الحقيقة بين العلم والحدس

محفوظ أبي يعلا

 

يقوم مفهوم الحقيقة على محاور أساسيّة ثلاثة هي: العقل الّذي يعتمد على المبادئ القبليّة، والّذي يتقدّم من المعلوم إلى المجهول. والحسّ الّذي يعتمد على المعطيات والتّجارب. ثمّ الحدس الّذي يعتمد على الذّوق والوجدان. ومفهوم الحقيقة يجعلنا نطرح أسئلة أساسيّة من قبيل: هل باستطاعتنا أن ندرك الحقيقة؟ هل معرفة الحقيقة معرفة عقليّة أم حدسيّة أم حسيّة؟ ثمّ كيف يتأتى لنا الوصول إلى معرفة الحقيقة؟

ولكن قبل أن نتعمّق في بعض هذه الأسئلة ينبغي أن نطرح السّؤال التّالي: ما هي الحقيقة؟ فنجيب بتركيز شديد: الحقيقة هي مطابقة الفكر لموضوعه. لكن ما هو موضوع الفكر؟ إنّ هذا سؤال آخر لا مفرّ من مناقشته ونحن نسلّط الضّوء على مفهوم الحقيقة.

يرى العقلانيون أنّ موضوع الفكر هو الفكر نفسه؛ فالحقيقة في رأيهم هي نتيجة انطباق الفكر على مبادئه المنطقيّة القبليّة وعدم تناقضه. وبالمقابل؛ يرى التّجريبيون أنّ موضوع الفكر هو الواقع، إذ إنّهم يركّزون على الملاحظة والتّجربة.

والجدير بالذّكر، ونحن نناقش موضوع الفكر، أنّ النّزعة البرغماتيّة ترى أنّ الأفكار تكون حقيقيّة بالنّظر إلى مردودها على حياة الإنسان ومدى ما تقدمه له من منفعة. وأمّا الماركسيّة فترى أن الفكرة الحقيقية هي الفكرة الّتي تنبثق من واقع الممارسة.

والمتأمّل لتاريخ الفلسفات يلاحظ أنّ النّزعتين البرغماتيّة والماركسيّة تزامنتا مع ظهور المفهوم العلمي الّذي اهتم ّبتحديد العلاقات الثّابتة بين الظّواهر مع صياغتها على شكل قوانين. هذه القوانين الّتي لا تكتسي صبغة يقينيّة مطلقة، إذ إنّها قابلة للتّعديل والتّغير والتّطور باستمرار.

وهكذا بعد أن ناقشنا، باختصار شديد، موضوع الفكر الّذي لديه ارتباط وثيق بالحقيقة، يمكن أن نعود لموضوعنا الرئيسي عن الحقيقة،  فنقول إنّنا سنناقشه من خلل موضوعين على الشّكل التّالي:

1 ـ الحقيقة العلميّة

2 ـ الحقيقة الحدسيّة

إنّنا نسعى لأن نعالج موضوع الحقيقة من خلال بعض محاورها وأسئلتها الّتي قدمناها في بداية هذه المقالة. وسنحاول أن نختم مقالنا بخاتمة نبين فيها أسباب اختيارنا لمعالجة هذين الموضوعين دون غيرهما.

1 ـ الحقيقة العلميّة

إنّ الحقيقة العلميّة ليست معطى حسياً، وإنّما هي تركيبٌ عقلي. فالحسّ، على سبيل المثال، يؤكّد لنا أنّ الشّمس أصغر من الأرض، بينما الافتراض العقلي والعلمي يجعلنا ندرك أنّ العكس هو الصّحيح [1]. غير أنّه يمكن أن نقول إنّ المعرفة العلميّة قد تقوم على معطيات حسيّة، إلاّ أنّ هذه المعطيات وحدها لا تكفي لإنشاء معرفة تفسيريّة منظمة، أي علميّة. وذلك لأنّ طبيعة المعرفة الحسيّة تهتمّ بالجزء، في حين أنّ المعرفة العلميّة تبحث عن القانون الكليّ الّذي ينظمّ الأجزاء. والنّظريات العلميّة تهتمّ بالعلاقات بين الظّواهر أكثر من اهتمامها بماهيّة الظّواهر.

إنّ العلم يصوغ القوانين ولكن التجربة تأتي فتنفي أو تؤكّد هذه القوانين الّتي صاغها. والقوانين العلميّة لا تكذب بعضها، وإنّما تبني على بعضها. ولهذا فقانون أينشتاين لا يكذب قانون نيوتن، بل يضيف إليه ويتجاوزه. صحيح أنّ المنطق المؤسّس للعلم هو القطيعة، عكس الفلسفة الّتي هي بناء متواصل للمفاهيم. فمن النّاحية العلميّة هناك مجموعة من المعارف القديمة أصبحت متجاوزة، إلّا أنّ هذا التّجاوز لا يعني بالضّرورة تكذيب القوانين العلميّة السّابقة، فالفيزياء الحديثة تخلّت عن فكرة الزّمن المطلق ذو البعد الواحد، لكنّها لم تتخلى عن ما سبقها من قوانين، بل أضافت إليها، ليصبح الزّمان ذي  أبعاد أربعة. وكذلك الحال مع نظريّة “الكوانتا”. فنحن لم نكن لنصل إليها إلاّ بعد المرور من القوانين الفيزيائيّة السّابقة. فإذن، كلّ ما في الأمر أن بعض القوانين العلميّة الّتي كانت تتمتع بعموميّة وبفرديّة خاصّة، أضحت مجرّد عنصر بسيط من مجموع أكبر، عنصر لا نتعرف عليه سوى من خلال علاقته بالبنيّة العامّة الّتي ينتمي إليها. فالعلم لا يضع قطيعة إلاّ مع الفروض الّتي لا تؤكّدها التّجارب العلميّة، وقطيعته ليست نفياً نهائياً وعلمياً وإنّما هو تجاوز لكلّ ما هو سلبي في الفروض السّابقة مع الحفاظ على كلّ ما هو إيجابي فيها.

2 ـ الحقيقة الحدسيّة

إنّ المعرفة الحدسيّة هي معرفة مباشرة بالموضوع المدرك. فقد يحدث أن تأتي بعض الاكتشافات العلميّة بغتة واحدة عن طريق الإلهام أو الكشف بلغة الصوفيّة. ولكن، بطبيعة الحال تكون هذه المعرفة مسبوقة بتمهيد وبدايات برهانيّة. فمثلاً، قد يشغل عالم نفسه بدراسة موضوع ما لكنّه ينغلق عليه فهمه فيتركه. وبعد أيّام وهو يقوم بمهام روتينية عاديّة يتبادر إلى ذهنه فجأة ومباشرة حلّ الموضوع الّذي استعصي عليه. وهنا نتذكّر ما كتبه الجوزجاني عن ابن سينا، فقد روي أنّه كان يتردد إلى الجامع ويبتهل ويصلّي إلى الله كلما استعصت عليه مسألة من مسائل الفلسفة ولم يجد لها حلاً، فيفتح له الله المنغلق ويتيسّر المتعسّر[2]. فيمكن اعتبار ما كان يقوم به الشّيخ الرّئيس هو محاولة للبحث عن الحقيقة الحدسيّة و”الإلهام الإلهي”. وفي هذا الصدد يذهب الغزالي في المنقذ من الضّلال إلى اعتبار المعرفة الحدسيّة هي مفتاح أكثر المعارف. يقول الغزالي:

«فلم خطرت لي هذه الخواطر [السفسطة]، وانقدحت في النّفس، حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلاّ بالدّليل، ولم يمكن نصب دليل إلّا من تركيب العلوم الأوليّة. فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن ترتيب الدّليل. فأعضل هذا الدّاء، ودام قريباً من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النّطق والمقال، حتّى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النّفس إلى الصّحة والاعتدال، ورجعت الضّروريات العقليّة مقبولة موثوقاً بها على أمن و يقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصّدور، وذلك النّور هو مفتاح أكثر المعارف. فمن ظنّ أنّ الكشف موقوف على الأدلّة المحرّرة فقد ضيق رحمة الله الواسعة، ولما سئل رسول الله عن الشّرح ومعناه في قوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام). قال هو نور يقذفه الله تعالى في القلب، فقيل: وما علامته؟ فقال: التّجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، وهو الّذي قال صلى الله عليه وسلم فيه: إنّ الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثمّ رشّ عليهم من نوره. فمن ذلك النّور ينبغي أن يطلب الكشف، وذلك النّور ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحايين، ويجب التّرصد له كما قال عليه السّلام: إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها. » [3].

إنّ الحدس مع الغزالي يأخذ منحى ميتافيزيقياً، وهو الحدس الّذي يعبر عنه المتصوفة بالكشف والذّوق والعيان. وأمام هذا الحدس الميتافيزيقي يوجد الحدس العقلي الّذي عبّر عنه ديكارت في فكرته: أنا أفكر، فإذن أنا موجود. فهذه الفكرة حدسيّة لأنّها لا تحتاج للتجارب حتى نثبت صدقها. وكذلك فإنّ برجسون يطرح موضوع الحدس العقليّ، ويرى أنّ أعلى أشكال الغريزة هو الحدس الّذي هو نوع من النّشاط الرّوحي يتوافق بصورة مباشرة مع العالم[4].

وهكذا؛ فإنّنا نلاحظ وجود نوعين من الحقيقة، الأولى علميّة، والثانيّة حدسيّة. وقد كان من الممكن ألا نحصر مقالتنا بين الحقيقة العلميّة والحدسيّة فحسب، وإنّما أيضاً بين الحقيقة الدّينيّة والحقيقة البرغماتيّة والحقيقة الوجوديّة. بيد أنّنا اقتصرنا على الموضوعين السّابقين  لسببين نعرضهما في الفكرتين التّاليتين:

أولّاً: يتمسك البعض بكون تاريخيّة العلم تؤكّد أن لا حقيقة مطلقة، وأنّ الحقيقة العلميّة على المحكّ دائماً، لإثبات زيفها ومن ثمّ تطوريها، أي أنّ الحقيقة العلميّة قابلة للمراجعة دائماً [5]. وهذا صحيح، فالثّقافة العلميّة تؤسّس لعقل ينأى بنفسه عن المطلقات واليقين، غير أنّ هدف من يتمسكون بهذه الثّقافة العلميّة هو الدّفاع عن بعض التّصورات الدّينيّة الّتي أصبحت متجاوزة، وهم في الحقيقة يُظهرون الحقيقة العلميّة بصورة عدميّة غير وثوقيّة غامضة، فلا يعترفون بنظريّة التّطور لأنّ باشلار يرى أنّ الحقيقة العلميّة قابلة لأن تكون خطأ، ولأنّ آينشتاين يقول: أراجع كلّ عام ما كتبته في العام السّابق [6]. فيظلّون في الشكّ واللاّيقين باعتبارهما ثقافة علميّة لا ينبغي أن نحيد عنها. وهذا خطأ كبير، فحين نقول إنّ الحقيقة العلميّة قابلة للمراجعة دائماً، فهذا لا يعني أنّ حقائق اليوم باطلة، وأنّه علينا ألاّ نؤمن بصحتها. إنّ أصحاب ذلك الرّأي الّذي ذكرناه ينطلقون من أفكارهم الدّينية ثمّ يأتون بالثقافة العلميّة ليبرهنوا من خلالها على صحّة رأيهم، فيرجعون إلى إيمانهم الدّيني مجدّداً، في حين أنّ منطق العلم هو الانطلاق من الحيرة والعودة إليها. والملاحظ أنّ عقلنا الإسلامي لم يستطع تقبل الكثير من الحقائق العلميّة مثل نظريّة التّطور، لذلك يعمل على مواجهتها من خلال تصوّرات علميّة غالباً ما تقدّم بشكل مغلوط. ويكفي أن نتأمّل كيف تمسّكت بعض الأصوات الدّينيّة بنظريّة النسبيّة ونظريّة الكوانتا، أي بنظريات الفيزياء الجديدة، حتّى يفسحوا مجالاً أمام الإيمان. فيفسّرون “عالم الغيب” من خلال هذه النّظريات. وأمام هذا الرّفض للنّظريات العلميّة، فإنّنا قد نتجرأ ونقول إن عقلنا الإسلامي يعيش في زمن كوبرنيكوس، أي في القرن 16 ميلادي، لأنّ صدمة كوبرنيكوس العلميّة لم يستطيع العقل العربي الإسلامي التشكيك فيها، أو مواجهتها ببهلوانات فكريّة، ومغالطات علميّة،  بل دعمها بنظريات ابن الشّاطر وابن الهيثم، ليعلن سبقه بهذه الاكتشافات الفلكيّة [7] . في حين أنّ الثّورة الدّاروينيّة والثّورات العلميّة الأخرى المتعلّقة بنشأة الكون كنظريّة الانفجار العظيم، لم يستطيع عقلنا تقبّلها، وهذا يدلّ على تأخّرنا التّاريخي الكبير، أي أنّنا  نرى الوجود، علمياً، بعقلية القرن السّادس عشر، رغم أنّنا نعيش في القرن الحادي والعشرين. وهنا أطرح سؤالاً مفتوحاً: حين نؤمن بالحقائق العلميّة الموجودة اليوم، أين سيكون وصل العقل الغربي باكتشافاته؟

ثانياً:  إنّ العقل الميتافيزيقي يُعطل تفكير العالم، لأنّه يبتعد به عن الواقع . وكلّما كان العالم بعيداً عن الواقع كلّما كان مثالياً، وبالتّالي؛ كان خارج العلم. ولذلك؛ فإنّ الحقيقة الحدسيّة لا يمكن أن تكون حقيقة علميّة، وأكثر المعارضين للعلم وللعقل يتمسّكون بها لأسباب سيكولوجيّة ذاتيّة إيمانيّة وليس لأسباب موضوعيّة أو تكميليّة للعلم. نقول هذا الكلام عن الحقيقة الحدسيّة الميتافيزيقيّة والصوفيّة، وليس عن الحقيقة الحدسيّة العقلية الفلسفيّة الّتي عبر عنها كلّ من ديكارت وبرجسون، لأنّ هذه الحقيقة لا تقف في وجه التّقدم العلميّ بل ربّما تكون مكملة له.

ختاماً، إنّه يستقرّ عندنا أنّ الأمانة العلميّة لا تسمح بالاعتقاد الميتافيزيقي والحدسي. إنّ الأمانة العلميّة تقتضي ميل العَالم للدّهشة وللشّكّ. وأمّا الإيمان المطلق فيمكن أن يوظف في الأخلاق وفي نظرتنا للمفاهيم الفلسفيّة المجرّدة، وإن كان هذا أيضاً موضوع آخر يثير الكثير من الإشكالات، ويستوجب الكثير من التأمّل والتّمحيص.

*********

حواشي وهوامش:

1 ـ يقول الغزالي : ” (…) . وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيراً في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسيّة تدل على أنّه أكبر من الأرض في المقدار. هذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحسّ باحكامه، ويكذبه حاكم العقل ويخوّنه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته … ” انظر: أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق جميل صليبا و كمال عياد. دار الأندلس، ط: 7 ، ص 66.

2 ـ منجي لسود: إسلام الفلاسفة، دار الطليعة، رابطة العقلانيين العرب، ط: 2 ، ص 25.

3 ـ أبو حامد الغزالي: مرجع سابق، ص 67- 68 .

4 ـ  برتراند رسل: حكمة الغرب، ج 2، ترجمة فؤاد زكريا، عالم المعرفة، عدد 365، ص 234 .

5 ـ  انظر: جون غريبين،  تاريخ العلم، ج 1، ترجمة: شوقي جلال، عالم المعرفة، عدد : 389، ص11.

6 ـ  مرجع نفسه، ص 11.

7 ـ من المحتمل أن كوبرنيكوس أخذ الكثير من النظريات الفلكية المنسوبة إليه من ابن الشاطر، فقد تمّ العثور سنة 1973 على مخطوطات هذا الأخير في مسقط رأس كوبرنيكوس. انظر: خالد حربي، ما تشي به المخطوطات، الرّافد 2، ملحق لمجلّة الرّافد، عدد دجنبر 2014، ص 32 .

المصدر: https://www.alawan.org/2019/12/11/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d9%82%d9%8a%d9%82%d8%a9-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d9%85-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%af%d8%b3/

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك