التاريخانية: مركزية التاريخ وهامشية الدين
تعريف المفهوم ومبانيه الفكرية
ليس من اليسير تقديم تعريف محدد لمفهوم قديم مثل التاريخانية التي تعود إلى منتصف القرن الثامن عشر والتي وصفت بكونها واحدة من أعظم الثورات التي شهدها الفكر الغربي، وقد تم تعريفها بطرق متعددة، إذ يعرفها قاموس أكسفورد تعريفا ثلاثيا مركبا :
الأول: نظرية تتأسس على أن الظواهر الاجتماعية والثقافية يحددها التاريخ
والثاني: الاعتقاد بأن القوانين التاريخية تحكمها قوانين معينة
والثالث: الميل إلى اعتبار التطور التاريخي، المكون الأكثر أهمية للوجود الإنساني”[1]
أما المفكر الألماني كارل بوبر فيعرفها بأنها ” طريقة في معالجة العلوم الاجتماعية تفترض أن التنبؤ التاريخي هو غايتها الرئيسية، وتفترض إمكان الوصول إليه بالكشف عن “القوانين” و”الاتجاهات” و”الأنماط” التي يسير التطور التاريخي وفقا لها”[2].
ويفهم من هذين التعريفين أن التاريخانية هي مذهب فكري يستهدف إبراز أهمية البعد التاريخي في دراسة الظواهر المختلفة، وأن يحظى التاريخ -كعلم- بمكانة تماثل العلوم الطبيعية التي اعتبرت في القرنين الماضيين الجديرة وحدها بلقب “علم”، وقد حاول التاريخيون الأوائل من أمثال: جورج نيبور ودروسن، ودلتاي، وبوركهارت التأكيد على أهمية علم التاريخ ودوره في تفسير الظواهر، وعلى أن تفسير ما يحدث في التاريخ وفقا للظروف التاريخية لا من خارجها، ورغم بساطة هذه الفكرة إلا أنها كانت تعني أمرين على جانب من الأهمية: استبعاد العلوم الطبيعية من التفسير التاريخي بزعم أن ليس للبيئة المادية تأثير كبير في الظواهر، واستبعاد البعد الغيبي من التاريخ على اعتبار أنه لا يمكن لأي قوة خارجية متعالية أن تتدخل في الحوادث التاريخية التي تجري وفق نواميس وغايات داخلية معلومة.
وقد تأسس مفهوم التاريخانية في القرن التاسع عشر على عدد من المبادئ الفكرية التي لازمت المفهوم حتى وقتنا الراهن، وهذه المبادئ هي:
– أن الأشياء لا تفهم حق الفهم إلا ضمن سياقاتها التاريخية ولا يمكن فهمها بأي صورة خارج هذا السياق.
– التاريخ له مناهجه وطرائقه وهي تغاير مناهج العلوم الطبيعية.
– يضم التاريخ قوانين وأنماط ونماذج قابلة للتكرار يمكن للعلوم الاجتماعية من خلالها أن تتنبأ بالمستقبل.
– ليس هناك قيم أبدية وثابتة وإنما هناك أفكار نسبية ترتبط بالسياق الاجتماعي والتاريخي الذي وجدت فيه.
– معايير الرشادة والعقلانية ليست ثابتة وأبدية بل هي متغيرة عبر الزمان[3].
تفضي المبادئ الأولى للتاريخانية إلى استبعاد أي أثر للإرادة الإلهية في الفعل التاريخي الذي هو من صنع الإنسان ويخضع لقوانين داخلية لا تتأثر بالطبيعة أو الفعل الإلهي، وأما المبدأين الأخيرين فيفضيان إلى النسبية المطلقة، فليس هناك ثابت وإنما القيم والأخلاق والمبادئ كلها متغيرة ونسبية، وما يكون حقا في عصر قد يصير باطلا في عصر آخر وهو ما يفضي بنا إلى السيولة المطلقة حيث لا ثابت إلا قوانين التاريخ المادية.
كارل بوبر وبؤس التاريخانية
وقد تعرضت التاريخانية كمذهب فكري للانتقاد على يد عدد من المفكرين الأوروبيين، ومن أشهر نقادها كارل بوبر الذي وضع عام 1961 كتابا أسماه ( فقر التاريخانية) أوضح خلاله هشاشة أسسها ومبادئها المنطقية، وعلى سبيل المثال ذهب بوبر إلى أن مسألة قدرة التاريخانية على التنبؤ بالمستقبل لا يمكن تحقيقها وذلك استنادا إلى حجة عقلية مؤلفة من خمس عناصر.
– يتأثر التاريخ الإنساني بنمو المعرفة الإنسانية وهذه الحقيقة لا يستطيع أن ينكرها التاريخيون الماديون.
– لا يمكن لنا بالطرق العلمية والعقلية أن نتنبأ بالكيفية التي تتطور بها معارفنا.
– وإذن لا يمكن الزعم بإمكانية التنبؤ بمستقبل التاريخ الإنساني.
– يعني هذا عدم إمكان قيام تاريخ نظري يقابل علم الطبيعة النظري، ولا يمكن أن تقوم نظرية علمية في التطور التاريخي تصلح للتنبؤ.
– وبهذا يثبت خطأ الغاية الأساسية للمذهب التاريخاني (التنبؤ) وتبطل مزاعمه الأساسية [4].
إخضاع القرآن للفهم التاريخاني
على الرغم من ظهور التاريخانية في الغرب منذ منتصف القرن الثامن عشر إلا أنها لم تعرف طريقها إلى العالم الإسلامي إلا في أواخر القرن الماضي، مع ظهور بعض الكتاب الذين تبنوا الطرح التاريخاني في كتاباتهم بخصوص النص الديني (القرآني والحديثي) والتراث الإسلامي عموما، ومن أبرزهم: عبد الله العروي، محمد أركون، نصر حامد أبو زيد، هشام جعيط وغيرهم.
ومن الواضح أن كل من هؤلاء له تعريفه وفهمه وتطبيقه الخاص للتاريخانية، وعلى سبيل المثال يعرف نصر حامد أبو زيد التاريخانية بأنها “مفهوم محايث لوجود العالم – أو بالأحرى لعملية إيجاده- سواء أكان هذا الوجود خلقا من عدم أم صنعا من مادة قديمة، ..إنها لحظة الفصل والتمييز بين الوجود المطلق والمتعالي”[5] على حين لا يتورع أركون على القول أنها ” تخص بنية الحقيقة المطلقة ذاتها، كما وتخص الشروط أو الظروف السياسية لإنتاجها وبلورتها وادماجها في فكر وسلوك كل مؤمن”[6]، وهو ما يعني أنه بينما يقصر أبو زيد المفهوم على العالم المادي المخلوق فإن أركون يعتقد أنها تشمل عالم الغيب أيضا والحقيقة المطلقة ذاتها. ويغالي أركون كثيرا في تقدير أهمية التاريخية باعتبارها الحقيقة المتعينة وما عداها ليس إلا خيالا أو وهما.
ويعتقد التاريخيون العرب أنه من الضروري التمسك “بتاريخية” كل من البنى الاجتماعية والفكرية والدينية والتأكيد على أنها وجدت بفعل الإنسان نتيجة تطور تاريخي سابق وطويل قليلا أو كثيرا وأن هذه البنى جميعا وعلى الأخص الدينية ليست شيئا مطلقا أو مجردا يقبع خارج الزمان والمكان وأنها قابلة للفحص والدرس وفق المنهج التاريخاني، وعلى هذا اتجهوا نحو محاولة مقاربة النص القرآني باعتباره ظاهرة تاريخية، ومنتج ثقافي مرتبط بالزمان الذي حدث فيه (القرن السابع الميلادي)، والمكان الذي تجلى فيه وهو مكة المكرمة، وكذلك بيان خصائص البيئة الجغرافية والثقافية التي ظهر فيها، ثم دراسة أهم الأشخاص الذين كانوا وراء تلك الحادثة التاريخية (الفاعلين التاريخيين) وفقا لتعبير أركون[7].
الخلاصة، أفضى التطبيق التعسفي للمنهج التاريخاني على النص القرآني إلى نتيجتين أساسيتين لم تشذ عنهما أي من مشروعات القراءة المعاصرة، الأولى تاريخية القرآن من حيث بنيته، وكونه إفرازا ثقافيا لمجتمع معين وهو ما يعني أنه منتج بشري بعيد عن التعالي والتقديس. والثانية تاريخية القرآن من حيث أحكامه وتشريعاته، أي أنها كانت استجابة لظروف وملابسات اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة، ومع تغيرها لم تعد هناك حاجة لها.