من الوطن إلى الوطنيّة فالمُواطنيّة

من الوطن إلى الوطنيّة فالمُواطنيّة

فكتور الكِكّ*

1- الوطن في اللغة والمفهوم العام

الوطن -لغّةً- هو المنزل الذي تقيم به، والجمع أوطان. ومنه أوطان الغنم والبقر، أي مرابضها وأماكنها، التي تأوي إليها. تقول: وطن بالمكان وأوطن، أي أقام. وأوطن المهاجر أرض كذا، أي اتّخذها محلاً ومسكناً يقيم فيها. ومثله اتّطن واستوطن البلدَ، أي اتّخذه وطناً. هذه المعاني هي خلاصة ما جاء في المعاجم العربيّة(1). فالوطن -بمعنى أخص- هو منزل إقامة الإنسان وُلد فيه أو لم يولد. لكنّ جمهرة الناس المنتمين إلى وطن ما يتبادر إلى ذهنهم المعنيان معاً. على أنَ اشتهار أوطانٍ بالهجرة إليها، ولا سيّما في النصف الثاني من القرن العشرين، فصَلَ ما بين المعنيّين المتلازمين في المفهوم الكـلاسيكي الذي استقرّ في أذهان الناس، إذ إنّ موضوع التجنّس غداً مألوفاً ورائجاً، ولم يعد مستهجناً أن يتحوّل المرءُ إلى وطن لم يولد فيه، ويربط مصيره به لسبب أو لآخر.

أما الوطن الأوّل بمعنى المنزل والدار فمن أجمل ما قيل في وصف التعلّق به هذه الأبيات لشاعر العصر العبّاسي ابن الرومي (835-896م/221-383هــ):

ولي وطـــنٌ آليتُ ألاّ أبيعهُ وألا أرى غيري له –الدهرَ- مالكاً

عمرتُ به شرخَ الشباب منعَّماً بصحبة قـومٍ أصبحوا في ظلالكا

وحبّب أوطانَ الرجالِ إليهـمُ مآربُ قضّاها الشبــابُ هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكّرتـهم عهودُ الصّبــا فيها فحنّوا لذ لكا

فقد ألفته النفس حتى كـأنه لها جسد إنْ بــان غودر هالكاً

ما يجدر ذكره -إزاء أبيات ابن الرومي الجميلة هذه- أنّ موضوعها- وإن يكن محصور الأفق في الوطن/المنزل -انفرج عن معان تنطبق على موقف المرء الغنيّ بشعوره من الوطن في مفهومه الأشمل، أيّ البلاد التي ينتمي إليها. فالشاعر يعلِّل تمسكه النهائي بداره بالذكريات الحمية التي تربطه بها، وهي ذكريات عهد الصبا مع الأهل الذين غابوا في ضمير الزمان، وغطّتهم (ظلال) الدار! ثم ذكريات (مآرب) ذلك العهد الرائع من العمر التي استدعت (الحنين) إليه ماضياً صالحاً - على شيمة امرئ القيس، في يوم دارة جلجل - والأسى لانقضائه.

والروعة في هذا السياق الحافل بالذكريات العذبة أنّها احتملت إلى القلب إرثاً حميماً من الأسرة والأحبّة في إطار أجمل عهد من عهود العمر، حتى إنه تماهى ونفسَ الشاعر كما تتماهى النفس والجسد متآلفين. ففقدان الوطن كفقدان الجسد بالنسبة إلى النفس، أي أنّه النهاية المحتومة!

ولا نبالغ إذا قلنا: إنّ هذه الأبيات تنطوي على عناصر المفهوم الحديث للوطن -كما سنشرحها- ما عدا عنصراً واحداً هو تجاوز الماضي -المركوز فينا- إلى تنوّر المستقبل من خلال الإرادة الجماعيّة للجماعة الوطنيّة.

أما مفهومنا العام للوطن، مذ تبلور في الأعصر الحديثة، فيتناول الانتماء إلى بلاد بعينها تقوم فوق رقعة من الأرض، وتحمل اسماً له طابع الاستمرار.

هذا المفهوم العام للوطن ليس ببعيد عن المفهوم القديم له -سواء في الشرق أو في الغرب- على نسبيّة حدود الأوطان، بسبب الغزوات، والضمّ، والفرز، وقيام الإمبراطوريات، وانحلالها... إذ كان يقال مثلاً: بلاد الشام، أرض العراق، عراق العرب، عراق العجم، بلاد نَجد, بلاد المغول, بلاد جرمانيا...

إلاّ أنّ كلمة بلاد هنا كانت تحتمل -إلى جانب معنى الوطن- معنى الإقليم يؤلِّف وحدة في إطار وطن أكبر. وكثيراً ما كان وحدة إداريّة ضمن دولة. لكنّ معنى الوطن -وإن صغيراً أحياناً- كان يلازمها, لمجموعة مقوِّمات تربط بين أفرادها القاطنين فيها.

وقبل أن نتناول هذه المقوّمات, يحسن بنا أن نقف عند بعض القول في الوطن, كما ورد على لسان المُحدَثين, بعد ألف سنة من قول ابن الرومي في داره.

إذا كانت الدولة هي اتّحاد جماعة مدنيّة في وحدة سياسيّة وإداريّة وقانونيّة، تترجم في مؤسّسات تؤمّن لها الحياة أي الاستمرار, فما تكون الأمّة؟ إنّها أمر وراء الدولة, كما يقول التعبير الفلسفي, بمعنى أنّ ثمّة أموراً لا تؤدّي في حال توافرها إلى نشوء الأمّة, كالشروطِ المادّية والمعنويّة - الروحيّة التي تهيّئ وجودَها, واستمراريّة تقاليدها وطموحاتها. وهي أمور تجعل منها شخصيّة جماعيّة حيّة وباقية تميّزها مِن سائر الجماعات.

وهكذا تغدو الأمّة -بالنسبة إلى الأفراد منها- موضوع ارتباط وثيق بها وتعلّق بتراثها، يتحول إلى محبّة متجذِّرة في الذات, ثم إلى تفان في سبيلها قد يصل إلى بذل الذات لتحيا. فإذا بلغت ذواتنا هذا الحدّ من التحول المتسامي أفضت بنا الحال إلى ما يرمز إليه اسم الوطن.

2- في الاصطلاح

الوطن -في مفهومنا السياسي - الاجتماعي الحديث- هو المجال الجغرافي الذي يضمّ مجموعةً من الناس ألَّف بينهم تاريخ مشترك وإرادة في بناء مستقبل مشترك.

ويتجسّد ذلك في صيغة قانونيّة هي الدولة التي ينشئـونها معاً, في إطار من التشريع يحدّدُ الحقوق والواجبات التي للمواطنيين وعليهم.

ولرسوخ التاريخ المشترك وجه عاطفيّ هو الارتباط بالأرض, بسبب الولادة والنشوء والعمل فوق رقعتها. إذ يتحوّلُ ذلك إلى تمثُّّل طبيعتها في أعماق الذات الإنسانيّة, بحيث تغدو تضاريسها ومناظرها وألوانها وأنغامها جزءاً من كياننا يتماهى وتفكيرنا, ويتآلف وخيالنا, ويذوب في عاطفتنا؛ وفي المحصّل يبني شخصيّتنا الوطنيّة التي نمتاز بها من سائر الخلق في أوطانهم, في حين تجمعنا بهم النزعات الإنسانيّة التي تتعدّى حدودَ الأوطان وتتجاوز الأزمان.

هذه المعطيات تجعل من الوطن -بالنسبة إلى الإنسان- مجموعة ذكريات يتفاعل فيها المكان والزمان فيجعلان منها أغلى ما عندنا, وأوثق ما يربطنا بالأرض التي يقـوم عليها الوطن.

مِن هذا المنطلق كانت الاستماتة في الدفاع عن الوطن ضدَّ الغازي، والمعتدي، والطامع أو في سبيل قضيّة أو عقيدة, إذ إنَّ الأرض ذات الطبيعة الجميلة أو القبيحة غدت الإرث الذي احتملته في قلبها من الآباء والأجداد الأقربين والأولين, حياة مشتركة تحوّلت إلى ذاكرة جماعية هي أسُّ كياننا وجوهر إنسانيّتنا.

وهذا الموت الطوعي تعزّزه أمثلة شتّى من التاريخ, منها حالة جيره دوپره (Girey Dupré) الصحافي الجيروندي المشارك المناضل في صحيفة (الوطني) (Patriote) التي كان يرأس تحريرها بريسّو الشهير. أُوقف دوپره في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1793م في معرض الفترات التي بادر الثوريّون إلى تصفية بعضهم بعضاً, فحضر إلى المحكمة الثوريّة أنيق الهندام, نظيم شعر الرأس, وهو يردّ على الاتهامات بأمثلة مأثورة. ولما حُكم عليه بالإعدام واقتيد إلى المقصلة في عربة, أخذ ينشد أغنية استعمل الكسندر دوماس فيما بعد لازمتها:

C΄est le sort le plus beau, le plus digne d΄envie Mourons pour la patrie

أي: لنمتْ في سبيل الوطن, ذلك هو المصيرُ الأجمل, والأجدر بأن نُغبط عليه(2).

هذا الأمر يفسّرُ لنا عاطفة الحنين إلى الوطن لدى الذين اضطُروا إلـى مغادرته والهجرة إلى وطن آخر. إذ يشعر المهاجر بأنه خَلّفَ في وطنه الأوّل كلَّ ما ورث من تاريخ وجميع ما صنع من مآت. إنَّ الحياة ذاكرة واعية ولا واعية تتجدَّدُ باستمرار. وكلّ انقطاع لمسيرة هذه الذاكرة عن محيطها الطبيعي المرتبط بالمكان يُحدثُ اضطراباً وتحوُّلاً في حياة الإنسان, ويُفجِّر في كينونته عواطفَ متجسدةً سجّلتها آثـارُه عـبر عصور التاريخ. ومِن هذه الآثار شعر الحنين إلى الوطن في إنتاج شعراء المهجر من اللبنانيّين والسوريّين وسائر شعراء العالم؛ وكذلك نثر الناثرين, ولوحات الرسّامين, ومعزوات الموسيقيّين. وجميعها تراثٌ رائعُ الجمال يحكي قصّة الفردوس المفقود!

أولاً: المفهوم الواقعي للوطن

هذا -بإجمال وبساطة- هو مفهومُنا للوطن. إلاّ أنَّ الباحثيـن القدامى والمحدثيـن من الفلاسفة والمؤرّخين وعلماء الاجتماع والسياسة ومن سواهم لم يُجمعوا على العناصر التي تُكوّن الوطن واقعياً ومعنوياً, كما أنّهم اختلفوا حول أهميّة أحد العناصر بالنسبة إلى سواه.

الأرض

ففي حين تناول ابنُ خلدون, ثم من بعده مونتسكيو (Montesquieu )، وتين ( Taine), أهميّة أثر المناخ -أي الوسط الجغرافي- على المجتمعات الإنسانيّة, بشكل عام, انطلق ميشليه (Michelet) مِن هذا المعطى ليجعل من عنصر الأرض الأسّ الجوهري لقيام الوطن(3). وتابعه مِن مُفكّري فرنسا كميل جوليان (Camille Jullian) مشدّداً على ما أسماه روابط الإنسـان بالأرض الـتي يقيم عليها(4). ثم تجاوز باحثون آخرون ذلك إلى القول بضرورة وجود حدود طبيعيّة للوطن ترسم التخوم له في الأرض ذاتِها. ومع اعترافنا بأهميّة آراء هؤلاء الباحثين يمكِنُ تبيان صحّة النقيض لآرائهم بسهولة(5).

العِرق

ثََمَّة عنصر آخر يقوم عليه الوطن, في مفهوم دارسين آخرين, هو العِرق. فاستمرار غلبة العِرق في شعب ما يشكّل القاعدةََََ الأساسيَّة في نظر بعض البحّاثة مثل أوغستين تييري (Thierry) وغيزو (Guizot) وهنري مارتن (Martin). لقد رفعت الأنتروبولوجيا الاجتماعيّة مكانة العرق وصفاءه من الشوائب, التي أفسدت الشعوب الحديثة, إلى مرتبة مثاليّة(6). فسارع دعاة الوحدة الجرمانيّة العرقيّة إلى تبني هذه النظريّة, مستنتجين منها نـظـريّة تـفـوّق الجـرمانيين على سواهم من الأعراق, موقنيـن بأنّ صفاء العرق الآري استمر في ذريّتهـم. وكـان لذلك نتـائـج سياسيّة شتّى منها تبريرهم الاستيـلاء على مقاطعة الألزاس - لورّين الفرنسيّة, ثم تجييش هتلر للروح الجرمانيّة المناضلة المتفوقة التي تركت بصماتها الدامغة في الحرب العالميّة الثانية.

هـذا التيار شقّ طريقه إلى ساحة الأفكار الأوروبيّة نقيضاّ لما كانت أنجَزَتْه حضارة روما عندما حققّت الوحدة المعنويّة والثقافيّة للعالم المتمدّن الذي ضمّته تحت جناحيها، طوال القرون التي ساد خلالها حكمها الإمبراطـوريّ. كما خالف التيار الذي تعاظم سيله مع تعاليم البوذيّة والمسيحيّة والإسلام والذي نشـر روابط الأخوّة الإنسانيّة فيما بين الشعوب التي انضوت تحت لواء العقيدة الواحدة.

وفي هذا السياق, لابدّ من الاعتراف بأنّ انتشار المسيحيّة في العصور الوسطى صان مجتمعاتها من فكرة تفوّق شعب على آخر وعنصر على عنصر, وظلّت الحال على هذا المنوال حتى مطلع القرن السابع عشر، إذ عادت إلى الظهور بِخفرٍ مع مؤلّف لكامپا نيلا (Campanella) بعنوان المَلكيّة الأسبانيّة (Monarchia ispaniea). فقد زعم فيه أن عـصور التاريخ عرفت باستمرار تفوّق شعب على سواه, مستشهداً بتفوّق الآشوريّين واليونان والرومـان. وقد جاء العهد الذي توافرت فيه الهيمنة لمملكة أسبانيا. ثم انتهى في كتابه الثاني الموسوم مملكة الأمّة إلى القول بتفوق فرنسا على العالم المتمدّن والمسيحيّ (Monarchia delle nazioni). وقد تناغم فكر كامپانيلا مع مفكر أسباني آخر يدعى جان دولا پوينتي (Juan Dela Puente)(7).

إلاّ أنّ مفهوم الاختلاف العضوي بين الأعراق البشريّة والشعوب تَرسّــخَ في الأذهان خلال القرن التاسع عشر، وسلكَ طريقَه إلى القرن العشرين، حيث بلغ ذروته مع النازيّة وما داخلها. ويعود ذلك إلى طغيان الشعور الوطني، خلال القرن التاسع عشر وللنظريّات الفلسفيّة التي ادّعت كلّ منها اكتشاف المعيار القمين وحده بأن يحدّد مصائر المجتمعات البشرية.

بطبيعة الحال, هـذه النظريّة لا تصمد أمام النقد, إذ إنّ عهد اختلاط الأعراق قد حلَّ منذ آلاف السنيـن محـلّ ما هو مزعـوم من نقاوة العرق, في نزعتها اليوتوپيـّة المثاليّة. فالعرق والوطن مفهومان متضاربان.

اللغة

في هذا السياق نهض باحثون (وحدويّو) الاتجاه ليقابلوا نظريّة وحدة العرق بمقولة وحدة اللغة, أو -بعبارة أخرى- ليؤكدّوا أنّ وحدة اللغة هي العلامة الأكثر دلالة على سلامة العرق بنظرّيات علمي الأنتروبولوجيا (علم الإناسة)، وفقه اللغة المقارن ( comparėe Philologie)، محاوليـن تطبيق كلّ تلك النظرّيات في مجال السياسة. وهنا -كذلك- استغلّ الوحدويّون الجرمانيّون هذا العامل ليقولوا بجرمانيّة البلدان، التي تنطق باللهجات الألمانيّة. وكان الفيلسوف الألماني فيخته (Fichte)، قد أهرق حبراً غزيراً في تعزيز هذه المقولة(8). ثم إنّ العام (1837م) شهد نشر كتاب الفيلسوف الألماني هيغل, بعد وفاته, المعنون: فلسفة التاريخ ( enitalique)، وفيه قرّر هيغل أن الشعب الألماني مدعوّ إلى قيادة العالم إلى مرحلته الثالثة التي لا تكون الحرّية خلالها وقفاً على شخص أو طبقة اجتماعيّة, بل تنتقل إلى جميع الأفراد الذين يشكّلون المجتمع.

كذلك في النصف الأوّل من القرن التاسع عشر برزت دعوات مماثلة في إيطاليا حيث نشر جوبرتي (Gioberti) كتابه الرائد (Primato ) ناسباً إلى أمّته الأولويّة المعنويّة والحضاريّة, وماثله -في الفترة نفسِها- مازيني (Mazzini). ثم شاعت هذه الأفكار في أوروبّا.

ومن البديهي القول: إنّ اللغة -وإن تكن عاملاً مهمّاً في توحيد المشاعر وأساليب التفكير- ليست عاملاً لا يستغنى عنه في إقامة الأوطان. فقد تكون,ثمة, بلدان عدّة تتكلم اللغة ذاتها ولا تشكّل وطناً واحدًا ولا دولة واحدة, مثل أسبانيا، ودول أميركا الأسبانيّة اللغة, وإنكلترا وسائر الدول الناطقة بالإنكليزيّة في العالم. كما أنّ دولة مثل سويسرا تعترف بأربع لغات في إطار حدودها هذا, مع إقرارنا بأنّ اللغة تشكّل عاملاً مهماً في الحفاظ على القوميّة حيّة, وتوثيق الروابط بين الناطقين بها, كما هي الحال في البلدان العربية. ولنا دليل آخر على ذلك في دور اللغة الفارسيّة في إحياء القوميّة الإيرانيّة على يدي الفردوسي صاحب (الشاهنامه) ملحمة الفارسيّة العظمى. فقد أعلن فيها بوضوح قائلاّ ما ترجمته بالعربيّة (لقد عانيت آلاماً كثيرة خلال هذه السنوات الثلاثين, فأحييت العجم بهذه الفارسية)! وقد صدق, فالشعراء والمفكّرون رؤيويّون، يستشرفون مستقبل أُممهم ويستنهضون الهِمم لبعثها مِن رماد الأجيال.

مقوّمات سياسيّة واقتصاديّة

في مقابل العناصر المشار إليها أبرزَ المفكّرون والمؤرخون وعلماء الاجتماع وسواهم، مقوّمات سياسيّة واقتصاديّة رأوا فيها قوام الوطن وعماده. منها مثلاً في المجال السياسي, قيام حكم وطني ذي طابع استمراريّ كالإمارة أو المُلك. فمن شأن ذلك أن يوحّد الأرض والشعب حول سلطة سياسيّة مركزيّة. ويُقال مثل ذلك في المصالح الاقتصاديّة التي توثق عُرى العلاقات بين الجماعات من أفراد الشعب, ثم تتحوّل إلى ربطهم بمصير واحد وتتجسّد وجوه هذين العاملين في مؤسّسات سياسيّة واقتصاديّة تثبّت أركان المصالح وتصونها, ومن ثَم تبني الوطن والدولة.

ويمكن الردّ على هذه المقولات بالقول: إن تجليّات الحياة السياسيّة والاقتصاديّة هي التي تصوغ الأماني في إقامة نظام سياسي ومؤسّسات اقتصاديّة, فهذه –بالتالي- تعبير عن الحياة المشتركة الوطنيّة, لا مقوّمات لها.

ثانيًا: المفهوم المثالي للوطن

في مقابل النظريّات التي عرضنا لها رأت فئة أُخرى إلى الوطن على أنّه واقع معنوي أفضت إليه مجموعة مشتركة من الذكريات وإرادة مشتركة. وقد صاغ هذه النظريّة المفكّر الفرنسي إرنست رينان (Ernest Renan)، في محاضرة شهيرة بجامعة السوربون في 11 آذار 1882م, بعنوان ما الأمّة؟

الإرث الوطني وإرادة الحياة المشتركة

شدّد رينان على الماضي الوطني, وهو ما تحدّرَ إلينا من إرث غنيّ بالذكريات, ثم على ما أسماه التوافق الحاضر والرغبة في الحياة معاً, أي الإرادة في متابعة تفعيل الإرث المتحدّر إلينا(9), وفي حين أخذ التقليديّون بالنقطة الأولى, وهي الوقوف عند المحافظة على الإرث, رفض التطوّريون مقولتهم, كما أشار غوبلو (Goblot), مقرّرين أنّ الوطنيّة ليست في الاتجاه إلى الماضي الموروث وحسب, بل هي تتوجه نحو المستقبل, فليس علينا أن نحذو حذو الآباء في مآتيهم مكتفين بذلك؛ إذ إنهم أورثونا أخطاء بمقدار ما تركوا لنا من أمثلة نحتذيها(10). هكذا تضع النظريّة المثاليّة في المقام الأول إرادة العيش المشترك ومتابعة العمل الموروث المشترك. وبهذه المقولة وما يتفرع منها من آراء، نطلّ على مفهوم جديد للوطن والوطنيّة يقيم الأمّة على عناصر معنويّة وروح مشترك. أما هذا الروح المشترك فهو ليس معطىً نظريّاً بل إنّه حاصل التطوّر الاجتماعي الطويل الذي يصيب الأمّة عبر تاريخها.

وجدان جماعي

حيال ما تقدم, يتبدّى لنا أنّ الأمّة في إطار الوطن والدولة هي -قبل أي أمر آخر- وحدة مشاعر وإرادات, أو -بتعبير سوسيولوجي- وجدان جماعي. وهو شرط أساسي لقيام أيّة أمّة قياماً فعليّاً. قد يتوافر هذا الروح الجماعي, أحياناً, قبل انتظام عقد الدولة. كما قد يستمر بعد انفراط عقدها وتقطّع أوصالها. من هنا كانت القوميّة ظاهرة مستقلّة -إلى حدّ ما- عن الأمّة القائمة على النظام, على أنّها تسعى إلى التحقّق في إطار الأمّة.

إنّ الأمّة لا تتحقّق فعليّاً إلاّ بمقدار ما ينعقد الإجماع المعنوي -حرّاً وواعياً- في تماهٍ جماعي يُغيّب التفكير الفردي الأناني. وهكذا تنشأ بيننا وبين الوطن رابطة عضويّة من المودّة، تهيب بنا إلى بذل الذات في سبيله كلّما دعت الحاجة, لأنه يتماهى وكياننا في اتّحاد عاطفي.

هذا التوحّد يعلو المسالك إلى المحجّة والمذاهب المؤديّة إلى الحقّ. ولذلك يفتح الوطن ذراعيه لمختلف العائلات الروحيّة وشتى القيم. فهو الوسيلة المشتركة لغايات شتى, بل متباعدة.

إلاّ أنّ السبيل إلى بلوغ هذا الهدف ليس سهلاً؛ إذ ليس في مقدور شعب أن يدّعي إقامة أمّة إلاّ بعد أن يكون قد بلور -بصورة مستمرّة وحيويّة- إرادة جماعيّة في العيش المشترك، تجلّت في خلق الوظائف الضروريّة القمينة بجعله وطناً مميزاً, ذا ثقافة خاصّة به تمكّنه مِن أن يحكم نفسه بنفسه ويقيم المؤسّسات الضرورية لذلك.

وتجدر الإشارة ها هنا إلى أن الأمر لا ينتهي بالوجدان الجماعي عند هذا الهدف, وإن يكن سامياً؛ إذ إنّه -في مرحلة لاحقة- يسعى إلى تجاوز إطار الحياة الوطنيّة, فينكفئ مبدأ القوميّات إلى ما دون القيمة المطلقة. ففوق حقّ كلّ شعب في تقرير مصيره, يقوم حقّ منظومة الشعوب في الحياة بسلام!

في التراث العربي - الإسلامي

لم يحتمل موضوع الوطن -في التراث العربي- المعاني التي عرضنا لها في المفهوم الاصطلاحي له. كما أنّ مفاهيم الوطن والوطنيّة والدولة لم تكن موضوع درس وبحث -بالمعنى الحديث- إلاّ خلال قرننا هذا, ولا سيّما بعد سقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة وانحسار سلطتها عن ديار العرب, وقيام عهود الانتداب والاستعمار فيها, ثم عهود الاستقلال.

وكان سبق هذه الأحاديث تسرّبُ أفكار عهد التنوير في أوروبا والثورة الفرنسيّة إلى لبنان والشرق، على أيدي أدباء لبنان وسوريا ومصر, بوجه خاص في عصر النهضة, ممّنْ نشدوا الإصلاح والتغيير في بلدان المشرق المعروف اليوم بالشرق الأوسط. فمع هذه الأفكار العامّة حول الحريّة، والمساواة، وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، واختيار حكّامها, تسرّبت فكرة الوطن, بالمفهوم الحديث, والوطنيّة وما إليهما.

إلاّ أنّ (أدب) هذا الموضوع المهم يبقى نذراً يسيراً بالنسبة إلى (أدب) المفاهيم السياسيّة والاجتماعيّة العامّة، التي كانت تهم أيّة دولة، وأيّ مجتمع عربي أو غير عربي في الشرق الأوسط، مثل إيران وتركيا, نظير ما ذكرناه من شؤون الحريّة والمساواة وحقّ المرأة في التعلّم, وحقوق العمّال, وما إلى ذلك.

وإذا استثنينا الدعوات العامّة إلى استفاقة العرب من سباتهم بأصوات الشعراء والأدباء القليلين في عصر النهضة وأدب النهضة, من مثل الشيخ إبراهيم اليازجي, والاهتمام الشديد باللغة العربيّة، وإحياء تراثها في وجه موجة التتريك السياسيّة واللغويّة التي عاناها أسلافنا, فلا نجد -في أدب تلك الحقبة وصولاً حتى أيامنا- ما يذكر من أبحاث حول مفهوم الوطن والوطنيّة تشفي الغليل وترضي الفضول العلمي.

لذلك واجهتُ صعوبات كثيرة في التنقيب عن النصوص حول هذا الموضوع في تراث أدبائنا. أما النصوص ذات الطابع العاطفي فليست مما يدخل في دائرة اهتمامنا, هنا, إلا من باب المواقف والذكر.

ولا غرو من اقتصار بعض وجوه هذه المفاهيم على بعض الكتابات الحزبيّة، التي تناولت موضوع القوميّات, بعد أن عرفته أوروبا في القرن التاسع عشر, وأهرق حوله عند أهلها حبر كثير.

فتراثنا القديم لا ينطوي على المعاني المكوّنة لمفهوم الوطن. فالمعاجم العربيّة, على كثرتها, قديماً وحديثاً -لم تخرج- في تعريفها كلمة الوطن, عن معنى المنزل (من النزول في مقابل الترحال, سنّة البداوة)، والمُقام.

ولما كانت أوطان عرب الجاهليّة، على ظهورهم وفوق مطاياهم, بسبب قحط بلادهم وسنّة الحياة الناتجة عنه, فقد كان من الطبيعي ألاّ يكون للوطن في حياتهم وشعرهم شأن كبير. أمّا الذين استقروا منهم في مجتمعات حضريّة تجاريّة مثل مكّة ويثرب, أو زراعيّة كما في اليمن وبعض الواحات, فلم يكن الوطن همّهم الأكبر بل تأمين عيشهم في محيطاتهم القاسية.

زد على ذلك أنّ العصبيّات القبليّة (داخل العرق الواحد كما يقول المحدثون)، هي التي شغلتهم, لا على المستوى الضيّق وحسب, بل على المستوى الواسع, إذ انقسمت العرب بين عدنانيّة وقحطانيّة. وكان لهذا الانقسام عواقب وخيمة, كما في الانقسامات الصغرى, في نشوب الحروب والنزاعات المستمرّة بين العرب. وقد استمرّت هذه الحال قرونا, حتى بعد قيام الدولة العربيّة - الإسلاميّة, فنجد أصداء النزاعات القحطانيّة - العدنانيّة في أدب العصر العباسي، الذي عمّر بضعة قرون.

كذلك, تنازعت جزيرة العرب قبل الإسلام, معتقدات دينيّة مختلفة توزّعت قبائلها من مسيحيّة ويهوديّة وشرك ومجوسيّة.

هذه العوامل الطبيعيّة والاجتماعيّة والعقديّة ومتفرعاتها حالت دون توحّد عرب الجزيرة في مستوى الحدّ الأدنى من الوحدة في وطن ما, ولو صغيراً.

أما الإسلام الذي وحّد عقيدة العرب الدينيّة، وأخرجهم أمّة للناس في إطار الأمّة الإسلاميّة, فلقد آخى بين المسلمين, لا فرق في الديار التي ينتسبون إليها, وأقام من العقيدة الإسلاميّة سدى المسلمين ولحمتهم.

ثم قامت الدولة الإسلاميّة في عهد الخلفاء الراشدين، فالأمويين، والعباسيين, وانصرف العرب إلى الفتوح يوحّدون بها الممالك والإمبراطوريات القديمة، في إطار دولة الخلافة ناسخين (الأوطان) القائمة لتدخل في سلطة خليفة الله.

هكذا قسم العالم -في المفهوم الإسلامي- شطرين: دار الإسلام حيث حَكَمَ الإسلام, ودار الحرب حيث حكم الأغيار والكفّار.

بهذا أصبح وطن المسلم غير مرتبط بأرض ولا بعرق ولا بلغة -وإن رجحت العربيّة, لغة التنزيل- ولا بسواها؛ بل هناك وطن واحد هو دار الإسلام. أما الحدود فدار الحرب.

لذلك كنت ترى الناس ينتقلون في دار الإسلام من أرض إلى أرض ومن ناحية إلى ناحية, ومن بلاد إلى بلاد, من دون أيّ عائق قانوني, ومن دون التوقف أمام حدود وطن أو دولة. كان هذا شأن التجارة بسلعها الكثيرة والإنتاج الزراعي. وكان هذا, أيضاً شأن الأفراد, حبّاً بالتنقل والسفر والإطلاع, وجرياً وراء التكسّب في (حضرات) الأمراء والوزراء وأهل البيوتات العريقة. ولم تتغير الحال يوم تصدّعت وحدة الدولة وبرزت دويلات هنا وهناك، خلال القرن العاشر للميلاد وبعده, بل ازداد السفر وتضاعف الأدباء والشعراء السيّارون الضاربون في الآفاق(11).

أما نموذج هؤلاء فبديع الزمان الهمذاني صاحب المقامات الشهيرة باسمه. فهو يقول بلسان بطل مقاماته أبي الفتح الاسكندري:

إسكندريّة داري لو قرّ فيها قراري

لكنَّ ليلي بنجدٍ وبالحجازِ نهاري(12)

مِن وجه آخر للوضع الذي قام على هذه الشاكلة من التنظيم, نقول إنّ الأمّة والدولة تماهيا في مفهوم واحد, بعبارة أخرى الوطن والدولة.

في هذا الإطار, لم تكن الدولة -أو الإمبراطوريّة كما يقال أحياناً- مجموعة أوطان, بل غدت السلطة المركزيّة في الخلافة هي عماد الحكم وملاكه, ولا حكم سواها في الأقاليم القريبة والبعيدة إلا للعمّال، بتفويض من المركز وباسمه وبالتبعيّة المطلقة له.

في مثل هذه الحال, لم يبق للوطن من معنى ولا من مبرّر. وهكذا غاب أدب الوطن والوطنيّة عن مضمون التراث العربي والإسلامي، ليتوزع عصبيّات مستجدّة كالعصبيّة الضيّقة لناحية من النواحي, أو لمدينة من المدن, كانت تختلط فيها العواطف العرقيّة المذهبيّة والعادات والتقاليد الغالبة هنا وهناك. وكما تماهت الأمّة والدولة, تماهى الوطن والدولة. فمنذ القرن التاسع بدأت وحدة الدولة الإسلاميّة تتصدّع, وشرعت الأقاليم تتمرَد وتستقل, بعد أن تراكمت النزاعات العرقيَة متلوّنة بألوان مذهبيّة، وموارد لغويّة. فثمَّة صراع عربيّ -فارسيّ- تركيّ تقاسم النفوذ في الحكم, تباعاً, مداورة, أو مباشرة, مع التظاهر بالحفاظ على الرموز المقدَسة.

وثمَة صراع لغوي تجسّد في نهضة اللغة الفارسيَة قي القرن الرابع للهجرة / العاشر للميلاد, ثمَ بعض بروز لفروع من شجرة التركيِّة المتكَثَرة لغات ولهجات ...

ولم يختلف الأمر بعد أن انقضَّ المغول على بغداد وخرَبوها تخريباً لم يعرفه التاريخ, مدمَرين عمران الشرق كلَه من آسيا الوسطى حتى آسيا الصغرى. فجميع الدول التي قامت بعدئذ حتى الحكم العثماني -الذي أقام امبراطوريَة واسعة الأرجاء، واستمرَت حتى بدايات القرن العشرين- ذاب فيها مفهوم الوطن في مفهوم الدولة أو السلطنة. وليس من قبيل الصدفة أنَ كلمة (مملكت) ذات الأصل العربي غدت في الفارسيَّة والتركيَّة وسواهما من لغات الشعوب الإسلاميَّة مرادفاً لكلمة بلاد أو وطن حتى أيَامنا. فالوطن يعني الحكم القائم, أيَّا كان نوعه، وفي أيّ بلاد أو بلدان يستقرّ.

والجدير بالذكر أنَّ هذه المفاهيم جميعاً اختلطت في أثناء الحكم العثماني الذي نحا -إلى حدّ كبير- منحى الخلافة العربيّة الإسلاميّة, ولاسيَّما في أواخر أيَامه التي قارنت عصر النهضة في ديار العرب الشرقيَّة الداخلة اليوم في ما سُمِّي الشرق الأوسط. فالوطن، والدولة، والأمّة، والقوميّة وما إليها من المفاهيم اختلطت حتى في أذهان أدبائنا (وأقصد بهم الأدباء بالمفهوم الشامل من كتّاب وشعراء ومؤرَخين ومفكّرين...)، فقاموا بمحاولات توفيقيّة بين القوميّة والسلطنة العثمانيّة أو الخلافة بالمفهوم العام, كما عالجوا الانتماء السياسي والقومي من وجهات نظر تأليفيّة, أحياناً, فكان لا بدّ من أن تتصرّم عدّة عقود من القرن العشرين كي تتَّضح المفاهيم وتصفو الأفكار فتتحرّر من الاختلاط.

الوطنيّة

إنّ التعلّق بالوطن -في المفهوم الواقعي التقليدي أو المفهوم المعنوي الدينامي- يؤدّي بأصحابه إلى ما تعارف عليه الناس بمصطلح الوطنيّة. ويمكن في هذا السياق, استعمال مصطلح القوميّة. إذ إنّ بعض الفئات الوطنيّة والمفكّرين المنظّرين تجاوزوا المفهوم الواقعي للوطن, بل القيم المعنويّة، التي يقوم عليها، إلى اعتباره مفهوماً ذا قيمة مطلقة. وهكذا جعلوا منه قيمة فوق القيم, ومؤسّسة ثابتة لا يعروها التبدّل أو التحوّل. إنّه (الأرض والأموات) بحسب تعبير الكاتب القصاص موريس بارّس: الوطن يعلو كلّ شيء, حتى قيم العدالة والحقيقة والعقل, إذ إنّ وجودها الكياني لا يقوم على صفة الثبات. كما أنّ الانسان المجرّد - إنسان العقائد المضّللة التي ابتدعتها ثورة (1789م)، المعزول عن محيطه وتقاليده -ليس- في حال الإقرار بإمكان وجوده - سوى إنسان مجتث الجذور(13).

وهكذا يكون الوطن مؤسّسة لا تتغيّر, ثابتة لا يعروها فساد, بالمعنى الفلسفي. إنّها اليوم, عين ما كانت بالأمس....

بطبيعة الحال, إنّنا لا نُقرّ دعاة الوطنيّة والقوميّة على رأيهم هذا النابع من نظرة ضيّقة غارقة في الثبات الجامد, لأنّه -ببساطة- نقيض الحياة. فالحياة تحوّلٌ مستمرّ, بطبيعتها, ولا يستطيع المرء أن يعيَ تحوّلها إلاّ بعد حين, لأنّه يبدو للعيان ويتبدّى للفكر, بعد تراكمه. فالوطن - في تلوّنه الواقعي ونضج القيم المرتبطة به, واقع نعترف به, لكنّه - كما فهمه القوميّون المتطرّفون- واقع ضيّق وغير دينامي, وبالتالي بعيد عن الواقع الحيّ. فقد رأينا أنّ الوطن لا يتكوّن على قاعدتي الأرض والعرق, كما أنّه لا يقوم على الإرث المتحدّر إلينا من الأجداد وتحوّله إلى طقوس وشعائر نمارسها, موقنين أنّنا بذلك نمارس وطنيّتنا. فالوطن حقيقة واقعة, لكّنها حقيقة حيّة, يتحوّل مفهومها بتحوّل حياة المواطنين وتطوّر مفاهيمهم بالنسبة إلى الطبيعة والحياة والكون, والقيم التي تعلو ذلك. تبعاً لمتغيّرات الطبيعة والمجتمعات في مختلف شؤون حياتها. وقد لاحظنا أنّ الوطن, بالنسبة إلى العرب والمسلمين من الشعوب المختلفة - كان مفهوماً مغايراً لمفهوم شعوب أوروبا, ولمفهوم القارة الأميركيّة, ولاسيّما كندا والولايات المتحدة الأميركيّة, وبخاصّة خلال القرن المنصرم وقرننا الناشئ.

ثم إنّنا إذا رفعنا الوطن فوق كلّ شيء انتهى بنا الأمر إلى عقيدة خطرة على الصعيد الأخلاقي تؤدّي بنا إلى تبرير (حقّ الدولة) في كلّ شيء. وهومبدأ خطر على الأفراد والجماعات؛ لأنّه ينفي حقها والحقّ في المطلق, كما أنّه يتفانى ووقائع الحياة بملابساتها المتكثّرة.

من جهة أخرى, إنّ المفهوم المتطرّف للوطنيّة والوطن هذا ينتقص إنسانيّة الإنسان لأنّه يعرض علاقات الأوطان بعضها ببعض للخطر, ويجعل من قيم العدالة والحقّ والعقلانيّة وسواها قيماً وطنيّة, في حين أنّ تطوّر البشريّة إتجه في الخطّ المعاكس, بتسامي الوطني والمحلي إلى العام والإنساني.

كما أنّ هذه النظريّة القوميّة هي التي كانت في أصل الحروب القوميّة المدفوعة بالنزعة العرقيّة، والقول بتفوّق عرق على آخر ولون على آخر, وحضارة على أخرى.

إنّ شموليّة التفكير السليم - أي عدم اقتصاره على فرد من الأفراد أو أمّة من الأمم أو شعب من الشعوب, بحسب ما علّم دكارت أبو الفلسفة الحديثة(14), ووفاق ما اختبرناه في توالي حضارات الأمم التي لم تختصّ بأمّة دون سواها أو شعب دون غيره, يجعل من مقولة القوميين المتطرفين مقولة ساقطة تتهافت أمام مسيرة التاريخ.

فالوطن يقوم على العناصر الماديّة والمعنويّة - الروحيّة التي فصّلنا, إضافةً إلى عنصر دينامي يعلوها جميعاً, منبثق من روحها جميعاً, هو عنصر الإرادة الجماعيّة في العيش المشترك وصنع المصير المشترك بقيم وطنيّة - إنسانيّة شموليّة. ولا يمكن أن تتجسّدَ هذه الإرادة الجماعيّة -وهي محصّل وجدان الأمّة الجماعي- إلاّ في مجتمع ديمقراطي البنيّة وفي إطار دولة ذات نظام ديمقراطي يضمن حقوق المواطنين ويترسخ بفضل قيامهم بواجباتهم نحوه والتزاماتهم تجاه الأمّة أي إتجاه بعضهم بعضاّ.

بهذا المعنى الشامل والمفرع يمكننا القول إنّ الوطن عهد وميثاق, أو, بعبارة أوضح, عقد فعهد فميثاق سُداه ولحمته الديمقراطيّة.

مِن هنا, كانت الوطنيّة مرتبطة بالديمقراطيّة, بمعنى أنّ الوطنيّة الواعية والمخلصة ذات البعدين: العاطفي والفكري، تحتاج إلى مناخ اجتماعي وسلطوي ديمقراطي كي تتفتّح وتتحقّق وتستمرّ, وإلا بقيت نزعة عاطفيّة عابرة تظهر في ظروف معيّنة ثم تختفي. فالمواطن لا يمكنه أن يكون وطنيّاً, بالمعنى الواقعي, إلاّ إذا ضَمِنَ له الوطن حقوقه في المساواة والعدالة الاجتماعيّة والحريّة وسواها من مقوّمات الديمقراطيّة. فالديمقراطيّة تشعره بأنّه عضو فعّال في المجتمع, ومشارك في مقرّرات الدولة. عندئذ يتماهى ومجتمعه, ويتوحّد ودولته, فيصير منها وتصير منه. هذه هي الوطنيّة السليمة الجديرة باسمها.

إنّ الأمم التي حقّقت عظمتها القوميّة في السياسة والاقتصاد والثقافة وسائر ميادين الحياة هي التي توافرت فيها الوطنيّة. لأنّ جميع مواطنيها عبّأوا طاقاتهم,طوعاً, في سبيلها, من خلال تعبئتها في سبيل أنفسهم, فتآلفت الأثرة والغيريّة لديهم تآلفاً طبيعياً من خلال الآلية الديمقراطيّة.

المواطنيّة

هذا التماهي بين أعضاء المجتمع في وطن واحد وتوحّدُهم والدولة بمشاركتهم في مقرّراتها يشكّل عماد المواطنيّة. المواطنيّة تتويج لمفهوم الوطنيّة, كما فصّلناه. وهي مصطلح حديث, نسبيّاً, وفد علينا من الغرب. ولست أعرف له استعمالاً قبل الثورة الفرنسيّة، التي ساوت بين أفراد الشعب غبّ إلغاء نظام الطبقات. فقد أخذ الثوريّون الفرنسيّون يخاطب بعضهم بعضا بهذا اللفظ (citoyen )، أي منقلبين على مفهوم الرعية (sujets)، في مقابل الملك, تدليلاً على اشتراكهم في العيش في المدينة الواحدة وتوسعاً في الوطن الواحد, من دون تمايز في الحقوق والواجبات. ثمّ أخذ هذا المصطلح يظهر في كتابتهم الصحافيّة والأدبيّة. ومثال ذلك استعمال مصطلح مواطن ومواطنين في تبويب جريدة اسمها جورنال - فودوفيل, حيث يتوجّه المرشّح الثاني بقوله: أيّها المواطنون, هل تريدون إنقاذ فرنسا؟ إختاروني. أعدكم بهذا وذاك...وكذلك, يتكرّر استعمال هذا المصطلح على لسان المرشّح الثالث(15). بيد أن ّمصطلح المواطنيّة, وهو نسبة اتّصاف إلى المواطن, أحدث من مصطلح المواطن. وقد تتبّعت مؤلّفات أدبائنا ومفكّرينا في عصر النهضة الحديثة - وهي التي سرّبت إلينا أفكاراً ومفاهيم ومصطلحات حديثة - فلم أقف على هذين المصطلحين. لقد استعمل رجالات النهضة وسيّداتها مصطلحات مستحدثة من مثل: الوطن - الوطنيّة - الأمّة – القوميّة - الحرّية - المساواة أو حالة الاستواء - حالة الصالح العام؛ إلاّ أنّهم, على حدّ اطّلاعي, لم يستعملوا مصطلحي المواطن والمواطنيّة(16).

ولربّما ماهو بين الوطنيّة والمواطنيّة, أحيانا. ولا غرو, فمصطلح المواطنيّة (Citoyenneté, Citizenship) في المفهوم السياسي - الحقوقي مستحدث لم يدخل معاجم اللغات الغربيّة إلاّ منذ سنوات.

وقبل أن نتناول مضمون هذا المفهوم, يجدر بنا منهجيّاً العودة إلى اللغة نستنطقها جذر المعنى, بعيداً عن التنظير الكيفيّ. فاللغة معيار الفهم كما أنّ المنطق معيار الفكر, وهي ركن العلوم الموصلة.

لنبدأ بالوطن، فالجذر الثلاثي هنا هو: وطَنَ المكان وأوطن, أي أقام, ومثله اتّطن واستوطن. فالوطن هو منزل إقامة الانسان, ولد فيه أم لم يولد(17). أمّا واطن فتعني شارك في المنزل والإقامة والوطن. واطن فلاناً أي شاركه العيش في المكان. فوزن فاعل يفيد المشاركة. فالمواطن هو اسم الفاعل من فعل واطن, والمواطنيّة نسبة اتّصاف من إسم الفاعل مواطن. وهكذا تعني المواطنيّة في معناها اللغويّ الأصيل مشاركة في العيش معاً, وتالياً، في مسؤوليّات هذا العيش, وبذلك تكتسب المواطنيّة -من البدء- معنى اجتماعيّاً يتجاوز الأرض والتعلّق بها إلى الإنسان المنسوبة إليه. بذلك يرتقي المحور من الأرض إلى الإنسان, كما يرتقي مسلك الفرد الانتمائي طبيعيّاً إلى فعل إرادة بناء صرح اجتماعي يقوم على روابط اجتماعيّة يرعاها نظام سياسيّ مسؤول عن إدارة الشأن العام أو الصالح العام (Le Bien Commun)،كما أسماه فرنسيس المرّاش، المتوفى في مطلع العقد الأخير من القرن التاسع عشر، (1836-1873).

بانتقال المضمون من الموضوع إلى المحمول تتحوّل الوطنيّة إلى هيكليّة حقوقيّة توزّع المسؤوليّة السياسيّة بين الهيئة الحاكمة والمواطنين المسؤولين حكماً عن المشاركة في الشأن العام, بالرقابة واقتراح الحلول والمحاسبة.

ولا يقتصر دور المواطنيّة على هذه المشاركة, بل يتجاوز ذلك إلى تعزيز أداء الديمقراطيّة بمواكبتها التطوّرات المستجدّة؛ إذ إنّ الديمقراطيّة لا تتشكّل من مفاهيم وقوانين جامدة, بل هي ممارسة حيّة تواكب مسار الأحداث. وهي لا تمارس إلاّ في المجتمعات التي يسودها السلم الأهلي الذي يحول دون إضعاف الدولة وبروز الديكتاتوريّة.

كما تشمل مسؤوليّة المواطنيّة المشاركة في إنماء اقتصاد الإنتاج الوطنيّ وتنمية الموارد الإنسانيّة (Human Resources ) التي تشكّل قاعدته.

ومن الأسباب التي حالت دون نضج مفهوم المواطنيّة ودورها الفاعل في بناء المجتمع والدولة: أنّ برامجنا التعليميّة قامت على أسس تلقينيّة تقليديّة، أخذت بمعايير غير صالحة لمجتمعنا الديمقراطيّ واهتماماته. فقد أخذنا في مجال تدريس الأدب, مثلاً بمعايير ابن سلام في فحولة الشعراء, وهو معيار لغوي بدوي غابت عنه إنسانيّة الإنسان. من هنا أسارع إلى القول: إنّنا في موازاة تركيزنا على التنشئة على الديمقراطيّة بتشديدنا على التربية المدنيّة, ينبغي لنا أن نشدّد على قراءة جديدة لتراثنا العربيّ من منظار إنساني فنختار منه النصوص، التي تعمر بالقيم الإنسانيّة الشاملة، التي بنيت عليها الديمقراطيّة، مثل التعاون الاجتماعي والحريّة والعدالة، وقبول الآخر واحترام الشأن العام، وسوى ذلك. وهي متوافرة في تراثنا القديم, ولاسيّما في ميراث عصر النهضة الحديثة(18). من ناحية أخرى درجنا في تدريسنا تاريخ لبنان, وكذلك التاريخ العربي, على تدريس تاريخ الحكّام وصراعاتهم وفتوحاتهم. ولم ندرّس تاريخ الأرض. أي الوطن والناس الذين احتضنهم في حياتنا الاجتماعية, لقد آن الأوان كي نكتب من جديد تاريخ الشعب اللبناني في حياته الاجتماعيّة الاقتصاديّة الفكريّة، وأن نعلّمه ناشئتنا ليستشعروا انتماءهم إلى كلّ شبر من تراب بلدانهم، وإلى تراث فكريّ إبداعيّ عريق، يعود إلى آلاف السنين. وقد استمرّ رغم خروج الأمر من أيدينا, يراوح بين ثبات ويقظة إلى أن جاءت النهضة الحديثة، وبعدها مسؤوليّة الاستقلال، وبناء الوطن والوطنيّة والمواطنيّة من جديد.

**************

الحواشي

*) باحث من لبنان.

1- راجع, لسان العرب, مادة وطن.

2- جاء في الجزء الثاني من زهر الآداب للحصري القيرواني، تحقيق: علي محمد البيجاوي, عيسى البابي الحلبي وشركاه, ط 2 , 1969م, ص681-682 : (قالوا: وكان الناس يتشوّقون إلى أوطانهم ولا يفهمون العلّة في ذلك حتى أوضحها عليّ بن العباس الرومي، في قصيدة لسليمان بن عبد الله بن طاهر، يستعديه على رجل من التجار يعرف بابن أبي كامل، أجبره على بيع داره واغتصابه بعض جدرها, بقوله: الأبيـات).

3- راجع: Anthologie du Journalisme, Paris, Collection Pallas, 1849, p.31

4- يقول ميشليه: (من دون قاعدة جغرافية, يبدو لي الشعب, المحرك التاريخي, وكأنه يمشي في الهواء, كما في الرسوم الصينية حيث تغلب الأرض, واعلموا أن هذه الأرض ليست مسرح الحركة وحسب. إنها, عبر الغذاء والمناخ وسواهما, تخلّف أثرها فيه بألف وسيلة؛ كما العشّ, كذلك العصفور. راجع مقدمة كتابه تاريخ فرنسا (Histoire de France-28vol), طبعة 1869م.

5- كتب جوليان مقررا (إنّ لاستصلاح غابة كبيرة وتجفيف مستنقع رحب, في مصائر المجتمعات, الأهميّة ذاتها التي لثورة سياسيّة أو رائعة أدبيّة). يراجع كتابه تاريخ بلاد الغال (Histoire de la Gaule)،ج 1, ص :4.

6- في المراحل الأولى لنشوء المجتمعات، ارتكزت وحدة المجتمع على مقوّمات معنويّة روحيّة. ولم يتحيّز استقرار هذه المجتمعات فوق أرض ما سوى في مراحل متأخرة. فتأثير الطبيعة على الإنسان ليس بالمقدار المبالغ فيـه في كتابات بعض العلماء, إذ لطالما غيّر الإنسان وجه الكون بما يتلاءم ورغباته وحاجاته. أما الحواجز الطبيعيّة فلطالما شكّلت عامل تلاق بين الشعوب في مجالات التجارة, ولاسيّما الأنهر والبحار والجبال، التي اعتبرت حواجز طبيعيّة...

7- راجع كتاب غوبينو 1853-1855م في عدم المساواة بين الأعراق البشرية، De Gobineau:Essai sur l΄inégalitė des races Humaines وكتابه :Pages choisies, Mercure de France, Paris:1905,p.184 et suiv ومؤلف Les Aryens: Vacher de Lapouge (فاشيه دولا پـوج / الآريّون).

8- راجع David Ogg, L΄Europe du XVlle siėcle, Payot, Paris, 1932, chapitre IX, p. 396

9- رأى فيخته Fichte في اللغة الأم الدليل الدامغ على العرق، لفيخته (1762-1814) مؤلفات كثيرة, بينها: مقولة إلى الأمّة الألمانيّة,1808م Discours à la Nation allemande,محاولاً بذلك رفع معنويّات الألمان بعد هزيمتهم في معركة ييناIena وانسحاق بروسيا أمام جيوش نابليون في أواخر عام 1806م ومطلع عام 1807م.

10- راجع كتابه :Discours et Confĕrencės , Paris, 1887,(خطب ومحاضرات) ص306 فما بعد.

11- يقول غوبلو ((تغذية) الحلمٍٍٍٍٍٍ بأزمنة جديدة يضارع في الوطنيّة وفاء مشوباً بالخرافات لطقوس وشؤون طواها الزمان). راجع (المجلة الجامعية)Revue Universitaire, دورة 1907م, الجزء الثاني, ص401, وما يليها.

12- راجع كتاب فكتور الكك، بديعات الزمان, بيروت، المطبعة الكاثوليكية,1961م, ص 24-25 وص57. وكذلك الثعالبي، يتيمة الدهر, القاهرة، مطبعة الصاوي, 1934م, ج 4, ص 391 فما بعد.

13- بديع الزمان الهمذاني، المقامات, شرح الإمام محمد عبده, ط 4, بيروت، المطبعة الكاثوليكية, 1957م, ص203.

14- Scènes et doctrines du Nationalisme, Maurice Barrės, ص 88. راجع, كذلك, روايات بارّيس (1862-1923)، المجتثّو الجذور (1897) Les Deracinés, استغاثة الجندي L΄appel au soldat وسواهما.

15- راجع دِكارت Descartes في كتابه الشهير، مقالة في المنهج Discours de la mėthode, باريس، مكتبة لاروس, 1992م,ص 28 (بالفرنسية).

16- Anthologie du Journalisme, pp. 448-449 (Journal-Vaudeville)

17- راجع:

Victor El Kik, "La Rėvolution Française:et la Renaissance arabe moderne" in France – Pays Arabes, Quel Avenir?, Publications de l`Universitė de Bordeaux 3, 2007, pp 25-26.

18- راجع ص1 من بحثنا هذا في الوطن, مادة وطن.

19- فكتور الكك، (قراءة جديدة للتراث العربي في سبيل إنسان جديد, برامجنا التعليميّة تعزز الفرديّة وعبادة الفرد وإقصاء الآخر), صوت داهش، نيويورك، س 11,ع 2, خريف 2005م, ص 29-39.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=465

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك