ثالوث المرأة المسلمة: الحجاب، والطّلاق، والحريّة

أحمد عزيز الحسين

 

يذهب بعض المفكِّرين المعاصرين ومنهم محمّد شحرور إلى أنّ المُحرَّمات في التّنزيل العزيز ( 14) مُحرَّماً فقط، نصّ التّنزيل على تحريمها بشكل قاطع لا مجال للاجتهاد فيه (انظر: البقرة/ 137 و257- والأنعام/72- و151-153- والنّساء 23)، أمّا الآية الّتي تدور حول مفهوم الحجاب (انظر: النّور/31) فهناك اختلافٌ في تأويلها بين الفقهاء المسلمين على اختلاف مذاهبهم، ومنهم من يذهب إلى أنّ (الحجاب) ليس مُحرَّماً، وإنما هو عادة اجتماعيّة درج النّاس عليها لا أكثر، ولذلك فإنّ كثيراً من النّساء المسلمات يرَيْنَ أنّ من حقّهنّ خلعَه حتّى لو كان بعض الفقهاء المسلمين لا يوافقون على ذلك، مع أنّ الاكتفاء بخلَعْه لا يكفي لتحرير المرأة المسلمة من سلطة المجتمع أو هيمنة الرّجل، ذلك أنّ حريّتها لا تتأتّى من قدرتها على الإطاحة بقطعة قماش عن رأسها كما تتوهّم أو تظنّ، إذ أنّ المسألة أعقد بكثير من مسألة التّخلِّي عن هذه “القطعة”.

وفي ظنّي أنّ المرأة المسلمة لا تستطيع التّمرُّد على تقليد ضاربٍ في القدم، ووعي جمعيّ متجذِّر في مجتمعها من دون امتلاك القدرة الّتي تُتِيح لها التّحكُّم بحياتها، والتّخلُّص من هيمنة الرّجل والمجتمع معاً، إذ أنَّ العامل الاقتصاديّ يلعب الدّور الأساسيّ في الإقدام على هذه الخطوة، ذلك أنَّ فتاةً قعيدةً في البيت، وتعتمد على أهلها في نفقتها وإدارة شؤون حياتها لا تستطيع أن تكون حرّةً، كما أنّ امرأة لم تكمل تعليمها، وتزوّجت وهي صغيرة، وصارت تعتمد في نفقتها على زوجها البطرك لا تستطيع أن تخلع الحجاب أيضاً، ويستطيع هذا الزّوج أن يُطلِّقها ساعة يشاء معتمداً على هشاشة القانون وكونِه مكتوباً من وجهة نظر ذكوريّة، كما يمكن لأهلها أن يرفضوا عودتها إلى البيت إذا لم تنصَعْ لرغبتهم، وتستسلم لسطوتهم، وعندئذٍ ستغدو مضطّرّة إلى العمل خادمةً في المنازل، أو في مهن وضيعة لكي تُحقِّق طموحاتها، وستُضطرُّ إلى التّعامُل مع مجموعة من الذّئاب في مجتمعها لا ترى فيها سوى جسدٍ وموضوعٍ للمتعة الجنسيّة لا غير.

وحين تتحرّر المرأة اقتصاديّاً، وتُمسِي قادرةً على إعالة نفسها، تكون قد اجتازت عقبة كأداءَ للتّخلُّص من هيمنة الرّجل والمجتمع البطركيّ عليها، وهذه ليست سوى مرحلة أولى يمكن أن تقوم بها، وفي حال أنجزتْها بعد اكتمال تحرُّرها من هيمنة الرّجل، وحصولِها على عملٍ ضامنٍ لحياتها الكريمة، فإنّها سوف تُواجِه بعد ذلك الشّريحة الاجتماعيّة الكبرى الّتي ترى في خلعها لـ (الحجاب) كُفراً وخُرُوجاً على تعاليم الدّين الإسلاميّ، وهذه الشّريحة مهيمنةٌ على الفضاء الاجتماعيَ كلَه، ومتحكِّمة بالعقل الجمعيّ فيه، ويمكن للفتاة أنْ تصادف نماذج كثيرة منها إذا غادرتْ منزل أهلها، أو هربت منه، وحصلتْ على عمل يُتِيح لها الاستغناءَ عنهم اقتصاديّاً، أو الخلاصَ من تحكُّم زوجها بها، وهي قادرة على مواجهة هذه الشّريحة مع الاستعداد لتحمُّل مخاطر السّكن وحيدةً، أو مع زميلاتها اللّواتي اتّخذْنَ الموقف نفسه، ورِغبْنَ في تحقيق ذواتهنّ بمعزل عن ارتباطهنَّ بالبنية الاجتماعيّة الّتي تشدهنّ إلى الوراء، وتعمل على بقائهنَّ رهيناتٍ لعقلها الجمعيّ، ومثلها الاجتماعيّة، وقيمها الأخلاقيّة.

وثمّة فتياتٌ سوريّاتٌ أُجبِرْنَ على الزّواج مرّة ثانية بعد أن طُلِّقْنَ ليتخلّصْنَ من الضُّغوط الاجتماعيّة الّتي كُنَّ يُواجهْنَها في منازل أهلهنَّ، ومع أنّهنَّ لم يستطعْنَ تحمُّل المعامَلة المرذولة من أزواجهنَّ الجُدُد إلّا أنّهنَّ اضطُّرِرْنَ إلى قبُولها بسبب عدم قدرتهنَّ على التّخلُّص من هيمنة أهاليهنَّ، وتحمُّل نفقات الطّلاق ومصاريف المحاكم، وحين حدثت الحرب في سورية، وأجبِرْن على اللّجوء إلى أوروبّا، وفّرت لهنَّ الفضاءات الاجتماعيّة الجديدة الفرصة المثلى للتّخلُّص من الحياة المُهينة الّتي يرزحْنَ تحتها، والزّواج الورقيّ الّذي كُنَّ يتحمّلْنَهُ مُكرَهاتٍ.

وتغصُّ الصُّحفُ ومواقع التّواصُل الاجتماعيّ بأخبار نساء سوريّات رفعْنَ قضايا طلاق على أزواجهنَّ في منفاهُنّ الجديد للحصول على حريّتهنّ بعد أنْ غدوْنَ قادراتٍ على اختيار نمط الحياة الّذي يطمحْنَ إليه، وتخلّصْنَ من حياة العبوديّة الّتي كنّ يرزحْنَ تحتها في وطنهنّ الأمّ، ومع ذلك فإنّ الذّكر يبقى”بطركاً” وأسيراً لمفاهيم شريحته الاجتماعيّة، ووعيها الجمعيّ القهريّ حتّى وهو لاجئٌ ومنفيَ، وقد عمد بعض الأزواج السّوريّين إلى قتْل زوجاتهنّ بعد أن رفعْنَ قضايا طلاق، وطالبْنَ بحريتهنّ، وسيبقى الأمرُ على ما هو عليه إلى أن تستطيع المرأة الحصول على حريّتها، واختيارَ نمط الحياة الّذي تطمح إليه سواءٌ بخلع الحجاب، أو باختيار الزّوج المتحضّر الّذي يحترم في المرأة إنسانيّتها، ويتعامل معها تعامُل النِّدِّ للنّدّ، وأظنّ ذلك متوقّفاً على تجاوُز العقبات الّتي تحول دون تحقيقه، وهي عقباتٌ تحتاج إلى وقت طويل لتذليلها، لأنّ ذلك مرهونٌ بتحرير المرأة اقتصاديّاً، وتنويرها ثقافيّاً، وتغيير البنية الاجتماعيّة الّتي تعيش فيها لا الاكتفاءَ بتغيير ذهنيّة رجلٍ واحدٍ بمفرده، سواءٌ أكان زوجاً أو أباً أو ما يُشاكِلُهما، وينوب منابَهما.

ومع أنّ التّحرّر الاقتصاديّ من العوامل الهامّة في ذلك إلّا أنّ للعامل الثّقافيّ التّنويريّ أهميّة كبرى في إعلان تحرُّر المرأة من الوعي الجمعيّ القهريّ الّذي ترزح تحته، ولا أقصد هنا حصولَها على شهادة جامعيّةٍ عُليا، بل أقصد العامل الثقافيّ التّنويريّ، الّذي يُحدِث قطيعةً مع هذا الموروث، ويُفضِي بها إلى تحقيق ذاتها على الوجه الأمثل، ويكفي أن نتمعّن في هذه الحادثة لنتحقّق من ذلك،  ففي (المقابلة الشّفهيّة) لانتقاء المدرّسين والمدرّسات الّتي تمّتْ في (حيّ جوبر) بمدينة دمشق عام 2005 رفضت امرأة تحمل شهادة (دكتوراه) بتقدير (ممتاز) أن تصافح زملاءها في لجنة المقابلة الشّفهيّة، أو تخلع النّقاب عن عينيها وأنفها، ورأتْ في ذلك خروجاً على الدّين الإسلاميّ الّذي تعتنقه كما يقول الباحث أحمد عبد الحميد غانم.

ومع أنّ المحاولات الفرديّة والخاضعة للظّروف الخاصّة تصلح لأن تكون مثالا مُعبِّراً إلّا أنّها لا ترقى إلى مستوى الحلّ، إذ أنّ تحرُّر المرأة مرتبطٌ بتطوُّر المجتمع كلّه، وبثقافته السّائدة، وخاصّة الفقهيّة منها، إذ لا بدَّ من تطوير مؤسّسات الدّولة وقوانينها لمَوْضَعة قضيّة التّحرّر في نسيج بنية الواقع الموضوعيّ الّذي تواجهه المرأة.

وينبغي أنْ نعلم هنا أنّ المرأة الأوروبيّة ضحّت بالكثير لنيل حقّ الانتخاب، ناهيك عن نيل حقوقها الأخرى، كما يجب أن نعلم أيضاً أنّ المرأة السّوريّة حصلت على حقّها في الانتخاب والتّرشيح قبل المرأة في أكثر الدّول الأوروبيّة تطوُّراً ومنها سويسرا، ومع ذلك فإنّ المؤشِّرات تدلّ على أنّ حال المرأة السّوريّة تراجع كثيراً بالمقارنة مع ما كان عليه حالُها قبل ثمانية عقود ونيّف، على مستوى اللّباس والسّلوك والقناعات الفكريّة الّتي كانت تتبنّاها، وهذا يعني أنّ السّياق الّذي تتحرّك فيه المرأة قد تخلّف هو الآخر أيضاُ، وتراجع أكثر عمّا كان عليه حاله قبل عقود عديدة بسبب تأثير التّطرّف الإسلاميّ وعوامل أخرى، ودخل في نفق مظلم لا يُعلَم متى سيُقَيَّضُ له الخروجُ منه، وهذا يدلّ على أنّ تحرُّر المرأة عمليّة مُعقّدة لا تقتصر على العامل الدّينيّ والاقتصاديّ وحسب بل تنهض على تطوُّر مفاعيل المجتمع متكاملةً بما فيها تطويره، وخاصّة تنوير عقل الذّكر، والقطع المعرفيّ مع ثقافة الانحطاط بكلّ كوارثها.

وأخيراً …أظنّ أنّ المرأة المسلمة لا تستطيع أن تتحرّر في مجتمع مُستعبَد، تعاني فيه مع الرّجل من الارتهان لمفاهيم اجتماعيّة أو فقهيّة محدَّدة، أو من الخضوع لسلطة أوتوقراطيّة، وهو الشّرَك الّذي وقعت فيه كثير من الباحثات العربيّات في طرحهنّ لمسألة تحرُّر المرأة، لأنهنّ جعلْنَ الرّجل هو المسؤولَ عمّا تعانيه المرأة العربيّة من قهر مزدوَج، مُغفِلاتٍ أنّ الرّجل نفسه قد يكون مُستعبَداً هو الآخر، وخاضِعاً مع المرأة، الّتي يضطّهدها، لسلطة استبداديّة واحدة، وأنّهما قد يكونان معاً أسيرَين لمفاهيم فقهيّة واحدة، ويحتاجان إلى حِراك أو ثورة اجتماعيّة لتحريرهما معاً من كلّ ما يعوق وصولهما إلى (عصور إلْسَا) الّتي حلم بها آراغون، وتحدّث عنها شارل هاروش في كتابه ( فكرة الحبّ في مجنون إلسا وأعمال آراغون) الّذي ترجمه الدّكتور وليّ الدّين السّعيديّ، وصدر عن دار النّمير بدمشق عام 1988.

المصدر: https://www.alawan.org/2019/11/18/%d8%ab%d8%a7%d9%84%d9%88%d8%ab-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b1%d8%a3%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d9%84%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%ac%d8%a7%d8%a8%d8%8c-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b7%d9%91%d9%84%d8%a7/

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك