سبينوزا: انفعالات الحزن والفرح

يونس امهاضر

 

(1)

 

عندما يلاقي جسم مّا جسما آخر، أو فكرة أخرى، فإنّ ما يحدث حينها هو أنّ هذا التّلاقي بين النّظامين قد يخلق تركيبا فيما بين العنصرين ليكَوِّنا كُلاً أكثر قوّة[1]. وقد يحدث عند تلاقي هذين الجسمين علاقة تفكّك وانحلال أجزائه. وهذا هو الأروع والجدير بالانتباه في الجسم، كما في مكوّناته، أي مجموع هذه الأجزاء الجسميّة الّتي تتكوّن وتنحلّ تبعا لقوانين متداخلة. وفي هذه الحالة الثّانية يلتقي الجسم جسما لا تتركّب علاقته مع علاقة. وهو لا يوافق طبيعته، أي أنّه رديء أو ضار”[2]. وبالتّالي ينتج تأثيرا سلبيا.

إذن ففي كلّ لقاء مع جسم لا يناسب طبيعتي شعور بالحزن؛ عندما يلاقي الجسم جسما آخر يهدّد نظام تعالقه -أي جسما تكون علاقته غير قابلة للتّوافق مع علاقاتنا-بحيث يحدث وكأنّ قدرة الجسم تصير متعارضة. فيقال حينها إنّ القدرة على الفعل تقل وتمنع. كما أنّ الشّعور بالحزن هو الطّريقة الوحيدة الّتي يعلم بها أن جسما مّا لا يتوافق مع طبيعة جسم آخر. وبالتّالي يهزم الإنسان إذا تزايد الحزن غزوا لنا ضمن كلّ علاقات المركبة له ليدل بذلك على تهديم كلّ العلاقات الإجماليّة[3].

كما أنّ الشّعور بالانفعالات السّلبيّة أمر يتحقّق مند بداية الإنسان في الوجود، مادام أنّ الأفكار المعطاة له أولا هي تأثيرات سلبيّة، وأفكارا غير تامّة، أو تخيّلات. إنّه لا يمكن أن يحوز في بداية وجوده إلا أفكارا مبتورة غير تامّة. وهذا ما جعل سبينوزا ينظر إلى الطّفولة باعتبارها حالة بائسة يعتمد فيها إلى أعلى درجة على الأسباب الخارجيّة[4].

فالانفعاليّة والسّلبيّة شكل من أشكال الوجود الإنساني، لأنّ من طبيعة الإنسان أن يخضع لانفعالات لا يكون علتها التّامة، وينصاع لنظام الطّبيعة العام. فالإنسان يولد ناقصا ضعيفا، وفي المرحلة الأولى من حياته يحيا حياة عاطفيّة تعي رغباتها لكنها تجهل أسباب هذه الرّغبات[5]. بالتّالي “لا يمكن أبدا أن التّفكير بأن الأطفال الصّغار سعداء ولا في أن الإنسان الأول كان كاملا*، فكونهما جاهلين بالعلل والطّبائع ومحصورين في حيز تحمل الأثر الّتي لا يدركان قانونها، يجعلهما عبيدا لكل شيء قلقين وتعيسين بقدر نقصهما”[6].

 

هكذا عمل سبينوزا على الحط من كلّ الانفعالات الحزينة لأجل المرح. ونظريته في المشاعر الحزينة تعتبر من بين الأمور الّتي جعلت فلسفته فلسفة مستفزة. فالنزوعات الحزينة تركيب وتجميع ما لا تناهي من الرّغبات وتقلّبات النّفس والجشع والخرافة. حيث تتّبع خطوة خطوة، التّوالي الرهيب للنّزوعات الحزينة؛ الحزن أولا، ثمّ الكراهيّة، النّفور، السّخريّة، اليأس، خزي الضّمير، الشّفقة، الغضب، الذّل، وغيرها من الانفعالات النّاتجة عن الحزن. وفي تحليله هذا يبلغ حدّا بعيدا يجعله يجد في الأمل والأمن بذرة الحزن هذه الّتي تكون كافية لتحوّلها بذلك لمشاعر العبوديّة وتجعل منها أحاسيس للعبيد[7].

فالنّزوعات الحزينة كيف ما كانت وبأي وسيلة ثمّ تبريرها تظل أدنى درجات القوّة على الفعل، أي اللّحظة الأعلى لاستيلاب والّتي يصير معها الإنسان عرضة لشبح الخرافة وحيل الطّاغية. وهذه النّزوعات تدفع الإنسان دائما نحو الحزن والعجز[8].

من بين النّزوعات الحزينة نجد:

  • الكراهية (la haine)

الكراهية كما يعرّفها سبينوزا ليست إلاّ الألم مصحوب بفكرة علّة خارجيّة*. فهي ليست الأصل إنّما فرع يترتّب على الحزن عند اقترانه بشيء خارجي، وهو يضعف من القدرة على البقاء والاستمرار في الوجود[9].

هناك مجموعة من القوانين المنظمة للكراهية، وهي قوانين تحيل على طبيعة الأشياء المولّدة للكراهية وعلى قوانين ترابط الصور. ويكون أصل الكراهية دائما هو الشّعور بنقصان الذّات وعجزها مقارنة بفكرة علّة خارجيّة. إنّها تتأصل في واقع طبيعي وهو السّعي إلى الوجود. فالشّخص الّذي يشعر بالكراهيّة تختلجه في ذات الوقت رغبة في تحطيم الموضوع الّذي يعتبره سبب في عجزه. وهكذا يبدو وجود رابطة معقولة جدّا بين الانفعال ونواتجه. فالكراهية تولّد العدوانيّة، كما أنّ العدوانيّة تتضمّن الكراهية. “إنّه بحث على تطوير سلوك عدواني يرمي إلى إنتاج شعور لدى الآخر(المكروه) يكون عكس الشعور الّذي نبتغيه لأنفسنا[10]. لكن قد يكون اقتران الحزن بشيء خارجي أكثر اعتباطا، إذا ما تأثرت النّفس مرّة بانفعالين اثنين في نفس الوقت، بالتّالي فهي ما إن تتأثّر فيما بعد بأحدهما حتّى تتذّكر الآخر. ومثل هذا الأمر “يجعلنا نكره أشخاصا أو أشياء دون أي سبب واضح أو بيِّن”[11]فهذا الأمر لا يعني أنّ هذا الانفعال الّذي يشعر به ليس له علّة؛ فكلّ انفعال يترتّب على علل ضروريّة وحتميّة. “وكونه بلا سبب يعني أنّنا نجهل علّة الضّروريّة لا غير”[12]

قانون آخر يخضع له انفعال الكراهيّة وهو “التّشابه“؛ يقول سبينوزا: “يكفي أن نتخيل وجود تشابه بين شيء من الأشياء وموضوع يولد فينا عادة الشّعور بالحزن، على الرّغم من أنّ وجود التّشابه ليس العلّة الفاعلة لهذا الشّعور، حتّى نكره هذا الشّيء[13]. فصورة وجه الشبه انطبعت في النّفس فهي ستشعر بانفعال الحزن وسيكون الشّعور الّذي يدرك فيه وجه الشّبه سببا بالعرض في الحزن وبالتّالي سيتمّ كراهيته، رغم أنّ وجه الّشبه ليس العلّة الفاعلة للحزن.

“وقد يحدث أيضا أن نكره ونحب شيئا من الأشياء في نفس الوقت وذلك كلّما تخيّلنا وجود تشابه بين شيءٍ يولد فينا عادة الشّعور بالحزن وشيءٍ أخر يولد فينا عادةً الشّعور بالفرح من نفس الدّرجة، فإنّنا سنكره هذا الشّيء وسنحبّه في نفس الوقت”[14]. وهذا معناه أنّ كلّ انفعال يظل حاضراً بقوّة. وتسمّى هذه الحالة الّتي تتولّد من انفعالين متناقضين تقلّب النّفس* (fluctuation de l’âme)، وهي الحالة الّتي يقول عنها سبينوزا بأنّ “نسبتها إلى الانفعالات كنسبة الشّك إلى الخيال، حيث لا يعدو الفرق بين تقلّب النّفس والشّك إلّا أن يكون فرقا في الدّرجة لا غير[15]. لكن قد ينتج تقلّب النّفس من موضوع يكون علّة فاعلة لكلا الانفعالين. لأنّ الأفراد الّتي يتكوّن منها الجسم البشري تختلف طبيعة بعضهم البعض. وهكذا يظهر أنّه يمكن لجسم واحد يتأثر بطرق شتّى، ويدرك أنّه يمكن لموضوع واحد أن يكون علّة للانفعالات متعدّدة متناقضة[16].  ويشعر الإنسان أيضا بتقلّب النّفس عندما يتخيّل أن شخصا سبق أن شعر نحوه بالكراهية لذلك فهو ينفر ممّا يكره أو العكس[17]. أي أنّه يشعر بالحبّ والنّفور.  وهذا الأمر ينتج عن كون كلّ شخص يجد بقدر ما يستطيع أن يحب الجميع ما يحب وأن يكرهوا ما يكره. وأيضا في أن يحبّ ما يفرحه ويكره كلّ ما يجعله يشعر بالحزن.

 

هناك مظاهر أخرى للكراهية -سيأتي الحديث عنها في الانفعالات النّاتجة عن الحزن-لأنّ المظهر العام لكلّ الانفعالات الحزينة هي الكراهية. الفرق هو أنّ الحزن يحدّد نوع الانفعال، أمّا الكراهية فتعطي معنى ومحتوى تعريف الشّكل المعني في علاقة الرّغبة بالموضوع[18]. لأنّه من الحزن تتولّد رغبة هي الكراهية. وهي رغبة ترتبط برغبات أخرى، انفعالات أخرى: نفور، استهزاء، حسد، غضب…إلخ. فالكوناتوس إذ يحدّده الحزن، لا يكفّ عن كونه يبحث عمّا يفيده أو عما هو جيد له، فالإنسان يبذل جهدا لكي ينتصر. ومع ذلك فهو ملزم بفعل كلّ شيء لإبعاد الحزن وتهديم الشّيء الّذي يسببه. ومع ذلك يقال عن قوّته في هذه الحالة أنّها تنقص. لأنّ الرّغبة تضل معوقة بهذا الانفعال إلى حد تطرح معه قوّة الشّيء الخارجي من قوّتنا[19].

 

  • الخوف(crainte)، اليأس (Désespoir)، والحسرة (Resserrement de la conscience)

يخصص سبينوزا القضايا (18-19-20) للحديث عن الانفعالات الّتي تخضع لتأثير “الزّمن*. حيث أنّ هذا التّأثير يولد انفعالات جديدة[20]. وينبغي الإشارة إلى أنّ الزّمن هنا ليس مجرّد إطار بسبيط فقط، بل هو طريق للاشتقاق[21]؛ اشتقاق انفعالات جديدة. وهو يتحدّث عن شيء ماض أو مستقبل باعتبار أنّ هذا الشّيء قد أثر في الإنسان أو سيؤثّر فيه، أو باعتباره رءاه أو سيراه، أو أنّه جدّد قوّته أو سيجددها، أو ألحق به ضررا أو سيلحق…إلخ. فالجسم في هذه الحالة يتأثّر بهذا الشّيء كما لو كان حاضرا. بيد أنّه، لما كان يحدث في أغلب الأحيان لأولئك الّذين لهم تجارب كثيرة، وطالما أنّهم ينظروا إلى شيء مّا على أنّه آت أو أنّه مضى، أن يبقوا في حالة تردّد ويشكوا في مآل ذلك الشّيء. ويترتب عن هذا الأمر أنّ الانفعالات الّتي تتولّد من الصّور لا تكون ثابتة، بل يطرأ عليها اضطراب بفعل أشياء مخالفة. إلى أن يتمّ التّحقق من مآل هذا الشّيء[22].

 

ومن بين الانفعالات الحزينة المرتبطة بالزّمن نجد: الخوف، ويعرفه سبينوزا بأنّه “حزن غير قار يتولد من صورة شيء مقبل أو ماض مشكوك في عاقبته”[23]. وعندما يتجرّد الخوف من الشّك فهو تحوّل إلى يأس، أي حزن أحدث يحدث في الإنسان الخوف، وهو حزن يتولّد من فكرة شيء مقبل أو ماض لم يعد هناك مجال للشّك فيه. وذلك راجع إلى كون الانسان إذ يتخيّل الشّيء الماضي أو القادم، ينظر إليه وكأنّه حاضر. أو يتخيّل أشياء أخرى تستبعد وجود الأشياء الّتي ولدت فيه الشّك[24].

فالخوف عكس الأمل(Espoir)، وعلى الرّغم من ذلك فطبيعة هذا الأخير لا تنفصل عن الحزن. إذ لا وجد لأمل من دون خوف ولا لخوف من دون أمل[25]، وهكذا يبدو أنّ تحليل سبينوزا للانفعالات يجعله يجد في الأمل بذرة حزن، وهو لا يخلو من السّلبيّة[26]، والسّبب في ذلك راجع إلى أنّ الشّخص الّذي يتعلّق بالأمل، إذ يشكّ في حصول ما يأمل، وإذ يتخيّل ما يستبعد حصول ما يأمل، فهو يكون حزينا. ففي أثناء تعلّقه بالأمل نراه يخاف ألا يتحقّق أمله. وعلى العكس فإنّ الّذي يشعر بالخوف، إذ يشك في حصول ما يكره، وإذ يتخيّل ما يستبعد حصول ما يكره، فهو يكون فرحا وبهذه الصّورة يأمل ألا يتحقّق ما يكره[27]. وهنا ينبغي الإشارة إلى أنّه يمكن أن يتولّد الفرح من الخوف، وذلك عندما يخاف الإنسان أن يحصل له شيء مهلك، فيتصوّر في الوقت نفسه حصول شيء قد ينفي حدوث ما يخافه. وعن تصوّره هذا يتولّد الفرح. فالحزن والفرح يجتمعان في الأمل والخوف[28]. يضيف سبينوزا في القضيّة (50) “أنّه يمكن لأي شيء من الأشياء أن يكون، عرضا، سببا في الأمل أو الخوف. وتسمّى هذه الأشياء نذر فأل أو شؤم. وتكون هذه النّذر من حيث أنّها سبب في الأمل أو الخوف، سببا في الفرح أو الحزن، وبناء على ذلك فنحن نحبّها أو نكرهها، فنسعى إلى استخدامها كوسائل تقود إلى ما نأمله، أو إلى استبعادها كحواجز أو كأسباب للخوف. وعلاوة على ذلك فنحن على استعداد طبيعي للتّصديق البسيط بما نأمله، بينما لا نصدق إلّا بصعوبة بما نخافه، وبالتّالي لا نقدر الأشياء حقّ قدرها وذاك هو أصل الخرافات الّتي يخضع لها البشر أينما وجدوا”[29].

وهناك أيضا الحسرة الّتي هي حزن مناقض للانشراح(Epanouissement)، فإذا كان الانشراح فرح متولّد من صورة شيء ماض يشكّ في عاقبته، فإنّ الحسرة حزن مصحوب بفكرة شيء ماض حدث على عكس ما كان منتظر، أو عكس ما كان يأمله الإنسان[30].

  • الشّفقة (Commisération) والاستياء (Indignation)

بالإضافة إلى عامل الزّمن تتأثّر الانفعالات أيضا بفعل “المحاكاة“. لذلك عندما يتخيّل الإنسان شيئا مماثلا له قد تأثر بانفعال مّا، فإنّه سيتأثر لأجل ذلك بانفعال مماثل.  فإن كان هذا الشّيء المماثل متأثرا بالحزن، سيشعر حينها بانفعال الشّفقة[31].

وتوضح القضيّة (21) معنى الشّفقة. يقول سبينوزا: ” من تخّيل أن ما يحب يشعر بالحزن، شعر هو الآخر بالحزن، وتكون شدّة هذا الانفعال لدى العاشق بقدر مّا تكون عليه لدى المعشوق”[32]. تمّ ينتقل إلى القضيّة (22) الّتي توضّح معنى الاستياء، فيقول: “إذا تخيلنا شخصا يُحزن الشّيء الّذي نحبه، شعرنا نحوه بالكره”[33]. وبتالي يسمى هذا الانفعال الناتج عن كراهيّة من أساء إلى غيره استياءً.

فالإنسان لا يشفق على الشّيء الّذي أحببه فقط بل أيضا على الشّيء الّذي لم يشعر نحوه بأي نوع من الانفعال، شريطة أن يكون مماثلا له. وبناءً وعلى هذا الأمر سيسخط على من أساء إليه[34].

يضيف سبينوزا أنّه إذا ما شعر شخص مّا نحو شيء ما بالشفقة فلن يستطيع أن يكرهه، وذلك بسبب مّا ولده فيه بؤسه من حزن. لأنّه “لو أمكن كراهيته لكان هذا الشّخص حينها فرحا لحزنه، وهذا أمر مناقض للفرضيّة*. ويتّضح أيضا أنّه لا فرق بين الشّفقة والرّحمة(Miséricorde)، عدا أنّ الشّفقة تتعلّق بانفعال جزئي، بينما الرّحمة استعداد عادي للشّعور بهذا الانفعال[35].

إنّها إرادة وميل إلى القيام بالخير، وهو ميل متولد من الشّفقة على الشّيء الّذي يريد له الخير وهو ما يسمّى العطف؛ رغبة في الإحسان. وهكذا يعرف سبينوزا الشّفقة بأنّها “حزن مصحوب بفكرة شرّ حدث لشخص مّا يتخيّل أنّه مماثل لنا”[36].

  • الاستهانة (Mésestime)

يمكن الحديث عن خضوع بعض الانفعالات إلى منطق “القلب والعكس[37]، يقول سبينوزا: “من تخيّل ما يكره متأثرا بالحزن، كان مسرورا. والعكس، إنّه يكون حزينا إذ يتخيّله متأثّرا بالفرح. ويكون كل من هذين الانفعالين أعظم أو أفل كلما كان الانفعال المقابل أعظم أو أقل في الشّيء المكروه”[38]. ويضيف بأنّنا “نَجِدُّ في أن ننسب إلى الشّيء الّذي نكرهه كلّ ما نتخيّل أنّه يحزنه[39]. يبدو من خلال هاتين القضيتين أنّ السّلوك الّذي تثيره الكراهية يرمي إلى أن يولد في الآخر انفعالات ومشاعر من طبيعة مخالفة ونتائج مضادة للانفعالات والمشاعر الّتي تسعى الذّات إلى تحقيقها لنفسها. فكلّ ذات تسعى إلى اثبات ذاتها عن طريق نفي الآخر[40]. وبهذه الصّورة يحدث بسهولة ألا يقدر الانسان الشّيء المكروه حقّ قدره. وهذا ما يسمّيه سبينوزا استهانة*فانعكاس الانفعالات وتحوّلها من قطب إلى قطب لا يرتبط بالكراهية فقط، بل يحدث في حالات كثيرة تربط بين الآخر، كالاحتقار(Mépris). وقد يحدث أن يحتقر الانسان نفسه في حالة مّا كان مستلبا تمام الاستلاب. فاحتقار الذّات هو شكل للمعرفة الغير التّامة بالذّات، وهو نتيجة للتّواضع أو الإنسانيّة*. لكنّ طبيعة الإنسان تمنعه من أن يحتقر ذاته، لأنّه في ماهيته اثبات لذاته. فاحتقار الذّات لنفسها لا أساس له في الواقع، بل يقوم فقط على رأي الآخرين في الذّات. كما عبّر مزراحي عن ذلك بقوله: “لا يوجد احتقار هارف للذّات”[41].

*********

[1]  جيل دولوز: سبينوزا فلسفة عمليّة، ص30.

[2]  جيل دولوز: سبينوزا ومشكلة التّعبير، ص198.

 [3] جيل دولوز: سبينوزا ومشكلة التّعبير، ص 199-198.

[4]  جيل دولوز: سبينوزا ومشكلة التّعبير، ص179.

[5]  جيل دولوز: سبينوزا ومشكلة التّعبير، ص180.

* يقول سبينوزا بأن الإنسان يولد ضعيفا ناقصا، وهذه المرحلة يكون متأثرا بالعالم الخارجي. كما أنه لا أحد ناهض التّصور الثيولوجي الّذي يتحدث عن آدم الكامل والعبد أكثر من سبينوزا، فهو يقول بأن آدم لم يكن كاملا، بل كان جاهلا ناقصا. (جيل دولوز: سبينوزا فلسفة عمليّة، ص30).

[6]  جيل دولوز: سبينوزا فلسفة عمليّة، ص31.

 [7] جيل دولوز: سبينوزا فلسفة عمليّة، ص27.

[8]  جيل دولوز: سبينوزا فلسفة عمليّة، ص38-39.

*  تقدّم فلسفة سبينوزا نفسها، في كثير من الأحيان، بوصفها نقد للخارجيّة. ونقد الخارجيّة يقوم على رفض العلة الخارجيّة، لأنه لا شيء يمكن تدميره إلا بعلة خارجيّة. كما أن نظريّة الانفعالات توضع كاملة تحت الخارجيّة، فالحب والكراهيّة ليسا إلا اللذة واللم مصحوبين بفكرة علة خارجيّة، فحكم المخيلة لا يختلف عن تلك التّي للأسباب الخارجيّة، وهي صور الأشياء: المقصود بصور الأشياء انفعالات الجسم البشري التّي تصور لنا أفكارها الأجسام الخارجيّة على أنها حاضرة. إنها الكيفيات التّي يتأثر بها الجسم البشري بالعلل خارجيّة التّي علة عجزنا. (Charles Ramond: Dictionnaire de Spinoza, pp 73, 74).

[9] د. أحمد علمي: سبينوزا فلسفة الوجود والسّعادة، ص241.

[10]  د. فاطمة حداد-الشامخ: الفلسفة النسقيّة ونسق الفلسفة السّياسيّة عند سبينوزا، ص88.

[11]سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثالث، حاشيّة القضيّة 15، ص163.

[12]د. فاطمة حداد-الشامخ: الفلسفة النسقيّة ونسق الفلسفة السّياسيّة عند سبينوزا، ص89.

[13]  سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثالث، حاشيّة القضيّة 16، ص164.

[14]  نفسه، قضيّة 17، ص164.

*  يتأمل سبينوزا في الانفعالات المتناقضة-وهي شكل من أشكال الحياة التّي تعكف البسيكولوجيا المعاصرة على دراستها-وقدم تفسيرا لهذا التّأرجح بين الحب والكراهيّة. إنه تأرجح يعبر عن الصراعات الباطنيّة ويشددها فيزيد من عجز الفرض الّذي يخضع خضوعا تاما ومزدوجا للعلة الخارجيّة. (د. فاطمة حداد-الشامخ: الفلسفة النسقيّة ونسق الفلسفة السّياسيّة عند سبينوزا، ص86-87).

[15]  سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثالث، حاشيّة القضيّة 18، ص165.

[16]  سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثالث، حاشيّة القضيّة 18، ص165

[17]  سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثالث، القضيّة 31، ص177.

[18] Notes et commentaires de la partie V, p 560.

[19] جيل دولوز: سبينوزا ومشكلة التّعبير، ص 200.

* يقول سبينوزا في القضيّة (18) من الباب الثالث: “تحدث صورة شيء ماض أو مستقبل، في الانسان، نفس الشعور بالفرح أو الحزن الّذي تحدثه صورة شيء حاضر”.

[20]Une lecture continue de l’Ethique de Spinoza : Plan détaillé du De Affectibus

[21]  Une lecture continue de l’Ethique de Spinoza : prop 18, Ch3.

[22] سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثالث، حاشيّة 1 الفضيّة 18، ص166.

[23] تعريف عام للانفعالات، تعريف13، ص215.

[24]  تعريف عام للانفعالات، تعريف 15، ص216.

[25] تعريف عام للانفعالات، تعريف13، ص215.

[26] جيل دولوز: سبينوزا فلسفة عمليّة، ص 38.

[27]  تعريف عام للانفعالات، شرح تعريف13، ص215

[28]  ذ. أحمد علمي: فلسفة الوجود والسّعادة عند سبينوزا، ص243.

[29] سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثالث، القضيّة 51 وحاشيتها، ص194-195.

[30] تعريف عام للانفعالات، تعريف 16-17، ص217.

[31] ذ. أحمد علمي: فلسفة الوجود والسّعادة عند سبينوزا، ص 243.

[32] سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثالث، قضيّة 21.

[33] نفسه.

[34] تعريف عام للانفعالات، شرح تعريف 18، ص217.

* تقول هذه الفرضيّة: أن ما يحزن الشيء الّذي ولد فينا الشفقة، يحزننا أيضا بنفس النحو. وبالتّالي سنسعى إلى تذكر كل ما ينفي وجوده أو يحطمه لأن هذا الحزن الّذي تشعر به النفس يضعف قدرة الجسم على الفعل ويعوقه. والتّذكر هنا سيجل النفس تستبعد ما تتخيل، أي سترغب في تحطيمه. وستجد في تخليص الشيء الّذي ولد فيها انفعال الشفقة من البؤس الّذي هو فيه. (سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثالث، برهان القضيّة 27، ص174)

[35] تعريف الانفعالات، شرح تعريف 18، ص217.

[36] نفسه.

[37] Une lecture continue de l’Ethique de Spinoza : Plan détaillé du De Affectibus

[38] سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثالث، برهان القضيّة 23، ص170.

[39] القضيّة 26، ص172.

[40] د. فاطمة حداد-الشامخ: الفلسفة النسقيّة ونسق الفلسفة السّياسيّة عند سبينوزا، ص89.

* الاستهانة كما يعرفها سبينوزا هي ” ألا نقدر شخصا آخر حق قدره نظرا لكرهنا له. (تعريف الانفعالات، شرح التّعريف 22، ص218).

*  يقول مزراحي: الإنسانيّة أو التّواضع هي رغبة في القيام بما يطيب للناس وعدم القيام بما يزعجهم. (Notes et commentaires des pages 267)

[41] د. فاطمة حداد-الشامخ: الفلسفة النسقيّة ونسق الفلسفة السّياسيّة عند سبينوزا، ص86.

المصدر: https://www.alawan.org/2019/11/22/%d8%b3%d8%a8%d9%8a%d9%86%d9%88%d8%b2%d8%a7-%d8%a7%d9%86%d9%81%d8%b9%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b2%d9%86-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d8%ad-%d8%ac1/

(2)

  • الحسد(Envie)

تعود إنفعالات الكره وما شابهها إلى الحسد، الّذي لا يعدو أن يكون الكراهية ذاتها باعتبارها تهيّئ الإنسان لكي يبتهج لما يصيب غيره من سوء ويحزن لما يلحقه من خير. وهو يؤثّر في الانسان بشكل يجعله يحزن لسعادة غيره، وينشرح لما يصيبه من مكروه*. فالصّراع والشّقاء يتأصّل بالضّرورة ضمن هذا الوجود الّذي يخضع للمخيِّلة. وعلى هذا الأساس يشعر بالحسد إزاء من كان مساويا له؛ أي أنّ ما يشعر به المرء إزاء من كانوا يتساوون معه باعتباره يتّجه فقط لأولئك الّذين يكونوا في نفس الوضع[1]. أو كما يقول سبينوزا: “إنّنا لا نحسد أحدا على الفضيلة إلاّ إذا كان مساويا لنا”[2].

وقد يحدث الحسد أيضا إذا تخيّل شخص مّا أنّ شخصا آخر قد اكتسب مودّة الشّيء المحبوب وأنّ عرى الصّداقة بينهما قد أصبحت مماثلة لتلك الّتي كانت تربطه بهذا الشّيء لما كان ملكا له وحده، أو أنّها أوثق منها، فهو سيشعر نحو الشّيء المحبوب ذاته بالكراهية، وسيحسد الشّخص الآخر[3].  إنّها كراهية الشّخص المحبوب وبما أنّها مقرونة بالحسد سيطلق عليها سبينوزا اسم “الغيرة(La Jalousie)، وهي نوع من أنواع تقلّب النّفس مادامت ناتجة عن تزامن الحبّ والكراهية، واقترانها بفكرة شخص آخر يكن له الحسد. كما أنّ شدّة هذه الكراهية للشّيء المحبوب تكون بقدر الفرح الّذي تعود الإنسان الغيور الشّعور به بسبب الحبّ الّذي كان الّذي كان هذا الشّيء يبادله، وأيضا بقدر الشّعور الّذي يحسّ به تجاه الشّخص الّذي يتخيّل أنّه اكتسب مودّة الشّيء المحبوب. ذلك أنّه لو كان يكره هذا الشّخص، فهو لأجل ذلك سيكره الشّخص المحبوب، لأنّه يتخيّل أنّ هذا الأخير يفرح الشّيء المكروه، وأيضا لأنّه مرغم على الرّبط بين صورة الشّيء المحبوب وصورة الشّخص المكروه. ويعطي سبينوزا مثالا لكي يوضّح تقلّب النّفس هذا بما يحدث عادة في حبّ الرّجل للمرأة، لأنّ من يتخيّل أنّ حبيبته واهبة نفسها لغيره يكون حزينا، لا بسبب ما يعوق رغبته الخاصّة فحسب، بل أيضا لأنّه يربط صورة الحبيبة بالأعضاء التّناسليّة للشّخص الآخر وبإفرازاته، زد على ذلك أنّ الغيور لا تقابله حبيبته بنفس الحفاوة الّتي عوّدته بها، وهو سبب آخر يزيد في حزنه[4].

  • التّوبيخ(Blâme) والخجل (la honte)

يبدوا واضحا كيف أنّ للبشر استعدادا طبيعيا كي يشفقوا على البؤساء ويحسدوا السّعداء، وأنّ بغضهم لهؤلاء يكون أشدّ بقدر مّا يكون حبّهم للشّيء الّذي يتخيّلونه بحوزة غيرهم، كما أنّ ما يجعلهم يشفقون على غيرهم هو نفسه ما يجعلهم يحسدونهم به[5]. فالذّات في سعيٍ دائم لإثبات ذاتها، وبالتّالي يمكن أنّ الحديث عن صراع بين “الكناتوسات” وهذا الصّراع يتجذر في الطّموح*؛ فكلّ واحد إذ يسعى إلى التّفوق على الآخرين، يبلغ عكس الهدف الّذي كان ينشده، فلا يقع الاعتراف به بقدر ما يصبح مكروها إذ يشكل تهديدا للآخرين[6]. والطّموح كما يعرفه سبينوزا هو: “المجهود الّذي نبذله في القيام بشيء مّا أو الإمساك عنه، من أجل إعجاب النّاس لا غير. لاسيّما إذا كنّا نسعى إلى إعجاب العامّة لدرجة أنّنا نقوم ببعض الأشياء أو نمتنع عنها على حسابنا الخاصّ أو على حساب غيرنا[7]. وهذا ما يُطلق عليه عادة اسم “الإنسانيّة أو التّواضع” وهي الرّغبة في القيام بما يطيب للنّاس وعدم القيام بما يزعجهم. أمّا إذا تخيّل شخص مّا أن شخصا آخر يقوم بفعل لإرضائه فهذا يسمّى مديحا، وهو فرح ناتج عن تخيّلٍ للفعل الّذي يقوم به الغير رغبة في إرضائه. وفي مقابل هذا الفرح يسمّي سبينوزا توبيخا الحزن الّذي يشعر به عندما نشمئز من فعل غيره[8]. وهنا يتّضح معنى الخجل، فهو الحزن مصحوب بفكرة علّة خارجيّة؛ أي الكراهية باعتبارها تتعلّق بأشاء خارجيّة يشار لها بهذا الاسم. بمعنى ناتج عن اعتقاد المرء أنّه قد وقع توبيخه. وهو عكس المجد (Gloire) الّذي هو الفرح النّاتج عن اعتقاد المرء أنّه قد وقع مدحه[9]. لكنّ المجد يقف هو الآخر حائلا كبيرا، لأنّ الفوز به يقتضي من المرء أن يوجّه حياته وفقا لما يراه النّاس، أي أن يتجنّب ما يتجنبوه ويسعى إلى ما يسعون إليه. وتظهر هنا الطّبيعيّة الخياليّة للانفعالات والنّتائج الّتي ترافقها، لذلك يمكن أن يحدث بسهولة أن يكون ذو المجد مزهوّا. مثل ما عبّر عنه مورو حين قال: “الإنسان الممجد كما المزهوّ”[10]. أو كما يعبّر عنه سبينوزا نفسه حيث يقول بأنّه “ليس من المستبعد أن يكون ذو المجد مزهوّا وأن يخيّل إليه أنّ الجميع يستلطفونه في حين أنّه لا يطاق من أحد”[11].

 

  • النّدم(Repentir)، التّذلل(Humilité)، والاستهانة بالذّات (Mésestime de soi)

في القضيّة (30) يعطي سبينوزا تعريفا للنّدم، يقول: “إذا قام شخص بشيء مّا وتخيّل أنّه أحزن به غيره، فهو سينظر إلى نفسه بحزن”[12]. وبذلك يكون النّدم هو الحزن المصحوب بفكرة شيء باطني كعلّة؛ أي مصحوب بفكرة شيء يعتقد شخص مّا أنّه قام به بأمر نفسه. وهو عكس الرّضى بالذّات* الّذي هو فرح ينجم عن تأمّل المرء لذاته ولقدرته على الفعل. وهذا الأخير مقابل للتّذلل باعتباره تأمّل المرء لعجزه وضعفه[13]. فالإنسان في هذه الحالة صرعان مّا يخجل ويعترف بعيوبه ويذكر فضائل الآخرين وينسحب أمام الجميع، ويمشي مطأطئا رأسه. ومنه تتولّد الاستهانة بالنّفس أو الاستهانة بالذّات، أي الحزن النّاتج عن عدم تقدير الإنسان لنفسه حقّ قدره. ويشير سبينوزا إلى أنّ هذين الانفعالين نادران جدّا، لأنّ الطّبيعة البشريّة، إذا ما اعتبرت في ذاتها، تقاومها أشدّ مقاومة، وهكذا فأولئك الّذين نظنّهم أكثر النّاس استهانة بأنفسهم وأكثر تذلّلا إنّما هم في الغالب أكثر طموحا وأشدّ حسدا[14].

 

ويفسّر اسبينوزا النّدم والتّذلل والتّوبيخ، في القضايا(55-51)، حيث يبتدئ الحديث عن كون الجسم البشريّ يتأثّر بالأجسام الخارجيّة بعدد كبير من الأوجه. وأيضا أنّه يمكن لشخصين اثنين أن يتأثّرا بطرق مختلفة، وبنفس الشّيء، في أوقات مختلفة. فطبيعة الإنسان هذه تجعله إذن يحكم على الأشياء من خلال شعوره فحسب، وأنّ الأشياء الّتي يظنّ أنّه يقوم بها بغيّة الفرح أو الحزن، أي يعمل على الفوز بها أو على إقصائها، تكون في الغالب من صنع الخيال وحده. ولهذه الأسباب نتصوّر أنّ الإنسان يستطيع أن يكون علّة لفرحه أو لحزنه. ومن هنا يدرك بسهولة معنى الرّضى بالنّفس (Contentement de soi) ومعنى النّدم. وهما انفعالان شديدان جدّا وهذا الأمر راجع إلى كون البشر يظنّون أنفسهم أحرارا. فالانفعالات الحزينة هذه، (النّدم، التّذلل، التّوبيخ)، تشعر بها النّفس عندما تتخيّل عجزها؛ أي أثناء اعتبارها لذاتها تتخيّل عجزها. وتزداد حزنا إذا تخيّلت أنّ غيرها يوبّخها[15].

هكذا بحث في الحزن وفي علله الأولى بشكل يُمَكِّنُ الإنسان من فهم طبيعته فهما واضحا متميّزا. فهو لم يقم محكمة أخلاقيّة يتّهم فيها الانفعالات أو يسخر منها. فالحزن ليس عيبا من عيوب الطّبيعة، بل يترتّب عليها، ومن طبيعة الإنسان أن يخضع لانفعالات لا يكون علّتها التّامة، وهذا أمر لا يعود إلى ضعف في طبيعته، فوضع الانسان يجعله عرضة للانفعالات وبالتّالي فمن الطّبيعي أن يكون تحت وطأة الغيرة والحسد وأن يشعر بالشّفقة والحسد تجاه الغير. بهذا يقطع سبينوزا مع التّصورات السّابقة عليه؛ تلك التّصورات الأخلاقيّة الّتي تنظر إلى الحزن والنّزوعات الحزينة كعيوب في الطّبيعة البشريّة. فالتّصور الأخلاقي يرسم أمام الإنسان واقعا مثاليا، واقعا يتحقّق بنفي الماهيّة الفعليّة. فهو يوهم الإنسان بأنّه بإمكانه تجاوز ماهيته. إنّه اعتقاد عدمي محض لأنّ تجاوز الإنسان لماهيته هو تجاوز للإنسانيّة، وهذا محال. إذن فمعرفة الانفعالات ليس كافيا لتجاوزها، صحيح أنّ معرفة الانفعالات أمر ضروري، لكنّه لا يمكن تجاوزها بمجرّد المعرفة.  ومن هنا نتساءل: كيف السّبيل إلى تحقيق انفعالات فرحة؟

  1. الانفعالات الفرحة عند اسبينوزا

إنّ الشّعور بالانفعالات الفرحة -أي الحصول على فرص لإجراء لقاءات جديدة تزكي قوّة الفعل وتساعدها-فرص قليلة جدّا. فالإنسان مرغم أن يكره كثيرا لكي يحبّ كثيرا*، وهو لا يحسّ إلاّ بدغدغات؛ أفراح جزئيّة، وهي أفراح لا تزيد في القوّة على الفعل، إنّها أفراح مسمّمة بالحزن[16]. وهذه التّأثيرات الفعّالة لا وجود فيها لحزن، لأنّ الفرح وحده يمكن أن يكون فعّالا، مادام هو الّذي يمكّن من الزّيادة في القدرة على الفعل، وتحصل بدرجة يحصل فيها الفرد على امتلاك الوجود الصّوري لهذه القدرة[17]. وبالتّالي يستطيع الإنسان الانتقال من الانفعال إلى الفعل، عن طريق تكوين مفهومات مشتركة، هذه الأخيرة تمكّن من الزّيادة في القدرة على الفعل، وتزيدها بدرجة يحصل فيها الفرد على الامتلاك الصّوري لهذه القدرة[18].

وقد تحدّث سبينوزا في الباب الثّالث عن الانفعالات الّتي بمقتضاها يكون الانسان فاعلا لا منفعلا، وهذه الانفعالات قائمة على النّوع الثّاني من المعرفة. وتتعلّق بالفرح والرّغبة فقط. فالإنسان يفعل عندما يحدث داخله أو خارجه شيء يكون علّته التّامة، أي عندما ينتج عن طبيعته، داخلها أو خارجها، شيء يمكن إدراكه بوضوح وتميّز من خلال ذاتها وحدها. إذن فالنّفس تكون فاعلة في بعض الأمور بامتلاكها لأفكار تامّة*. كما أنّ قوّة النّفس من حيث هي فاعلة ترجع إلى الأعمال المترتبة عن انفعالات النّفس من حيث أنّها تفهم، ويقسّمها سبينوزا إلى رباطة الجأش* وإلى مروءة وأريحيّة*. والمقصود برباطة الجأش: الرّغبة الّتي يسعى بها الفرد إلى حفظ كيانه وفقا لما يمليه العقل فحسب. أمّا المروءة والأريحيّة فهي الرّغبة الّتي يسعى بها الفرد وفقا للعقل فحسب، إلى معاونة الآخرين وتوثيق عرى الصّداقة بينه وبينهم. فالأحرار فقط يكونون في غاية عرفان الجميل* بينهم، وينفعون بعضهم بعضا، كما تجمع بينهم علاقة وثيقة جدّا، وإحسانهم إلى بعضهم البعض هو إحسان ودّي[19].

 

إذن فالإنسان الثّابت الحزم لا يكره ولا يحسد أحدا، ولا يبغض ولا يسخط على أحد، ولا يحتقر أحدا. كما أنّه ينتصر على الكراهية بالحبّ. وبالتّالي كلّما اهتدى المرء بالعقل فإنّه يرغب لغيره ما يرغبه لنفسه، بل وينظر إلى الأمور على أنّها تنتج عن طبيعة الإله الضّروريّة. أمّا الأشياء الّتي تبدو له منفرة وقبيحة ومنافيّة للأخلاق وفظيعة، فهي تبدو له كذلك لا لشيء إلّا لكونه يتصورها بطريقة مشوشة ومبهمة، وبالتّالي فهو يسعى قبل كلّ شيء إلى تصوّرها كما هي في ذاتها وإلى إقصاء العراقيل الّتي تحول دون معرفتها معرفة صحيحة، إنّه يبذل قصارى جهده أن يسلك سلوكا طيبا ويظلّ مبتهجا[20].

هكذا يصبح الإنسان فاعلا بقدر مّا يشكّل مفهوما مشتركا؛ وهذا النّوع من المعرفة هو ما يجعل الإنسان إلى حد مّا سيّد انفعالاته، وعن طريقه أيضا يعلم القوانين الأزليّة الّتي يعبر عنها، إنّه أصل الرّغبات الطّيّبة[21].

فرغم أنّ الإنسان يعيش وسط عالم يخضعه للانفعالات السّلبيّة الّتي تكبّله وتضعف قواه، فإنّ ذلك لا يعني أنّه محكوم بالعبوديّة، أو أنّ هذه العبوديّة قدر لا يرد وقضاء لا مفرّ منه. فهدف سبينوزا هو تخليص الانسان من العبوديّة. لذا سيعمل على رسم طريق للتّحكم في هذه الانفعالات. وفي الحقيقة موقفه هذا لا يختلف-من حيث الهدف، الّذي هو تخليص الانسان من العبوديّة-عن التيّارات الأخلاقيّة[22]، لكن بما أنّ سبينوزا أظهر أصالة في بحثه في طبيعة الانفعالات وأصلها وكيفيّة حدوثها، فإنّه سيبدي أصالة في كيفيّة علاجها.

والسّؤال المطروح في الفلسفة السّبينوزيّة هو كيف يصبح الإنسان فاعلا عوضا أن يكون منفعلا؟ فرغم أنّ الإنسان لا ينفك يخضع للانفعالات (وذلك وفقا لقانون الطّبيعة)، إلّا أنّ هذا ليس معناه أنّه لا أمل في التّخلص من العبوديّة. فسبينوزا عندما جعل الانفعالات تنتاب الإنسان وفقا لضرورة طبيعيّة، ليس معنى هذا أنّ الإنسان يظلّ تحت وطأة الانفعالات والعلّل الخارجيّة وفي عبوديّة مطلقة، بل بإمكانه تحقيق سعادة وغبطة، وبمقدوره الرّفع من قدرته وقوّته للوصول إلى حريّة النّفس والاغتباط.

********                         

* الحسد تقابله الرّحمة، الّتي هي الحبّ بوصفه يؤثر في الإنسان بشكل يجعله ينشرح لما يحصل لغيره من خير، ويحزن لما يصيبه من مكروه. (تعريف الانفعالات، شرح التّعريفين 23-24، ص218).

[1] نفسه.

[2] سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثّالث، لازمة القضيّة 55، ص202.

[3] نفسه، القضيّة 35، ص180-181.

[4] نفسه، حاشيّة القضيّة 35، ص181-182.

[5] الباب الثّالث، حاشيّة القضيّة 32، ص178.

* الطّموح رغبة مفرطة في المجد. تعريف 44، ص225.

[6] د. فاطمة حداد-الشّامخ: الفلسفة النسقيّة ونسق الفلسفة السّياسيّة عند سبينوزا، ص85.

[7] توضح القضايا 28-29 الانفعالات الّتي نشعر بها نحو أفعالنا وأعمالنا كما نراها في أعين الآخرين. Une lecture continue de l’Ethique de Spinoza: prop (28-29).

[8] سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثّالث، حاشية القضيّة 29، ص176.

[9] سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثّالث، حاشية القضيّة 30، ص177.

[10] Une lecture continue de l’Ethique De Spinoza : prop 30.

 [11] سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثّالث، حاشية القضيّة 30، ص177.

 [12]نفسه.

[13] سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثّالث، تعريف عام للانفعالات، تعريف 25-26-27. ص219.

[14]  سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثّالث، تعريف 29 وشرحه، ص221.

[15]  سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثّالث، القضيّة 55 ولازمتها، ص200.

* مثلا: رؤيّة الشّيء المكروه حزينا.

[16] جيل دولوز: سبينوزا ومشكلة التّعبير، ص 201.

[17] نفسه.

[18]  نفسه، ص 231.

*{تكون الأفكار التّامة في نفس الإنسان تامة في الإله بوصفه يؤلّف ماهيّة هذه النّفس} لازمة القضيّة 2، الباب الثّاني.

* ينسب سبينوزا رباطة الجأش إلى الأفعال الّتي ترمي إلى تحقيق فائدة الفاعل فحسب، ومن أنواعها نجد: الاعتدال، القناعة، حضور البديهيّة في المخاطر.

* أمّا المروءة والأريحيّة فتضم الأفعال الّتي تكون غايتها منفعة الغير أيضا. ومن أنواعها: التّواضع والرّحمة.

* عرفان الجميل هو الرّغبة أو الحبّ الحازم الّذي يجعل المرء يسعى إلى الإحسان إلى من أحسن إليه حبا له. أمّا عرفان الجميل عند الّذين ينقادون للرّغبة العمياء فهو ليس إلاّ متاجرة وغش.

[19] سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الثّالث، حاشية القضيّة 59، ص 208-207.

[20] سبينوزا: علم الأخلاق، الباب الرّابع، حاشية القضيّة 73، ص 301.

[21] د. زيد عباس كريم، سبينوزا الفلسفة الأخلاقيّة، ص 228.

[22]د. أحمد علمي: فلسفة الوجود والسّعادة عند سبينوزا، ص247.

المصدر: https://www.alawan.org/2019/11/27/%d8%b3%d8%a8%d9%8a%d9%86%d9%88%d8%b2%d8%a7-%d8%a5%d9%86%d9%81%d8%b9%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b2%d9%86-%d9%88%d8%a7%d9%84%d9%81%d8%b1%d8%ad-%d8%ac2/

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك