المواطنة في ضوابطها الدستورية*

المواطنة في ضوابطها الدستورية*

شفيق المصري*

1- المواطنة:

لعلّ التعريف القاموسي لكلمة المواطنة (Citizenship) يرسي القاعدتين الأساسيتين لمفهومها المتكامل. فالمواطنة هي(1):

أ- الحالة التي يكون فيها الشخص مواطناً.

ب- وعضوية الفرد في الجماعة أي صفة مواءمته مع جماعته ومسؤوليته حيالها.

والمواطنة، في إطارها القانوني، تمثّل العلاقة بين الفرد والدولة التي يقيم فيها حيث يتقرّر لكل منهما الحقوق والواجبات الملحوظة قانوناً.

فالمواطنون يتميزّون عن الرعايا والأجانب بأنهم أعضاء دائمون في الجماعة السياسية بحكم تمتعهم بالحقوق الأساسية. وإذا كان أحدهم(2) قد ميّز بين مواطنة الحقوق التي تؤكد عليها النظرة الليبرالية، وبين مواطنة الواجبات التي تدافع عنها النظرة الشمولية من أجل تعزيز النظام السياسي القائم، فإن المواطنة -في إطارها الموضوعي- تتضمّن الحقوق والواجبات معاً؛ إنما يكون الفارق متمثلاً بالنظرة للمجتمع وحيثياته.

وبذلك يصبح المواطن في تعريفه العام: عضواً في جماعة سياسية متمتّع بحقوق وملتزماً بواجبات. كما تصبح المواطنة الوجه العام من وجود الفرد المجتمعي- السياسي.

والمواطنة في تجلياتها المجتمعية تمثّل وجوهاً ثلاثة من العلاقات(3):

- علاقة المواطن بالوطن في حدوده الجغرافية وتراثه التاريخي. وينتج عنها انتماء المواطن لوطنه ومن ثمّ اكتسابه الثقافة السياسية المواطنية.

- علاقة المواطن بالمواطنين الذين يعيش معهم. وينتج عنها إبراز حق الشعب الذي هو، في المقاييس الديمقراطية العصرية، صاحب السيادة والحكم.

- وعلاقة المواطن بالدولة التي ترعى شؤونه العامة وتعترف بحقوقه ضمن دائرة القانون.

ومفهوم (المواطنة) يلحظ هذه العلاقات الثلاث ويسعى إلى إبرازها. والمواطنة برزت -في هذا السياق- مع نشوء الدولة – القومية (Nation – State) المستقلة؛ ذلك لأن الامتداد الإمبراطوري القديم لم يستطع أن يبرز صورة وطن ولا مواطن وإنما اقتصر على ممارسة الحاكم وفوقية (شعبه) على كافة (الرعايا) (Subjects) الأخرى.

وكذلك كانت العقود المديدة التي أعقبت معاهدة وستفاليا في عام (1648م) (موعد تأسيس الدولة – القومية أو تثبيتها) مشوبة بأنماط متوارثة من الأحكام المطلقة أو من السياسات الاستعمارية التي أبقت فكرة الحاكم و (الرعايا) في دولته وفي مستعمراته على السواء.

ويعتبر البعض أن إعلان الاستقلال الأميركي في عام (1776م) ومن ثمّ الدستور الأميركي وتعديلاته العشرة الأولى في عام (1791م) أسست الأركان الأولى لحقوق المواطن الأميركي وحريته. إلاّ أن صفة المواطنة الأميركية لم تشمل عملياً (ولا حتى دستورياً) الأميركي الأسود حتى عام (1868م) أي بعد الحرب الأهلية الأميركية وتبنّى التعديل الرابع عشر للدستور الأميركي ذاته(4).

ولا بدّ من التذكير، هنا، أن تجارب بعض الدول الأخرى ولا سيما الدول الأوروبية، مثل بريطانيا وفرنسا، سبقت أو تزامنت على الأقل مع التجربة الأميركية. فالثورة (الدستورية) البريطانية في عام (1688م) التي أنتجت الإعلان البريطاني للحقوق، والتي أرست الأركان الأساسية لنظام الملكية الدستورية في بريطانيا أسهمت في رسم الأُطر الثابتة -منذ ذلك الحين- لمفهوم المواطنة والمواطن.

كذلك فإن عام (1789م) في فرنسا الذي شهد الثورة الفرنسية أنتج (حقوق الإنسان والمواطن) وألغى صيغة الملك - الرعايا التي كانت سائدة قبل ذلك.

وبذلك نرى أن نشوء فكرة المواطنة وممارستها ترافقت بل أينعت مع الثورات التحررية للدول الكبرى(5), ومن ثمّ فرضتها الشعوب الأخرى على مستعمريها خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. وبذلك استطاعت، بمجموعها، تحقيق مبدأ تقرير المصير وبناء أنظمتها السياسية والاقتصادية المستقلة(6). والمعروف أن تقرير المصير لا يقتصر على حالة واحدة (حالة إعلان استقلال الدول) وإنما يتواصل في مسيرته الإنمائية الموعودة.

والمواطنة -بصرف النظر عن دوافعها التاريخية، وبعد استقلال معظم الدول وتقرير مصير الشعوب فيها- تشكّل قيمة إنسانية عامة وصدقية مميزة للثقافة السياسية. فالمواطنة بقدر ما تعني علاقة الفرد بالدولة وتقديم ولائه لها فهي خلاصة تربية واعية وانعكاس ثقافة سياسية ناضجة(7). والمواطن مُلزم بإدراك الحقوق والواجبات المقررة له وهو مُطالب بالاشتراك في الشؤون العامة لبلده، استجابةً لحقّه في ذلك وفق ما تلحظه المادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:

(لكل شخص حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة لبلده، إما مباشرة وإما بواسطة ممثلين يختارون في حرية) و (لكل شخص -بالتساوي مع الآخرين- حق تقلّد الوظائف العامة في بلده)(8). ومن هنا ندرك أن هذه المشاركة تشكّل حقاً للمواطن أيضاً. وهي الترجمة العملية لمواطنيته.

ولم تكتفِ هذه المادة بمشاركة المواطن كفرد وإنما تركّز على حق الشعب أيضاً، ذلك لأن (إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم، ويجب أن تتجلى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجري دورياً بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة بين الناخبين وبالتصويت السّري أو بإجراء مكافئ من حيث ضمان حرية التصويت)(9).

وعلى هذا الأساس تعني المواطنة -في إطارها العملي- الممارسة الكاملة للحقوق والواجبات المدنية والسياسية، ومن ضمنها المشاركة في وضع القوانين والقواعد التي ترعى هذه الحقوق من دون أي تمييز ولا استثناء. والمواطنة -في هذه الحال- (تعبّر عن الإنسان ككائن سياسي له دور فاعل في إدارة الشأن العام)(10).

والمواطنة -كقيمة سياسية- لا تتبدّل ولا تتغيّر بمراعاة الظروف والمتغيرات. إنها تُبنى أو يجب أن تُبنى منذ الطفولة، ومن خلال وسائط التثقيف السياسي بدءاً بالمدرسة وتوصلاً إلى الجامعة.

وبذلك تتحمّل هذه الوسائط مسؤولية زرع هذه الثقافة -المواطنية لدى الفرد- المواطن بدءاً بالعائلة والبيت ومن ثمّ المدرسة والجامعة(11).

فالمواطنة إحساس ناضج بالانتماء قبل القيام بالعلاقات التي يفترضها هذا الانتماء. إنها لذلك، الجزء الأساسي من الثقافة السياسية للفرد. وهي لذلك أيضاً، مستندة إلى الثقافة السياسية للمجتمع بقدر ما تعبّر وسائطه المختلفة عن ذاتيته أو شخصيته المميزة.

2- الدستور

وإذا كانت شروط تحقيق المواطنة مستندة إلى العلاقات الثلاث التي مرّ ذكرها (أي علاقة المواطن مع وطنه انتماءً وثقافة، وعلاقته مع مواطنيه مشاركةً سياديةً، وعلاقته مع دولته حقوقاً وواجبات) فإنها لذلك لا تكتمل إلاّ ضمن الأُطر الدستورية التي تلحظها هذه الدولة. وهذا الأمر يستدعي تعريف (الدستورية) (Constitutionalism) قبل تفصيل الدستور وأُطره الناظمة.

فالدستورية يمكن تعريفها -في الإطار الضيّق- بأنها ممارسة الدستور سواءً كان مكتوباً أم لا. أي أنها تظهر عندما تنشأ المؤسسات الرسمية – الحكومية وتنطلق العمليات السياسية والقانونية وفقاً لأحكام الدستور. أما في تعريفها الأوسع فإن الدستورية تشكّل مجموعة القيَم السياسية والإرشادات التي تسعى إلى حماية الحرية، وذلك من خلال ضوابط موضوعية ومحدّدة لسلوك الحكومات(12). والدستورية -في هذا المجال- تشكّل ضابطاً ضامناً لليبرالية السياسية بقدر ما تكفل البيئة الناظمة لتفعيل الدستور واحترام أحكامه، وبقدر ما تسعى إلى تسيير المؤسسات تحت حكم القانون من جهة أخرى مكمّلة.

أما في توصيفها الوظيفي فإن الدستورية تتمتع بدينامية مستندة إلى ثلاثة عناصر دافعة وهي:

- المواطن ذاته الذي يدرك حقوقه ومسؤولياته في آن معاً والذي يتصرف على أساس ذلك كإنسان حرّ ومسؤول.

- مؤسسات الدولة التي يلحظها الدستور مبدئياً أو تقتضيها الظروف والمتغيّرات وتحكمها القوانين والأنظمة سواءً كانت مؤسسات سياسية أو إدارية أو اقتصادية أو قضائية... الخ؛ وذلك بناءً على قاعدة (حكم القانون وحق المواطن).

- ضوابط الدستور ذاته وما تتضمن من أحكام تكفل استمرارية النظام وديمقراطيته بما يتعلق بحقوق المواطن الفرد، وسيادة الشعب، وضبط المؤسسات، وأدوات الديمقراطية – الدستورية مثل الحريات العامة وفصل السلطات والرقابة الدستورية ومحاسبة المسؤول ... الخ.

ومن هنا يمكن أن نتحدث عن العامود الفقري لهذه الدستورية أي الدستور ذاته.

يمكن تعريف الدستور أنه مجموعة القواعد، المكتوبة أو غير المكتوبة، التي تسعى لتأسيس الموجبات والصلاحيات والوظائف التي تؤديها مؤسسات حكومية وتحكم العلاقات بينها وبين الدولة والفرد. كذلك يمكن اعتماد تعريف ضيّق للدستور أنه الوثيقة المرجعية (إذا كان مكتوباً) أو مجموعة الأعراف (إذا لم يكن كذلك) التي تشكّل القانون الأعلى (Grand Norm) في البلاد(13).

فالدستور يرسي الأُطر العامة للعلاقة بين الدولة والفرد وذلك من خلال الضوابط التي يفرضها على وظائف المؤسسات الدستورية من جهة والحريات والحقوق التي يلحظها للفرد من جهة أخرى مكمّلة.

وبذلك فإن نطاق تحرك المواطن والإقرار بحقوقه وكذلك بواجباته إزاء بلده لا يمكن أن يتحقق من دون الدولة المستقلة ولا خارج دستورها المكتوب أو غير المكتوب(14). والمعروف هنا أن الدستور ليس حالة جامدة غير قابلة للتعديل ولا للتحديث بموجب القوانين الدستورية اللاحقة. وهذه التعديلات – القوانين الدستورية – لا تخرج، هي الأخرى عن الأُطر العامة للدستور الأساسي. والقانون الدستوري (يتلخّص في آخر تحليله بالأحكام الناظمة للحوار والتفاعل بين الحكّام المتولين زمام الدولة وبين المحكومين الخاضعين لأوامرها، من قوانين ومراسيم وقرارات، مع ما يلازم هذا الاتصال من التبدّل والتجديد، بفعل الديمقراطية والانتخاب بين الحكّام والمحكومين في قيادة الدولة)(15).

والواقع أن الدساتير العصرية الديمقراطية تشتمل على القواعد الأساسية التي ترعى فاعلية السلطة وتكفل ضوابطها في آن معاً. وهي تحرص كذلك على حماية الحريات وضمان المبادئ الهادفة إلى إقرار العدالة. وبذلك يستنتج البعض أن الدساتير الديمقراطية العصرية تسعى إلى تقييد السلطة السياسية وتقنين ممارساتها(16).

وهنا يمكن أن يندرج موقع المواطن وتتحقق تطلعاته. ذلك لأن الدستور يشكّل، بالنسبة له الموازن الأساسي والضروري للتوفيق بين السلطة القادرة التي تلبي حاجته من دون أي جموح وبين حرياته ومواطنيته الكريمة من دون أي جنوح. والمعروف أن هذه الضوابط الدستورية تؤمن للمواطن ضمانات مباشرة وغير مباشرة.

3- الضوابط الدستورية في ضماناتها المباشرة

أ- لعلّ الضمانة الأولى تبدأ في تعريف المواطنة بالنسبة للفرد. وإذا ما لحظ أي دستور في أي دولة تعريفاً واضحاً وحاسماً للمواطن يكون قد رسم له طريق الانتماء من دون تمييز ولا استثناء.

ولعلّ الدستور الأميركي، في سياق تطوره التاريخي يقدّم نموذجاً لهذه الضمانة. فالأميركي الأسود قبل التعديل الرابع عشر الذي أقرّ في عام (1868م) لم يكن مصنّفاً دستورياً كمواطن ذلك لأن المواطنة كانت محصورة بقانون الولايات. وقد أصدرت بالفعل المحكمة العليا الأميركية قراراً في عام (1856م) (دعوى Dred) يقضي بأن المواطنة خاضعة لقانون الولاية وليس للحكومة الفدرالية.

ولكن التعديل الرابع عشر حسم الأمر بقوله أن كل الأشخاص المولودين أو المتجّنسين في الولايات المتحدة والخاضعين لصلاحياتها يعتبرون مواطني الولايات المتحدة ومواطني الولاية التي يقطنون فيها). وبمقتضى هذا التعديل أصبحت المواطنة الأميركية هي السائدة وأن مواطنة الولاية الأميركية تخضع لها. كما أن قانون الولاية يجب أن لا يخالف القانون الفدرالي. وبذلك استطاع هذا التعديل الرابع عشر من الدستور نسخ قرار المحكمة العليا الوارد أعلاه وإلغاءه.

والمعروف أن هذا التعديل ورد خصيصاً من أجل منح الأميركيين السود المواطنة الأميركية ومواطنة الولاية التي يقطنون فيها أيضاً(17).

والمعروف أيضاً أن الفرد لا يستطيع أن يمارس حقوقه المدنية والسياسية معاً في أي بلد إذا لم يكن حائزاً على صفة المواطنية.

ب- التأكيد على سيادة الشعب في معظم الدساتير المعاصرة. ولهذا التأكيد أهمية بالغة لأن الدستور ينطلق من هذه القاعدة المسلّم بها، ولأن المنطق الديمقراطي في المجالس التمثيلية كلها يعتبر أنها تمثّل الشعب الذي هو صاحب السيادة، ولأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وكافة المعاهدات الدولية اللاحقة تؤكد على أن (إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم، ويجب أن تتجلى هذه الإرادة من خلال انتخابات نزيهة تجري دورياً بالاقتراع العام وعلى قدم المساواة...).

والشعب -في أية معادلة بسيطة- يشكّل مجموع المواطنين المشاركين في الشأن العام لدولتهم.

وإذا أخذنا الدستور اللبناني نموذجاً نرى أن الفقرة -د- من مقدمته تشير إلى أن (الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية). كذلك فإن دستور الجمهورية الخامسة في فرنسا يؤكد في المادة الثالثة منه أن السيادة الوطنية تعود إلى الشعب الذي يمارسها عبر ممثليه وبواسطة الاستفتاءات. ثمّ تتحدث المادة عن الانتخابات وتمتّع المواطنين الفرنسيين بحقوقهم المدنية والسياسية(18).

ج- حرص الدساتير المعاصرة على تخصيص فصل مستقل حول حقوق المواطنين وواجباتهم. وهذا الفصل يشكّل الحاضنة الأساسية والأصيلة لحقوق المواطن كما يشكّل الضامنة الأساسية للتعامل معه بموضوعية ومسؤولية وكرامة. وعندما تصبح حقوق المواطن وحرياته مادةً دستوريةً واضحةً وملزمةً فإنها، لذلك، تكون محصنّة وعاصية على كل مناورة أو تحريف أو تغييب.

وإذا كانت معظم الدساتير المعاصرة تطالب رئيس الدولة بأداء القسم الدستوري فور انتخابه وتسلّمه مهامه الدستورية وإذا كان هذا القَسَم يشترط احترام الدستور والتزام أحكامه... فإن إيراد الفصل الخاص بالحريات والحقوق في هذه الدساتير يعطي الحريات صدقيتها والحقوق ضمانتها. وبذلك فإن هذه الحقوق والحريات تنتقل في الإطار الفلسفي -الأخلاقي إلى الحيّز القانوني- المُلزم(19).

د- التزام المعاهدات الدولية الشارعة والمتعلقة بحقوق الإنسان. والواقع أن ثمّة انتشاراً واسعاً لبعض المعاهدات التي دخلت في صلب الهيكليات التشريعية للدول، ومنها: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والشرعتان الدوليتان للحقوق المدنية والسياسية وللحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحقوق المرأة والطفل... الخ. وهذه المعاهدات الدولية تؤكد – أحياناً – على ما ورد في هذه الدساتير لمصلحة المواطن، كما تضاف – أحياناً أخرى – إلى الحقوق التي تكون هذه الدساتير قد اعترفت له أصلاً بها.

هـ - المساواة بين جميع المواطنين: درجت كل الدساتير المعاصرة على تأكيد مبدأ المساواة بين المواطنين الذين يحملون جنسيتها. وهذه المساواة تُطبّق لدى مشاركتهم في الشأن العام، وإشغالهم الوظائف العامة، وحقوقهم المدنية المتعلقة باختيار العمل والملكية، وحقوقهم السياسية المتعددة واحترام مذاهبهم الدينية... إلخ.

و- سيادة القانون بقدر ما تؤكد على أن الجميع متساوون أمام القانون، وأن الجريمة محدّدة بالتوصيف القانوني، وكذلك العقوبة المترتبة عليها، وأن القانون لا يتمتع بأي طابع رجعي ولا مفعول كيفي، وأن أحكام القانون مستقرة وموضوعية ونافذة، وأن القانون -بصرف النظر عن اختصاصه- يبقى خاضعاً لأحكام الدستور ومتقيداً بموجباته، وأن القضاء مستقل في بنيته وعمله... إلخ.

ز- الحقوق والحريات الفردية: والتي تتعلق بالمواطن مباشرة وتضمن له حقوقه (البدنية) والمدنية والسياسية.

فالفئة الأولى تحرص على سلامته الجسدية وتحميه من المخالفات الدستورية التي تعرّضه للتعذيب والاعتقال الكيفي وغير المبرّر.

والفئة الثانية تتناول حريته الشخصية كعضو في المجتمع، وحرمة منزله وحماية أسرته وحرية عمله وتملكّه... إلخ.

أما الفئة الثالثة فتتعامل معه كعضو فاعل في مجتمعه السياسي وتعترف له بالحق في التعبير والتجمّع والمشاركة (ناخباً أو مرشحاً) في الحقوق السياسية ... إلخ(20).

على أن المهم في هذه الضمانات المباشرة أنها تخاطب المواطن مباشرة وتسعى إلى تعزيز مركزه في دولته والى التعامل معه على المستوى الدستوري – الحضاري المرموق. ولا يقتصر موضوع هذه الضمانات على الدستور فقط وإنما تتكرّر في بعض القوانين الأخرى المتخصصة في الأصول المدنية والجزائية وبعض القطاعات الاقتصادية والنشاطات الاجتماعية الأخرى.

ح- وتشكّل دستورية أو بالأخرى شرعية الأحزاب السياسية مفصلاً أساسياً في كثير من الدول ووفقاً لدساتيرها.

وهنا لا بدّ من توضيح ثلاث نقاط أساسية:

- كانت بعض الدساتير قد لحظت – في باب الحقوق السياسية – مشروعية بعض الأحزاب السياسية كما ورد في المادة الرابعة من الدستور الفرنسي (إن الأحزاب والجماعات السياسية ستكون مساعدة في الانتخابات. وستُشكّل بحرّية وتقوم بنشاطاتها بحرّية. وعليها أن تحترم مبادئ السيادة الوطنية والديمقراطية)(21), وبذلك يستطيع المواطن الفرنسي أن يمارس حقه السياسي في التعبير وتشكيل الأحزاب أو في الانضمام إليها والتبشير بأهدافها في بيئة ديمقراطية واعية والمعروف أن شرطيّ السيادة والديمقراطية للعمل الحزبي يشكّلان قاعدة عامة.

- ولكن هذا الأمر (أي السماح بالأحزاب) لم يرد إطلاقاً في متن دساتير أخرى كما هو الدستور الأميركي الذي اعتبر آباؤه منذ إنشائه أن الأحزاب السياسية قد تؤدي إلى بعثرة الوحدة الوطنية وتشرذمها. ولكن التقاليد السياسية التي انتقلت من بريطانيا إلى الحياة السياسية الأميركية حملت معها صيغة الحزبين السياسيين. ولا تزال هذه الصيغة معتمدة في الولايات المتحدة (بين الجمهوريين والديمقراطيين) لغاية الساعة وذلك من دون الامتناع عن إنشاء أحزاب أخرى شرط أن لا تشكّل هذه الأحزاب خطراً واضحاً وراهناً (Clear & Present Danger) على الدولة. وقد تشددّت المحكمة العليا بعد حين؛ لكي تحظر وجود ما يشكّل احتمالاً للأخطار في المستقبل(22).

- وهناك مجموعة ثالثة من الدساتير التي لم تشر إلى وجود الأحزاب، ولكنها تركت ذلك متاحاً بموجب الحق في التعبير والاجتماع والتجمع على أن يصبح ذلك خاضعاً للقوانين الوضعية الأخرى. ويمكن أن يكون الدستور اللبناني مثلاً عن هذه المجموعة. وفي ذلك الأمر انفتاح ليبرالي على حريّة الأحزاب نشأةً ونشاطاً.

- وفي محصلة هذا التصنيف لا بدّ من الإشارة إلى أن المواطن يتمتع -وفقاً لحقوقه الأساسية السياسية والمعترف بها دولياً- بالحق في التعبير والتجمع وتأليف الجمعيات السياسية وغيرها. وبالتالي فإن ضمانته المباشرة تتحقق مع الاعتراف بهذه الحقوق والسماح للآليات والمجالات المناسبة لتحقيقها.

4- الضوابط الدستورية في ضماناتها غير المباشرة

حرصت النظريات الدستورية الحديثة على تفعيل ما يمكن تسميته بـ (الديمقراطية الدستورية) التي تضمن حقوق المواطن – الإنسان والشعب صاحب السيادة(23). وتتمحور هذه النظريات حول قواعد ثابتة في الأصول الديمقراطية المفروضة بدءاً بالحق التمثيلي للشعب ذاته (المجالس المنتخبة) ومروراً بتحديد السلطات الدستورية وتفصيل صلاحياتها ومسؤولياتها ووصولاً إلى تطبيق صادق لنظرية الفصل بين السلطات... إلخ.

وتتعدد هذه الضمانات غير المباشرة وتتحدّد لمصلحة الوطن:

- فإذا كانت الديمقراطية الدستورية تفترض –مثلاً- أن يمارس الشعب حقه في السيادة الوطنية فإن بعض الدساتير تفسح له في مجال استعادة هذه السيادة إلى يده لكي يقرر من يفوّض في الحكم في ضوء تجربته السابقة مع ممثليه وفي ضوء الظروف الطارئة ورسم أولوياتها. وبقدر ما تتوسع دائرة الاختيار الشعبي لهؤلاء الممثلين بقدر ما يتسنى للمواطن فرص الاختيار والقرار. وبالتالي فإن حقه السياسي في أن يشارك -ناخباً أو منتخباً- في الشأن العام لبلد يعطيه هامشاً أوسع من الحريةّ ونطاقاً مناسباً من المسؤولية أيضاً. وهذا هو بالأساس منطق الديمقراطية: من يتخّذ القرار كحق يصبح مسؤولاً عنه كواجب(24).

- وإذا كانت الديمقراطية الدستورية تفترض أن كل ما يتجاوز الوكالة التي يمنحها الشعب لممثليه يجب أن يعود أمر تقريره إلى الشعب مباشرة، فإن بعض الدساتير تقرر إجراء الاستفتاء الشعبي الذي يشكّل –نسبياً- تعزيزاً للديمقراطية المباشرة(25).

- وإذا كانت الديمقراطية الدستورية أيضاً تفترض حكم الأكثرية لاتخاذ القرار فإن بعض الدساتير تميّز في احتساب الأكثريات بين بسيطة أو مطلقة وبين نسبية وبين أكثرية قريبة من الإجماع وذلك وفقاً لأهمية المواضيع وخطورتها. ولا تغفل -على كل حال- حقوق الأقلية(26).

وبذلك نرى أن هذه الضوابط تشكّل ضمانات غير مباشرة للمواطن بقدر ما يسعى إلى التزام الديمقراطية الدستورية واحترام حدودها المشروعة وقيودها الواضحة.

ولعّل من الضمانات غير المباشرة أيضاً التي تعني المواطن وتؤدي بالنتيجة إلى خيره العام ما يمثّل الهيئات أو المؤسسات المختلفة لهيئات الرقابة والآليات المتعلقة بها.

ونذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر:

- الهيئات المولجة بالتأكد من دستورية القوانين: ويمكن أن تتمثّل هذه الهيئات بالمجلس الدستوري في فرنسا، وفي المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأميركية مثلاً. وقد استطاعت هذه الهيئات في الأنظمة الدستورية المستقرة أن تضبط دستورية القوانين وصدقيتها وأن تساعد في تعزيز السلطات المركزية أحياناً للإدارة المركزية أوروبياً أو للحكومة الفدرالية أميركياً. وكان لهذا الدور الذي قامت به ولا تزال الإسهام الكبير في توحيد مفهوم المواطنة ذاتها. وقد سبق لنا أن رأينا تطوّر هذا المفهوم في توحيد المواطنة الأميركية الشاملة بصرف النظر عن العرق واللون والدين... إلخ. وليس من المستغرب هنا أن تضطر هذه الهيئات -كالمحكمة العليا في أميركا- إلى الاستجابة لمطالب المواطنين ولمواقفهم الصامدة. ولنا في تغيير رأي المحكمة حيال سياسة (New Deal) للرئيس روزفلت وتأييدها بعد رفض سابق خير دليل على ذلك(27).

- الهيئات المولجة بمحاكمة الرؤساء والوزراء:

وهذه الهيئات مرتبطة بتحديد المسؤوليات في مقابل الصلاحيات الملحوظة للسلطات الدستورية. وهي لذلك تعتبر من الضمانات الديمقراطية الأساسية التي تضمن دستورية الحكم وديمقراطيته في آن. فالدستور الفرنسي مثلاً لحُظُ إنشاء محكمة العدل العليا (High Court of Justice) في المادتين 67 و 68 لمحاسبة الرؤساء والحكومة. وكذلك فإن آلية معاقبة رئيس الجمهورية الأميركية المعروفة بـ (Impeachment) بين مجلس الممثلين والشيوخ في الكونغرس الأميركي، تضمن –مبدئياً- دستورية الصلاحيات ومسؤولياتها في آن معاً. وهي كلها أيضاً -وما يماثلها في الدساتير الأخرى- تشكّل ضمانة للمواطن ذاته بقدر ما تكفل ديمقراطية هذا النظام والحؤول دون انزلاقه إلى ديكتاتورية ظالمة(28).

ولعّل الضمانة الأكثر شمولية في الضوابط الدستورية تتمثّل في الهدف الأساسي من القوانين عموماً ومن الدستور بشكل خاص، وهو العدالة.

ويمكن لنا هنا الحديث عن العدالة الدستورية أيضاً كما سبق أن تحدثنا عن الديمقراطية الدستورية. وبذلك يمكن الإشارة الواضحة إلى الهيئات القضائية التي تتعلق صلاحياتها بدستورية القوانين أو بتّ الطعون أو محاكمة كبار المسؤولين. وقد أشرنا إلى ذلك في الفقرات السابقة. أما الشق الثاني من ضمانات العدالة المتعلقة مباشرة بمصالح المواطنين وأحوالهم الشخصية أو المجتمعية العامة فهو المقصود بهذا الإطار من العدالة الدستورية. ومن البديهي أن الدستور لا يتعاطى مع هذه التفاصيل ولكن الحديث هنا يتمحور حول النطاق الملائم للعدالة الدستورية (Domain of Constitutional Justice) ويفترض بالدستور أن يؤكد على الضمانات المطلوبة لتوفير هذا النطاق. وهذه الضمانات تتوزع حول استقلالية القضاء تشكيلاً وممارسة وضمانة القاضي في سلامته وكفايته وحصانة القانون في رسم الأُطر المناسبة للاعتماد والموءامة والتطبيق... إلخ.

والعدالة لا تقتصر على الوجه القضائي فقط وإنما تتناول أوجهاً أخرى أيضاً كالعدالة الاجتماعية والاقتصادية والضريبية والإنمائية وغيرها. والواقع أن هذه الوجوه المختلفة والمتشعبة تشكّل -في مجموعها- البنية المتكاملة للديمقراطية السياسية والاجتماعية – الاقتصادية في آن معاً.

وبقدر ما يؤكّد النصّ الدستوري أو العِرف الدستوري على تماسك هذا النطاق(29) وعلى صلابته وحصانته بقدر ما ينعكس ذلك سلباً على حماية المواطن وتعزيز المواطنة.

وبقدر ما يتوفر للقاضي -في أحكام الدستور- استقلالية في التقصي والحكم بقدر ما يسلم الجهاز القضائي من أي تدخّل أو ضغوط. (فالقضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم، وتصدر القرارات والأحكام باسم الشعب...)(30). والشعب بحاجة إلى مرجعية دستورية تكفل له حق المراجعة إذا تعرّض للقاضي أي متدخّل أو إذا أساء هو إلى صدقية الاستناد إلى الشعب أي مجموع المواطنين.

وفي خلاصة هذا البحث يمكن إيراد بعض النقاط الختامية:

- إن الضوابط الدستورية تحدّد تعريف المواطنة وترعى ديناميتها، وأن المواطن يكتسب -من خلال هذه الضوابط- هويته الوطنية ويمارس وفقاً لها ذاته السياسية والقانونية معاً.

- إن الدستورية- بشكل عام- تمثّل القيَم الإنسانية السامية ولا تقتصر فقط على نصّ مكتوب أو عرف مقبول. فهي -كما ذكرنا سابقاً- رادعٌ للتجاوز وحافز للتفاعل وحامٍ للحرية.

- والضوابط الدستورية في كل دول العالم تشكّل الضمانات المباشرة وغير المباشرة للمواطن.

- على أن كل هذه الضمانات تشكّل (ما يجب أن يكون) وليس بالضرورة ما هو كائن. والمأزق، هنا، ليس في حسن الصيغة والنصّ وإنما في مدى التطبيق والتزام النصّ بصدقية واحترام. المأزق بالفعل هو في مدى المحاسبة عند المخالفة أو التجاوز وفي استمرارية الالتزام ومن ثمّ الاحترام.

- وعلى الرغم من كل ذلك ومن الكثير من التجاوزات يبقى الدستور في مرجعيته السامية وضوابطه المحدّدة الناظم الوحيد للحياة السياسية في أي بلد.

*****************

الحواشي

*) أستاذ للقانون الدستوري من لبنان.

WEBSTER's (Third) Dictionary III P. 411 -1

Andrew Heyood, Politics (2nd Ed.) P.415 -2

Andrew Heyood, Politics (2nd Ed.) P.415 -3

4- المركز اللبناني للدراسات، قضايا المواطنة في لبنان، ص 8.

5- على الرغم من التعديل الرابع عشر للدستور الأميركي الذي تساوى فيه –بالمواطنية- كل شخص أميركي بصرف النظر عن عرقه أو لونه أو دينه فإن المتزمتين الأميركيين اضطروا أن يعترفوا بهذه المساواة ولكنهم أصّروا على عزل الأميركي الأسود. وبقي الحال كذلك حتى عهد كينيدي ونضال لوثر كينج في أواخر الخمسينات.

6- وهذا ينطبق أيضاً على الثورة البولشيفية في روسيا في عام 1917م، والتي قضت على النظام القيصري.

7- المعروف في القانون الدولي، اليوم، أن تقرير المصير بات يُصنّف من جملة (القواعد الآمرة) الملزمة لكل الدول حيث يجب أن تمتنع عن كل ما يعيق أو يعرقل هذا المبدأ وأن تساعد في كل ما يعجّل في تحقيقه.

أنظر مقالنا عن تقرير المصير في مجلة (الأبحاث) - الجامعة الأميركية سنة 45، 1997م.

8- المركز اللبناني للدراسات، مرجع سابق، ص 97 وما بعدها.

9- صكوك دولية، منشورات الأمم المتحدة، ص 2 – 8 – الإعلان كاملاً.

10- الواقع أن عدداً من المعاهدات الدولية الشارعة قد التزمت هذه الفقرة من المادة 21، وركزّت على آليتها القانونية المتمثلة بالحق في تقرير المصير. ولذلك حرصت المادة الأولى من شرعة الحقوق المدنية والسياسية وشرعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على تأكيد الحق في تقرير المصير. راجع صكوك دولية ص 8 – 36.

11- مركز الدراسات، مرجع سابق، ص 41.

12- المرجع ذاته، ص 57.

Andrew Heyood, Opcit, p.297 -13

Ibid, p.292 -14

Ibid, p.292 -15

16- إدمون ربّاط، الوسيط في القانون الدستوري، ص 847.

J. Wahlke & a. Dragnich, Goverment & Politics, P 84 17-

R. Tresolini, American Constitutional Law, P 352 -18

G. Carter, American Constitut, P 33 -19

(A supplement to: Major Foreign Powers)

20- المادتان 7 و 12 من الدستور اللبناني. ولكن الاعتبارات الطائفية في لبنان تحول، في الواقع دون التزام هاتين المادتين.

21- إدمون ربّاط، مرجع سابق، حيث يشرح هذه الضمانات في القوانين الوضعية اللبنانية الأخرى، ص 847 – 883.

Carter, Op.cit, P. 3322-

Tresolini, Op.cit, P. 410 – 413 -23

(Philosophical Foundations), P. 82-85 -24

Larry Alexander, Constitutionalism,

Ibid, -25

26- المادة 11 من الدستور الفرنسي حول الاستفتاء: Carter, Op.cit, p. 35

27- يمكن الإشارة، هنا، إلى إضفاء الصفة الدستورية على المعارضة البريطانية التي تشكّل حكومة الظل Shadow Cabinet في مقابل حكومة جلالتها Her Magesty's Cabinet .

28- الموضوع بالتفصيل في: Tresolini, Opcit, p. 20-24 .

29- راجع، بالنسبة للدستور الأميركي القسم الثالث من المادة الأولى والقسم الثاني من المادة الثالثة في: Tresolini, ibid, P. 618-621 .

30- انظر تفاصيل أخرى في: L. Alexander, Op.cit, P. 235 .

31- العبارة واردة في إحدى فقرات المادة 20 من الدستور اللبناني.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=462

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك