تأثير الأبعاد الجيوسياسية على مسار الربيع العربي

عماد غليون

 

لعب الجيوبوليتيك دورًا خطيرًا في وقائع الربيع العربي والانحرافات الحادة في مساره، حيث باتت دول الربيع مدمرة وفاشلة، تحت تأثير الحروب والتدخلات الأجنبية التي ضربتها.

لا يؤثر في واقع الانتفاضات العربية تصنيفها ثورات شعبية أو حركات وانتفاضات مطلبية، والمفارقة أن الأنظمة العربية الدكتاتورية التي رفضت إطلاق تسمية الثورة على الربيع، جاءت عبر انقلابات عسكرية فرضت على الشعوب تسميتها ثورات.

هناك خصائص تميّز حراك كل دولة، بحسب طبيعة النظام القائم والتركيبة الاجتماعية، مع تشابه مقدمات وإرهاصات الانتفاضات العربية، جاءت بفعل تراكم عقود من ممارسات الأنظمة في القمع وانتهاك الحريات وتفشي الفقر والبطالة وتعطل عملية التنمية.

وعلى الرغم من ولع الأنظمة العربية الدائم بنظرية المؤامرة والعمالة للخارج، في تفسير إخفاقاتها المستمرة منذ عقود في بناء الدولة العصرية وفشلها في تحقيق عملية التنمية الموعودة؛ فإنها تحت ضغط الحراك القوي صنفته في خانة المطالب المشروعة لتحسين مستوى المعيشة جرى الاستجابة لها، ثم وسمت استمرار الحراك بالعمالة للخارج بهدف إسقاط الدولة والنظام، واتخذت ذلك مبررًا لعمليات القمع والاعتقال والتعذيب والقتل الواسعة التي قامت بها بمنهجية ضد المحتجين.

توقعت العديد من مراكز الأبحاث والدراسات اندلاع انتفاضات عربية، لتوفر الشروط الموضوعية مع وجود قاعدة شعبية واسعة حاملة، وقد ساعدت هيئات ومنظمات غربية في تأجيج ودفع الحراك، إضافة إلى الدور الرائد الذي لعبته وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، ولا يمكن قبول ادعاءات الأنظمة، بعدم أصالة الحراك وتبعيته للخارج، التي أدى إصرارها على التمسك بالسلطة ورفضها القيام بإصلاحات فعلية إلى زيادة حدة التدخلات الأجنبية التي حرفت الانتفاضات عن مسارها.

لا يخفى الدعم الغربي لإنشاء وتمويل العديد من منظمات المجتمع المدني العربية الناشطة خصوصًا في مجال الديمقراطية، والدفاع عن معتقلي الرأي وحقوق الإنسان، وبعد اندلاع الانتفاضات العربية ظهرت العديد من المنظمات الجديدة التي حصلت على تمويل وتدريب وتجهيزات للعمل، في مجال الإعلام ونقل الأحداث وتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان وتنظيم النشاطات والاجتماعات، لكنها فقدت استقلاليتها وحرية قرارها تحت وطأة الدعم الذي فتح أبواب التدخل والسيطرة على الحراك الثوري، واكتُشفت بعد فوات الأوان الأجندات السياسية الفعلية التي تقف وراء الدعم.

في الحالة السورية، باتت الجغرافية مسرحًا لقوات أجنبية وأجهزة استخبارات متعددة الجنسيات إضافة إلى ميليشيات طائفية وتنظيمات جهادية عابرة للحدود، ومنظمات وهيئات إقليمية ودولية ناشطة في مجالات متعددة، وأدى ذلك إلى ضياع السيادة الوطنية وإلى تراجع وانحراف خطير في مسار الثورة.

تتمتع سورية بموقع جيوستراتيجي مميز في قلب العالم القديم، وقد لا يكون ذلك كافيًا لتفسير حجم التهافت الإقليمي والدولي على أراضيها، وتمتلك الجغرافية السورية ثروات متنوعة ومتوازنة، لم يتم الاستفادة منها وتوظيفها بشكل مناسب في عملية التنمية، لكن توزع مناطقها -على أسس عرقية وطائفية- يحمل إمكانيات التقسيم والانسلاخ عن الجغرافية الوطنية، ولا تزال هناك مشاريع تُطرح لإعادة رسم وتشكيل خريطة الشرق الأوسط من جديد، على الرغم من مرور قرن على سايكس بيكو.

يحمل الجيوبوليتيك السوري الداخلي كثيرًا من المخاطر، ويهدد الفشل في بناء دولة مركزية بتأثير ودفع الصراعات الإقليمية والدولية، ويشكل فرصة لإحياء مشاريع تقسيم سورية، حيث يمكن أن تظهر دولة كردية في الشمال الشرقي، وكيان تابع لتركيا في الشمال الغربي، ودولة درزية في الجنوب، وفي الوسط والساحل وما تبقى من سورية يدخل في دولة إطارها الخفي علوي.

نقلت دول الجوار السوري والإقليمي صراعاتها إلى ساحة الجيوبوليتيك السوري، وأثر ذلك سلبًا في مسار الثورة السورية، وأدى ذلك إلى تعويم النظام واستمراره مرحليًا على الأقل، كونه بات يشكل نقطة توازن يحتاج إليها الجميع لتمرير مشاريعهم وضمان مصالحهم.

مثّل “أمن إسرائيل” على الدوام بيضة القبان، في مواقف أميركا والغرب تجاه الملف السوري، ولعب نظام الأسد دور الحامي للحدود الإسرائيلية، وصمت على تدمير القوة العسكرية السورية.

دعمت تركيا الثورة السورية منذ اندلاعها، وقامت بفتح الحدود أمام تدفق اللاجئين، ومع مرور الوقت، سيطر على توجهات السياسة التركية هاجسُ الأمن القومي والتصدي لخطر إقامة كيان كردي على حدودها الجنوبية، ودعمت تركيا قوى سياسية وعسكرية تركمانية وذات توجهات إسلامية، ثم شكلت مسار أستانا، بالتحالف مع روسيا وإيران، وعقدت مقايضة معها مقابل السماح لها بالسيطرة على الشريط الحدودي في الشمال السوري، ولم تكترث تركيا لحالة العداء التي ظهرت بينها وبين دول الناتو وأميركا على وجه الخصوص، وانتقلت نحو شراء منظومة الصواريخ الروسية وتحدي العقوبات الأميركية عليها.

بدأ تمدد إيران خارج حدودها، منذ الغزو الأميركي للعراق، وبعد هيمنتها على القرار السياسي في بغداد وبيروت، كانت دمشق محطة ضرورية لها لربط الطريق البري بين طهران وبيروت، والوصول إلى مواجهة مباشرة مع “إسرائيل”، وعلى الرغم من ظروف إيران الاقتصادية الصعبة، فإنها قدمت كل أشكال الدعم لنظام الأسد لضمان استمراره، ومقابل ذلك حصلت على مغانم اقتصادية، خاصة في قطاع الإسكان الذي يتيح لها إحداث تغيير ديموغرافي في البيئة السورية ونشر مذهب التشيع.

مثلت الحرب السورية فرصة للرئيس بوتين، لاستمرار التقدم الروسي والوصول إلى المياه الدافئة التي خسرتها منذ نهاية الحقبة السوفييتية، وتدخلت روسيا بكامل قوتها لإنقاذ النظام بضوء أخضر أميركي خفي، واستغلت الفرصة لتجريب الأسلحة كافة ضد الشعب السوري، وباتت تهيمن على القرار السيادي السوري، ومن الصعب تصور خروج روسيا من سورية، بعد إنشاء قواعد عسكرية دائمة وسيطرتها على مطارات وموانئ ومرافق حيوية، وحيازتها امتيازات تنقيب عن النفط والغاز في الساحل السوري.

ظل الدور الأميركي يدور في الإطار السياسي العام، والابتعاد من دائرة الفعل والتأثير المباشر على سير الأحداث طوال عهد الرئيس أوباما، الذي اعتمد المناورة والمراوغة من دون اتخاذ موقف حاسم ضد النظام، على الرغم من وعوده المتكررة خاصة إبان قصف النظام للغوطة بالكيمياوي، بينما عمد الرئيس ترامب من بعده إلى توظيف الأكراد في محاربة (داعش) مقابل وعود لهم بإدارة ذاتية في الشمال الشرقي، ثم تراجع وقام بالانسحاب من سورية، وتخلى عن الأكراد بعد إنجازهم المهمة، ولا تشكل سورية بطبيعة الحال ثقلًا اقتصاديًا أو سياسيًا بالنسبة إلى أميركا، وبقيت مجرد بوابة لتمرير مصالحها وتثبيتها وضمان تدفق النفط.

خرجت أوروبا من دائرة القرار العالمي، وباتت تابعة لتوجهات السياسة الأميركية، منذ عهد الرئيس بوش، ولا تظهر محاولات جادة لاستعادة الدور الأوروبي عالميًا، على الرغم مما صدر عن الرئيس الفرنسي ماكرون حديثًا، في أعقاب الانسحاب الأميركي الأحادي من الشمال السوري، وظهر موقف أوروبي قوي في التصدي للتدخل التركي ضد مشروع الإدارة الذاتية (روج أفا)، لكن أكثر ما يؤرق الأوروبيين هو ملف الجهاديين المعتقلين في سورية.

من دول الجوار السوري، أعلنت لبنان والعراق سياسة النأي بالنفس عن التدخل في الشأن السوري، ومع ذلك فتحت حدودها لتكون ممرًا لقوات “حزب الله” والميليشيات الطائفية لدعم نظام الأسد، بينما كانت أولوية الأردن حماية حدودها، ومنع انتقال عدوى الحراك إلى الشارع الأردني، وشكلت غرفة عمليات استخبارية للسيطرة وتوجيه حراك فصائل الجيش الحر في الجنوب السوري.

تحوّلت الأراضي السورية إلى مسرح للمواجهات، بين محور السعودية الخليجي ضد إيران، وأثر ذلك في مسار وأولويات الثورة السورية، من خلال الشروط الموضوعة على عمل وتوجهات المعارضة السورية.

من الغريب غياب موقف عربي موحد تجاه المأساة السورية، وعدم دعم حق الشعب السوري في الحرية والكرامة، وقد رفعت الجامعة العربية الملف السوري إلى الأمم المتحدة، وبقيت متفرجة وصامتة خلال سنوات، ولم تتحرك إلا حديثًا بدفع سياسي فج لإدانة التدخل التركي في الشمال السوري ضد مشروع “الإدارة الذاتية” الكردية، ومن الغريب ظهور دعوات إعادة النظام للجامعة العربية، على الرغم من عدم تبدل الظروف التي أدت إلى فرض العقاب عليه.

من الصعب الإحاطة بخفايا الجيوبوليتيك السوري المعقّد، ولا بد من فهم وتفكيك مكوناته الداخلية والخارجية المتداخلة، في إطار أي حل سياسي قادم، ومن ثم العمل على تصفير أشكال التدخلات كافة، وترسيخ الحياد السوري عن الأزمات والمصالح الإقليمية والدولية، وينبغي توحيد وتعطيل توجهات السوريين، وتعطيل فرض حلول على الطريقة العراقية أو اللبنانية، من المؤكد أن تلقي بتأثيراتها المديدة على المستقبل السوري.

وعلى الرغم مما يقال عن تأثير العوامل الذاتية في فشل الثورة السورية، والمأزق الخطير الذي وصلت إليه البلاد، فإن تأثير العوامل الموضوعية فاق قدرة احتمال السوريين، في التصدي لتضافر قوى إقليمية ودولية متناحرة ضد إرادتهم وحقّهم في الحرية والكرامة.

خلال مسار الثورة الطويل، دفع السوريون ضريبة الجغرافية التي تحولت مرة أخرى في التاريخ السوري الطويل، من نعمة إلى نقمة، لكن الأكيد أن الثورات حين تندلع لا تتوقف إلا عند الوصول إلى محطتها الأخيرة في تحقيق التغيير الجذري.

المصدر: https://geiroon.net/archives/160776

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك