عسكرة العولمة وانتشار التطرّف
عمار بنحمودة
1- عولمة عرجاء:
بشرت العولمة بأفق إنسانيّ رحب تتحطّم فيه جميع الحواجز الماديّة والرمزيّة بين الشّعوب والأمم، ووعد منظروها بتحوّل العالم إلى قرية صغيرة، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع من الاستقطاب الثنائي الذي حكم العولمة، وجعل فريقا من البشر ينعم بخيراتها وفريقا آخر يكتوي بنارها. فلم تستطع العلمانيّة الخروج من إطار النّظام الرأسماليّ الذي مثّل إطارها النظري ومجال نفوذها الاقتصاديّ، ولا تجاوز منطق الهيمنة الذي حكم علاقة القوى الاقتصاديّة الكبرى بالدّول النّامية، وهو ما جعل سمير أمين يصف النظام الرأسماليّ بأنّه يحكم "على مليارات الكائنات الإنسانيّة بأن تكون "لا شيء". ولا شكّ أنّ طاقة التمرّد التي يحملها هؤلاء الضحايا هي طاقة هائلة."[1] ولئن كانت الإمبرياليّة حمّالة لوجه استعماريّ ثابت، وإن اختلفت وسائل تنفيذه عسكريّا أو اقتصاديّا، فإنّ سقوط الاتّحاد السوفييتي قد مثّل أكبر عامل أسهم في انفراد الولايات المتحدة الأمريكيّة بالساحة الدّوليّة، فكانت حرب الخليج الأولى من أقوى العروض العسكريّة التي تؤكّد ارتباط الرّأسماليّة بالعسكرة واستعمال القوّة من أجل إسقاط أنظمة سياسيّة تعتبر مارقة عن الشرعيّة الدوليّة/ الرأسماليّة. وقد دعّمت أطروحة "صدام الحضارات" المعدّة على مقاس المرحلة الجديدة هذا الانفصام بين شمال متحضّر وجنوب بربريّ. ولذلك، اعتبر "سمير أمين" أنّ أطروحة صدام الحضارات تذكّر بكتاب "كفاحي" لهتلر من خلال إقرارها الفصل بين المتحضّرين والبرابرة. وقد بلغت ذروة التّطابق بين الصّورة المتخيّلة للآخر البربريّ وصورته الواقعيّة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة إحدى وألفين. فكان ذلك الحدث منطلق الحرب الأفغانيّة والحرب العراقيّة المشرعنة بمكافحة الإرهاب أو القضاء على أسلحة الدمار الشامل، وبداية كشف عن أفول مفهوم العولمة، باعتبارها مشروعا نظريّا يمكّن جميع الأطراف من الاندماج في إطار منظومة اقتصاديّة عابرة للقارّات والثقافات والحضارات إلى مشروع رأسماليّ على أرض الواقع ذي وجه واحد غاب عنه الرقيب الشيوعيّ، فأسقط كلّ أقنعة العالميّة واختار العنف وسيلة لفرض شرعيّته الدوليّة.[2] وتتأكّد تلك الحقيقة من خلال النظر إلى مبررات نشأة مفهوم "الجهاد" في فكر القاعدة، فقد بعث "أسامة بن لادن" برسالة إلى "الأمة الإسلاميّة"، ليحرّض على الجهاد ومن أهمّ مبرّرات هذه الدعوة "احتلال الصليبيّين بمناصرة المرتدّين لبغداد دار الخلافة تحت خدعة أسلحة الدمار الشامل."[3] وهي ذاتها المبررات التي وظّفها الزرقاوي في حربه ضدّ الأمريكيين، إذ يقول في إحدى خطبه: "ها قد مضى عامان على سقوط بغداد بأيدي الصليبيّين الذين لم يجنوا غير الهزيمة والعار والذل والشنار... فقد كانوا يرمون من غزو العراق السيطرة على الأمّة والتمكين لدولة بني صهيون من النّيل إلى الفرات، ولكن بفضل الله ثمّ بفضل ضربات المجاهدين خابت ظنونهم، وطاشت سهامهم وارتدّوا خاسئين على أعقابهم"[4] وهو ما أكّد أنّ العولمة "ليست نظاما عالميّا أو نموذجا عالميّا للحياة، نشأ نتيجة تفاعل طبيعيّ للثقافات العالميّة، ولكنّه نظام جديد من العلاقات بين الثقافات، كما هو الحال بين الجماعات والدّول والأسواق، نشأ في سياق صراع التكتّلات الرأسماليّة الكبرى على الهيمنة العالميّة."[5] وولّد شعورا راسخا لدى فريق من الرّافضين له بأنّه صراع ضدّ مصالحهم وهويتهم الجماعيّة، لا يخدم سوى مصلحة أطراف بعينها اختارت الحلول العسكريّة لتطبيق مشاريعها وإنفاذ أمرها؛ إلاّ أنّ بروز حركات التطرّف والإرهاب التي اتّخذت عناوين دينيّة قد قدّم خدمة كبيرة للرأسماليّة في طور عسكرتها، فدعّم ما سعت إلى تأكيده من فصل بين نظام البرابرة ونظام المتحضّرين، وجعل من الإرهاب ذريعة سهلة لغزو الشعوب واستباحة أرضها ونهب خيراتها. ولعلّه لا يختلف المحلّلون في وصف الأعمال التي أقدم عليها تنظيم القاعدة أو "داعش" بأنّها "وحشيّة" و"بربريّة"، إذْ استندت إلى شريعة القتل واختيار العنف، وأشهرت عبر وسائل الاتّصال الحديثة مشاهد عنفها، حتّى صارت ثقافة النحر وقطع الرؤوس تميّز أعمال هذه التنظيمات، وارتدّت نظمها السياسيّة إلى أقدم الوسائل في القتل والسبي والاسترقاق. ولكنّها لم تكن أقلّ وحشيّة من آثار الحروب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكيّة، وهي تستعمل الأسلحة الذكيّة. وليس بروز مثل هذه الظّواهر في النصف الجنوبي من الكرة الأرضيّة سوى تأكيد على الفصل العنصريّ الذي أقرّته أطروحة "صدام الحضارات" ودعّمته الوقائع في العراق وأفغانستان وسوريا. فقد أسهمت تلك المشاهد التي اعتمدتها التنظيمات "الإرهابيّة" في إبراز الهوّة السّحيقة بين غرب متحضّر تقوم سياسته المعلنة على احترام حقوق الإنسان وشرعنة العنف بالقانون الدوليّ والانتماء إلى التكتّلات القانونيّة والعسكريّة، وشرق بربريّ لا يزال السقف الأخلاقيّ المجسّد لمشروع دولته الإسلاميّة موسوما بالعنف والتوحّش. فقدّمت تلك التّنظيمات خدمة جليلة، جعلت من سياسة العسكرة حربا على الإرهاب ودفاعا عن حقوق الإنسان ضدّ أعدائها.
بشّرت العولمة بعالم صغير كالقرية بعد تطوّر تكنولوجيا النقل والاتصالات، ولكن ظلّ هذا التصوّر نظريّا إلى أبعد الحدود
2- حركات ضدّ العولمة: بالكلمة والسلاح
لقد وجّهت الحركات النّاشطة ضدّ العولمة كثيرا من النقد لتعديل غلواء الإمبرياليّة واندفاع مؤسّساتها إلى الربح والمضاربة دون حدود أخلاقيّة، ولكنّها قوبلت بالتجاهل وعجزت عن تغيير السّياسة الأمريكيّة، أو منع نشوب حروب في مناطق كثيرة من العالم. ففشلت محاولات التعديل السلمي لمشاريع الأمركة التي سُوّغت على أساس وجهها العولميّ، وقدّمت على أساس أنّها الممثّل القانونيّ للشرعيّة الدّوليّة. ولذلك، كانت الحركات الرّاديكاليّة التي لا تعترف بها وبنُظُمها ومؤسّساتها شكلا آخر أكثر تطرّفا يعبّر عن رفض العولمة وسياساتها الاقتصاديّة والثقافيّة. فقد تعزّز الشعور بأنّ "التّفاوتات الهائلة في الفرص التي يحظى بها أناس مختلفون تشجّع الشّكوك في قدرة العولمة على خدمة مصالح المستضعفين والمضطهدين."[6]
إنّ بروز تلك التّنظيمات ليؤكّد تهالك الرأسماليّة التي عجزت عن تحويل مفهوم العولمة إلى اقتصاد كوني يشمل جميع أرجاء البسيطة، ويحقق الرخاء لجميع الشعوب في شمال الكرة الأرضيّة وجنوبها. فقد بقيت الشركات العابرة للقارات بيد الطرف الأقوى، بل إنها زادت في وهن الشركات الصغرى، وأسهمت في تحطيم اقتصاديّات الدّول الضعيفة. ولم يشهد حراك رؤوس الأموال نقلة نوعية جعلته يفيء على الدول النامية.[7] فمعدّلات البطالة والمديونيّة الخارجيّة ظلّت دوما في خطّ تصاعديّ، وهو ما ولّد حركة هجرة من الشطر الجنوبي للقارّة إلى الشّطر الشّمالي، سواء أكان الأمر في أمريكا أم في حوض البحر الأبيض المتوسّط. وقد غابت آليات المعالجة الجذريّة لهذه الأزمة التي كانت سببا في انقسام العالم زمن الحرب الباردة إلى معسكر شيوعي ومعسكر رأسماليّ.
لقد أدّى انهيار الاتحاد السوفييتي، وما أعقبه من نهاية للحرب الباردة إلى تجاهل المتون النّظريّة التي أسسّت لقراءات نقديّة وإيديولوجيا ثوريّة تهدّد كيان الرأسماليّة. ومثلما كان النّقد الشّيوعي للمنظومة الرأسماليّة سببا في نشأة صراعات وصدام بين المنظومتين، فقد كان أيضا مفيدا لتعديلها ومنحها قابليّة المنافسة العالميّة. أمّا وقد أضحت الرأسماليّة منفردة في السّاحة الدّوليّة، فقد أظهرت وجه التوحش الذي لم تظهره من قبل. وقد عجزت وسائل الاتّصال الحديثة عن تحقيق ثقافة عالميّة تقوم على أسس المشترك الإنساني والأخلاقي. "ولا يوجد دليل أو ربما قليل، بالرغم من ذلك، لدعم الافتراض بأنّ ظهور وسائل الاتّصال العالمية المنتشرة يولّد التقاء مهمّا في الاتجاهات والاعتقادات."[8]
لقد اتّجهت الرأسماليّة نحو عسكرة نظامها وخوض حروب من أجل الدّفاع عن مصلحتها. وبواسطة الشرعيّة الدوليّة التي تمنحها مؤسسات الأقوياء الخمس وفضاء الدّفاع عن المصالح المشتركة في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن أو بواسطة منطق الدّفاع عن المصلحة والحروب الاستباقيّة فقد تمكّنت القوى الرأسماليّة من ضمان مصلحتها، ولو كان ذلك بتدمير الأنظمة السياسيّة والبنى الاجتماعيّة واستغلال التناقضات الداخليّة وإثارة الفتن بجميع أنواعها. وقد وجدت في أرضيّة الفشل الذي منيت به الدول القطريّة وعجز الأنظمة الليبراليّة والقوميّة عن الحفاظ على تماسكها الداخلي أرضيّة لاستغلال الانقسامات داخل المجتمعات النامية على أساس ديني أو عرقي أو قبليّ. وفي الوقت الذي بشّر فيه المشروع العولميّ بنشر ثقافة "المتحضرين" بين الشعوب البربريّة، فقد أسهمت سياساته في بروز تنظيمات ما قبل دولتيّة تتبنّى العنف ضدّ أبناء الوطن الواحد، وتزيد الفرقة والأزمة تفاقما.
وجّهت الحركات النّاشطة ضدّ العولمة كثيرا من النقد لتعديل غلواء الإمبرياليّة واندفاع مؤسّساتها إلى الربح والمضاربة دون حدود أخلاقيّة، ولكنّها قوبلت بالتجاهل
3- العولمة والرأسماليّة وجهان لعملة واحدة:
لقد ساد الوعي مبكّرا بالمأزق الذي تطرحه العولمة، باعتبارها الوجه الآخر للرأسماليّة. ولهذا، فقد تحدّث البعض عن خرافة العولمة[9] أو بؤس العولمة "فحالة البؤس التي يعيشها جزء كبير من العالم بؤس للكلّ، باعتبارها حالة تطال المشترك الجامع بين بني البشر، وهو إنسانيتهم. لذلك، كان النيل من بني البشر نيلا من الإنسانيّة، والنيل من الإنسانيّة نيلا من كلّ إنسان، والنيل من كلّ إنسان مفرد نيل من البشريّة جمعاء."[10] فقد تأكّد فشل الرأسماليّة حين تطورت أسواق المال "إلى حلبة للجشع ومكان لتحقيق الربح بأقصى سرعة. فالمصارف تعرض في الأسواق أدوات ماليّة مفعمة بالمخاطر، وما خلا بضعة أفراد، ما عاد أحد يفهم مغزى هذه الأدوات وكنهها."[11]
ولئن اتّجهت المقابلة بين فئة تستأثر بمكاسب الرأسماليّة، وتنعم بفيئها الحضاريّ وفئة محرومة من خيراتها وموسومة بالتخلّف والبربريّة إلى مقاربتين مختلفتين؛ فالأولى بنت أسس مواجهة العولمة/ الرأسماليّة على أساس حضاري/ دينيّ. فكانت المواجهة بين الغرب والإسلام، يستوي في ذلك القائلون من الطرف الغربي بصدام الحضارات والمؤمنون بالحرب المقدّسة ضدّ "الغرب الكافر"، والثانية ظلّت وفيّة لأصل الخلاف الرأسماليّ مع الآخر المستضعف، فبيّنت التفاوت الاقتصادي وانشطار العالم إلى معسكر رأسماليّ ترعى العولمة بمؤسساتها مصالحه ومعسكر نامٍ تُلْقى عليه تبعات التفوق الرأسماليّ تبعيّة وديونا وبطالة.
ولم تكن عسكرة العولمة لتنتج عالما تهيمن فيه قوّة واحدة فحسب، تفرض بترسانتها العسكريّة قوانين الرأسماليّة العالميّة على الشعوب الأخرى، وإنما اتّخذت الحركات الرافضة للعولمة أشكالا عنيفة وُسمت بالإرهاب ومثّلت العدوّ الأوّل للأنظمة الرأسماليّة. ولقد حاولت تلك الأنظمة فرض وجهة نظرها في هذا الصراع الذي هيمنت على متخيّله الرؤية الدينيّة التي تربط بين أشكال التمرّد العنيفة والروافد الدينيّة التي مثّلت قاعدة الشرعيّة. فقد وقع تجاهل أصل الخلاف القديم بين الرأسماليّة وأعدائها، والذي لخصته فكرة ماركس الشهيرة بأنّ "كلّ تاريخ أي مجتمع حتّى الآن ليس سوى تاريخ صراعات طبقيّة. حرّ وعبيد ونبيل وعامّي وبارون وقنّ ومعلّم وصانع وبكلمة ظالمون ومظلومون."[12]
إنّ تنويع الخطاب لصيغة الخلاف بين الأطراف المتصارعة، ليعبّر عن انفتاح الرؤية الماركسيّة على إمكانيّات تأويله والتعبير عنه بصيغ أخرى قد لا تتجلّى في ظاهرها معبّرة عن صراع طبقيّ صريح، ولكنّها يمكن أن تؤوّل إلى صراع رمزيّ تجسّده أقنعة اللغة بين قامعين ومقموعين. لعلّ ذلك ما تؤكّده خطابات الجماعات الجهاديّة التي أعلنت رفضها لسياسة الولايات المتّحدة الأمريكيّة ونظمها السياسيّة والاقتصاديّة. وحتّى تلك التنظيمات التي قدّمت أعداء الداخل على الخارج، فقد كانت تعتقد أنّها بقضائها على الأنظمة الحاكمة أو التيّارات السياسيّة والدينيّة المختلفة عنها، فإنّها تقضي على أعوان الاستعمار على أرضها.
إنّ أوهام النخبة وحدها هي التي نقلت كثيرا من أسباب الصراع من واجهته الاقتصاديّة وصراع القوى المناهضة للعولمة والليبراليّة المتوحّشة إلى صراع هوويّ بين الشرق والغرب، أو بين الإسلام وأعدائه. وقد تكون تلك الصيغ بكلّ متخيّلها النخبوي وحجْبِها الانقسام الحادّ بين دول رأسماليّة تعمل العولمة لصالحها ودول ضعيفة ومتخلّفة تعمل الرأسماليّة المعولمة على استغلالها عاجزة عن إظهار حاجة جماعات طحنتها العولمة باقتصادها المتوحّش وسياستها الماليّة المجحفة إلى البحث عن لغة جديدة تتداولها وتمنحها شرعيّة داخليّة. فحين انتزعت الليبراليّة المعولمة منها كلّ مصطلحات الحاضر التجأت إلى الماضي تبحث فيه عن مفردات الشرعيّة المفقودة مثل الجهاد والحاكميّة والدّولة الإسلاميّة. ولكنّها كانت تخدم مشروع العولمة من حيث أرادت معارضته. فقد منحته شرعيّة أكبر حين دعّمت متخيّله القائم على فصل بين البرابرة والمتحضّرين.
أوهام النخبة وحدها هي التي نقلت كثيرا من أسباب الصراع من واجهته الاقتصاديّة وصراع القوى المناهضة للعولمة والليبراليّة المتوحّشة إلى صراع هوويّ بين الشرق والغرب
لقد بشّرت العولمة بعالم صغير كالقرية بعد تطوّر تكنولوجيا النقل والاتصالات، ولكن ظلّ هذا التصوّر نظريّا إلى أبعد الحدود، إذ كثيرا ما يفتقد سكّان جنوب الكرة الأرضيّة الحقّ في الانتقال إلى الجزء الشماليّ، وما سياسات مقاومة الهجرة غير الشرعيّة سوى دليل على وجود خوف دائم من زحف البرابرة على المتحضّرين. ونتيجة رسوخ هذا الفصل، فقد كانت التنظيمات المتطرّفة تؤسّس منظومتها الفكريّة على أساس قواعد الاختلاف والعداء للمنظومة الإمبرياليّة، فعوض المملكة الأرضيّة العادلة التي تبشّر بها الديمقراطيات الحديثة نظّر دعاة "الفكر الجهاديّ" للملكة الإلهيّة التي تؤول إلى الحاكميّة الإلهيّة وتحكم بما أنزل الله، في ظلّ يقين بأنّ ما حكم به البشر لا يحقّق المفهوم المطلق للعدل. وشرعنوا الحرب ضدّ أنظمة الكفر والجاهليّة حين تصوّروا أنفسهم ينتمون إلى مملكة الإيمان والطهرانيّة. وتبنّوا مقولات التطرّف حين وجدوا أنّ التسامح ليس سوى شعار زائف يؤبّد الهيمنة ويمنع كلّ أشكال التمرّد عليها. ولكنّهم لم يكونوا يدركون أنّهم يرسمون صورة محاكية للإمبرياليّة بتضييقهم دوائر الانتماء وتقسيمهم العالم إلى فسطاطين. وتشريعهم العنف ضدّ الآخرين وإقرارهم بشرعيّة منطق العسكرة. فقد كان الفصل في تصوّرهم صارما بين عالم الإيمان المستمدّ من تعاليم الإسلام وزمن النبوّة المقدّسة، وعالم الكفر المستمدّ من الحضارة الغربيّة وزمن الحداثة والإمبرياليّة بنفس الصرامة التي بنت عليها الرأسماليّة فصلها بين أنظمة مهيمنة تحتكر كلّ وسائل الإنتاج ورؤوس الأموال وأنظمة تمثّل أسواقا لبضائعها ومجالا لفرض هيمنتها.
[1] سمير أمين، ما بعد الرأسماليّة المتهالكة، (ترجمة فهيمة شرف الدين وسناء أبو شقرا) ط1، بيروت، دار الفارابي، 2003، ص 191
[2] يقول نعوم تشومسكي: "لا أعتقد أنّ المنطقة فحسب، بل العالم على العموم، يدرك بشكل صحيح أنّ الغزو الأمريكيّ هو بمثابة حالة اختبار، أو مسعى للتأسيس لمعيار جديد لاستخدام القوّة العسكريّة. وأفصح البيت الأبيض عن هذا المعيار الجديد بعبارات عموميّة في أيلول/ سبتمبر 2002، عندما أعلن عن إستراتيجيّة الأمن القومي الأمريكيّة الجديدة. فقد اقترح التقرير مذهبا جديدا إلى حدّ ما وشديد التطرّف لاستخدام القوّة في العالم، وليس من قبيل المفارقة أن يتزامن قرع طبول الحرب مع إصدار هذا التقرير." نعوم تشومسكي، طموحات إمبرياليّة (ترجمة عمر الأيوبي)، ط1، بيروت، دار الكتاب العربي، 2006، ص9
[3] انظر خطب أسامة بن لادن على الرابط التالي:
https://archive.org/details/Archive-of-Osama-talks
[4] انظر: خطب أبي مصعب الزرقاوي على الرابط التالي:
https://archive.org/details/Abo_mosaab_alzarqawi
[5] برهان غليون، سمير أمين، ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، ط1، دمشق/ بيروت، دار الفكر، 1999، ص 45
[6] أمارتا صن، الهويّة والعنف، (ترجمة سحر توفيق)، ط1، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد 352، السنة 2008، ص125
[7] بول هبرست، جراهام طومبسون، (ترجمة فالح عبد الجبار)، ما العولمة؟، الاقتصاد العالمي وإمكانات التحكّم، ط1، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، عدد 273، سنة 1990، ص ص 10، 11
[8] صموئيل هنتنغتون، صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي، (ترجمة عبيد أبو شهيوة ومحمود محمد خلف)، ط1، ليبيا، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلام، 1999، ص131
[9] بول هبرست، جراهام طومبسون، مرجع مذكور، ص 9- 34
[10] حاتم بن عثمان، بؤس العولمة، ط1، تونس، مركز النشر الجامعي، 2003، ص 4
[11] أولريش شيفر، انهيار الرأسماليّة، أسباب إخفاق اقتصاد السوق المحرّرة من القيود، ط1، الكويت، سلسلة عالم المعرفة، العدد 371، السنة 2010، ص57
[12] ماركس، إنجلز، البيان الشيوعي، ص 5