الهويات العُصابية المجاهدة
عبد الله إبراهيم
حضرت أعمال ورشة "العولمة والتطرّف" التي عقدتها الجامعة الصيفية في الرباط، بالمغرب، بين 22 ـ26 أبريل 2019، وقدّمت مداخلة ربطت فيها بين العولمة والتطرّف، وانتهيت إلى أن إحدى نتائج العولمة هي عولمة التطرف. لا تنادي العولمة بالتطرف، ولا تفترضه ركنا من أركانها، ولكنها تتولّى تصنيعه بإيقاظ الأسباب الباعثة له؛ فالعولمة محفّز للتطرّف القابع في الأعماق السحيقة للمجتمعات التقليدية، ومغذّية له في إحداث الفوضى في القيم الناظمة لحياة تلك المجتمعات، وحينما يصبح أمره ظاهرا تدفع به وسائلها عبر الحدود الجغرافية والدينية والسياسية والثقافية، فتجعل منه ظاهرة عالمية لا تنحبس في بلد أو معتقد أو عرق.
وإذ فوجئ العالم، قبل نحو ثلاثة عقود، بإرغامه على الأخذ بالعولمة الاقتصادية والسياسية والثقافية، فقد فوجئ بظاهرة الإرهاب، وهي التعبير الصريح عن التطرف، ظاهرة أشاعت الذعر في كثير من أرجاء العالم، وتجلّى ذلك بعنف دفع به غضب هوسي رفدته مغذّيات اجتماعية، ونفسية، ودينية، وسياسية، فتداخلت كلها في صوغ ملامحه، وخلعت عليه خليطا مبهما من سمات فردية وجماعية لها صلة بالأحوال العامة لمجتمعات تترّدى فيها مواقع الهويات الأصلية، وتتعسّر ظروف العيش، وتنتهك الحريات العامة، وتنحطّ الأحوال الفردية، فكأن تلك المجتمعات أُرغمت على قبول ما لا ترغب فيه من قيم طارئة حلت محلّ قيمها الموروثة، فارتدّت جماعات عنيفة فيها نحو الماضي تستعير منه ما تكافح به عولمة فكّكت الروابط التقليدية، وجعلت من العالم سيلا مبهما من الرغبات العطشى، والأهواء الجامحة، فسعت إلى اقتلاع القيم السامية من حواضرها الكبرى، وهي الأمم العريقة بموروثاتها الثقافية، والدينية، والأخلاقية.
وبإزاء ذلك، وفي الرد عليه ردّا صريحا، انتعش التطرف، وتنامى التعصب، وشاعت المغالاة في الارتماء داخل هويات ثقافية أو دينية، شبه مغلقة بقصد الحفاظ عليها، وصونها من الذوبان، ما أّدى إلى تفشّي الكراهية والبغضاء؛ أي انتعاشُ مقومات التطرف في كثير من أنحاء العالم، ولَم يقف الأمر عند هذا الحدّ، بل جاوزه إلى ما هو أخطر من ذلك؛ إذ قد وقع تحوّل جذري في البنية الذهنية والنفسية للجماعات الدينية السلفية، فانتقلت إلى ضرب من التأسلف يتخطّى مفهوم السلف الصالح، وما يتصف به من برّ، وتقوى، واستقامة، إلى مفهوم مناقض لذلك، قوامه العنف، والفتك، والبأس، فتمادت تلك الجماعات في تغذية ضروب العداوة ضد حمولة الأفكار الغربية التي وضعتها العولمة بين أيدي الناس.
اقترحُ مصطلح (الجماعات المتأسلفة) للتعبير عن تلك الزُمر المذهبية التي جاوزت الجماعات السلفية في ادعاءاتها الانتماء إلى الدين، فانغلقت على لاهوت جهادي مستعار من الماضي، ولاذت به للدفاع عن قيم دينية متماسكة ورثتها بالتلقين والتخييل على أنها رفيعة الشأن، فلا يصحّ المساس بها بأية ذريعة من ذرائع الدنيا الفانية، ولم تحترم الجماعات المتأسلفة المعايير المرنة للإيمان الديني، باعتباره اختيارا فرديا في عالم يمور بالتحولات، إنما احتقرت ذلك، وأزرت به، وتجاوزته إلى ما هو أخطر، حينما أحاطت الظاهرة الدينية بتفسير بترها عن سياق الحياة، ففصمها عن مِحضنها، وقيّدها بمجموعة والنواهي والروادع، وحبسها في إطار صارم من المحرّمات والمباحات، وكأن الظاهرة الدينية مُثل متعالية لا صلة لها بمجرى التاريخ، وبتيار الحياة.
أضحت الجماعات المتأسلفة عابرة للحدود الوطنية والقومية بعد أن مهّدت لها العولمة طريق الانتشار، وراحت تتطلع الى إعادة بناء دولة متخيّلة على غرار ما ظنّت أنه كان سائدا في دار الإسلام منذ نحو ألف عام في نوع من الاحتجاز القهري للمجتمعات، والدفع بها إلى الوراء عنوة من أجل أن تتشرب أوهام الماضي لتقيها من دنس الحاضر، وصوّر واقع حال العالم على أنه سقوط مريع في حقبة جاهلية جديدة، وينبغي تصحيح أحوال المسلمين قاطبة بعد أن ضلوا السُبل الصحيحة إلى الحقّ، وقد تنامي وجود المتأسلفين في غير مكان في العالم. وشكّلت هذه الظاهرة خطرا على المجتمعات المدنية التي قطعت شوطا طويلا في تدبير شؤونها الدنيوية. وكلّما تداخلت مصالح العالم، وتمازجت قيمه، نفرت الجماعات المتأسلفة من الاندماج في عالم وجدته غريبا عن المجتمعات التي تنتسب إليها، وأعرضت عنه بذرائع دينية، وقاومته مقاومة عنيفة.
أضحت الجماعات المتأسلفة عابرة للحدود الوطنية والقومية بعد أن مهّدت لها العولمة طريق الانتشار
وليس ينبغي تبرئة العولمة مما حدث، فهي متورطة في تهيئة الأرض المناسبة للتطرف؛ فلطالما زعمت بأنها تهدف إلى تركيب عالم متجانس تحلُّ فيه وحدةُ القيم، والتصورات، والغايات، محلَّ التشتتِّ، والتمزق، والفرقة. هذا أمرٌ جيد في ظاهره خطير في باطنه؛ لأن العولمةَ اختزلت العالمَ إلى مفهوم، بدل أن تتعامل معه على أنه تشكيلٌ متنوع من القوى، والإرادات، والانتماءات، والثقافات، والتطّلعات؛ فوحدةٌ لا تُقرُّ بالتنوع الثقافي، كما تريدها العولمةُ، ستؤدّي إلى التأصيل شبه المغلق للهويات. وهذا التأصيل الأعمى باعث على أشد أنواع التطرف، وهو العنف. ويصحّ القولُ بأن العولمةَ بتعميمها النموذج الغربي على مستوى العالم خيارا وحيدا في التصور، والفهم، والإدراك، واستبعادها التشكيلات الثقافية الأصلية الضاربة في التاريخ، وإرغام الآخرين على الأخذ بالنموذج الغربي، أوقدت شرارة التفرّد في العالم؛ ذلك أنّ بسط نموذج اقتصادي - سياسي- ثقافي بالقوة على الآخرين تسبّب في ظهور أيديولوجيات متطرّفة دعت إلى نقاء الأصل، ونادت بصفاء الهوية، وامتنعت عن الحوار، وأحجمت عن التواصل. وانتهت بصوغ ما يصحّ تسميته "الهوية العُصابية المجاهدة" تعبيرا عن نزوع خاص بها في حماية نفسها، وما اكتفت بمقاومة ما حسِبته خطرا ماحقا لمقوماتها الدينية، بل راحت تنقضّ عليه حيثما يكون للفتك به، وتخريب ركائزه، وقد شاع الامرُ في غير مكان في العالم، بما في ذلك قتل الأرواح في الأماكن المقدّسة.
تظهر ما أصطلحُ عليه بالهويات العُصابية المجاهدة بوصفها تيارات ارتجاعية عنيفة لمقاومة الذوبان الذي تُرغم به العولمةُ المجتمعاتِ التقليدية على الانصهار في بوتقة القيم الغربية بما يقتلع هوياتها الأصلية اقتلاعا تاما، فتشعر بأنها فقدت بوصلةَ حياتها، وأضاعت أعزّ ما لديها. وتنبني الهويةُ العصابيةُ المجاهدةُ على مزيج من الهوس بالأمجاد المتخيّلة لدى الأمم العريقة، والروح الكفاحية العنيفة التي يغذّيها الإحباط، وعدم الاعتراف، والشعور بعدم الاتزان في الأفعال، والاختلال النفسي في التعبير عن الانفعالات، والرغبة في تعديل الخطأ بالعمل على إحلال الحق محل الباطل بالعنف المقدّس، وتستقي تلك الهوية فرضياتِها من مفاهيم الجهاد الديني، والقتال الصريح ضد الآخر المختلف، باعتباره مصدرَ خطر مؤكد لا يؤتمن جانبه إلا بالقضاء المبرم عليه، وهي هوية ارتدادية صقلها التاريخ وغذّاها الخيال، فلا تقبل التفريط بنفسها، ولا تتشارك مع سواها في الحوار والجدال، وتلوذ بالعنف لحماية ذاتها.
ولن نجانب الصواب إذا قلنا بأنّ الهوية العُصابية المجاهدة ظهرت من أجل نقض أشكال محاكاةَ النموذج الغربي التي روّجت لها العولمة، تلك المحاكاة التي أفضت إلى سلسلة طويلة من المماثلات الهادفة إلى محو الخصوصيات الثقافية للأمم، وطمسِ الأعراف الخاصة بها، وإرغامها على الأخذ بما تجهلهُ، أو بما لا تتعرّفُ فيه على نفسها، فكلّ ذلك سوف يحتكّ بالأعراف الموروثة الحافظة للهويات التقليدية، فتُبعث على أنها نُظم رمزية عظيمة الشأن غايتُها صون الهويات الأصلية من الذوبان في تيار من الهويات السائلة التي فرضتها العولمة بفتح الحدود، والعقول، والمعتقدات، وهي بمجملها ظواهر مبهمة لا تُوقّر عُرفا، ولا تحترم معتقدا، بل تقطع صلةَ الأمم بأمجادها العريقة، وتقوّض كينونتها التاريخية، تلك الكينونة التي تصون وحدتَها، وتغذّي مخيالَها بأوهام العظمة والرفعة والقوة والصفاء.
ومع أنه يحوم الشكّ حول طبيعة الخدمات الجليلة التي يزعم دعاة العولمة بأنها أصبحت في متناول أهل الدنيا؛ فالمؤكد أن العولمة ألحقت ضررا بالغا بعدد وافر من الأمم العريقة، والمجتمعات الفقيرة، فهزأت بقيم الأولى، ومسختها كأنها مخلّفات مشينة من الماضي البعيد، وجعلت الثانية فضلة من الفضلات الزائدة عن الحاجة إلا في تسخيرها لخدمة مجتمعات الرفاهية المعولمة. ويستحيل إنكار صلة العولمة بالمجتمعات الثرية، وفي القلب منها المجتمعات الغربية التي انتهت إليها معظم ثروات العالم في العصر الحديث بسبب التجربة الاستعمارية، وفيها وقع تداول تلك الثروات، والانتفاع بها، وفيها تحققت رفاهية لا تكاد تخفى على أحد أفضت إلى نوع من الأنانية الثقافية، والرفعة الحضارية.
يكشف الإمعان في النظرَ إلى طبيعة العولمة أنها ثمرة معاصرة من ثمار التجربة الاستعمارية العريقة، وإذا كانت التجربةُ الاستعمارية قد أخضعت المستعمَرين لعلاقة تبعيّة مع المركز الاستعماريّ، فإن العولمة نشرت ثقافة التجربة الاستعمارية على مستوى العالم، وأرغمته على الأخذ بها. لقد مسخت تلك التجربة المهينة هوياتِ الأمم، وأعادت تشكيلَها على وفق المفهوم الغربي، فخلعت عليها الانحطاط، وازدرت أصولها العرقية، ومعتقداتها الدينية، ولَم تقر بالمساواة، وأدرجت الأمم المستعمَرة في تبعية اقتصادية وسياسية ونفسية. ورسّخت فكرة مؤدّاها ألاّ سبيل لبعث الحراك في تلك المجتمعات الراكدة إلاّ باستعارة التجربة الغربيّة في التقدّم. وهذا هو مضمون العولمة، وهذا هو ميثاقها مع الأمم خارج المحضنين الأوربي والأمريكي لها.
ومضت العولمةُ بما مضت به الإداراتُ الاستعمارية من قبل في إكراه العالم على الأخذِ بمسار التطوّر الغربيّ وسيلةً للتقدّم، وقد وضع هذا المسار العالمَ أمام مقترح وحيد للتطوّر، فالتقدّم لا يأخذ معناه إلاّ من الوصف الغربيّ له. ونتج عن ذلك أن تعثّرت تجارب التحديث في معظم المجتمعات التي مرّت بالتجربة الاستعماريّة؛ إذ ينبغي عليها الانصياع لشروط الحداثة الغربيّة، وليس لحداثة متّصلة بهُويّاتها، وبتجاربها التاريخيّة. ولما كان ذلك مُحالا من الناحية الفعلية، فقد انبثقت ضروب من التطرف لمقاومة ذلك، وهو تطرف لم يأخذ في حسبانه الاختلاف عن التجربة الغربية، بل سعى إلى نقضها بمزيد من الانطواء على الذات. لقد كرست العولمة الولاء للآخر الغربي، واختزلت الذات إلى عنصر هامشي، واستبعدت المكوناتِ القابلةَ للتطور، وفجّرت الحراكَ الاجتماعي بصورة فوضوية، ما أدى إلى انبعاث فورة الأصوليات العرقية والدينية والمذهبية.
أشاعت العولمة أسبابَ الفرقة والنزاع، بدل أن ترسّخ مبادئ الحوار والشراكة، ونتج عن ذلك تطرف عنيف يُوهم أصحابه بإحلال العدل محل الظلم، فيتمادون في الانتقام، والاقتصاص، ولا يدركون معنى الصفح، والاغتفار. التطرف قناع خشن لنفس متوترة، مضطربة، وهائجة، في عالم محت العولمة خصوصياته الإنسانية والثقافية، فجعلت منها هُلاما لا يجد المرء لنفسه معنى فيه.