العولمة ومستقبل ظاهرة الإرهاب العالمي في الوطن العربي

سعود الشرفات

 

يزخر عالم اليوم بالمخاطر والرعب والخوف والقلق والتوتر وتحديات لا تنتهي. وإدراك البشر لهذه المخاطر والتحديات الآن أعمق وأوسع من السابق.

في نفس الوقت، فإن سيرورة العولمة الحالية خاصة ميكانزماتها التكنولوجية التي تتميز بالتسارع الشديد؛ هي حاضنة ذلك كله، حتى وإن اعتراها بعض التباطؤ في العقد الأخير.

وفي الوقت الذي أصبح فيه إدراك البشر لمزايا الرخاء والتقدم والازدهار - بسبب العولمة - مبعثاً على التنافس بين الدول والجماعات والأفراد، فقد أصبحت تحديات متخطية للحدود القومية، وعلى رأسها الإرهاب العالمي والتطرف الديني الذي تقوم به "أطراف فاعلة ما دون الدولة"، حافزا للأطراف الفاعلة من الدول على التعاون.

إن هناك علاقة إيجابية، وارتباطا قويا بين المؤشر العام للعولمة والمؤشر العام للإرهاب ويبلغ حجم هذه العلاقة 76%

في تعريف العولمة

مثلها مثل الكثير من المفاهيم والمصطلحات الغربية التي ولدت وتطورت ضمن المنظومة المعرفّية الغربية وعلى رأسها مفهوم الإرهاب؛ ليس هناك تعريف محدد لمفهوم العولمة حتى داخل النظريات والمناهج الواحدة، ولا يوجد تعريف واحد متفق علية لدى المهتمين والأكاديميين والمراقبين والخبراء.

ويذهب داني رودريك (المُنظّر التركي في الاقتصاد السياسي وأحد أهم وأكثر المشتغلين في العولمة الاقتصادية) إلى أن سيرورة العولمة لا ترجع إلى فترة 1980 أو 1945 فقط، بل أبعد من ذلك إلى القرن التاسع عشر الحقبة الأولى في العولمة... لا بل أبعد إلى الحضارة المغولّية. ولذلك، فإنها قديمة جدا ويعيشها البشر منذ زمن بعيد([1]).

وأقصد بالعولمة هنا "السيرورة المتسارعة - بتأثير فعّال وحاسم من التطور التكنولوجي - التي تكتسب من خلالها العلاقات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والتكنولوجية، سمات مجردة عن المسافات، والحدود الطبيعية أو المصطنعة، حيث أصبح البشر أكثر إدراكاً من أي وقت مضى في التاريخ الإنساني. إنهم يعيشون في هذا العالم باعتباره مكاناً منفرداً وواحداً شديد الترابط، حيث أصبح تأثير الأحداث وظواهر مهما كانت نوعيتها امتداداً من الإرهاب العالمي، الأمراض المعدية، الاحتباس الحراريّ، تجارة المخدرات والرقيق الأبيض، الأزمات المالية، إلى التلوث البيئيّ أو مكان حدوث هذه العلاقات والظواهر في العالم، متزايداً بشكلٍ متسارعٍ جداً"([2]).

العلاقة الملتبسة بين العولمة والإرهاب

السؤال الذي يظل يُطرح عليّ هو: هل هناك علاقة بين سيرورة العولمة وظاهرة الإرهاب، وإذا كانت هناك علاقة، فما هو شكل هذه العلاقة؟

والفرضّية الرئيسة التي سبق أن أشرت إليها أكثر من مرة، وأعيد تأكيدها هنا في نظريّتي للعلاقة بين العولمة والإرهاب؛ والتي أثبتُّها خلال دراستي وأبحاثي السابقة للعلاقة بين العولمة والإرهاب (خاصة من الناحية الكمّية الرياضية والإحصائية) هي؛ إن هناك علاقة إيجابية، وتأثيراً متبادلاً بين الظاهرتين، وارتباطا قويا بين المؤشر العام للعولمة والمؤشر العام للإرهاب وأن حجم هذه العلاقة بلغ (67%).

وأن هناك علاقة بنيَويّة ووظيفّية إيجابية بين العولمة والارهاب، حيث إنه لو زاد مؤشر العولمة بمقدار وحدة واحدة فقط، فإن مؤشر الإرهاب سيزيد بمقدار (47%).

هذا يعني أن الزيادة في ظاهرة العولمة تؤدي إلى الزيادة في ظاهرة الإرهاب، لكن ليس بالضرورة بالمقدار نفسه، كذلك النقصان في ظاهرة العولمة يؤدي إلى النقصان في ظاهرة الإرهاب، ولكن ليس بالضرورة بالمقدار نفسه.

كلما اتسع نطاق انتشار مؤشرات التكنولوجيا اتسعت معه سيرورة وآليات العولمة، واتسعت معه آليات عمل الجماعات والمنظمات الإرهابية

وعلى الرغم من أن كافة مؤشرات العولمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد ساهمت في هذا التأثير، إلاَّ أن مؤشر العولمة (التكنولوجية) كان يمثل المتغير الوسيط بين العولمة والإرهاب، وصاحب الدور الحاسم في حجم إدراكنا للظاهرتين والتسارع الهائل في الظاهرتين فكلما اتسع نطاق انتشار مؤشرات التكنولوجيا اتسعت معه سيرورة وآليات العولمة، واتسعت معه آليات عمل الجماعات والمنظمات الإرهابية، إذا استطاعت الشبكات والمنظمات الإرهابية كأطراف فاعلة ما دون الدولة (مثل تنظيم القاعدة، وداعش، وجماعات اليمين المتطرف المعاصرة) استغلال مخرجات (التكنولوجيا) بكافة أشكالها بفعالية أكثر من الدول في عمليات التجنيد والدعاية وإثارة الرعب والتوحش على مستويات أوسع وأعمق من أي وقت مضى في التاريخ البشري.

وهنا؛ قد يطرح البعض سؤال: ما تأثير ذلك على السياسة الدولية والفاعلين في المجتمع؟

عملياً؛ لقد وضع هذا الأمر صانع القرار السياسي في مختلف دول العالم في الحقبة الحالية من العولمة، وخاصة في مجال مكافحة الإرهاب العالمي، أمام خيارات صعبة وضيقة جدّاً بين: إمّا النكوص عن الانخراط والتفاعل مع سيرورة العولمة واللجوء إلى كبت الحريات والرقابة المسبقة على الحريات الفردية وفرض قوانين صارمة؛ أو ترك المجال مفتوحاّ لسيرورة العولمة بأن تجري بمساراتها الطبيعية الجارفة([3]) حتى وإن تباطأت بعض الشيء في السنوات الأخيرة خاصة في ظل بروز الأنظمة الشعبّوية والقومية في أوروبا وأمريكا في عهد الرئيس دونالد ترامب.

وتعمل هذه المسارات الطبيعية بشكلٍ متزامن؛ وتتجلى في أمرين؛ الأول أن سيرورة العولمة تؤدي إلى دمج واسع ومستمر على مستوى البنى الاقتصادية المختلفة، خاصة في الأسواق المالية والتحويلات المالية، والثاني تفتيت وتحطيم على مستوى البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية خاصة في تعزيز الفردانية، والولاءات والهويات الفرعية.

ونظراً لأن الأنظمة الديمقراطية في العالم على عكس الأنظمة الشمولية والديكتاتورية تواجه هذه المعضلة بكثير من الحذر والموازنة بين قيم الحرية من جهة، والأمن من جهة أخرى نزولاً عند الشروط الديمقراطية والمحاسبة من قبل المواطنين الناخبين الأحرار نسبياً، فإن هذه الخيارات تبقى ضمن مساحة الممكن من التعديل والتأقلم مع الظروف الطارئة والعشوائية في الكثير من الأحيان.

لكن المشكلة الأكبر هي عند الأنظمة الشمولّية والديكتاتورية والقمعية؛ التي تجد في مخاطر الإرهاب ومكافحته ضالتها لنشر المزيد من القمع، وتكميم الأفواه والحد من الحريات العامة والتدخل السافر في ما ينشر أو يتداول في وسائل الإعلام بحجة مكافحة التطرف العنيف. والنتيجة أن سيرورة العولمة تمضي منطلقة - وإن بتباطؤ - خاصة من خلال آلياتها التكنولوجية كما يتجلى ذلك في وسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما يعزز ويدعم من عولمة الإرهاب ونشره بتوسعٍ وعمقٍ أكبر في العالم، وخاصة في العالم العربي والدول الإسلامية.

الإرهاب العالمي كأداة سياسية

تحول الإرهاب إلى ظاهرة عولمّية بامتياز، حيث طال شره الكثير من الدول وأزهق الكثير من الأرواح وكبد الاقتصاد العالمي الكثير من الخسائر المادية وغير المادية.

لقد ضرب الإرهاب العالمي أكثر من 77 دولة في العالم في العام 2018م، وأدى إلى وفاة 18814 شخصا وكبد الاقتصاد العالمي ما مجموعة 52 مليار دولار. وخلف ما يقرب 40000 مقاتل أجنبي في سوريا والعراق 13% منهم من النساء، و12% من الأطفال، و730 من الأطفال الأيتام. وهذا جزء َبسيط ومختصر من الأمثلة حول أحداث واتجاهات قابلة للقياس، وكلها لم تنته وسيستمر العالم بالتعامل معها خلال عام 2019م، وفي المستقبل أهمها مشكلة عودة "المقاتلين الإرهابيين الأجانب" إلى بلادهم وكيفية التعامل مع النساء، والأطفال والأيتام والاعتراف بهم، حيث تشير بعض التقارير إلى أن هناك رفضا واسعا للاعتراف بأبناء النساء الأزيديات اللواتي سباهن تنظيم داعش بعد عام 2014م حتى من داخل المجتمع الأزيدي نفسه!

وهنا نشير إلى أن الإرهاب العالمي قد تحوّل إلى أداة من أدوات تنفيذ السياسية الخارجية، ونشر القيم والأفكار والأيديولوجية للأطراف الفاعلة من الدول، وغير الدول، وعلى رأسها التنظيمات الإرهابية.

وبالنظر إلى النجاحات التي حققها الإرهاب العالمي المعاصر المعولم كأسلوب لتنفيذ السياسة الدولية، حيث شكل تنظيم داعش تحديداً خلال الأعوام 2014 - 2016 (خلافة) شبه دولة بمساحة تفوق مساحة بريطانيا قبل أن يُهزم في آخر معاقله في سوريا 2019 أمام تحالف دولي واسع يتكون من أكثر من عشرين دولة في العالم؛ لذلك أعتقد أنه ليس من الحصافة الادعاء بانتهاء ظاهرة الإرهاب العالمي في المدى المنظور، أو حتى الادعاء بالقضاء على إرهاب اليمين المتطرف أو تنظيم داعش الذي نفذ هجوماً إرهابيا مرعباً في سيرلانكا بعد أسابيع من إعلان القضاء عليه في آخر معاقله في قرية الباغوز في سوريا، وإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قبل ذلك هزيمة التنظيم. وقبلها كان إرهابي من اليمين المتطرف ينفذ فيه هجوماً مرعباً على المساجد في نيوزيلاندا.

قد يتعثر الإرهاب العالمي لكنه لم، ولن ينتهِ، بل سيتكيف ويتأقلم مع البيئة السياسية العالمية ويأخذ أشكالا أكثر خطورة تتماهى مع سهولة قدرته على استخدام مخرجات العولمة التكنولوجية. وسيبقى الإرهاب الذي تحركه الإيديولوجيات الدينية مثل القاعدة وداعش خطراً ماثلاً في العالم العربي والإسلامي مستقبلاً.

والإرهاب؛ مشكلة عولمّية؛ بمعنى أنه يتحرك في فضاءات العولمة محملا بكل آليات العولمة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية، ولذلك لا يمكن معالجته بالوسائل الأمنية والعسكرية والحروب فقط. وإذا كان الإرهاب مهما كان مصدره أو شكله "يستحق الإدانة، فإن الإرهاب المضاد لا يختلف عنه"([4]).

إن النظام العالمي المعاصر الذي ساهمت في صناعته وتشكله سيرورة العولمة - خاصة الآليات السياسية و(التكنولوجية) - هو الذي سهّل؛ وأنشأ الشروط الموضوعية لغليان مرجل التطرف والغلو والكراهية والإرهاب العالمي المعاصر بهذا الشكل الواسع والعميق خاصة في العالم العربي.

ومن وجهة نظر "شبكة حركات مناهضة العولمة" التي تغلب عليها المقاربات اليسارية، فإن العالم كله هو الذي يقاوم العولمة.

والجماعات الإسلاموية المقاتلة التي تنشط في العالم العربي (من خلال ممارسة الإرهاب) تمارس المقاومة من الأسفل ضد العولمة، على اعتبار أن الإرهاب سلاح الضعيف ضد القوي الجبار. وأن هذه الجماعات تُعبّر عن كلِّ واحدٍ في عالم يناهض العولمة التي تحتكر القوة في عالم اليوم.

وقد باتت هذه المقاربة المُخيفة تلقى رواجا ً ملحوظاً عند معارضي العولمة وأدبيات مكافحة التطرف الديني والإرهاب.

لقد كانت فكرة مقاومة العولمة بسيطة. فهذا "النظام العالمي" الذي يكره الموت ويتجنبه، سيكون السلاح المميت ضده هو أشكال متنوعة من الموت الانتحاري، والتفجير من خلال الإرهاب؛ الثمرة المتعفنة للعولمة (حسب وصف بنجامين باربر)([5])، أو العولمة من الأسفل، التي تريد قلبها رأساً على عقب، حتى تكون أكثر عدالة وإنسانية([6]).


 

 

[1]- http://fivebooks.com/interviews/dani-rodrik-on-globalisation, Interview by Sophie Roell

المنظر داني رودريك من الداعين إلى عدم الأفراط في العولمة والتحذير من الأنماط المتطرفة منها والتركيز على احترام الخصوصيات وأشكال الحكم والمؤسسات.

[2]- Scholte, Jan Aart. (2001). the Globalization of World Politics in Baylis, John and Smith, Steve the Globalization of World Politics: An Introduction to International Relations، Oxford University Press, 2nd. Ed, P 14-15

[3]- الشرَفات، سعود (2011) العولمة والارهاب: عالم مسطح أم وديان عميقة؟، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان الطبعة الأولى، ص 194 - 196

[4]- باريك، بيكو (2005) إرهاب أو حوار ثقافات، الفصل الرابع والعشرون، عوالم متصادمة: الإرهاب ومستقبل النظام العالمي، تحرير كين بوث وتيم ديون، ترجمة صلاح عبد الحق، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الطبعة الأولى، ص ص 354 - 355

[5]- باربر، بنجامين، (2005)، إمبراطورية الخوف: الحرب والإرهاب والديمقراطية ترجمة عمر الأيوبي، الكتاب العربي، بيروت.

[6]- Michael Hanley (2019). Jack Ma plans to reform globalization from the bottom up. Here’s how, World Economic Forum, https://www.weforum.org/agenda/2019/01/jack-mas-plans-to-reform-globaliz....

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك