المواطنية والحريـّات العامـّة في الدولة الحديثة
المواطنية والحريـّات العامـّة في الدولة الحديثة
شفيق محسن*
لقد اختارت أغلب أقطار العالم، طواعية أو إكراهاً، النظام التمثيلي الديمقراطي واقتصاد السوق الحرّة الملازمة له. وتدلّ كلمة ديمقراطيـّة، مبدئيّاً، على حكومة الشعب. وقد اكتسبت معاني مختلة نوعاً ما بحسب العصور، لتتحوّل في نهاية المطاف، وفقاً لاتـّجاهات الفكر السياسي المعاصر، إلى غاية السياسة، وهي العمل على أن يستعيد المجتمع البشري التمتـّع بالخيار الذاتيّ على المستوى الجماعيّ. ويتعلـّق الأمر بمراكز المسؤوليـّة داخل الدولة الحديثة، وبالتنافس للحصول على هذه المراكز وفق (أسطورة) السياسة. ويجري الحديث عن مجتمع ديمقراطي عندما تكون مراكز المسؤوليـّة في الدولة خاضعة بشكل مرض لمراقبة الشعب، وعندما يكون التنافس من أجل ملء هذه المراكز مـُنظـّماً بشكل علنيّ، وكذلك عندما يخضع المسؤولون الكبار في السلطة التنفيذيـّة والسلطة التشريعيـّة إلى الاقتراع العامّ، وعندما تكون الانتخابات بعيدة عن الضغوط المباشرة على الناخبين، وعندما تكون حريـّة التعبير والمشاركة مصانة بشكل كافٍ.
الدولة الحديثة والتعدديـّة
تشكـّل التعدديـّة، في شكليها، التعدديـّة الفرديـّة وتعدديـّة الجماعات، عنصراً أساسيـّاً من عناصر الديمقراطيـّة. وهي تعني التسليم بتعدّد الجماعات والقوى الاقتصاديـّة والاجتماعيـّة، وكذلك تعدّد التيـّارات السياسيـّة والفكريـّة في المجتمع، وما يعكسه ذلك من تعدّد في الرؤى والمصالح والأفكار. فالمجتمع الذي قامت عليه الدولة كان مجتمعاً موّلداً للتـّجمّعات الاجتماعيـّة وللاتـّحادات المـُصطنعة: جماعات قرويـّة وعاميـّات من طبيعة سياسيـّة أساساً، رعيـّات من طبيعة دينيـّة، طوائف العمل والتعاونيـّات ذات الطبيعة الاجتماعيـّة - الاقتصاديّة.
نجمت الدولة الحديثة إذاً عن هذه (الطوائفيـّة المحدودة)، وتشكـّلت من تجمـّع واتـّحاد الطوائف ذات الطابع السياسيّ، تجاه كلّ الطوائف الأخرى، الدينيـّة والاجتماعيـّة - الاقتصاديـّة، التي انتظمت تدريجيـّاً في دويلات. هذه الدويلات، شكـّلت، يوماً بعد يوم، المجتمع المدني الذي توصـّل، بالتعارض، إلى تحديد هذا المدى على أنـّه مدى الدولة، التي لا يسمح لها بأيّ حال من الأحوال أن تتدخـّل مُسبقاً لصالح فئة من الفئات بحجـّة العمل على تحقيق المصلحة العليا. فالمصلحة العامـّة لا يمكن إدراكها إلا ّ على أنـّها نتيجة لاحقة للتآزر الحرّ بين المصالح الفرديـّة وبين مصالح الجماعات.
في الواقع، كلّما تقدّمت الدولة على طريق المأسـّسة كلـّما ازدادت حاجتها إلى وساطة تجمّعات المجتمع المدنيّ للوصول إلى رعاياها، لذلك تعمل الديمقراطيّة على تنظيم العلاقة بين المجتمع المدني والدولة التي تقوم على (أسطورة) العقد الاجتماعيّ، الذي بدوره يُجسّد الحريّة الجماعيّة المُعبّرة عن مصالح مجموع أفراد المجتمع. لذلك فان الدولة الحديثة تعمل على تطوير مؤسّسات المجتمع المدني باعتباره شبكة التنظيمات التطوّعيـّة الحرّة التي تملأ المجال العامّ، وتعمل على تحقيق المصالح الماديـّة والمعنويـّة لأفرادها والدفاع عن هذه المصالح، وذلك في إطار الالتزام بقيم المعايير والاحترام والتراضي والتسامح السياسي والفكري، والقبول بالتعدّديـّة والاختلاف.
أركان الديمقراطيـّة في الدولة الحديثة
ترتكز الديمقراطيـّة على أربعة أفكار:
1- الأساس الشعبي للحكم، الذي يجعل من الحاكم الممثـّل الطبيعي للجماعة وصاحب السلطة المستندة إلى الصالح العامّ، والمُستمدّة من قدرته على فرض نفسه، وفقاً للحقّ، ضدّ المصالح الفرديـّة.
2- العقد الاجتماعيّ, كأساس لبناء الدولة، باعتباره تجسيداً لحريـّة جماعيـّة ولتلاقي الإدارات الفرديـّة، ولا ينتظم إلاّ بتنسيق هذه الإدارات واجتماعها، وذلك من خلال تطبيق الميثاق الاجتماعي. وهو ليس عقداً بين أفراد ولا بين الأفراد والسلطان، وإنّما هو عقد ٌ يتّحد بموجبه كل واحد مع الكلّ. وينبثق عن هذه الإرادة الجماعيّة السلطان أو السيادة العامّة المُطلقة الغير قابلة للتجزئة والتي لا يمكن التصرّف بها. فهي لا تنتقل بالتوكيل وبالتالي فان نوّاب الشعب ليسوا ولا يستطيعون أن يكونوا ممثّليه -بحسب نظريّة روسّو- و إنّما هم مُجرّد مفوّضون. كما وأنّ العقد الاجتماعي يُعطي الجسم السياسيّ سلطة مُطلقة على جميع أتباعه.
3- رفعة القانون, الذي يُنظـّم الحياة السياسيّة والذي يعود أمر سنّه إلى الشعب بأكمله، أو إلى الشخص العام الذي يتحمّل تبعة الشعب. ولا يملك سلطة الإكراه إلاّ إذا عمل بواسطة القانون ولمصلحة الجماعة بأكملها.
4- التمثيل، وهو الإخراج السياسيّ للتعدّديّة، حيث تتحوّل الدولة إلى ساحة لتمثيل المجتمع المدنيّ، وحيث لا شرعيّة للحكّام إلاّ الشرعيـّة التمثيليّة التي تنجم عن الانتخاب. واقع الحال، أن منطق الدولة الحديثة، نتيجة لعوامل عديدة متداخلة ومُتشعّبة، قديمة ومُستجدّة، تتّسم مرجعية مزدوجة؛ فرداويّة من حيث طابع الدولة التحريري ومن حيث فكرة المواطنة؛ وطائفيّة نظراً لمفهوم شرعيّة الدولة أو لمفهوم سيادتها. نحن أمام صيغة من نظام الحريـّة لم يسبق لها مثيل، حيث تصبح التبعيّة مُنسجمة مع الحريّة، وتُعتبر ثمرة تلاقي الإرادات.
وتقوم فكرة التمثيل على مقولات الفرد المواطن والشخص العام خشية أن تصل الجماعة الاجتماعية إلى حال التشتّت والتّفتّت بين الأشخاص، خاصّة وأنّنا نعيش اليوم عصر الهويّات. فتحت راية الديمقراطيّة يجري إعادة تحديد اجتماعيّ للفرد، تـِبعاً لحقوقه أو مصالحه وتتحوّل المعتقدات إلى هويّات، والانتماءات والارتباطات إلى مكوّنات لهويّة فرديّة.
تنشأ هذه الهويّات من خلال توصّل الفرد إلى التحرّر من خصائصه الفرديّة وتعوّده اعتناق المفاهيم السائدة لدى الجماعة التي ينتمي إليها. لذلك ينتظم الفضاء الاجتماعي لهذه الهويـّات عن طريق الاختلاف، وفي الوقت نفسه، يكمن جوهر هذه الهويـّات في الانضواء داخل مجال تعدّدي. وذلك بهدف الوصول إلى إظهار واقع الجماعة من خلال وحدة إرادتها. وهذا يعني إبراز الفروقات وضمان رؤيتها داخل المجال العام.
العامل الدينيّ في الدولة الحديثة
إنّ التعدّديـّة الديمقراطيّة المدفوعة حتى النهاية، إلى نقطة تفقد عندها كل نزعة شموليـّة معناها، تؤدّي إلى تحويل الديانات إلى هويـّات، وتضعها في مصاف الثقافات بمعناها الأعمّ، أيّ مجموع أنماط السلوك المتوارثة اجتماعيّاً والفنون والمعتقدات والمؤسـّسات ومنتجات العمل الإنساني وسـِمة فكر شعب أو مجتمع ما. ترغب هذه الهويـّات الجديدة في اعتبارها من ضمن المجال العامّ بسبب هويـّتها الخاصّة بالذات. وترغب أيضاً في أن يتمّ الاعتراف بها على هذا الأساس. إنّ السلطة السياسيّة محمولة بشكل طبيعي على الاعتراف بهذه الهويّات المهتمـّة بحصولها على هذا الاعتراف. إذ من المستحيل اختزال المؤسـّسة الدينيّة إلى مُجرّد واحدة من القوى الاجتماعيّة، وذلك لكونها نظريـّات عامـّة في المعرفة وعقائد شاملة للنهايات، أيّ بالتحديد ما يستحيل على السياسة أن تؤمـّـنه بوسائلها الخاصـّة. لذلك ستسعى للبحث عنه خارجها. فطبقاً لتعريف الدولة، من غير الوارد على الإطلاق أن يتجسـّد فيها أيّ مفهوم عن الآخرة، لذلك هي بحاجة إلى مصادر عن الآخرة لا يمكن أن تأتي إلا ّ من خارجها، ويتوجـّب عليها أن تبقى خارج دائرتها.
يترافق هنا الخروج من الدين مع العودة إلى اكتشافه؛ إذ تلجأ الديمقراطيـّة إلى رفع شأن الديانات وإلى تمييزها عن باقي السلطات الأخلاقيـّة والروحيـّة. فهي تـُشدّد على الوظيفة المطلوب من الديانات تأديتها، وتنقذها من خطر اختزالها إلى مجرّد ثقافات. إنـّها تـُحيي فيها الجوهر عبر الدعوة العلنيـّة إلى الإصغاء إليها في غزارتها وفي عمقها الروحيـّين، والعودة بها إلى آفاق دنيويـّة بحتة مع الاستجابة التامـّة لأبعادها الدينيـّة.
حياد الدولة الحديثة الديمقراطي
يتوافق هذا الموقف مع الرؤية الديمقراطيـّة للسياسة الذي يقوم الخلاف بينها وبين الدّين ليس حول فحواه، وإنـّما حول ادّعائه الامتلاك الحصريّ للصواب. فمن الواضح أنّ النظام الديمقراطيّ للحكم يـُدار بقواعد أخلاقيـّة مُتجذرة في المعتقدات الدّينيـّة. غير أن نطاق المسائل الأخلاقيـّة تدخل في دائرة المجال الخاصّ، في حين أنّ المجال العامّ، أيّ الدولة، هو مجال مـُحايد. هذا الحياد الديمقراطيّ ما بين العلمنة المـُطلقة ومنظومات القـِيَم المؤسـّسة على الدِّين يؤدّي إلى انصهار الدِّين في الديمقراطيـّة، ويدفع بعدد كبير من المـُتديـّنين، الذين يطمحون إلى أن يكونوا مواطنين صالحين مع بقائهم مؤمنين مُخلصين، إلى الالتحاق بالركب الديمقراطيّ . هذه الصيغة اللاهوتية - السياسية، التي أتى بها مارسيل غوشيه، لا تمنع المواطن المتديّن من أن يستمرّ بتغذية الفكرة التي لديه عن علاقته مع الخالق. إنها تفصل ما بين المؤمن والمواطن، تغيّر وجه معنى الحريـّة، تمجّد دور الدولة وتعظـّم وظيفة المواطن.
العامل الاقتصادي في الدولة الحديثة
هناك تقارب مثير بين الشأنين السياسي والاقتصادي. ٳن كلّ مجتمع يتكوّن من قطاعات فرعيـّة: الاقتصادي، السياسي، الثقافي، الاجتماعي الهرميّ. ولا يمكن فهم الشأن الاقتصادي ٳلاّ من خلال علاقته بالقطاعات الأخرى. لذلك عرّف فرناند بروديل الاقتصاد الوطنيّ على أنه مساحة سياسية حوّلتها الدولة، بسبب ضرورات وإبداعات الحياة الماديـّة، إلى مساحة اقتصادية متجانسة موحّدة، حيث تستطيع النشاطات أن تمضي سويّة إلى الاتجاه نفسه.
ٳن الرأسمالية واقتصاد السوق قد نميا بالتوازي، منذ العصر الوسيط حتـّى أيـّامنا هذه. فمن الطبيعي ألاّ نفرّق بينهما. ولكن يجب أن يكون هناك استخدام سليم للمصطلحات. فقد حلـّت عبارة اقتصاد السوق مكان كلمة رأسمالية. ولم تعد عبارة الرأسمالية مستخدمة ٳلاّ بشكل مبتذل، يشير إلى كل اقتصاد توجد فيه مكانة مرموقة للسوق وللقطاع الخاص مماثلة لما تعرفه حالياً. حيث جرى وضع تنظيم الٳنتاج تحت السلطة المطلقة لأصحاب الرساميل، وحيث يـُوظـِّّف الرأسمال العمل لوضعه تحت سيطرته. يجب العمل على ٳعادة المعنى الموضوعي لعبارة الرأسمالية.
ٳن الدولة الحديثة لم تخترع الرأسمالية وٳنما ورثتها. والرأسمالية لا تسود ٳلاّ ٳذا تماثلت مع الدولة؛ ٳنها هي الدولة. وعلى الرغم من كونها امتيازاً بيد قلـّة فهي لا يمكن أن تستمرّ من دون تواطؤ المجتمع معها. وهي حـُكماً مـُقوّمٌ حقيقيّ من مقوّمات النظام الاجتماعي. وحتـّى النظام السياسي والواقع الحضاري. ولكن تكمن المسألة الأساسية في مواقعها إزاء المراتب الاجتماعية. لا شكّ أنّ الرأسمالية لم تخترع المراتب ولا السلالم الاجتماعية، لكنـّها استعملتها، كما أنها لم تخترع لا السوق ولا الاستهلاك. بمعنى آخر، أن مسألة التراتبيّة الاجتماعية والطبقيـّة تتجاوز التاريخ وتسبقه وتقوده مسبقاً، والمجتمعات الرأسمالية لم تلغِ للأسف نظام المراتب، وأبقت، بذلك على نظام التبعيّة. تـنتسب الرأسمالية، تطوّرها، ووسائل عملها، إلى التـّاريخ العام للبشريـّة. وتتأكـّد تحت تأثير اللامساواة. ولم يغيّر العالم في قوانينه إلاّ نادراً ولا يزال مستمرّاً بتوزيع نفسه بنيويـّاً بين مـُتمتـّعين بامتيازات وبين محرومين منها. غير أن كل مجتمع متطوّر في الدولة الحديثة يقبل وجود عدّة مراتب أو عدّة درجات، ويسمح للمرء بالتقدّم، من الدرجة السـّفلى، حيث يركد عامـّة الناس، صعوداً نحو مراتب سياسية، عسكرية ومالية مختلفة، في ظل معارضات، تسويات أو تحالفات، وفي بعض الأحيان يوجد غموض. ومن ناحية ثانية، أصبح قسم كبير من الرساميل يعود إلى صناديق التقاعد وإلى الصناديق الاستثماريّة المشتركة (Mutual funds) وليس إلى العائلات البورجوازيّة الكبرى. وقد أصبح للاشتراكيين واللّبراليـّين نفوذاً واسعاً في السياسة والثقافة. ولم يتوقّف الاقتصاد عن كونه رأسماليّاً.
وبعدما بسطت الرأسماليـّة سيطرتها على كلّ الأمم، لا شكّ أنها تغيـّرت بشكل مذهل وارتدت زيـّاً على قياس التبادلات في الأصول وفي الوسائل، فأصبحت الرأسمالية أقلّ ظلماً، وأكثر تحرّراً وأكثر احتراماً للكرامة الإنسانية، نتيجة للدّفع الديمقراطي المتواصل؛ الذي هو دفع نحو الحرية، نحو البحث عن حكم ذاتي، فهو يحمي دائماً حريّة التبادل في وجه محاولات الاحتكار والتسلـّط. ويمكن للدولة وحدها، من خلال تدخّلاتها القانونية والمالية والضريبية، تجنّـّب الفوضى والنشاطات الغير قانونية، وتفجّر الفوارق. وهي وحدها القادرة على التحسّب للأزمات المدمّرة والتغلـّب عليها. فبدون دولة لا قيمة للرأسمالية، والإقرار بذلك أمر لا يمكن تجاوزه.
الموجة الليبرالية
منذ ربع قرن تجري عملية ٳعادة تعريف للديمقراطية أسهمت إلى حد كبير في تفكيك الاشتراكية وتـقويض احتمال الحلّ الشيوعي للغز التاريخ وتخريب أمنية تشييد حكومة الذات الجماعية. كل ذلك جاء بعد سقوط حائط برلين وانهيار الاقتصاد المؤمّم، وبروز الرأسمال المتزايد، وانقلاب العالم من خلال ٳنجاز توحيده تحت شعار السوق. وحصل تطوّر شامل طال مسيرة الاقتصاد، وعمل الأنظمة السياسيّة وتنظيم المجتمعات. ٳنها الموجة الليبرالية الجديدة التي تتغذّى بثورة المعلوماتية والاتصالات، إزالة الحواجز مع رفع الرسوم الجمركيّة وحريـّة انتقال رؤوس الأموال والموارد البشريـّة، والاتـّساع في مصادر الموارد الاقتصاديّة. ممّا يؤدي إلى تأكيد الروابط المعقودة بالاتفاق، وتفشـّي موجة الشـّخصنة التي تشكـّـل واحدة من سمات العصر، وتوكيد الفردانية على حساب الأطر الجماعية، وضعف الآمال المعقودة على العمل السياسي، وضعف الثقة في السلطات العامة. ولم تسلم أيّة مؤسسة اجتماعية أو شريحة اجتماعية من آثار هذه الموجة. لقد تغلغلت في أعماق الذات البشرية وأدّت إلى تشويه مفهوم العدالة الاجتماعية مع تقدّم فكرة شرعية عدم المساواة.
لقد اجتاحت، أيضاً، هذه الموجة الفكر السياسي، وأدّت إلى تفكك الفكر الثوري، وإلى تبنـّي أشكال النظام التمثيليّ وقواعده، وإلى تكريس الديمقراطيـّة في النفوس والعادات، ولكن أحدثت تغييرات عميقة في الديمقراطية نفسها، فابتعدت عن كونها المـُعبّر عن الإرادة الموحّدة لمجموع المواطنين إلى الاهتمام بحقوق الفرد. وبدأ الاهتمام يزداد شيئاً فشيئاً بوسائل حماية الأقلـّيات أكثر من الاهتمام بوسائل حكم الأغلبيـّة. وانزلقنا تدريجيـّاً نحو ديمقراطية القانون والقاضي. وأصبحت قانونية الإجراءات تتقدّم على موضوع الشكوى. وانتقلت الأولويـّة إلى صـَون الحرّيات الشخصيـّة إزاء السلطة. وتقدم الجانب الليبرالي على الجانب التمثيلي في الديمقراطية.
الخلاصة
تقوم المواطنة في الدولة على التقاء العام مع الخاص. أمـّا المنطق الذي يُعمل به داخل المجتمع المدني المعاصر فيقوم على الانفصال. وهذا ما يؤدّي إلى نزع الإطار السياسي عن المجتمع المدني ويحوّله إلى مجتمع السوق. لا تتعلـّق المسألة بالسوق بصفته مؤسسة اقتصادية داخل المجتمع، وإنمـّا يتعلـّق الأمر فعليـّاً بمجتمع السوق، إذ، كما يقول مارسيل غوشـّيه، كيف يمكن تصوّر شكل العلاقات التي يمكن أن تنشأ بين عوامل كلـّها مستقلـّة بعضها عن البعض الآخر، وكلـّها مبنيّة على السعيّ من دون قيد إلى جنيّ المكاسب القصوى لصالحها، في ظلّ غياب تـنظيم مـُلزم باسم مصلحة الجميع ؟ إن هذا الأمر يتعدّى بكثير مستوى الاقتصاد وينسحب على كافة النشاطات، وضمن سائر قطاعات الحياة الاجتماعية.
إذا كانت الدولة تقوم على فكرة العقد الاجتماعي، وإن تكن فكرة أسطورية، فنحن ندعو إلى ضرورة قيام عقد اقتصادي تيمّناً بالعقد الاجتماعي. وكما أن العقد الاجتماعي يهدف إلى تكوين إرادة عامة سياسية يجب على العقد الاقتصادي أن يحقق أيضاً مصلحة عامة اقتصادية. نرجو في الختام أن تـُثير هذه المسألة اهتمام الباحثين بشكل عام، والاقتصاديين منهم بشكل خاص.
******************
الحواشي
*) باحث أكاديمي من لبنان.
- GAUCHET Marcel ; La religion dans la démocratie ;Gallimard, Paris, 1998.
- BRAUDEL Fernand ; La dynamique du Capitalisme ; Flammarion, Paris, 2002.
- BADIE Bertrand ; Les Deux Etats ; Pouvoir et société en Occident et en Terre d’Islam, Paris, Fayard, 1987.
- BARBIER Maurice ; La Laїcité ; Paris, L’Harmattan, 1995.
- BAUBEROT Jean ; Vers un nouveau Pacte Laїque ;Paris, Seuil, 1990.
- مارك فلورباييه, الرأسماليـّة أم الديمقراطيـّة، خيار القرن الواحد والعشرون، ترجمة عاطف المولى، الدار العربيـّة للعلوم، بيروت، ٢٠٠٧م.
- إبراهيم سعد الدين, الديمقراطيـّة، القاهرة، مركز دراسات التنمية السياسية والدولية، ١٩٩١م.
- ادوارد بيرنز، النظريـّات السياسيـّة في العالم المعاصر؛ دار الآداب، بيروت، ١٩٨٨م.
- جان توشار، تاريخ الفكر السياسي، الدار العالمية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ١٩٨١م.