دور المثالية والواقعية في الحياة العامة الأمريكية

دور المثالية والواقعية في الحياة العامة الأمريكية

جيمس تيرنر جونسون*

أود أن أتحدث في نطاق هذا المقال بموضوع المثالية والواقعية في الحياة العامة الأمريكية وبتحديد أكثر عن كيفية تأثير المثالية والواقعية في تشكيل السياسة العامة على المستويين الداخلي والخارجي في العقود الحديثة ولأن المثالية السياسية في الولايات المتحدة تأثرت عبر التاريخ بالمفاهيم والقيم الدينية بشكل كبير، فإنني آمل أن يكون هذا الموضوع مثيرا للاهتمام

تم التركيز عقب انتخابات الكونغرس التي جرت في شهر نوفمبر من العام (26) على حدثين استأثرا بانتباه الصحفيين والمعلقين المهنيين الذين تتمثل مهمتهم بمراقبة مسيرة الحكومة الوطنية وترجمة التوجهات التي يلحظونها لتصبح في متناول الجمهور في إطاره الأوسع، الحدث الأول كان تقرير مجموعة الدراسات المـتعلـقة بالعراق وإزاحة واستبدال وزير الدفـاع دونالد رامسفيلد، ونظر "النقاد" وهم المعلقون المعروفون على نطاق واسع إلى هذين الحدثين على أنهما علامة على نهاية سلطة المحافظين الجدد في إدارة الرئيس بوش وقيام – أو بالأحرى – عودة الواقعية السياسية ممثلة في رئيسي لجنة العراق جيمس بيكر ووزير الدفاع الجديد روبرت جيتس. وقد أشغل كل منهما مناصب مهمة في عهد الرئيس بوش الأب. وعرف عن كلا الشخصين أنهما ينتميان إلى الواقعية السياسية في نظرتهما إلى السياسة الخارجية. وعليه لاحظ النقاد بشكل جماعي خروج اليوتيبيا أو المثالية لدى المحافظين الجدد ودخول الواقعيين المتشددين المجردين من العواطف. وكان لكل معلق رأيه السياسي فيما إذا كان هذا الشيء حسنا أو سيئا.

ويبدو أن المحافظين الجدد الذين خدموا سابقا في إدارة بوش أو كان لهم دور استشاري مهم لديها اعترفوا بحدوث هذا التحول ونستدل على ذلك من خلال كتاباتهم وما أجري معهم من مقابلات عبّروا فيها عن أسفهم لأن المشاكل التي واجهتها الإدارة لم تأت من اتخاذ مواقف المحافظين الجدد بجدية كبيرة ولكن من جراء عدم اتخاذها بجدية كافية.

وخلافا لاستثناءات قليلة ملحوظةٍ، فإن سياسي واشنطن ومعلقيها على حد سواء لديهم إحساس محدود بالتاريخ، وعليه فإنه من اللافت للنظر أنهم تركوا الانطباع بأن التحول إلى الواقعية السياسية التي كانوا يصفونها كان رجوعا إلى الاتجاه السائد لصنع السياسة الأمريكية. وفي الحقيقة فإن العكس هو الأقرب إلى الواقع، ويعود هذا إلى أن الحراك السياسي الأمريكي، وصنع السياسة كانت توجه على مدى تاريخها بوساطة المثاليات والقيم بشكل أكثر مما كانت تدفعها المصالح الشخصية، وبمعنى أدق الواقعيين في الجهاز الوظيفي. وعندما يفكر الإنسان بالأحداث العظيمة والتحركات في المجال العام الأمريكي، يجد أن الثورة الأمريكية نفسها، وتشكيل الدستور، والرغبة في قتال القراصنة البربريين والإمبراطورية البريطانية على حد سواء من أجل الحقوق البحرية، والنضال ضد العبودية الذي قاد إلى الحرب الأهلية، ودخول الحرب العالمية الأولى –كما قال الرئيس ودرو ويلسون– لكي نجعل العالم آمنا، تهيئة للديمقراطية، واع بحركات الإصلاح الاجتماعي المحلي الذي تصدر أحداث القرن العشرين. وكان الدافع وراء كل هذا هو القلق على حماية أو تطوير المثاليات والقيم الأساسية. ومن المنظور الطويل للتاريخ الأمريكي، نجد أن الواقعية السياسية، بتركيزها على المصلحة الشخصية، هي التي تمثل التحول عن المعتاد ومهما فكر الفرد بخصوص حكمة القيم المحددة التي يشدد عليها المحافظون الجدد والسياسات المشتقة منها ، ومفهومهم المتعلق بالسياسة التي تدفعها القيم أقرب إلى الاتجاه المعتاد إلى التاريخ السياسي والاجتماعي الأمريكي من الواقعية ، بجهدها لإزالة القلق على القيم كليا من صنع السياسة والتركيز بدلا من ذلك على المصلحة الذاتية، ذات التعريف المحدود.

إن الواقعية السياسية مدار البحث هي القادم الجديد نسبيا يوضحها بجلاء أفضل الكتب الأكاديمية إذ يقابل بين هذين الرأيين ويبين ما ينبغي أن تكون عليه الأساليب السياسية.

وذلك الكتاب هوكتاب روبرت إي أوسكود المعنون "المثاليات والمصالح الذاتية في السياسة الخارجية الأمريكية": التحول العظيم في القرن العشرين والذي نشر في عام (1953م)

وكان أوسكود أستاذا في جامعة هوبكنز –كلية الدراسات الدولية في واشنطن، وهي كلية من حفنة الكليات الرائدة بالنسبة للأشخاص الذين يطمحون إلى دخول سلك الخارجية أو المجالات القريبة منه وكانت حجته في هذا الكتاب بأن التحرك نحو سياسة خارجية مدفوعة بالمصلحة الوطنية الأمريكية وليس القيم أو المثاليات ، هو أمر حسن وفي الوقت الذي كتب فيه هذا الرأي كان قد قطع شوطا على طريق أن يصبح المعيار ضمن أرقى مدارس سلك الشئون الخارجية لم يبتكر أوسكود التأكيد على الأساليب السياسية القائمة على المصلحة الذاتية، ولكن كتابه الصادر عام (1953م) أشار إلى قدوم عهد هذا المفهوم السياسي والذي ظل الرأي الأورثودوكسي لمؤسسة الخارجية منذ ذلك الحين ومن منظورهم فإن قيام المفهوم السياسي المدفوع بالقيم في عهد رونالد ريجان وإحيائه في عهد جورج دبليو بوش ما كان إلا انحرافا عن تلك الأورثودكسية، ويساعد هذا في تفسير العلاقة المتوترة في الغالب بينهما وبين الرئـيس بوش ومستشاريه.

وتطرقت قبل قليل بأن أوسكود لم يبتكر الواقعية السياسية على الرغم من أن كتابه أشار إليها، وكما يقول بكلماته "إلى أنها التحول العظيم في القرن العشرين" وبإجماع العلماء فإن العالمين المشهورين اللذين لمعا في فترة الثلاثينيات وحتى الخمسينيات، الثيولوجي رينهولد نيبور والعالم السياسي هانز مورجينثو هما أبوا الواقعية السياسية، وكان مفهوم مورغينثاو الأكثر مباشرة من الآخر: حيث تظهر لديه مجموعة من المفاهيم السياسية على الطريقة الأوروبية تتجسد في أعلام مثل ريتشيليو، ميتيرنخ، وديسريلي، وما هذه بالضرورة إلا مفاهيم سياسية عقلية، تركز على المصلحة الوطنية بوصفها القانون الوحيد الذي ينبغي اتباعه في الحكم السديد سواء على صعيد السياسة المحلية أو على صعيد العلاقات الدولية وطالما أن الأمر يخص القيم ، بما في ذلك القيم المتجذرة في الدين، فقد أعطاها مورغينثاو مكانا في مفهوم المصلحة الوطنية ولكن تأثيرها على هذا المفهوم يمكن أن يكون غير مباشر، ولم يسمح بدور مباشر للقيم في تشكيل السياسة.

وخلفاؤه الواقعيون بما فيهم أوسكود خَطَوا خطوة أخرى إلى الأمام وذلك باستئصال القيم كليا من حقل السياسة وهذا المفهوم الأخير هو المفهوم الذي دام في الواقعية السياسية التي تلت.

إن مساهمة رينولد نيبور في ولادة الواقعية السياسية هي لحد ما أكثر تعقيدا ولكن لأغراضنا فربما تكون ممتعة في كونها جاءت من النقد الثيولوجي لعلاقة الدين والقيم المتجذرة دينيا تجاه مجال السياسة العامة.

لقد ذكرت في موضع سابق عددا من الأحداث الرئيسة والحركات قي التاريخ الأمريكي التي توضح وجود مفهوم سياسي مدفوع بالقيم باعتبارها تمثل اتجاها تاريخيا سائد في الحياة العامة الأمريكية. وفي بعض من هذه نجد أن القيم الدافعة كانت بكل وضوح دينية وفي فترة شباب نيبور جاء الظهور الرئيس لهذا المفهوم المتعلق بكيفية قيام الدين بتشكيل القرارات السياسية الأمريكية عبر حركة عرفت باسم "الإنجيل الاجتماعي" والتي سعت لتهيئة اجتماعية أساسية للحياة السياسية والاقتصادية الأمريكية كطريق لملاحظة المثالية الثيولوجية للمملكة الإلهية على الأرض. وبموجب هذا المفهوم يمكن تشكيل الحياة العامة بشكل يظهر الحب الجماعي تجاه الجار الذي تجلى به السيد المسيح وعلمه لأتباعه.

جاء رد فعل (نيبور) شديدا ضد هذه الفكرة، حيث يرى أنه قد يكون من الممكن من خلال القرارات الاجتماعية والسياسية خلق مثل هذا المجتمع المثالي على الأرض ضمن التاريخ البشري ومضـى منـتقدا، إن هؤلاء الذين يقولون بأن الحب النقي للجار الذي أبداه السيد المسيح يمكن أن يحققه المسيحيون من خلال العون الإلهي ويمكن أن يقنن ويصبح اعتياديا في البنى السياسية والاجتماعية المتأثرة بالمسـيحية ويرد نيبور بأن هذا مستحيل لسببين هما: الذنب الإنساني والتناهي الإنساني ويستمر مجادلا بأن آثار الخطيئة موجودة في التاريخ البشري ولا يمكن اجتثاثها بشكل كامل بواسطة أي عمل بشـري. بينما الحب الإلهي كما بينه السيد المسيح لا نهاية له في مداه وفي آثاره بيده أننا مخلوقات زائلة مثل هذا الحب مستحيل علينا. ويستمر في جدله قائلا: إن أفضل ما نطمح إليه هو تقريب الحب من خلال العدل في علاقاتنا الشخصية والاجتماعية.وإضافة إلى هذا فإنه وبسبب ذنوبنا وزوالنا، يجب علينا أن نلبي باستمرار كل ما يتطلبه العدل. وعليه فإن دور المسيحيين فيما يتعلق بالنظام السياسي مزدوج: النضال من أجل العدل في العلاقات السياسية والاجتماعية البشرية والوقوف دائما في موقع الناقد للآثار غير العادلة للمؤسسات السياسية والاجتماعية الحقيقية.

وما يعنيه ذلك عمليا مماثل للنتيجة التي توصل إليها مورغينتاو بحجته العقلية: لا يمكن وجود علاقة مباشرة بين القيم الدينية وصنع القرار العام وقد شذب خلفاء نيبور مثل مورغينتاو فكر معلمهم ووضعوه في صيغة أبسط: نحن مرتكبون للخطيئة إذا ما تصرفنا وفقا للمصلحة الشخصية في علاقاتنا الشخصية والاجتماعية، ويتمثل دور الدين في الوقوف ضد هذا وانتقاده باسم العدل.

ومن الطريف أن نيبور عندما كان يؤطر نقده لكي ينطبق على العلاقات الإنسانية والاجتماعية بمجملها، استخدمها خلفاؤه بخاصة لانتقاد الولايات المتحدة وليس الحكومات الأخر وبينما كان نيبور نفسه ناقدا لاحتمالات النظام الدولي، غالبا ما نظر خلفاؤه إلى الأمم المتحدة كإطار يمكن تأسيس نظام اجتماعي وسياسي تام ضمنه، ويأتي هذا بشبه كبير مع ما يراه المدافعون عن الفكر الإنجيلي الاجتماعي، وإمكانية تحقيقه في الولايات المتحدة الأمريكية.

وتبقى النتيجة في الأساس واحدة أو متماثلة سواء اتبعنا طريق مورغينتاو أو نيبور: وبحلول الخمسينيات من القرن الفائت فإن كلا هذين الخطين الجدليين المؤثرين قد أفرغا الدين والقيم الدينية من المجال الاجتماعي والسياسي والمناظرات المتعلقة بالسياسة وصنع القرار وهنا كانت ولادة الواقعية السياسية في الولايات المتحدة ، أو كما وصفت أصلا ، مفهوم الحقل السياسي المدفوع بالمصلحة الشخصية والوطنية وليس بالقيمة الدينية أو أي شكل آخر من أشكال القيم. وهذا ما سماه أوسكود "التحول العظيم في القرن العشرين" وقد تبنت النخبة المثقفة هذا الفهم السياسي وهم الذين سيطروا على مناظرات السياسة وأداروا مفاتيح القرارات الحكومية وكانت غير محصور بمعنى أن كلا من السياسيين الليبراليين والسياسيين المحافظين تبعوها وسعوا إلى ممارستها، ولم يكن الخلاف بينهما بشأن القيم مقابل المصالح ولكن بشأن كيفية تصور أفضل المصالح وأفضل الطرق لخدمتها.

إن الجهد المبذول لإيجاد مكان مرة أخرى لمفهوم للحياة السياسية والاجتماعية مسير بالقيم بشكل جلي مرتبط بشكل رئيس باثنين من الرؤساء جاءا إلى الحياة السياسية الوطنية في الولايات المتحدة من خارج المؤسسة السياسية الوطنية وهكذا لم يشاركا في تقبل المؤسسة للواقعية السياسية وهما: رونالد ريجان وجورج دبليو بوش وكان يساعدهما في ذلك بخاصة مجموعتان مختلفتان جدا ، المحافظون الجدد والمحافظون المسيحيون الذين أصبحوا يسمون "اليمين الديني" وركز اليمين الديني بشكل رئيس على المسائل الداخلية مدافعا عن سياسات محددة ترمي إلى تقوية الأُسَر، وتحريم الإجهاض، تحريم الممارسات الجنسية التي يرون أن الإنجيل يدينها، وتكامل الخـدمات الدينية الاجتماعية ودمجها في "شبكة السلامة" الوطنية المقصود منها حماية الفقراء بينما ركز المحافظون الجدد بشكل أكبر على المسائل المتعلقة بالشئون الخارجية ساعين بالجدل والنقاش وراء تغيير قوي للمثاليات الأمريكية وبشكل خاص تلك المتصلة بالحرية الشخصية والديموقراطية في مقابل الشيوعية المستبدة ومن ثم ضد انتهاكات حقوق الإنسان بعد سقوط الاتحاد السوفياتي من قبل القادة الدكتاتوريين في سائر أرجاء الكرة الأرضية وسموا بالمحافظين الجدد لأنهم يختلفون بشكل كبير عن النوع القديم من المحافظين وكما سبق وأن ذكرت فقد أصبح المحافظون الأقدم أتباعا للواقعية السياسية أما المحافظون الجدد إذا ما قورنوا بهم فإنهم مؤيدو أساليب سياسية مدفوعة بما يرون أنه جوهر القيم في المجتمع الأمريكي، الحرية الشخصية والديمقراطية ونتيجة لذلك كانوا منفتحين بشكل أكبر بكثير على فكرة استخدام القوة الأمريكية للتأثير على شكل الأحداث المهمة في أي مكان آخر من العالم.

ماذا يعني كل هذا إزاء فهم الأساليب السياسية الأمريكية الحديثة؟ وصف المعلقون السياسيون الأمريكيون الكفاح حول السياسة الداخلية والدولية كصراع بين الليبرالية والمحافظة أما خارج الولايات المتحدة فإن معظم النقد المنصب على صنع القرار الأمريكي إبان عهد كل من رونالد ريجان وجورج دبليو بوش قد ركز على "شخصية رعاة البقر" لهذين الرجلين ولكنني أقترح بأن الإطار الأفضل لفهم هذه النزاعات تتيحه الفروق بين مفهوم السياسة الحسنة الذي تدفعه القيم والمفهوم الذي تسيره المصالح الشخصية وكلاهما حي وموجود في المناظرات المتعلقة بالسياسة الأمريكية هذه الأيام وفي المنظور التاريخي فإن كلا من الرئيس ريجان والرئيس بوش الحالي هما في الاتجاه التاريخي الاعتيادي للحياة الاجتماعية والسياسية الأمريكية ولكن مفهوم الأساليب السياسية الذي نجده هنالك يختلف بشكل مهم عن مفهوم الواقعية السياسية الذي يراه المفكرون وراسمو السياسة وهذا يدفع باتجاه منافسة نشطة، مع أن الاختلاف الحاد بين هذين الرأيين الخاصين بالسياسة الحسنة لا تقود إلى توفيق سهل بين الاختلافات، وأحيانا وكما رأينا بكل ألم، قد تؤدي إلى نتائج مشوشة.

إن التحول الحالي إلى الواقعية السياسية ما هو إلا مرحلة في هذا النضال المستمر بخصوص ما إذا كان ينبغي أن ُتسَيّر الأساليب السياسية الأمريكية بوساطة القيم أو المصلحة الشخصية ومن المحتمل أن يستمر هذا الصراع لفترة قادمة ليست بالقصيرة.

****************

*) باحث وأكاديمي من أمريكا.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=445

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك