الشعوب تريد والأنظمة تماطل

عبد الباسط سيدا

 

قواسم مشتركة عدة تجمع بين الثورات والانتفاضات الشعبية، في كل من العراق ولبنان وإيران، وهي قواسم تستوجب التفكير المتمعن، وتدعو إلى الاستعداد للبناء عليها، بما يخدم الجهود الرامية إلى تجاوز المشكلات التي تهدد الأمن والاستقرار الإقليميين، وتقطع الطريق أمام عملية تنموية نهضوية شاملة تحتاج إليها منطقتنا أكثر من أي وقت مضى. وكل ذلك لن يتم من دون تأمين حقوق الناس في التعبير عن الرأي والنقد والتواصل والحصول على المعلومات الصحيحة، وضمان المستلزمات الأساسية للعيش الكريم. وفي مقدمة هذه القواسم، نشير هنا إلى نضب الطاقة التجييشية التي كان النظام الإيراني يعتمدها للسيطرة على الداخل، والتحكّم في كل مفاصله. وهي الطاقة ذاتها التي استخدمها في مشاريعه التوسعية في الجوار الإقليمي، مستغلًا في ذلك المظلومية الشيعية، ليتمكن لاحقًا من تسويق حصيلة جهوده التخريبية على أنها نجاحات وانتصارات مزعومة في الداخل الإيراني عبر الماكينة الإعلامية للنظام المعني، المستمرة في عملية إعادة إنتاج سياسية دعائية التضليل والتعبئة، حتى يبقى النظام خارج نطاق دائرة المساءلة والمحاسبة.

فما حدث ويحدث اليوم، في البلدان الثلاثة، يؤكد أن شعوبها قد امتلكت وعيها الذاتي المنسجم مع مصالحها ومستقبلها. وتبيّن للشيعة قبل غيرهم أن شعارات نصرة الشيعة، والعمل لرفع المظلومية عنهم، والدفاع عن مراقدهم المقدسة، لم تكن سوى أدوات تعبوية، اعتمدها النظام الإيراني، وأذرعه في المنطقة، لتحقيق المزيد من التحكّم والتفرّد بالقرار، وتسخير كل الإمكانيات لصالح مشاريع الهيمنة والسيطرة.

أما الأمر الثاني المشترك بين ثورات الشعوب في البلدان المذكورة، فيتمثل في الإقرار العام بأمر الفساد المزمن الذي تجاوز كل الحدود والمقاييس، هذا الفساد الذي بات ظاهرة ملازمة لسلوكية الزمر الحاكمة، سواء العلنية المباشرة، أم تلك التي تحكم من خلف الستار. وهو الفساد الذي كان يتم التغطية عليه دائمًا بأولوية الأهم في مقابل المهم. ولكن بعد أن ذاب الثلج وبان المرج، كما يقول المثل، ظهرت معطيات وقرائن واتهامات حول اختفاء مليارات الدولارات التي سُرقت أو غُيّبت من دون تقديم أي كشف حساب مقنع متماسك؛ ومن دون أن يستفيد الناس منها، خاصة من المستضعفين، هؤلاء الذين يفتقرون إلى الكهرباء والماء النظيف والرعاية الصحية والتعليم المنتج. بل على النقيض من ذلك، فقد تراجعت مستويات المعيشة، وتفاقمت المشكلات في مختلف القطاعات الحيوية، واختفت الخدمات الأساسية، وبات التعليم في أدنى مستوياته، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الخدمات الصحية، ورعاية المسنين وذوي الاحيتاجات الخاصة، حتى باتت الأمراض، ولا سيّما المزمنة منها، كابوسًا يهدد الشرائح الواسعة من أصحاب الدخل المحدود والعاطلين عن العمل.

ويتجسد القاسم المشترك الثالث في تجاوز شعوب تلك البلدان الحواجز التي أقيمت بين الطوائف والمذاهب، تلك الحواجز الوهمية التي عمل النظام الإيراني -منذ مجيئه إلى الحكم  عام 1979- على جعلها حدودًا فاصلة مانعة من التواصل، وذلك عبر اختلاق الأحقاد وتغذيتها، والاستفادة منها على صعيد الفصل بين المكونات المجتمعية، وتجييش الطاقات الشبابية الشيعية لصالح مشروع ولي الفقيه في إطار الميليشيات المذهبية. لقد تجاوز المتظاهرون في لبنان والعراق وإيران هذه الحواجز، وباتت المطالب المعيشية هي القاسم المشترك بين مختلف المكونات. بل إن الأمر اللافت في الحركات الاحتجاجية العراقية، خاصة في المناطق الشيعية، هو دعوتها الواضحة بضرورة وقف التدخل الإيراني في تفاصيل الوضع العراقي على صعيد الدولة والمجتمع. كما أن التظاهرات العابرة للمذاهب والأديان في مختلف المناطق اللبنانية التي كان يتم التعامل معها على أنها إقطاعيات طائفية تابعة لهذا الحزب أو ذاك، تؤكد بروز توجه جديد نوعي لدى الأجيال الشابة اللبنانية، وهذه ظاهرة غير مسبوقة تنم عن تحول متميّز في الوعي الوطني اللبناني، ستكون له نتائج وتفاعلات إيجابية مستقبلًا، بغض النظر عن مآلات ثورة الشعب اللبناني الراهنة.

أما القاسم المشترك الرابع، فهو يتشخص في الدور المهم الذي تؤديه المرأة في مختلف الاحتجاجات والتظاهرات، سواء عبر المشاركة المباشرة، وتحدي التهديدات ومواجهتها، أم من خلال تقديم الدعم اللوجيستي للمتظاهرين بمختلف الأشكال. وتفسير ذلك هو تعرض المرأة، إلى جانب كونها الأم والزوجة والأخت، بالنسبة إلى الشباب والرجال الذين يكونون عادة وقودًا في مشاريع ميليشيات ولي الفقيه، لمختلف أنواع الضغوط الاجتماعية والنفسية نتيجة سياسات التزمّت المذهبي، التي بات من الواضح أن الهدف منها هو الهيمنة والتوسع، من دون أي مراعاة للاحتياجات الراهنة، والمقدمات الضرورية لضمان مستقبل أفضل للأبناء والأحفاد.

وعلى الرغم من صعوبة التكهّن حاليًا بالنتائج التي ستسفر عنها التحركات الشعبية في البلدان الثلاثة، خاصة في إيران حيث يمارس النظام أقسى درجات العنف والتنكيل لمنع الشباب في مختلف المناطق من متابعة تظاهراتهم واعتصاماتهم الاحتجاجية، فإننا على يقين بأن الأمور قد تغيّرت، ولم تعد لعبة التضليل بالشعارات، والتسويف من خلال إعطاء الوعود التخديرية، قادرة على إقناع الناس بجدية وجدوى المعالجات التي تدعي السلطات بأنها ستقوم بها للتخفيف من معاناة الناس.

فما يحدث في البلدان الثلاثة لا يمكن فصله عما جرى، ويجري، في سورية والجزائر والسودان واليمن ولييبيا ومصر وتونس، وهي البلدان التي شهدت ثورات وانتفاضات شعبية في مواجهة فساد السياسيين واستبدادهم، أو تبعيتهم للمشاريع الخارجية. وكل ما تشهده المنطقة راهنًا، وشهدته قبل سنوات، إنما هو حصيلة عقود من الفوضى، وعدم الوصول إلى توافقات إقليمية كان من شأنها تحقيق الاستقرار على مستوى الدول والإقليم، وهو الأمر الذي يعدّ مقدّمة ضرورية لا استغناء، لتمكين شعوب منطقتنا ودولها من الخروج من دائرة العنف الداخلي، والحروب البينية التي تجري حاليًا بمختلف الأشكال.

أما أن تستمر الأوضاع على ما هي عليه راهنًا، أو ربما تتجه نحو الأسوأ، وتتعقد من دون أي ضوابط أو وجود آليات الحل، فإن كل الاحتمالات السيئة، بل الأسوأ، واردة، وذلك كله يستنزف الموارد البشرية والطبيعية، ويقطع الطريق أمام أي صيغة من صيغ التراكم، سواء تراكم الثروات أم المعارف والخبرات.

فالأنظمة الحاكمة في دول المنطقة لم تتمكن بعدُ من تجاوز الحسابات القديمة، وما زالت تتعامل مع قضاياها ومشكلاتها بعقلية ماضوية، ونزعات رغبوية لا تنسجم مع الوقائع، ولا تضمن تأمين احتياجات أجيالنا الشابة والمقبلة؛ وللتغطية على الاستعصاءات والعيوب، تلجأ الأنظمة المعنية إلى لغة التجييش والتخوين والتضليل، وتستخدم غالبًا شعارات شعبوية تساهم في تصعيد المشاعر السلبية؛ شعارات تكون للاستهلاك المحلي، بينما الممارسات والبازارات البينية تكون وفق مصالح من تحكموا في مفاصل دول المنطقة، وباتوا يتعاملون معها بوصفها غنيمة لهم، لا يجوز التنازل عنها، أو حتى إتاحة المجال للآخرين للمشاركة وفق محددات واضحة شفافة، تسمح بالمساءلة والمحاسبة عبر المؤسسات الدستورية الفعلية، وليست تلك الشكلية التي قد أصبحت منذ زمن بعيد مجرد أداة تزيينية دعائية، تستخدمها الأنظمة الدكتاتورية بأسمائها المختلفة لإطالة عمرها.

حركة شعوب المنطقة تجدّد التفاؤل، بالرغم من الصعوبات والمخاوف الكثيرة المشروعة، فهي حركة أدت، وستؤدي، إلى هتك أسرار الفاسدين والمستبدين، الأمر الذي سيؤدي من ناحيته إلى انتفاء الهيبة، وتلاشي مظاهر العنجهية المتغطرسة، وانكشاف أمر الصفقات المخزية.

المصدر: https://geiroon.net/archives/160571

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك