رحمة الله وكماله: (سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا، ومن سخرك ميلا واحدا فاذهب معه اثنين، ومن سألك فأعطه ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده)(5)، وفي شأن العلاقة مع الآخر كان -عليه السلام- يقول: (سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم، لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات فإنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين)(6).

هكذا هي إذن دعوة المسيح في أصالتها ورحمتها وإنسانيتها مفتوحة لكل الناس على اختلاف أجناسهم وتوجهاتهم وأصولهم، بعيدة عن الغلو والعنصرية والتشدد.

لم يكد السيد المسيح -عليه السلام- يُنهِ دعوته، حتى برز رجال الدين اليهود للكيد له والانتقام منه؛ وكان المسيح -عليه السلام- عالما بخططهم اللعينة، وكان مدركا تمام الإدراك أن الله حافظه من أياديهم الأثيمة، ولن يستطيع أعداؤه أن يصلوا إليه بسوء؛ وكان كثيرا ما ينبئهم بعدم قدرتهم على النيل منه، لأن المكان الذي سيسير إليه لن يستطيعوا الوصول إليه، وهذا المكان في السماء وهم في الأرض، حتى إن أهالي أورشليم كانوا يقولون: (أما هذا هو الذي يريدون أن يقتلوه؟ ها هو يتكلم جهارا ولا يقولون له شيئا. فهل اقتنع الرؤساء أنه المسيح؟)(7). ولما أرسل رؤساء الكهنة إليه حرسا ليمسكوه قال لهم يسوع: (سأبقى معكم وقتا قليلا، ثم أمضي إلى الذي أرسلني، ستطلبونني فلا تجدوني، وحيث أكون أنا لا تقدرون أنتم أن تجيئوا، فقال اليهود في ما بينهم: إلى أين يذهب هذا، فلا نقدر أن نجده؟ أيذهب إلى اليهود المشتتين بين اليونانيين ليعلم اليونانيين؟)(8). وعندما رجع الحرس إلى رؤساء الكهنة وأخبروهم بعدم قدرتهم على الإمساك به، قالوا لهم: (أخدعكم أنتم أيضا)(9). نفس الأمر قاله المسيح لتلاميذه في العشاء الأخير، عندما أخبرهم أن ساعته قد حانت، وأن عليه أن يذهب إلى الذي أرسله، فقال لهم: (يا أبنائي سأبقى معكم وقتا قليلا، ستطلبونني، ولكن ما قلته لليهود سأقوله لكم الآن: حيث أنا ذاهب لا تقدرون أنتم أن تجيئوا)(10). وعندما قال له سمعان بطرس: (لماذا لا أقدر أن أتبعك الآن، أنا مستعد أن أموت في سبيلك، أجابه السيد المسيح: (أمستعد أنت أن تموت في سبيلي؟ الحق الحق أقول لك: لا يصيح الديك إلا وأنكرتني ثلاث مرات)(11). وهو ما حدث فعلا لبطرس، فبكى بكاء مريرا. لكن اليهود لما فشلوا في القضاء على المسيح ودعوته ونجاه الله من أيديهم، (اجتمع رؤساء الكهنة والشيوخ، وبعدما تشاوروا رشوا الجنود بمال كثير، وقالوا لهم أشيعوا بين الناس)(12) إشاعات كاذبة عن قتله ودفنه وسرقة جثمانه، (فأخذ الحرس المال وعملوا كما قالوا لهم، فانتشرت هذه الرواية بين اليهود إلى اليوم)(13)، وبين النصارى كذلك.

وقد نص القرآن الكريم على اختلاف النصارى في الموضوع حيث قال في شأن اليهود: ﴿وقولهم على مريم بهتانا عظيما، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما﴾(14). وقال المسيح وهو يتحدث عن نفسه: ﴿والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا﴾، وهو الأمر الذي نجد أدلة عليه في العديد من النسخ المخفية (الأبوكريفا) التي حدثتنا عن العشاء الأخير ومحاولة القبض على المسيح ومحاصرة البيت الذي أقاموا فيه العشاء، واكتشافهم أن المسيح لم يكن موجودا فيه، وأنه رفع إلى السماء كما أخبرهم به الذين شاهدوا رفعه، وهو ما دعا رؤساء الكهنة إلى اختلاق قصة القتل والصلب، حتى لا تكون البلية الثانية على الناس شرا من الأولى، ودفعوا من أجل ذلك أموالا كثيرة للجنود ولغيرهم. وقد بين القرآن الكريم أن الله هو الذي نجاه من أيديهم، كما وعده عندما قال له: ﴿إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا﴾. لقد كان العشاء الأخير إيذانا بالنهاية، حيث لن يشرب المسيح من ثمر الكرمة بعد الآن، وحيث سيوصيهم الوصية الأخيرة، وحيث سيذهب ليبعث الرسول الشاهد بصحة ما جاء به، والمكمل لما بدأه، وعلى المؤمنين به أن يؤمنوا برسالة ذلك النبي الخاتم أيضا، ومن لم يؤمن به، فخير له أن يوضع في عنقه حجر رحى ويلقى في البحر.

لم يكد التعليم المسيحي الأول، الذي كان يبشر به الآباء الأوائل، أمثال بطرس وبرنابا ويعقوب يأخذ طريقه، حتى ظهر بولس، الحبر اليهودي، الذي سمّى نفسه رسولا، وهو الأب الحقيقي للكنيسة المسيحية في تعليمها الثاني، والذي -كما يقول عن نفسه- كان من أشد الناس عداوة لدعوة المسيح ولتلاميذه، فشارك في اضطهادهم وسجنهم وقتل بعضهم، إلى أن أعلن توبته قائلا: إن المسيح قد ظهر له، وأخبره بالتعليم الجديد، الذي ينبغي للناس أن يأخذوا به، ويتركوا ما عداه؛ وبولس لم يأخذ تعليمه بواسطة، كما هو الشأن بالنسبة لباقي التلاميذ، وإنما أخذه مباشرة -كما يدعي- من السيد المسيح، وإن لم يره؛ وعلى ذلك التعليم تأسست الكنيسة المسيحية، وحوربت كل الطوائف الذي كانت تدعو إلى تعليم مخالف لما جاء به بولس، الذي اعتبر نفسه رسولا للمسيح، يخبره مباشرة بما عليه أن يقول وعليه أن يفعل؛ فاعتبر المسيح ابنا لله، وإلها كامل الألوهية مع الأب والروح القدس؛ وقد افتدى الله به البشرية من الخطيئة التي ارتكبها الأب الأول، فكما دخلت الخطيئة إلى الأرض بسبب رجل واحد هو آدم، فكذلك تخرج بفداء رجل واحد هو المسيح، ابن الله وحمله، الذي كفّر به خطايا الناس، فأصبحوا بذلك من غير خطايا؛ وهذا الخلاص وهذه المغفرة مجانية، لمن آمن بالتعليم الذي جاء به بولس؛ لكن الذي لم يؤمن به، على الطريقة البولسية، فلا يكون له خلاص أبدا: (فإن أخطأنا عمدا برفضنا للمسيح بعد حصولنا على معرفة الحق، لا تبقى هناك ذبيحة لغفران الخطايا، بل انتظار العقاب الأكيد في لهيب النار التي ستلتهم المتمردين، ويا له من انتظار مخيف. تعلمون أن من خالف شريعة موسى، كان عقابه الموت دون رحمة، على أن يؤيد مخالفته شاهدان أو ثلاثة. ففي ظنكم، كم يكون أشد كثيرا ذلك العقاب الذي يستحقه من يدوس ابن الله، إذ يعتبر أن دم العهد، الذي يتقدس به، هو دم نجس، وبذلك يهين روح النعمة؟ فنحن نعرف من قال: لي الانتقام أنا أجازي يقول الرب، وأيضا إن الرب سوف يحاسب شعبه) حقا ما أرهب الوقوع في يدي الله الحي)(15). وهكذا أسس بولس منهج الكنيسة في محاربة المخالفين الذين لا خلاص لهم، والذين يستحقون أكثر من الموت من غير رحمة؛ وكان يوصي تلاميذه في رسائله إلى الكنائس المختلفة، بمنع كل تعليم يخالف ما جاء به: فقد جاء في رسالته إلى كنيسة غلاطية مثلا: (عجيب أمركم، أبمثل هذه السرعة تتركون الذي دعاكم بنعمة المسيح، وتتبعون بشارة أخرى؟ وما هناك بشارة أخرى، بل جماعة تثير البلبلة بينكم، وتحاول تغيير بشارة المسيح. فلو بشرناكم نحن، أو بشركم ملاك من السماء، ببشارة غير التي بشرناكم بها، فليكن ملعونا. قلنا لكم قبلا وأقول الآن: إذا بشركم أحد ببشارة غير التي قبلتموها منا، فاللعنة عليه)(16). وجاء في رسالته الأولى إلى تيموثاوس: (طلبت منك وأنا ذاهب إلى مكدونية، أن تبقى في أفسس، لتوصي بعض الناس أن لا يعلّموا تعاليم تخالف تعاليمنا)(17) (ونحن نعلم أن الشريعة صالحة إذا اقتصر العمل بها على أنها شريعة، لأننا نعرف أن الشريعة ما هي للأبرار، بل للعصاة والمتمردين، للفجار والخاطئين، للمدنسين والمستبيحين، لقاتلي آبائهم وأمهاتهم، لسفاكي الدماء، للزناة والمبتلين بالشذوذ الجنسي، لتجار الرقيق والكذابين والذين يحلفون باطلا، ولكل من يخالف التعليم الصحيح الذي يوافق البشارة التي ائتمنت عليها، بشارة الله المبارك، له المجد)(18).

منذ ذلك الوقت جندت الكنيسة نفسها لمحاربة التعليم المخالف للتعليم الصحيح، تعليم بولس، الذي بنيت على أساسه الكنيسة الرسمية، وفي الربع الأول من القرن الرابع، سنة 325م، عُقد مجمع نيقيا الكنسي، للحسم في قضايا الاعتقاد، وتسطير العقائد الصحيحة التي ينبغي للمسيحيين الإيمان بها، ولا يجوز لهم الخروج عنها؛ ورغم أن الاختلاف في العقيدة كان هو السبب في انعقاد المجمع، إلا أن التعايش بين المختلفين كان قائما، والحوار والجدل بينهم كان متواصلا، فأوقف المجمع ذلك الحوار، وأسكت الجدل وألغى التعايش، وأذن ببدء مطاردة أصحاب التعليم الأول، الذين رفضوا نظرية التثليث البولسية، ورفضوا الخلاص بواسطة الإيمان دون أعمال، ولم يعتبروا المسيح إلها أو واحدا من أقانيم الألوهية؛ وكانت الأريانية واحدة من أهم الفرق المسيحية التي أودى بأصحابها التشدد المسيحي الكنسي، تحت مسمى التجديف والهرطقة، وأردى تلاميذها بالقتل والإحراق والتهجير، وقد لقي عدد كبير من هذه الفرقة حتفهم بسبب ذلك، طيلة القرون التالية لانعقاد المجمع، حتى لم يبق منهم إلا مجموعات قليلة في الشرق الأدنى والأوسط.

جاء الإسلام مع محمد -عليه السلام-، فوجد المسيحية منقسمة إلى قسمين، تمثل روما وعلى رأسها البابا الشق الأول، حيث الكاثوليك أي الدين العالمي، وتمثل الكنائس الشرقية الشق الثاني، بآبائها المحليين الأرثودكس، أي أصحاب الدين الصحيح؛ ولم تقبل الكنيسة على العموم دين محمد، وإن انضمت كثير من شعوبها خصوصا في الشرق الأوسط إلى دينه الجديد، وصارت كثير من بلادها إسلامية، وصار كثير من بطركييها وأساقفتها من المسلمين ومن أئمتهم.

فقدت المسيحية في أجواء الحروب هذه روحها الرحيمة، وحلت محلها روح الانتقام والاسترداد وتحقيق النصر، وهو ما يفسر المجازر الوحشية التي ارتكبت في حق الأبرياء العزل في مواطن مسيحية مختلفة، نذكر منها على سبيل المثال محاكم التفتيش في الأندلس، حيث خُيّر الناس بين القتل والتهجير أو تغيير دينهم؛ ومجازر القتريين في أوربا، الذين قطعت ألسنتهم وشفاههم وأعميت عيونهم وجدعت أنوفهم، وتركوا في الطرقات، يقود كل مجموعة منهم واحد منها بعين واحدة؛ واعتبر كل ذلك حربا مقدسة على الكافرين؛ لم يكن الإسلام مجرد باعث للروح الشقية في المسيحية، وإنما كان كذلك مصدر إلهام أساسي، لروح الإبداع والتحرر والتفكير، والمراجعة النقدية لكثير من المفاهيم والمبادئ والأسس المسيحية، التي كان يرزح تحتها العقل المسيحي آنذاك؛ فالقرآن الكريم كان كتاب مراجعة نقدية للكتب المقدسة بامتياز، والقضايا المثارة فيه عن الدين المسيحي، دعت إلى التأمل وإعادة النظر بعمق؛ وطريقة عرضه لهذه القضايا الجوهرية في الدين على العقل والمنطق والتجربة والفطرة الإنسانية دفع للانخراط في التفكير في تلكم القضايا؛ ولم تكن المناقشات الإسلامية -الإسلامية والإسلامية- المسيحية بعيدة عن المفكرين المسيحيين التواقين إلى التحرر من السلطتين الدينية والزمنية، فقضايا العقل والنقل، وقضايا الإمامة العظمى وشروطها والخروج على الإمام وعزله واختياره، وقضايا الإيمان والعمل والشفاعة والجزاء، وقضايا التوحيد والعدل والتجريد والتجسيد، كلها قضايا أخذت بعدا إنسانيا، وأحدث الجدل فيها حركة ثقافية اجتماعية إنسانية عقلانية، أخذت في الغرب المسيحي أبعادا ثورية جذرية، ولّدت لنا حركة الإصلاح الديني من جهة، والحركة الإنسية من جهة ثانية؛ ويمكن أن نختزل شعار الحركتين معا في قول القرآن الكريم: ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله﴾؛ إذ أخذت منه الحركة الإنسية البعد الإنساني المشترك، وهي الكلمة السواء بين الناس وإن اختلفت دياناتهم، ولا بد لهم من هذه الأرضية المشتركة لبناء أسس التعايش والسلام والتعاون والعدل والإحسان؛ وأخذت منه حركة الإصلاح الديني فكرة إزالة الوساطة في الدين، والتعامل مباشرة مع الله وكتابه، ولذلك كانت مهمة المصلحين الأوائل، أن يُترجِموا الكتاب المقدس إلى اللهجات المحلية، حتى يتمكن عموم الناس من قراءته وتدبره من غير وسيط يفرض على الناس وجهة نظر معينة.

نجحت الحركتان الدينية والمدنية في الغرب في إعادة الاعتبار للإنسان وعمله وحرياته، وتُرجم هذا النجاح إلى كل مظاهر الرقي والمعرفة والتقنية والثقافة والقوة والقوانين والقيم التي يعرفها العالم اليوم؛ وبالتأكيد فإن جوانب متعددة في الواقع المعاصر تناقض ذلك النجاح لكنها لا تنفيه؛ وقد أخذ الدين مرة أخرى موقعه الرائد، بعد أن كاد يُتخلى عنه في القرنين الماضيين، أو هكذا ظن الناس؛ واستحوذ الدين مرة أخرى على كل القدرات البشرية الهائلة، واستعاد مكانته العليا في الاجتماع والسياسة والثقافة والاقتصاد والإعلام، وغيرها من المجالات التي غاب عنها حينا من الدهر.

تحقق الحلم اليهودي باستعادة (مملكة يسرائيل) وإقامة دولتها في فلسطين، منذ انسحاب القوات البريطانية منها في ماي 1948م؛ واكتمل الحلم باحتلال القدس من طرف القوات الإسرائيلية في يونيو 1967م؛ وكانت حمى 2000م -كما أطلق عليها- رجاء ملايين المتدينين من اليهود، وعشرات ملايين المتدينين من النصارى، إيذانا بقرب النهاية واكتمال الزمان، حيث يقام (الهيكل الثالث) على أنقاض المسجد الأقصى، وينزل المسيح المنتظر ليحكم ألف سنة بين الإسرائيليين وأعدائهم، ويملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما، ويعاقب مضطهديهم شر عقاب؛ تلكم هي المقولات الدينية التي ظلت تُنسج خيوطها في الثقافة وفي الواقع طيلة القرون الثلاثة الماضية؛ وكان الغرب المسيحي وهو يقود نهضته التحررية من التخلف ومن التبعية للشرق، ويخوض حرب استرداده المقدسة ضد كل ما هو إسلامي وعربي، بدءا من سقوط غرناطة في الأندلس سنة 1492 وإلى سقوط الخلافة في القسطنطينية سنة 1924 للميلاد، يسند تلكم المقولات بكل ما أوتي من قوة.

لم تكن النظرة اليهودية والمسيحية تتوافقان تماما في المسيح المنتظر؛ فاليهود لا يزالون ينتظرون مسيحا لم يأت بعد، وهو مسيح يهودي من العرق الملكي النقي، وله صفات لا تتوفر مجتمعة في غيره؛ فهو ملك يعيد مملكة داود الضائعة، ويجلس على كرسي أبيه سليمان، ليحاكم أعداء بني إسرائيل وينتقم منهم، وهو قادر على تخليص بني إسرائيل من فراعنة الزمن الأخير، كما فعل موسى المخلص، وهو سيحارب أعداء بني إسرائيل، ويقضي عليهم قضاء مبرما، فلا يترك منهم أحدا، ويزيلهم عن بكرة أبيهم، ويطهر الأرض من نثنهم في المعركة الحاسمة الأخيرة، معركة (هرمجدون).

أما النصارى فهم ينتظرون عودة مسيح قد جاء، وما دام هذا المسيح ابن الله، الذي يحل بين الناس، فهو سيجلس على عرش أبيه الله، ويقضي بين العباد قضاء إلهيا، فيجازي المحسنين ويعاقب المسيئين، ولذلك فهو ديان للأحياء، وكذلك للأموات الذين ينبغي أن يبعثوا ليقضي بينهم، فيقومون للدينونة والحساب؛ وقبل مجيئه تنتشر الشرور والمسحاء الكذبة، وعلى رأسهم المسيح الدجال، الذي آتاه الله من المعجزات ما يقدر به على فتنة المختارين إن أمكن، وسيقتله المسيح المنتظر، ويقضي معه على كل الشر الذي تمتلئ به الأرض، في المعركة الفاصلة، معركة (هرمجدون). وبعد (الدينونة) سيتسلم المسيح مملكة أبيه الله، ويحكمها ألف سنة، تكون كلها سلام وعدل، بعد أن امتلأت الأرض قبلها فتنة وظلما؛ ثم يرد المسيح المملكة لأبيه الله فيفعل فيها ما يشاء.

لم يكن التفسير المسيحي لموضوع المجيء الأخير للسيد المسيح واحدا، فتفسير الأرثوذكس والكاثوليك وتفسيرات ما قبل الإصلاح عموما، كانت تجعل من أرض صهيون ومعركة (هرمجدون)، والمملكة الأخيرة، معاني أخروية ومجازية، ليس للأرض التي نحيى عليها علاقة بها؛ أما تفسيرات ما بعد الإصلاح، التي قام بها الإنجيليون البروتستانت، فقد أعطت لتلكم المعاني أبعادا مادية أرضية؛ ومزجتها بتفسيرات يهودية قديمة؛ فأصبحت قضية المملكة الموعودة التي كانت في السماء، لا تختلف عن أرض الميعاد ومملكة إسرائيل في الأرض، وخصوصا في فلسطين؛ وأصبح ضروريا حل (المسألة اليهودية)، وإيجاد (وطن قومي لليهود)، في الأرض التي وعدهم بها الرب، أرض فلسطين؛ وأصبح ضروريا حل (المسألة الشرقية)، واقتسام تركة (الرجل المريض)، وطرد (ابن الجارية) وأمه من الميراث، لأنه (لا يرث مع ابني إسحاق)؛ وجعل (المدينة المقدسة: أورشليم) جزءا من(مملكة إسرائيل)، التي لابد من قيامها تحضيرا لمجيء المسيح المنتظر؛ وهو الذي سيدعو اليهود إلى المسيحية، ويقود المملكة العالمية كما جاء في النبوءات؛ كما عليه أن يقود الحرب الأخيرة ضد محور الشر (جُسّد في تفسيرات عصر الإصلاح في بابا روما وخليفة المسلمين، وهو يجسد اليوم في دول بعينها، أبدت بعض المقاومة لتحقيق نبوءة قيام المملكة اليهودية، وأغلبها دول وجماعات إسلامية)؛ وعلى القائمين على السياسة في الدول المسيحية العظمى أن يساهموا في التحضير للمعركة الحاسمة، التي تسبق مجيء المسيح، والتي ستستخدم فيها أحدث الأسلحة وأكثرها تطورا على الإطلاق، بما فيها أسلحة الدمار الشامل التي لا تبقي ولا تذر؛ أو هذا ما تريده وتعمل عليه جماعات الضغط المسيحية - الصهيونية في تلك الدول.

في ظل هذا التوجه التحريضي، والاستنفار الديني للمؤمنين، للاستعداد للحرب الأخيرة وخوض المعركة الفاصلة، زاغت الدعوة المسيحية عن أهدافها الإنسانية السامية؛ وأصبحت دعوة عنصرية بربرية، تفرق بين (ابن الحرة) و(ابن الجارية)، ولا ترى في (أبناء الجارية) إلا أعداء ينبغي القضاء عليهم واستئصالهم عن بكرة أبيهم، كما هو منصوص عليه في أسفار العهد القديم بالنسبة لشعوب (أرض الميعاد)؛ وينبغي ضربهم ضربات استباقية، ومباغتتهم بالهجوم إذا احتمل الشر منهم، أو وجدت منهم مقاومة لمن يقتلهم ويحاصرهم في بيوتهم وأرزاقهم، ويخرجهم من ديارهم، ويطردهم إلى النفي والشتات. فتقمصت المسيحية شخصية اليهودي العنصري التاريخية، والذي لم يكن يرى في مجاوريه إلا أعداء ينبغي القضاء عليهم والانتقام منهم بسبب ما ارتكبوا في حقه من جرائم، واسترداد مملكته الضائعة المسلوبة منه، وعقابهم بما عاقبوه به من قبل؛ ولم يأت المسيح عليه السلام إلا لتحرير الإنسان اليهودي أولا -وباقي الناس تبعا- من تلكم العنصرية البغيضة، وإزالة الإصر والأغلال عنه، وفتح قلبه وعقله للعالمين. لكن الإنجيليين المسيحيين، الذين ثاروا ضد الوسيط الكاثوليكي والأرثوذكسي، تناسوا الوسيط اليهودي، الذي قرأ نصوصه الدينية قراءة خاصة، لم يكن السيد المسيح عليه السلام نفسه راضيا عنها؛ لقد غضب السيد المسيح من القراءات اليهودية الحرفية للنصوص، التي جعلت المعبد أعظم من الإنسان، وطقوس التعبد أعظم من العدل والخير وإطعام الجائع ومداواة المريض، وإزالة دمعة اليتيم والمسكين وإنصاف المظلوم والأرملة؛ وسيغضب المسيح حقا على جل القراءات المعاصرة التي يعتمدها المسيحيون اليوم (واليهود والمسلمون أيضا)، والتي لم تر بأسا في كل الجرائم التي تقام باسم الله من طرف رؤساء الكهنة اليهود، ورؤساء الكهنة النصارى، وأضف إليهم رؤساء الكهنة المسلمين، وحيث يُحضّر كل فريق منهم للمعركة الفاصلة، (هرمجدون)، التي سيحضرها السيد (المسيح) نفسه -حسب زعمهم-، فيقاتل مع اليهود، ضد أعدائهم (النصارى والمسلمين)، ويقاتل مع النصارى، ضد أعدائهم اليهود والمسلمين)، ويقاتل مع المسلمين ضد أعدائهم (النصارى واليهود)، ثم يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما، وينشر السلام في الأرض بعد هذه الفتنة العارمة.

سيغضب المسيح حقا، وسيقول لكل المشاركين في هذه الحرب الأخيرة والمعدّين لها: (أنتم لستم أبنائي ولا تلاميذي، ولا أنتم أبناء موسى ولا إبراهيم ولا محمد -عليهم السلام جميعا-)، و: (لَوْ كُنْتُمْ أَوْلاَدَ إبراهيم لَكُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالَ إبراهيم! وَلَكِنَّكُمُ الآنَ تَطْلُبُونَ أَنْ تَقْتُلُونِي وَأَنَا إِنْسَانٌ قَدْ كَلَّمَكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ. هَذَا لَمْ يَعْمَلْهُ إبراهيم)(19). وسيُعرّفهم -عليه السلام- أبناء من هم، قائلا: (أَنْتُمْ مِنْ أَبٍ هُوَ إِبْلِيسُ وَشَهَوَاتِ أَبِيكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَعْمَلُوا. ذَاكَ كَانَ قَتَّالاً لِلنَّاسِ مِنَ الْبَدْءِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّابِ)(20)؛ هذه هي الحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن السادة رؤساء الكهنة في عالم الناس اليوم، وعليهم إعادة النظر في ادعاءاتهم اتجاه المسيح، الذي لم يكن في يوم من الأيام موقدا لنار الفتنة ولا ناصرا لموقديها.

إن النظرية المسيحية القائمة اليوم تتنافى كليا مع ما جاء به السيد المسيح وباقي الأنبياء -عليهم السلام-، وما جاء في الكتب المقدسة؛ وتحتاج عناصرها إلى إعادة قراءة في ضوء هذه الكتب، بعيدا عن العنصرية البغيضة والحقد الأعمى والكراهية القاتلة، التي أنشأتها الصدامات والحروب، بين الأمم والشعوب على مر التاريخ؛ وسنحاول، في هذه الورقات ملامسة هذه النظرية من خلال أهم عناصرها:

1- أرض الميعاد والشعب المختار

إن قارئ أسفار العهد القديم من الكتاب المقدس، سيلفت انتباهه الاهتمام الكبير بالأرض في جل هذه الأسفار؛ حيث صارت الأرض والحصول عليها وامتلاكها، همّ الأنبياء الأكبر، ووصية الله الأعظم؛ فإبراهيم خرج من بيت أبيه ومن أرضه وعشيرته ليملك أرض كنعان، له ولنسله من بعده ملكا أبديا؛ وإسماعيل يُطرد هو وأمه لئلا يرث الأرض مع أخيه إسحاق؛ وعيسو باع بكوريته لأخيه يعقوب، بإناء من العدس الأحمر، فلم يبق له حق في الإرث معه؛ ورغم أن بني إسرائيل قد عانوا الأمرّين في مصر، من جرّاء ما قام به فرعون وقومه، فإنهم لما خرجوا إلى الصحراء، وسكنوا أراضي غيرهم، قرّروا طرد أهلها منها والاستئثار بها دونهم؛ ولما جاء يشوع حقّق حلمهم وطرد كل الشعوب الأخرى من الأرض، وقتلهم ولم يترك منهم أحدا، وقسّمها بينهم، لكل سبط حدوده المعلومة؛ وهكذا الأمر بالنسبة لباقي أسفار العهد القديم. والحقيقة أن كل هذه الادعاءات لا تقوم على أساس؛ فإبراهيم -عليه السلام- ما كان طالب أراضي غيره، ليحتلها ويطرد أهلها منها، ويُسكِن فيها أبناءه، وإنما كان -عليه السلام- أبو الأمم جميعا، ولذلك سمي إبراهيم، أي أبو جمهور من الأمم(21)، كما حدثنا سفر التكوين؛ وقد ترك أرضه وعشيرته وبيت أبيه ليكون بركة، وتتبارك فيه جميع أمم الأرض، في الأرض المباركة للعالمين؛ وإسماعيل لم يُطرد لا هو، ولا أمه، وإنما ظل في الأرض التي أمر الله أباه بالهجرة إليها، يبارك الناس ويخدمهم ويريهم مناسكهم، تماما كما فعل أبوه من قبل؛ وظل معه إسحاق ويعقوب، في الأرض المباركة، إلى أن قام بنو يعقوب بعملهم الشنيع ضد أخيهم يوسف، وألقوه في غيابات الجب، وباعه السيارة الذين التقطوه من الجب لعزيز مصر، ليصبح متصرفا في خزائن مصر، فيدعو إخوته أجمعين، ويخرجهم من الأرض المباركة، ويدخلهم إلى مصر آمنين؛ فتركوا وراءهم أبناء عمومتهم (بني إسماعيل) أو(بني عمون) أو الهاجريين)، يقومون بخدمة (بيت إيل)، أي (بيت الله)،(يسقون الماء ويحطبون الحطب لبيت إلهي في المكان الذي اختاره الرب)(22).

إن موضوع أرض الميعاد قد تداخل فيه أمران أساسيان بالنسبة لدارسي الكتاب المقدس ومفسريه، الأمر الأول يتعلق بالآخرة، والأمر الثاني يتعلق بالإمامة.

فأما الآخرة وما بعد الموت، فقد خفتت في الخطاب الكهنوتي اليهودي، إلى درجة الغياب (بخلاف الخطاب اليهودي الأسيني، ومنه نصوص توجد بالمخطوطات التي وجدت بمغارة قمران بالبحر الميت)، فأصبحت -بسبب هذا الغياب- كل الوعود بالجزاء الأخروي دنيوية، وتحولت أرض الميعاد المباركة التي يرثها عباد الله الصالحون في الآخرة، والتي تفيض لبنا وعسلا، إلى أرض الشعوب الأخرى الذين ينبغي طردهم، وحتى قتلهم من أجل أن يحصل بنو إسرائيل عليها، لكونهم (عباد الله الصالحين) الذين (يرثون أرض أعدائهم)؛ كما تحول العقاب الذي يناله الظالمون في الآخرة، إلى عقاب يُلحقه بنو إسرائيل بأعدائهم في المعركة الأخيرة، التي يتحقق لهم فيها النصر عليهم، وفقا لوعد الله في كتبه، فالأغيار هم الظالمون وبنو إسرائيل هم الشعب المختار، والأرض الموعودة هي أرض بني عمومتهم الذين كانوا يسكنون بين ظهرانيهم.

وأما الإمامة فمنها سياسية ودينية، وقد قسّم بنو إسرائيل بين أسباطهم الإمامتين، فاتفقوا على إعطاء الخدمة الدينية لبني لاوي، وخصوا بني هارون من بني لاوي بالإمامة الدينية؛ واختلفوا في الإمامة السياسية، وإن غلب في الأدبيات اليهودية منحها لأبناء سليمان بن داود، لأن المَلِك الموعود به، عليه أن يجلس على كرسي أبيه سليمان، ويستعيد مملكة أبيه داود؛ ولما كان بنو إسرائيل قد تركوا إمامة بيت الله الحرام، لبني عمومتهم من الإسماعيليين والهاجريين، فإنهم عندما كانوا يعودون لذلك المكان المقدس، الذي تقام فيه الفريضة الدهرية مرة في كل سنة، وكانوا يجدون خداما لهذا البيت من غير أئمة اليهود وكهنتهم، كانوا يعتبرون كل ذلك انحرافا وتجديفا وكفرا، وكان يزكي موقفهم هذا ما كانوا يجدونه من بعض مظاهر الشرك والوثنية عند القبائل العربية المختلفة، التي كانت تذهب بدورها إلى بيت الله الحرام لتقوم بفريضة الحج؛ من أجل ذلك ارتبطت صورة المكان في الذهنية اليهودية بالوثنية والشرك، وبالكراهية والعداوة والحقد، وتكونت صورة نمطية سيئة عن (بيت إيل) وكل المشاعر المقدسة التي يؤمها (أبناء العم) و(بنو الأنبياء)، والتي ينبغي أن يُشق هيكلها، وتُهدم، ويحرق أهلها أو يتقاتلون فيما بينهم، أو يُبيدهم كبيرهم بكسر رؤوسهم على الحجارة واحدا واحدا، ويقتل أئمتهم وملوكهم، ويصلبون بأبواب المدينة إلى المساء، ثم يرجمون بالحجارة، وتبقى رجمة الحجارة شاهدة عليهم إلى يوم الراوي(23). ولا بأس من أن يذهب لاوي ليعمل في هذا البيت كاهنا، ثم يتفق مع مجموعة من بني إسرائيل على سرقة ما في ذلك البيت من أصنام وترافيم، ثم ينقلها إلى معابد يهودية(24) ويحرم ذلك البيت من مقدساته؟؟ وخلاصة القول: إن جعل الإمامة الدينية في التجربة اليهودية، في سبط من أسباط بني إسرائيل دون غيره، أدى باليهود إلى التنكر لكل إمام من غير بني إسرائيل، ولكل بيت للعبادة لا يؤمه أئمتهم؛ وخصوصا من طرف من لا يحق لهم أن يرثوا تلكم الإمامة -حسب زعمهم-؛ لذلك نشطت الرواية في استبعاد الإسماعليين -الوارثين الفعليين- من الإرث والبركة؛ بدءا من إسماعيل، الذي كان بكر أبيه، ولم يكن له ولد غيره قبل مولد إسحاق، وهو وحيد أبيه الذي امتحنه الله فيه بالذبح، وإن جعل كاتبو الأسفار الذبيح هو إسحاق. وكذلك الأمر بالنسبة لعيسو، الذي باع بكوريته ليعقوب، وقد سرق يعقوب بركته أيضا. ونفس الأمر نجده بالنسبة لكل أئمة ذلك البيت، الذين تجمعهم صورة نمطية واحدة، فهم ملوك لكنهم أبناء الجارية؛ ولذلك فملكهم غير شرعي، وهم إخوة كثر، بينهم صراعات دموية دائمة، تؤدي في أغلب الأحيان إلى قتل بعضهم بعضا؛ وهم كهنة بيت العبادة، يخدمون البيت ويؤمون الناس فيه، ويأخذون مقابل تلك الإمامة أجورا، ويسرقون للزائرين أموالهم، وربما يعتدون عليهم بالضرب والقتل والاغتصاب أيضا؛ وأمهم ملكة ابنة ملك أو زوجة ملك، وقد أزالها أحد أبنائها عن الملك(25)، وهي تقدم أبناءها لأعدائها لكي لا يهدم بيت إلهها من طرف الطالبين للدم، وغالبا ما يكون هؤلاء الطالبون من ملوك بني إسرائيل.

لم يكن السيد المسيح ليقبل اعتقادا ينبني على الانتساب الجسدي لإبراهيم، بل لقد جاء عليه السلام لهدم هذا الاعتقاد، وتسفيه أحلام أصحابه، وكذلك الأمر بالنسبة ليوحنا المعمدان الذي كان يهيئ الطريق له، وكان يصحح لليهود هذه الفكرة قائلا لهم كلما جاءوا لمعموديته:

(يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي؟، فَاصْنَعُوا أَثْمَاراً تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إبراهيم أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لِإبراهيم)(26). وكان المسيح -عليه السلام- يبيّن لبني إسرائيل أن الأرض الموروثة توجد عند الله، وأن الوارثين لها هم الذين يعملون الصالحات، وليس الذين ولدوا من الجسد، ولقد جاء ما يدل على ذلك في أحداث متعددة وقعت للسيد المسيح أثناء دعوته، نذكر منها قصته مع قائد المائة الذي لم يكن يهوديا وإنما كان مؤمنا، وقال عنه السيد المسيح لِلَّذِينَ يَتْبَعُونَه: (اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ لَمْ أَجِدْ وَلاَ فِي إسرائيل إِيمَاناً بِمِقْدَارِ هَذَا. وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كَثِيرِينَ سَيَأْتُونَ مِنَ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ وَيَتَّكِئُونَ مَعَ إبراهيم وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ؛ وَأَمَّا بَنُو الْمَلَكُوتِ فَيُطْرَحُونَ إلى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ. هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ)(27).

هكذا رجع لأرض الميعاد مع السيد المسيح بعدها الغيبي الأخروي، حيث يرث الصالحون الأرض ويأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع الآباء العظام في الملكوت، أما بنو الملكوت الذين لم تتوفر فيهم عناصر الصلاح فيطرحون إلى الظلمة الخارجية؛ وهكذا فُسّرت النبوءات المتحدثة عن دار السلام (أورشليم)، عند المسيحيين الأرثوذكس والكاثوليك، بأنها تنتمي إلى العالم الأخروي؛ بينما فسرها الإنجيليون الذين تخلوا عن تفسيرات آباء الكنيسة، ورجعوا إلى تفسيرات التلمود والمدراش والآثار اليهودية، بخلاف ذلك، معتبرين التفسيرات اليهودية أساس فهم أسفار العهدين القديم والجديد؛ فأعادوا بذلك لنصوص النبوءات بعدها الأرضي؛ خصوصا بعد النجاحات التي حققتها المسيحية بعد سقوط غرناطة، واكتشاف الأراضي الجديدة وتحقيق المكاسب الاقتصادية والعسكرية والعلمية العظيمة، في انتظار الألفية الثانية التي ينزل فيها المسيح المنتظر؛ فكان لابد من تكييف النصوص لتتناسب مع التهيئ لهذا النزول المجيد، لتمتلئ الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلما، وليُقضى على المسيح الدّجال، الذي عيّنه المفسرون الإنجيليون في (خليفة المسلمين) و(بابا روما)؛ ومنذئذ والأسطورة تكبر حتى تجسدت على الأرض انتدابا بريطانيا لفلسطين، ثم احتلالا إسرائيليا لأرض (يهوذا والسامرة) سنة 1948، وإقامة الدولة اليهودية، ثم اجتياحا لـ(أورشليم الأرضية) سنة 1967، فتحققت بذلك (النبوءات)، التي كان من المفترض أن تكتمل سنة 2000م، بهدم المسجد الأقصى وبناء(هيكل سليمان) على أنقاضه؛ ورغم فشل المحاولة، إلا أن المحاولات لا زالت على قدم وساق لتحقيق ذلكم الحلم، كما تبشر به وتدعو له جل الجماعات الدينية ومراكز الضغط المسيحية - اليهودية في العالم المعاصر.

2- مملكة إسرائيل

شغل موضوع الملك والمملكة الذهن الإسرائيلي منذ الشتات الأول بعد موسى -عليه السلام-، وكبر انشغال بني إسرائيل بالملك بعد السبي البابلي عندما هدم الهيكل وضاعت المملكة التي أنشأها داود وسليمان، وأصبحت استعادة الملك الضائع حلما منذ ذلك التاريخ، وأضحت دليلا على رضا الرب عليهم من جديد، بعد أن غضب عليهم فأخذ منهم الملك.

في هذا الإطار قرأ اليهود بعد السبي نصوص الكتاب المقدس، وفهموا أحداثه وآياته، وأصبح لموضوع المملكة مكانا مميزا في أسفاره وإصحاحاته، وتحولت نصوصه التاريخية إلى الحديث عن تاريخ تلك المملكة حتى قبل إنشائها مع داود وبناء هيكلها مع سليمان؛ وأصبح أنبياء بني إسرائيل وأئمتهم ملوكا ( إبراهيم وإسحاق ويعقوب وموسى وهارون ويشوع وداود وسليمان...)، مهمتهم إنشاء المملكة، والدفاع عن وجودها ضد أعدائها من الممالك المجاورة وملوكها الجبابرة، وكثيرا ما أعيدت قصة داود وجوليات(28) بصيغ مختلفة؛ وهو ما يفسر لنا الملاحم الحربية الكثيرة التي امتلأت بها نصوص الكتاب المقدس، حيث الاستيلاء على الأرض، أو استردادها، وقتل الأعداء وملوكهم في معاركها العديدة. كما تحولت النبوءات المستقبلية إلى الحديث عن مستقبل تلك المملكة في الزمن الأخير، وإلى تبشير بالملك الآتي، ملك اليهود، الذي يعيد الملك ويسترد المملكة الضائعة، ويعاقب أعداء بني إسرائيل التاريخيين في المعركة الأخيرة، حيث لن يبقى بعدها عدو لهم، يمكن أن يأخذ منهم مملكتهم (مملكة يسرائيل).

وفي هذا الإطار أعاد الإنجيليون قراءة أسفار العهد القديم، فأنزلوا المملكة من السماء إلى الأرض خلافا للقراءات الكاثوليكية والأرثوذكسية القديمة، وانتدبوا أنفسهم مهيئين للمجيء الثاني المجيد لـ(ابن الإنسان)، والذي فسروه بأنه (المسيح) -عليه الصلاة والسلام-، الذي ينزل في آخر الزمان لنشر العدل بعد الظلم والسلام بعد الفتنة؛ وجعلوا من أكبر مهامهم إقامة (مملكة يسرائيل) في (أرض الميعاد)، وتمويلها والدفاع عنها، حتى تكتمل النبوءات التي ينبغي أن تحصل فيها، بما في ذلك(الحرب العالمية الأخيرة) (معركة هرمجدون)، وبعدها يكون السلام.

3- المسيح المنتظر

لقد تداخلت أمور عدة في الفهم المسيحي الإنجيلي لموضوع النبوءات المستقبلية، التي تحدثت عن مجيء المسيح وقيامته في اليوم الأخير، وعن (المجيء الثاني لابن الإنسان)، وحدث فيها خلط كبير بين (المسيح المنتظر) و(ابن الإنسان) و(النبي الآتي) وبين (القيامة) و(المجيء الثاني) و(الرجوع) وبين(الدنيا) و(الآخرة) وبين(مملكة الأرض) و(مملكة السماء) وغيرها من الأمور المشتركة، التي نسعى إلى ملامستها في هذه الفقرة:

فأما (المسيح المنتظر) فقد تحدثت عنه النبوءات اليهودية قبل مجيئه وبشّرت به، وعندما جاء انقسم اليهود في شأنه إلى فريقين، أحدهما آمن به ونصر دعوته وهم النصارى، وفريق كفر به، ولا زال ينتظر مجيء غيره، وفقا لأوصاف خاصة ذكرتها المصادر اليهودية. ولم يسلم النصارى الإنجيليون من تأثير الاعتقاد اليهودي في مجيئه، فقالوا بعودته كما عاد أرميا أو أخنوخ أو إيليا؛ وفسرت نصوص قيامته من الأموات بأنها عودته في آخر الزمان للعالم الدنيوي، ليحكم فيه ألف سنة قبل أن يعيد الملك إلى أبيه الرب.

وأما (ابن الإنسان) فلا تعني إلا عموم الإنسان أو(ابن آدم) كما هي في اللفظ العربي والعبري، فإذا كانت موجهة لشخص بعينه فإنها تعنيه باعتباره إنسانا وابن إنسان، كما هو الشأن بالنسبة للوحي إلى الأنبياء ومنه الوحي إلى حزقيال، حيث تكررت كلمة(ابن الإنسان) أو(ابن آدم) مئات المرات في السفر المتحدث عنه(29-30): وكذلك الأمر بالنسبة للحديث عن الجنس البشري في نصوص عامة متعددة، منها (ليْسَ اللهُ إِنْسَاناً فَيَكْذِبَ وَلا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَل يَقُولُ وَلا يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلمُ وَلا يَفِي؟(31). ونجد مثل ذلك في الإنجيل: ثُمَّ قَالَ لَهُمُ: (السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ. إِذاً ابْنُ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً)(32).

وهو يقصد عموم الإنسان، فالحديث عن المجيء الثاني لابن الإنسان إنما ارتبط بحديث عن المجيء الأول لابن الإنسان في الكتب المقدسة، وخصوصا المخفية منها (الأبوكريفا)، حيث ذكرت الحوار بين الله والملائكة عن خلق آدم وجعله يتسلط على ما في الأرض جميعا؛ فكانت الملائكة تنازعه وتقول: من هذا ابن الإنسان الذي أعطيته تلكم العطايا كلها، ولم تعطنا نحن الذين نظل في عبادتك وخدمتك، فكان الله يخبرهم بأن لابن الإنسان هذا مجيئا ثانيا أكثر مجدا من مجيئه الأول، حيث يكون له المجد العظيم إن كان محسنا في حياته الدنيا، أو يكون ابن الهلاك، له البكاء وصرير الأسنان إن اتبع طريق الشرير. وقد جاء في بعض النصوص القانونية بعض هذه المعاني ومنها ما ورد في مزامير داود(33):

وأكثر حديث المسيح عن المجيء الثاني لابن الإنسان يرتبط بقيامته من الأموات، عندما تكون النهاية ويفنى كل شيء، ويبعث الناس من جديد ليجدوا جزاء أعمالهم، حيث لا يعرف أحد ولا الملائكة الذين في السماء متى يكون ذلك الأمر، والذي تسبقه أحداث عظيمة لم يكن مثلها قط(34).

ولقد حدثنا مرقس في إنجيله على أنه كان للتلاميذ المباشرين للمسيح فهما مختلفا لموضوع القيامة، وهو فهم خاطيء(35)، ولأنهم -حسب مرقس وكذلك بولس- لم يفهموا هذا القول ولم يسألوا المسيح عنه، فإن بولس، الذي ادعى أن له اتصالا مباشرا مع السيد المسيح دائما، وإن لم يره قط، وأصحاب كنيسته، هم الذي فسروا ذلك الأمر للأتباع، وبيّنوا لهم الفهم الصحيح له، والذي لم يفهمه ولا واحد من التلاميذ الأوائل. لقد استطاع بولس وأصحاب كنيسته أن يفسروا قيامة المسيح بأنها قيامة أرضية في اليوم الثالث، وألغوا القيامة الأخروية، حيث ينال الناس عند الله جزاءهم، بحسب أعمالهم إن خيرا فخير أو شرا فشر؛ وهناك يجيء ابن الإنسان في مجده الثاني إن كان من المحسنين أو ينال العقاب الأبدي إن كان من الظالمين.

وتابعت الكنيسة الإنجيلية التفسير البولسي، مضيفة إليه تفسير (القيامة) بكونها (مجيئا ثانيا) للمسيح، في العالم الأرضي، الذي نعيش فيه، وينبغي أن نُعدّ ونُحضّر له لتتحقق المواعيد ومن ضمنها التحضير للمعركة الأخيرة (معركة هرمجدون).

أما (النبي المنتظر) فهو ما أشار إليه موسى(36) وأشعيا وأرميا ويحيى وعيسى -عليهم السلام- في بشاراتهم، بـ(النبي الآتي)، والتي حاول كل من اليهود والنصارى التنكر لها وفهمها فهما خاصا، فأما اليهود فلم يقبلوا أن يكون (النبي الآتي) الذي يختم به الدين ويخبر بكل شيء من غير بني إسرائيل، وغير محقق للحلم اليهودي بامتلاك الأرض واستعادة المملكة، وأما النصارى فرفضوا أن يكون النبي الآتي روح الحق، الذي يشهد للمسيح ويكمل كل شيء، ويختم الرسالات بشرا، يأتي بعد المسيح؛ كما هو شأن حديث المسيح عن المعزي في العشاء الأخير؛ فقد فسروه بأنه روح القدس الذي يلهم التلاميذ، ويجعلهم يتكلمون كلاما إلهيا مقدسا بعد رفعة المسيح. أو يجعلونه هو المسيح عينه إن كان المتحدث عنه هو يوحنا أو أحد الأنبياء قبله؛ أو يجعلونه يوحنا إن كان المتحدث عنه هو المسيح ولهم إمكانية إحالته على ما قبله. وفي جميع الأحوال فقد أُلحقت (بشارات النبي الخاتم) بـ(بشارات المسيح)، وألحقت صفاته بصفات بصفاته؛ ولم يعر المفسرون الإنجيليون للفرق بين البشارتين اهتماما يذكر، كما قد نجده واضحا في العديد من النصوص الإنجيلية نفسها، والتي تفرق بين (المسيح المنتظر) و(النبي الآتي)، والذي من أبرز صفاته أن يكون أميّا، لا يتكلم إلا بما يوحى إليه، ومكيّا يبعثه الله في الأرض المباركة للعالمين، والتي يوجد بها بيت الله الحرام، الذي ما انقطعت فيه العبادة أبدا منذ أن هاجر إليه إبراهيم؛ وقد أثير نقاش كبير بين المفسرين في معنى (المسيا) والذي ذهب النصارى إلى أن معناه (المسيح المنتظر)، وقد ورد في صفته أنه (يخبر بكل شيء)، كما ورد في قول المرأة السامرية للمسيح: (أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ)(37).

كما ورد في بشارة المسيح بالمعزي الذي يأتي بعده بأنه يشهد له، ويخبرهم بكل شيء(38).

غير أن الربط بين مسيا والمسيح الذي يُبشر بمن يأتي بعده، هي ما أثار كثرة النقاش الوارد في الموضوع بين النصارى فيما بينهم، وبين النصارى من جهة والمسلمين من جهة ثانية، لكنه بالرجوع إلى موضوع مكة اللاحق ذكره، يتبين أنه لا يستبعد أن يكون (المسيا) إنما المقصود بها (المكي)، للإبدال الطبيعي الواقع بين الكاف والخاء والشين والسين وبين حروف أخرى في أكثر لغات العالم، وخصوصا في ما يسمى اللغات السامية الثلاث: العربية والعبرية والأرامية. وهو ما سنراه جليا في تسميات (مكة) في أغلب أسفار العهد القديم، والتي منها: ميخا، معكة، معسا، مسا، مقيدة، مجيدو، مجدون، والتي سنتحدث عنها في الفقرة الموالية.

4- هرمجدون

أما (هرمجدون) فهي الموقع -حسب النبوءات الكتابية- الذي تقع فيه المعركة الفاصلة بين (الحق) و(الباطل)، قبل انتشار السلام العام؛ وقد ورد الحديث عنها في رؤيا يوحنا، باعتبارها مكان قتل الملوك الجبابرة والقضاء عليهم(39)؛ و(هر مجدون)(הר מגדון) تعني في العبرانية (جبل مجدون)، وقد ورد الحديث عنها في أسفار العهد القديم باعتبارها موقع قتل فيه عدد من الملوك، فالملك يوشيا جاء إلى هذه البقعة ليلقى حتفه في معركة فاصلة(40)، وكذلك الأمر بالنسبة لأخزيا الذي طارده ياهو وقاتله فهرب إلى هذا المكان ومات فيه. وغيرهم من الملوك الذين تقاتلوا في هذا المكان.

والملاحظ أن (مجيدون) التي تأخذ أسماء مختلفة حسب اختلاف الأسفار، والتي منها (مجيدو) و(مقيدة)، بها مرتفعة عظيمة تقدم فيها الذبائح والقرابين وفيها بيت للآلهة، كهنته (أبناء ملكة جارية)، ويسمى هذا البيت(بيت ميخا)(41) أو(بيت معكة)(42) أو(بيت أبل معكة)(43)؛ وينبغي له أن يهدم أو يحرق أو تقع فيه حروب بين الملوك المختلفين، والذين كثيرا ما يكونون إخوانا، يتجبر عليهم واحد منهم فيقضي عليهم؛ غير أنه بإمعان النظر في النصوص المتحدثة عن المكان بعيدا عن هذه الصورة النمطية العنصرية، يتبين أن لهذا المكان مرتبة عظيمة عند الله، حتى إن أكثر الأنبياء قد جاءوا إليه، وقدموا فيه قرابينهم وصلواتهم، بما فيهم الآباء الكبار إبراهيم وإسحاق ويعقوب، والملوك العظام يشوع وشاول وداود وسليمان، وهو الذي يوجد به (بيت إيل)، الذي لا يجرؤ أهل الكتاب على ترجمته بـ(بيت الله)؛

الملاحظ أن كل هذه الأسماء إنما هي تحريفات للاسم (مكة) ولـ(بيت مكة)، وأن أوصاف الحرب القائمة في ذلك المكان، إنما هي أوصاف للعبادة القائمة في ذلك البيت، حيث فقدت العبادة روحها بالنسبة للواصف، الذي اعتبر ما يقوم به العابدون هنالك، إنما هو تقاتل وتدافع وكمون وحصار وهتاف ودوران وارتحال وهروب وتراجم بالحجارة، وغيرها مما يحدث في الحروب والمعارك، أو هكذا يرجو أن يكون؛ بدل أن يكون صلاة وسعيا وطوافا وركوعا وسجودا، ورميا للجمرات، وتكبير وتسبيح وتهليل وتلبية، وإقامة لشعائر العبادة، في البيت الذي اختاره الله ليكون مباركا للعالمين؛ وإذا حدث أن اعترف الواصف بأن المكان مقدس، وأورد ما يدل على أنه المكان المختار من الله لإقامة الشعائر، بالنسبة للعالمين، بما فيهم بن إسرائيل، وأن كهنته وخدامه من غير بني إسرائيل، برّر تلك الخدمة وذلك الكهنوت بكونه تفضل من رؤساء بني إسرائيل على أهل المكان الملعونين والذين يصيرون حملة الحطب وسقاة الماء لبيت إلهي، كما هو الشأن بالنسبة للجبعونيين(44) في قصة يشوع.

لقد كانت رؤيا يوحنا، التي اعتبرت واحدة من أسفار العهد الجديد، متوافقة مع التصورات اليهودية المؤسسة لها في شأن (هر مجدون)، بكل ما تحمله من عنف (ما قبل النهاية)؛ ولقد صار المفسرون الإنجيليون في قراءة هذه النصوص على نفس خطى التفسير الحاخامي اليهودي، ولم يستطيعوا التخلص من نظريته العنصرية.

*************************

الحواشي

*) باحث وأكاديمي من المغرب.

1- انظر: سفر يوئيل، إصحاح 2، عدد 12، وسفر أشعيا، إصحاح 55، عدد 7، وسفر حزقيال، إصحاح 33، عدد 11-15.

2- إنجيل متى، إصحاح 3، عدد 9، وإنجيل لوقا، إصحاح 3، عدد 8.

3- إنجيل يوحنا، إصحاح 8، عدد 39.

4- إنجيل متى، إصحاح 5، عدد 23-24

5- إنجيل متى، إصحاح 5، عدد 38-42.

6- إنجيل متى، إصحاح 5، عدد 43-45.

7- إنجيل يوحنا، إصحاح 7، عدد 26.

8- إنجيل يوحنا، إصحاح 7، عدد 33-35.

9- إنجيل يوحنا، إصحاح 7، عدد 47.

10- إنجيل يوحنا، إصحاح 13، عدد 33.

11- إنجيل يوحنا، إصحاح 13، عدد 36-38.

12- إنجيل متى، إصحاح 26، عدد 12-13.

13- إنجيل متى، إصحاح 26، عدد 15.

14- سورة النساء، آية 156-158.

15- الرسالة إلى العبرانيين، الإصحاح 10، عدد 26-31.

16- الرسالة إلى غلاطية، الإصحاح 1، عدد 6-9.

17- الرسالة الأولى إلى أهل تيموثاوس، الإصحاح 1، عدد 3.

18- الرسالة الأولى إلى أهل تيموثاوس، الإصحاح 1، عدد 8-11.

19- إنجيل يوحنا، إصحاح 8، عدد 39-40.

20- إنجيل يوحنا، إصحاح 8، عدد 44.

21- سفر التكوين، إصحاح 17، عدد 4-5

22- سفر يشوع، إصحاح 9، عدد 27.

23- انظر: سفر يشوع، إصحاح 7، عدد 26، وإصحاح 8، عدد 29.

24- سفر القضاة، إصحاح 17 و18.

25- سفر الملوك الأول، إصحاح 15، عدد 13.

26- إنجيل متى، إصحاح 3، عدد 7-9.

27- إنجيل متى، إصحاح 8، عدد 10-12.

28- سفر صموئيل الأول، إصحاح 17, عدد 50.

29- سفر حزقيال، إصحاح 2، عدد 1.

30- سفر حزقيال، إصحاح 2، عدد 3.

31- سفر العدد, إصحاح 23, عدد 19.

32- إنجيل مرقس، إصحاح 2, عدد 27-28.

33- مزمور 8، عدد 4-9.

34- إنجيل متى، إصحاح 24، عدد 3-6.

35- إنجيل مرقس، إصحاح 9، عدد 31-32.

36- سفر التثنية، إصحاح 18, عدد 18-19. ( أُقِيمُ لهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلكَ وَأَجْعَلُ كَلامِي فِي فَمِهِ فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الذِي لا يَسْمَعُ لِكَلامِي الذِي يَتَكَلمُ بِهِ بِاسْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ).

37- إنجيل يوحنا, إصحاح 4, عدد 25.

38- إنجيل يوحنا, إصحاح 16, عدد 13.

39- رؤيا يوحنا, 16-16.

40- سفر الأخبار 2، إصحاح 35, عدد 22-24.

41- سفر القضاة, إصحاح 17 و18.

42- سفر الملوك الأول، إصحاح 15, عدد 13.

43- سفر صموئيل الثاني, إصحاح 20, عدد 14.

44- سفر يشوع, الإصحاح 9.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=491

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك