مقومات الداعية الناجح

بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم
مُّسْلِمُونَ( ).
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا( ). يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا( ).
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور مُحدَثاتها، وكل مُحدَثةٍ بدعةٌ، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
لاشكَّ أن الداعية إلى الله تعالى لا يكون ناجحاً موفقاًَ مسدداً في دعوته إلا بإخلاص عمله كله لله، ومتابعته لرسول الله  في كل أموره، وبالتزامه بالصفات والمقوِّمات التي تجعله مستقيماً في دعوته معتدلاً، لا إفراط ولا تفريط. ولا ريب أن معرفة الداعية للمقوِّمات التي تجعله ناجحاً في دعوته من أهم المهمّات؛ لأن نجاح دعوته، وفوزه برضى ربه، وتوفيقه موقوف على العمل بهذه المقوّمات، ومقوّمات الداعية الناجح متعددة وكثيرة؛ ولكني سأقتصر على ذكر أصولها، وأسسها التي تتفرّع منها جميع المقوِّمات التي لابدّ لكل داعية من معرفتها، والعمل بها، وتطبيقها في حياته.
وهذا موضوع مهم جداً ينبغي أن يُبيَّن ويُبرز من قبل العلماء المبرزين الذين بذلوا حياتهم وجهدهم في سبيل نشر هذا الدين، وإيصاله للناس بالوسائل والطرق النافعة المشروعة؛ ولكني سأذكر ما يسّر الله لي من هذه المقوّمات التي لا يستغني عنها الداعية في دعوته.
وقد قسمت البحث إلى تمهيدٍ، وتسعة فصول، وتحت كل فصل مباحث، وتحت كل مبحث مطالب في الغالب على النحو الآتي:
التمهيد: مفهوم مقومات الداعية الناجح.
الفصل الأول: العلم النافع
المبحث الأول: أهمية العلم
المبحث الثاني: أقسام العلم النافع
المبحث الثالث: العمل بالعلم
المبحث الرابع: طرق تحصيل العلم
الفصل الثاني: الحكمة
المبحث الأول: مفهوم الحكمة.
المبحث الثاني: أهمية الحكمة
المبحث الثالث: أنواع الحكمة
المبحث الرابع: درجات الحكمة
المبحث الخامس: طرق تحصيل الحكمة.
المبحث السادس: إنزال الناس منازلهم ومراتبهم.
الفصل الثالث: الحلم
المبحث الأول: مفهوم الحلم
المبحث الثاني: أهمية الحلم
المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الحلم في الدعوة.
المبحث الرابع: طرق تحصيل الحلم.
الفصل الرابع: الأناة والتثبت
المبحث الأول: مفهوم الأناة.
المبحث الثاني: أهمية الأناة.
المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الأناة في الدعوة.
المبحث الرابع: العجلة والاستعجال.
الفصل الخامس: الرفق واللين
المبحث الأول: مفهوم الرفق واللين.
المبحث الثاني: أهمية الرفق واللين.
المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الرفق واللين في الدعوة.
الفصل السادس: الصبر
المبحث الأول: مفهوم الصبر.
المبحث الثاني: أهمية الصبر في الدعوة.
المبحث الثالث: مجالات الصبر.
المبحث الرابع: حكم الصبر.
المبحث الخامس: أنواع الصبر.
المبحث السادس: صور من مواقف تطبيق الصبر والشجاعة في الدعوة.
المبحث السابع: طرق تحصيل الصبر.
الفصل السابع: الإخلاص والصدق
المبحث الأول: مفهوم الإخلاص.
المبحث الثاني: أهمية الإخلاص.
المبحث الثالث: النية أساس العمل.
المبحث الرابع: خطر الرياء وأنواعه وأقسامه.
المبحث الخامس: طرق تحصيل الإخلاص وعلاج الرياء.
المبحث السادس: الصدق.
الفصل الثامن: القدوة الحسنة
المبحث الأول: مفهوم القدوة الحسنة.
المبحث الثاني: أهمية القدوة الحسنة.
المبحث الثالث: وجوب القدوة الحسنة.
الفصل التاسع: الخلق الحسن
المبحث الأول: مفهوم الخلق الحسن.
المبحث الثاني: أهمية الخلق الحسن في الدعوة.
المبحث الثالث: طرق تحصيل الخلق الحسن.
المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن وتطبيقها في الدعوة.
والله أسأل بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا، أن يجعل هذا العمل مباركاً، وأن ينفعني به في حياتي وبعد مماتي، وأن ينفع به إخواني الدعاة، وجميع من انتهى إليه، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم موافقاً لسُنّة سيد الناس أجمعين؛ فإنه سبحانه خير مسئول، وأكرم مأمولٍ، وهو حسبنا ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف
عصر يوم الجمعة 5/3/1415هـ

التمهيد: مفهوم مقوّمات الداعية الناجح
القِوامُ: نظام الأمر، وعماده، وملاكه الذي يقوم به. يُقالُ: هذا قِوام الدين، وقِوام الحق: أي الذي يقوم به. ويقال: فلان قِوام أهل بيته: عمادهم. ويقال: الدستور هو قِوام الدولة: أي الضابط لها تقوم عليه. ويقال: قوّم الشيء تقويماً: أزال اعوجاجه وعدَّله، وقِوامُ كل شيء ما استقام به.. وقوَّمتُ الشيء فهو قويم: أي مستقيم( ).
فتبين من هذه التعريفات اللغوية أن مقوِّمات الداعية الناجح: هي المعدِّلات التي تُعدّل الداعية، وتقيم اعوجاجه فتجعله: مستقيماً، معتدلاً، حكيماً، منضبطاً في كل أموره، ناجحاً في دعوته وموفقاً مسدداًًًًًًًًًً، ملهماً بإذن الله تعالى.
  

الفصل الأول: العلم النافع

المبحث الأول: أهمية العلم النافع.
المبحث الثاني: أقسام العلم النافع.
المبحث الثالث: العمل بالعلم.
المبحث الرابع: طرق تحصيل العلم.

المبحث الأول: أهمية العلم النافع
العلم من أعظم المقوّمات للداعية الناجح، وهو من أركان الحكمة، ولهذا أمر الله به، وأوجبه قبل القول والعمل، فقال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ وَالله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ( ).
وقد بوَّب الإمام البخاري رحمه الله تعالى لهذه الآية بقوله: ((باب: العلم قبل القول والعمل))( ).
وذلك أن الله أمر نبيه بأمرين: بالعلم، ثم العمل، والمبدوء به العلم في قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله ، ثم أعقبه بالعمل في قوله:
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ، فدلّ ذلك على أن مرتبة العلم مُقدَّمة على مرتبة العمل، وأن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به، فهو مقدم عليهما؛ لأنه مصحح للنية المصححة للعمل( ).
والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول  ، وقد يكون علم من غير الرسول  ، لكن في أمور دنيوية، مثل: الطب، والحساب، والفلاحة، والتجارة( ).
ولا يكون الداعية إلى الله مستقيماً حكيماً إلا بالعلم الشرعي، وإن لم يصحب الداعية من أول قدم يضعه في الطريق إلى آخر قدم ينتهي إليه، فسلوكه على غير طريق، وهو مقطوع عليه طريق الوصول، ومسدود عليه سبيل الهدى والفلاح، وهذا إجماع من العارفين.
ولاشك أنه لا ينهى عن العلم إلا قُطَّاع الطريق، ونوّاب إبليس وَشُرَطه( ). وقد مدح الله  أهل العلم وبيَّن فضلهم، وأثنى عليهم، قال سبحانه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ( )،
يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ( )، إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ( )، وبيَّن سبحانه أن العلم نور لحامله والعامل به في الدنيا والآخرة: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( )، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا( )؛ ولهذا قال النبي : ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))( ).
وقال: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ، والعشب الكثير، وكان منها أجادِبُ أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان: لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً فذلك مثل من فَقُهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلت به))( ).
وهذا يدل على أهمية العلم للدعاة إلى الله تعالى، وأنه من أهم المهمات، وأعظم الواجبات؛ ليدعوا الناس على بصيرة.
فيجب أن يكون الداعية على بيّنة في دعوته؛ ولهذا قال سبحانه: قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ( )، والعلم الصحيح مرتكز على كتاب الله وسنة رسوله ؛ لأن كل علم يتلقَّى من غيرهما يجب أن يعرض عليهما، فإن وافق ما فيهما قُبل، وإن كان مخالفاً وجب ردّه على قائله كائناً من كان( ).
وهذا معنى كلام الشافعي رحمه الله:
كل العلوم سوى القرآن مشغلةٌ
إلاّ الحديث وعلم الفقه في الدين

العلم ما كان فيه قال حدثنا
وما سوى ذاك وسواس الشياطين( )
ومقصوده - رحمه الله - بوسواس الشياطين العلوم التي تخالف الكتاب والسنة، أو التي ليس فيها نفع للمسلمين.

المبحث الثاني: أقسام العلم
وقد قسّم الإمام ابن تيمية رحمه الله العلم النافع - الذي هو أحد دعائم الحكمة وأسسها - إلى ثلاثة أقسام، فقال رحمه الله: ((والعلم الممدوح الذي دلّ عليه الكتاب والسنة هو العلم الذي ورّثه الأنبياء)) كما قال النبي : ((إن الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافرٍ))( ).
وهذا العلم ثلاثة أقسام:
القسم الأول: علم بالله، وأسمائه، وصفاته، وما يتبع ذلك، وفي مثله أنزل الله سورة الإخلاص، وآية الكرسي ونحوهما.
القسم الثاني: علم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية، وما يكون من الأمور المستقبلة، وما هو كائن من الأمور الحاضرة، وفي مثل هذا أنزل الله آيات القصص، والوعد، والوعيد، وصفة الجنة والنار، ونحو ذلك.
القسم الثالث: العلم بما أمر الله به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح من الإيمان بالله من معارف القلوب وأحوالها، وأقوال الجوارح وأعمالها، وهذا يندرج فيه: العلم بأصول الإيمان وقواعد الإسلام، ويندرج فيه العلم بالأقوال والأفعال الظاهرة، ويندرج فيه ما وُجد في كتب الفقهاء من العلم بأحكام الأفعال الظاهرةp فإن ذلك جزءٌ من جزءٍ من علم الدين.
وقد أشار الإمام ابن القيم إلى هذه الأقسام بقوله:
العلم أقسام ثلاثة ما لها
من رابع والحقّ ذو تبيان

عِلمٌ بأوصاف الإله وفعله
وكذلك الأسماء للرحمن

والأمر والنهي الذي هو دينه
وجزاؤه يوم المعاد الثاني

والناس إنما يغلطون في هذه المسائل؛ لأنهم لا يفهمون مسميات الأسماء الواردة في الكتاب والسنة، ولا يعرفون حقائق الأمور الموجودة، فرُبَّ رجل يحفظ حروف العلم التي أعظمها حفظ حروف القرآن، ولا يكون له من الفهم، بل ولا من الإيمان ما يتميز به على من أُوتي القرآن، ولم يؤت حفظ حروف العلم، كما قال النبي : ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأُترُجّة، ريحها طيبّ، وطعمها طيّب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها، وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة، ريحها طيّب، وطعمها مرّ، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح، وطعمها مرّ))( ).
فقد يكون الرجل حافظاً لحروف القرآن وسوره، ولا يكون مؤمناً، بل يكون منافقاً، فالمؤمن الذي لا يحفظ حروفه وسوره خير منه، وإن كان ذلك المنافق ينتفع به الغير كما يُنتفع بالريحان، وأما الذي أُوتي العلم والإيمان، فهو مؤمنٌ حكيمٌ وعليمٌ، فهو أفضل من المؤمن الذي ليس مثله في العلم مثل اشتراكهما في الإيمان، فهذا أصل تجب معرفته( ).


المبحث الثالث: العمل بالعلم
والعلم لابدّ فيه من إقرار القلب، ومعرفته بمعنى ما طلب منه علمه، وتمامه أن يعمل بمقتضاه؛ فإن العلم النافع - الذي هو أعظم أركان الحكمة التي من أُوتيها فقد أُوتيَ خيراً كثيراً - هو ما كان مقروناً بالعمل، أما العلم بلا عمل، فهو حجة على صاحبه يوم القيامة؛ ولهذا حذَّر الله المؤمنين من أن يقولوا ما لا يفعلون، رحمةً بهم، وفضلاً منه وإحساناً، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِـمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( ).
وحذّرهم عن كتمان العلم، وأمرهم بتبليغه للبشرية على حسب الطاقة والجهد، وعلى حسب العلم الذي أعطاهم الله  لا يُكلف الله نفساً إلا وسعها، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْـهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَـئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ ( ).
وهذه الآية، وإن كانت نازلة في أهل الكتاب وما كتموه من شأن الرسول  وصفاته، فإن حكمها عام لكل من اتّصف بكتمان ما أنزل الله من البيّنات الدّالات على الحق، المُظهرات له، والعلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم، ويتبيّن به طريق أهل النعيم من طريق أهل الجحيم، ومن نبذ ذلك وجمع بين المفسدتين: كَتْم ما أنزل الله، والغش لعباد الله، لعنه الله، ولعنه جميع الخليقة؛ لسعيه في غشّ الخلق وفساد أديانهم، وإبعادهم عن رحمة الله، فجُوزيَ من جنس عمله، كما أن معلّم الناس الخير يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء، والطير في الهواء؛ لسعيه في مصلحة الخلق، وإصلاح أديانهم؛ ولأنه قربهم من رحمة الله، فَجُوزيَ من جنس عمله( ).
وقد بين النبي  أن ((من سُئِل عن علمٍ يَعْلَمُهُ فَكتَمَهُ أُلْجِمَ يوم القيامة بلجامٍ من نار))( ).
فتبيّن بذلك وغيره أن العلم النافع الذي هو أحد أركان الحكمة لا يكون إلا مع العمل به؛ ولهذا قال سفيان( ) في العمل بالعلم والحرص عليه: ((أجهل الناس من ترك ما يعلم، وأعلم الناس من عمل بما يعلم، وأفضل الناس أخشعهم لله))( ).
وقال رحمه الله: ((يُرادُ للعلم: الحفظ، والعمل، والاستماع، والإنصات، والنشر))( ).
وقال الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود : ((تعلّموا، تعلّموا، فإذا علمتم فاعملوا))( ).
وقال : ((إن الناس أحسنوا القول كلهم، فمن وافق فعله قوله فذلك الذي أصاب حظه، ومن خالف قوله فعله فإنما يوبّخ نفسه))( ).
وقال علي بن أبي طالب : ((يا حملة العلم اعملوا به، فإنما العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، تخالف سريرتهم علانيتهم، ويخالف عملهم علمهم، يقعدون حلقاً فيباهي بعضهم بعضاً، حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله ))( ).
وقال أبو الدرداء : ((لا تكون تقيّاً حتى تكون عالماً، ولا تكون بالعلم جميلاً حتى تكون به عاملاً))( ).
ولهذا قال الشاعر:
إذا العلم لم تعمل به كان حجةً
عليك ولم تُعذر بما أنت جاهلُه

فإن كنت قد أُوتيت علماً فإنما
يصدق قولَ المرء ما هو فاعلُه( )

وبهذا يتضح أن العلم لا يكون من دعائم الحكمة إلا باقترانه بالعمل. وقد كان علم السلف الصالح - وعلى رأسهم أصحاب النبي  - مقروناً بالعمل؛ ولهذا كانت أقوالهم، وأفعالهم وسائر تصرفاتهم تزخر بالحكمة؛ ولهذا قال النبي : ((لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسُلِّط على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها))( ).
وقد دعا النبي  لعبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالحكمة، والفقه في الدين، فقال : ((اللهم علمه الحكمة))، وفي لفظ: ((اللهم علمه الكتاب))، وفي لفظ: ((اللهم فقهه في الدين))( ).
فكان رضي الله عنهما حَبْراً للأمة في علم الكتاب والسنة والعمل بما فيهما استجابة لدعوة النبي .


المبحث الرابع: طرق تحصيل العلم
والعلم النافع له أسباب يُنال بها، وطرق تُسلك في تحصيله وحفظه، من أهمها:
1- أن يسألَ العبد ربّه العلمَ النافع، ويستعين به تعالى، ويفتقر إليه، وقد أمر الله نبيه  بسؤاله أن يزيده علماً إلى علمه( )، فقال تعالى: وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ( )، وقد كان النبي  يقول: ((اللهم انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزدني علماً))( ).
2- الاجتهاد في طلب العلم، والشوق إليه،والرغبة الصادقة في ابتغاء مرضاة الله تعالى،وبذل جميع الأسباب في طلب علم الكتاب والسنة( ).
وقد جاء رجل إلى أبي هريرة  فقال: إني أريد أن أتعلّم العلم وأخاف أن أُضيِّعه، فقال أبو هريرة : ((كفى بتركك له تضييعاً))( ).
ولهذا قال بعض الحكماء عندما سُئلَ: ما السبب الذي يُنال به العلم؟ قال: بالحرص عليه يُتبع، وبالحب له يُستمع، وبالفراغ له يجتمع، [عَلِّم علمك من يجهل، وتعلّم ممن يعلم، فإنك إن فعلت ذلك علمت ما جهلت، وحفظت ما تعلّمت] ( ).
ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله:
أخي لن تنال العلم إلا بستةٍ
سأنبئك عن تفصيلها ببيان

ذكاءٌ،وحرصٌ،واجتهادٌ، وبُلغةٌ
وصحبةُ أستاذٍ وطول زمان( )

3- اجتناب جميع المعاصي بتقوى الله تعالى؛ فإن ذلك من أعظم الوسائل إلى حصول العلم، كما قال تعالى: وَاتَّقُواْ الله وَيُعَلِّمُكُمُ الله وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( )، وقال تعالى: يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً( ).
وهذا واضح بيِّن أنَّ من اتقى الله جعل له علماً يُفَرِّقُ به بين الحق والباطل( )؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود : ((إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم قد عَلِمَه بالذنب يعمله))( ).
وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: ((خمسٌ إذا أخطأ القاضي منهن خطة( ) كانت فيه وصمةً( ) أن يكون: فهماً، حليماً، عفيفاً، صليباً( )، عالماً سؤولاً عن العلم))( ).
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
شَكوتُ إلى وكيعٍ( ) سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي

وأخبرني بأن علم الله نور
ونور الله لا يُهدى لعاصي( )

وقال الإمام مالك للإمام الشافعي رحمهما الله تعالى: ((إني أرى الله قد جعل في قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية)) ( ).
4- عدم الكبر والحياء عن طلب العلم، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: ((نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين))( ).
وقالت أم سُليم رضي الله عنها: يا رسول الله، إن الله لا يسْتَحْيي من الحق، فهل على المرأة من غُسلٍ إذا احتلمت؟ قال النبي : ((إذا رأت الماء))( ).
وقال مجاهد: ((لا يتعلم العلم مستحي ولا مستكبر))( ).
5- الإخلاص في طلب العلم والعمل به، بل أعظمها ولُبُّها، قال النبي : ((من تعلّم علماً ممّا يُبتغى به وجه الله ، لا يتعلّمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة))( ) يعني ريحها.
فيظهر مما تقدم أن العلم لا بدَّ فيه من العمل والإخلاص والمتابعة.
  

الفصل الثاني: الحكـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــمة

المبحث الأول: مفهوم الحكمة.
المبحث الثاني: أهمية الحكمة.
المبحث الثالث: أنواع الحكمة.
المبحث الرابع: درجات الحكمة.
المبحث الخامس: طرق تحصيل الحكمة.
المبحث السادس: إنزال الناس منازلهم ومراتبهم.

المبحث الأول: مفهوم الحكمة
المطلب الأول: تعريف الحكمة في اللغة
جاءت كلمة الحكمة في اللغة بعدة معان، منها:
1- تستعمل بمعنى:العدل،والعلم،والحلم،والنبوة،والقرآن، والإنجيل.
وأحكم الأمر: أتقنه فاستحكم ومنعه عن الفساد( ).
2- والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم، ويُقال لمن يحسن دقائق الصناعات ويُتقنها: حكيم( ).
3- والحكيم:المتقن للأمور،يقال للرجل إذا كان حكيماً:قد أحكمته التجارب( ).
4- والحَكَمُ والحكيم هما بمعنى:الحاكم،والقاضي، والحكيم فعيل بمعنى فاعل، أو هو الذي يُحكِمُ الأشياء ويتقنها، فهو فعيل بمعنى: مفعل( ).
5- والحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل( ).
6- والحكيم: المانع من الفساد، ومنه سُمِّيت حَكَمة اللجام؛ لأنها تمنع الفرَس من الجري والذهاب في غير قصد، والسورة المحكمة، الممنوعة من التغيير وكل التبديل، وأن يلحق بها ما يخرج عنها، ويزدد عليها ما ليس منها.
والحكمة من هذا؛ لأنها تمنع صاحبها من الجهل، ويقال: أحكم الشيء، إذا أتقنه ومنعه من الخروج عما يريد، فهو محكم وحكيم على التكثير( ).
7- والحَكَمَةُ: ما أحاط بحنكي الفرَس، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تمنعه من الجري الشديد، وتذلل الدابة لراكبها، حتى تمنعها من الجماح، ومن كثير من الجهل، ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل( ).
8- والحُكْمُ: هو المنع من الظلم، وسمّيت حكمة الدابة، لأنها تمنعها، يقال: حكمت الدابة وأحكمتها، ويقال: حكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يديه، والحكمة هذا قياسها؛ لأنها تمنع من الجهل، وتقول: حكمت فلاناً تحكيماً: منعته عما يريد( ).
ومما تقدّم يتّضح ويتبيّن أن الحكمة يظهر فيها معنى المنع، فقد استعملت في عدة معانٍ تتضمن معنى المنع:
فالعدل: يمنع صاحبه من الوقوع في الظلم.
والحِلْمُ: يمنع صاحبه من الوقوع في الغضب.
والعلم: يمنع صاحبه من الوقوع في الجهل.
والنُّبُوّة، والقرآن، والإنجيل: فالنبي  إنما بُعِثَ لمنع من بعث إليهم من عبادة غير الله، ومن الوقوع في المعاصي والآثام، والقرآن والإنجيل وجميع الكتب السماوية أنزلها الله تتضمن ما يمنع الناس من الوقوع في الشرك وكل منكر وقبيح.
ومن فسّر الحكمة بالمعرفة فهو مبني على أن المعرفة الصحيحة فيها معنى المنع، والتحديد، والفصل بين الأشياء، وكذلك الإتقان، فيه منع للشيء المتقن من تطرق الخلل والفساد إليه، وفي هذا المعنى قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((الإحكام هو الفصل والتمييز والفرق والتحديد الذي به يتحقق الشيء ويحصل إتقانه؛ ولهذا دخل فيه معنى المنع كما دخل في الحد بالمنع جزء معناه لا جميع معناه))( ).
المطلب الثاني: تعريف الحكمة في الاصطلاح الشرعي
ذكر العلماء مفهوم الحكمة في القرآن الكريم والسنة النبوية، واختلفوا على أقوال كثيرة، فقيل: الحكمة: النبوة، وقيل: القرآن والفقه به: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدّمه ومؤخّره، وحلاله وحرامه، وأمثاله. وقيل: الإصابة في القول والفعل، وقيل: معرفة الحق والعمل به، وقيل: العلم النافع، والعمل الصالح، وقيل: الخشية لله، وقيل: السنة، وقيل: الورع في دين الله، وقيل: العلم والعمل به، ولا يُسمَّى الرجل حكيماً إلا إذا جمع بينهما، وقيل: وضع كل شيء في موضعه [بإحكامٍ، وإتقانٍ]، وقيل: سرعة الجواب مع الإصابة( ).
فجميع الأقوال تدخل في هذا التعريف؛ لأن الحكمة مأخوذة من الحكم وفصل القضاء الذي هو بمعنى الفصل بين الحق والباطل، يقال: إن فلاناً لحكيم بيِّن الحكمة، يعني: أنه لبيّن الإصابة في القول والفعل، فجميع التعاريف داخلة في هذا القول؛ لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها، وعلم، ومعرفة، والمصيب عن فهم منه بمواضع الصواب يكون في جميع أموره: فهِماً، خاشياً لله، فقيهاً، عالماً، عاملاً بعلمه، ورعاً في دينه... والحكمة أعمّ من النبوة، والنبوة بعض معانيها وأعلى أقسامها؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مُسدَّدون، مُفهَّمون، ومُوفَّقون لإصابة الصواب في الأقوال، والأفعال، والاعتقادات، وفي جميع الأمور( ).
والحكمة في كتاب الله نوعان( ): مفردة، ومقرونة بالكتاب.
فالمفردة كقوله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْـهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( ). وقوله تعالى: يُؤتِي الْـحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ( ). وقوله سبحانه:
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْـحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لله وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ( ).
وهذه الحكمة فُسِّرت بما تقدم من أقوال العلماء في تعريف الحكمة وهذا النوع كثير في كتاب الله تعالى.
وقد ذكر بعضهم تسعة وعشرين قولاً في تعريف الحكمة( ).
((وهذه الأقوال كلها قريب بعضها من بعض؛ لأن الحكمة مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في قول أو فعل، فكل ما ذكر فهو نوع من الحكمة التي هي الجنس، فكتاب الله حكمة، وسنة نبيه  حكمة، وكل ما ذكر من التفصيل فهو حكمة، وأصل الحكمة ما يمتنع به من السَّفَه، فقيل للعلم حكمة؛ لأنه يمتنع به من السفه، وبه يعلم الامتناع من السفه الذي هو كلُّ فعلٍ قبيح...)) ( ).
وعند التأمل والنظر نجد أن التعريف الشامل الذي يجمع ويضمّ جميع هذا الأقوال في تعريف الحكمة هو: ((الإصابة في الأقوال والأفعال، والإرادات، والاعتقاد، ووضع كل شيء في موضعه)).
أما الحكمة المقرونة بالكتاب،فهي السنة من:أقوال النبي  وأفعاله، وتقريراته،وسيرته،كقوله تعالى: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الـْحـَكِيمُ( ).
وقوله: وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْـحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ الله وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ( ).
قال الله  لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْـمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ( ).
وقال : هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ( )، وغير ذلك من الآيات.
وممن فسر الحكمة المقرونة بالكتاب بالسنة: الإمام الشافعي، والإمام ابن القيم، وغيرهما من الأئمة( ).


المبحث الثاني: أهمية الحكمة
1- قد بيّن القرآن الكريم طرق الدعوة إلى الله تعالى، ويأتي في مقدمة هذه الطرق: الحكمة في الدعوة إلى الله ، وقد أمر الله تعالى نبيه محمداً  بالدعوة إلى الله تعالى بالحكمة، فقال: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْـهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( ).
2- من تتبّع سيرة النبي  وجد أنه كان يلازم الحكمة في جميع أموره، وخاصة في دعوته إلى الله ، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجاً بفضل الله تعالى، ثم بفضل هذا النبي الحكيم  الذي ملأ الله قلبه بالإيمان والحكمة، فعن أنس  قال: كان أبو ذر يُحدّث أنَّ رسول الله  قال: ((فُرِجَ سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل فَفرجَ صدري ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست( ) من ذهب ممتلئٍ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري، ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي..)) الحديث( ).
وهذا يُثبِتُ أن الحكمة من أعظم الأمور الأساسية في منهج الدعوة إلى الله تعالى، حيث امتلأ بها صدر رسول الله  وهو صاحب الدعوة، مع الإيمان، وهو قضية الدعوة في لحظة واحدة، كما يؤكّد قيمة وأهمية الحكمة من خلال مجيئها يحملها جبريل وهو روح القدس، في طست من ذهب، وهو أغلى المعادن، في مكة المكرمة، وهي البقعة المباركة؛ ليمتلئ بها صدر محمد رسول الله  وهو خير الخلق، بعد غسله بماء زمزم وهو أطهر الماء وأفضله.
كل هذا يؤكد أن الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى أمرها عظيم، وشأنها كبير، وقد قال تعالى: وَمَن يُؤْتَ الْـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا( ).
ثم سار أصحاب رسول الله  على طريقه وهديه في الدعوة إلى الله بالحكمة، فانتشر الإسلام في عهدهم  انتشاراً عظيماً، ودخل في الإسلام خلق لا يحصي عددهم إلا الله تعالى، وجاء التابعون، وكمّلوا السير على هذا الطريق في الدعوة إلى الله بالحكمة، وهكذا سارت القرون الثلاثة المفضلة ومن بعدهم من أهل العلم والإيمان، فأظهر الله الإسلام وأهله، وأذَلَّ الشرك وأهله وأعوانه.
3- ومن الناس من يظن أو يعتقد أن الحكمة تقتصر على الكلام اللين، والرفق، والعفو، والحلم.. فحسب، وهذا نقص وقصور ظاهر لمفهوم الحكمة؛ فإن الحكمة قد تكون:
• باستخدام الرفق واللين، والحلم والعفو، مع بيان الحق علماً وعملاً واعتقاداً بالأدلة، وهذه المرتبة تستخدم لجميع الأذكياء من البشر الذين يقبلون الحق ولا يعاندون.
• وتارة تكون الحكمة باستخدام الموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق والترهيب من الباطل، وهذه المرتبة تستخدم مع القابل للحق المعترف به، ولكن عنده غفلة وشهوات، وأهواء تصدّه عن اتّباع الحق.
• وتارة تكون الحكمة باستخدام الجدال بالتي هي أحسن، بِحُسنِ خُلُقٍ، ولُطفٍ، ولين كلام، ودعوة إلى الحق، وتحسينه بالأدلة العقلية والنقلية، وردّ الباطل بأقرب طريق، وأنسب عبارة، وأن لا يكون القصد من ذلك مجرّد المجادلة والمغالبة وحبّ العلوّ، بل لابدّ أن يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد.
• وتارة تكون الحكمة باستخدام القوة: بالكلام القوي، وبالضرب والتأديب وإقامة الحدود لمن كان له قوة وسلطة مشروعة، وبالجهاد في سبيل الله تعالى بالسيف والسنان تحت لواء ولي أمر المسلمين، مع مراعاة الضوابط والشروط التي دلَّ عليها الكتاب والسنة، وهذه المرتبة تستخدم لكل معاند جاحد ظلم وطغى، ولم يرجع للحق بل ردّه ووقف في طريقه( ).
وما أحسن ما قاله الشاعر:
وقد لان منه جانبٌ وخطابُ
دعا المصطفى دهراً بمكةَ لم يُجب

له أسلموا واستسلموا وأنابوا( )
فلما دعا والسيفُ صلتٌ بِكفِّهِ

وصدق هذا القائل فقد قال: قولاً صادقاً مطابقاً للحق( )؛ ولهذا قال النبي : ((إن من الشِّعرِ حكمة))( ).
4- الحكمة تجعل الداعي إلى الله يُقدِّر الأمور قدرها، فلا يُزَهِّد في الدنيا، والناس بحاجة إلى النشاط والجدّ والعمل، ولا يدعو إلى التبتل والانقطاع، والمسلمون في حاجة إلى الدفاع عن عقيدتهم وبلادهم، ولا يبدأ بتعليم الناس البيع والشراء، وهم في مسيس الحاجة إلى تعلم الوضوء والصلاة.
5- الحكمة تجعل الداعية إلى الله يتأمل ويراعي أحوال المدعوين وظروفهم وأخلاقهم وطبائعهم، والوسائل التي يُؤتَون من قبلها، والقدر الذي يبيّن لهم في كل مرة حتى لا يثقل عليهم، ولا يشقّ بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها، والطريقة التي يخاطبهم بها، والتنويع والتشويق في هذه الطريقة حسب مقتضياتها، ويدعو إلى الله بالعلم لا بالجهل، ويبدأ بالمهم فالذي يليه، ويُعلِّم العامة ما يحتاجونه بألفاظ وعبارات قريبة من أفهامهم ومستوياتهم، ويخاطبهم على قدر عقولهم، فالحكمة تجعل الداعية ينظر ببصيرة المؤمن، فيرى حاجة الناس فيعالجها بحسب ما يقتضيه الحال، وبذلك ينفذ إلى قلوب الناس من أوسع الأبواب، وتنشرح له صدورهم، ويرون فيه المنقذ الحريص على سعادتهم ورفاهيتهم وأمنهم واطمئنانهم، وهذا كله من الدعوة إلى الله بالحكمة التي هي الطريق الوحيد للنجاح.


المبحث الثالث: أنواع الحكمة
الحكمة نوعان:
النوع الأول: حكمة علمية نظرية، وهي الاطِّلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خلقاً وأمراً، وقدراً وشرعاً.
النوع الثاني: حكمة عملية، وهي وضع الشيء في موضعه( ).
فالحكمة النظرية مرجعها إلى العلم والإدراك، والحكمة العملية مرجعها إلى فعل العدل والصواب، ولا يمكن خروج الحكمة عن هذين المعنيين؛ لأن كمال الإنسان في أمرين: أن يعرف الحق لذاته، وأن يعمل به، وهذا هو العلم النافع والعمل الصالح.
وقد أعطى الله  أنبياءه ورسله ومن شاء من عباده الصالحين هذين النوعين، قال تعالى عن إبراهيم : رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا، وهو الحكمة النظرية، وَأَلْـحِقْنِي بِالصَّالِـحِينَ( )، وهو الحكمة العملية.
وقال تعالى لموسى : إِنَّنِي أَنَا الله لا إِلَهَ إِلا أَنَا، وهو الحكمة النظرية، فَاعْبُدْنِي( )، وهو الحكمة العملية.
وقال عن عيسى : إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، وهو الحكمة النظرية، وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا( )، وهو الحكمة العملية.
وقال في شأن محمد : فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله، وهو الحكمة النظرية، وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ( )، وهو الحكمة العملية.
وقال في جميع الأنبياء: يُنَزِّلُ الْـمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ، وهو الحكمة النظرية، ثم قال: فَاتَّقُونِ( )، وهو الحكمة العملية( ).


المبحث الرابع: درجات الحكمة
الحكمة العملية لها ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: ((أن تعطي كل شيء حقه، ولا تعدِّيه حدّه، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخّره عنه)).
لما كانت الأشياء لها مراتب وحقوق تقتضيها، ولها حدود ونهايات تصل إليها ولا تتعدّاها، ولها أوقات لا تتقدّم عنها ولا تتأخّر، كانت الحكمة مراعاة هذه الجهات الثلاث بأن تعطي كل مرتبة حقها الذي أحقه الله لها بشرعه وقدره، ولا تتعدّى بها حدّها فتكون متعدياً مخالفاً للحكمة، ولا تطلب تعجيلها عن وقتها فتخالف الحكمة، ولا تؤخرها عنه فتفوتها، وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعاً وقدراً، فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض، وتعدّي الحق كسقيها فوق حاجتها، بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد، وتعجيلها قبل وقتها كحصاده قبل إدراكه وكماله، وهذا يكون فعل ما ينبغي على الوجه الأكمل في الوقت المناسب( ).
الدرجة الثانية: معرفة عدل الله في وعيده، وإحسانه في وعده، وعدله في أحكامه الشرعية والكونية الجارية على الخلائق، فإنه لا ظلم فيها ولا فجور، قال تعالى: إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا( )، وكذلك معرفة بِرِّه في منعه، فإنه سبحانه هو الجواد الذي لا ينقص خزائنه الإنفاق، ولا يغيض ما في يمينه سعة عطائه، فهو سبحانه لا يضع بره وفضله إلا في موضعه ووقته بقدر ما تقتضيه حكمته، فما أعطى إلا بحكمته ولا منع إلا بحكمته، ولا أضل إلا بحكمته.
الدرجة الثالثة: البصيرة، وهي قوة الإدراك والفطنة والخبرة( ).
والبصيرة أعلى درجات العلم التي تكون نسبة العلوم فيها إلى القلب كنسبة المرئيّ إلى البصر، وهذه الخصيصة التي اختصّ بها الصحابة عن سائر الأمة ثم المخلصين من أتباع النبي ، وهي أعلى درجات العلماء( )، قال تعالى: قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ( )، فقد أمر الله رسوله ، أن يخبر الناس أن هذه طريقته ومسلكه وسنته، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يدعو إلى الله على بصيرة من ذلك، ويقين وبرهان، وعلم، وكل من اتبعه يدعو إلى ما دعا إليه رسول الله ، على بصيرة ويقين، وبرهان عقلي وشرعي( ).
والبصيرة في الدعوة إلى الله في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يكون الداعية على بصيرة فيما يدعو إليه بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجباً وهو في شرع الله غير واجب، فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرماً وهو في دين الله غير محرم، فيحرم على عباد الله ما أحلّه الله لهم.
الأمر الثاني: أن يكون على بصيرة بحال المدعو، فلابد من معرفة حال المدعو: الدينية، والاجتماعية، الاعتقادية، والنفسية، والعلمية، والاقتصادية حتى يُقدِّم له ما يناسبه.
الأمر الثالث: أن يكون على بصيرة في كيفية الدعوة( )، وقد رسم الله  طرق الدعوة ومسالكها في آيات كثيرة منها: قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ... ( )، وهذه الآية قاعدة قوية متينة في الدعوة إلى الله تعالى، ثم تكون هذه القاعدة متفرعة إلى ثلاثة أبواب:
وهي الدعوة إلى الله: بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن( )، قال تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْـهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ( ).
قلت: والباب الرابع: الدعوة إلى الله باستخدام القوة عند الحاجة إليها كما قال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ( ).
ولاشك أن أحسن الطرق في دعوة الناس طريقة القرآن، ومخاطبته لهم ودعوته، ومجادلتهم( ).


المبحث الخامس: طرق تحصيل الحكمة
تمهيد:
الحكمة هبة وفضل من الله  يهبها لمن يشاء من عباده وأوليائه، والحكمة ليست كسبية تحصل بمجرد كسب العبد دون تعليم الأنبياء له طرق تحصيلها، فالعبد لا يكون حكيماً إلا إذا سلك طرق تحصيل الحكمة، ولا يمكن أن يحصل على الحكمة إلا إذا كانت طرقها مستقاة من الكتاب والسنة، وإذا وُفِّقَ الداعية المسلم لطرق الحكمة فلا يخرجها ذلك عن كونها هبة من الله تعالى، لقوله تعالى: يُؤتِي الْـحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْـحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا( )، بل الله الذي وفّقه وسدّده، وأعطاه خيراً كثيراً، جليلاً قدره، عظيماً نفعه، ولهذا استنبط بعض المحققين من قوله: خَيْرًا كَثِيرًا  أن إيتاء الحكمة خير من الدنيا وما فيها كلها؛ لأن الله وصف الدنيا في قوله: قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ( )، فدلّ فذلك على أن ما يؤتيه الله من حكمته خير من الدنيا وما عليها؛ لأن من أوتيها خرج من ظلمة الجهل إلى نور الهدى، وحمق الانحراف في الأقوال والأفعال إلى إصابة الصواب فيها، وحصول السداد والاعتدال، والبصيرة المستنيرة، وإتقان الأمور وإحكامها، وتنزيلها منازلها، وهذا كله من أفضل العطايا وأجلّ الهبات( ).
والحكمة لها طرق تكتسب بها بتوفيق الله تعالى، ومن أهم هذه الطرق التي إذا سلكها المسلم صار حكيماً بإذن الله تعالى ما يأتي:
العلم النافع، والحلم، والأناة، وهذه الثلاثة: هي أركان الحكمة التي تقوم عليها( )، والرفق واللين، والإخلاص والتقوى، والصبر والمصابرة، والسلوك الحكيم، والعمل بالعلم، والاستقامة والخبرات والتجارب، وجهاد النفس والشيطان، وعلوّ الهمّة، والعدل، والدعاء، والاستخارة والاستشارة، وفقه وإتقان أركان الدعوة إلى الله تعالى.
وسأذكر في هذا المبحث بالتفصيل بعض هذه الطرق التي إذا سلكها الداعية المسلم - مع ما تقدَّم من الطرق - كان حكيماً في أقواله وأفعاله، وتصرفاته، وأفكاره، موافقاً للصواب في جميع أموره بإذن الله تعالى، وذلك في المطالب الآتية:
المطلب الأول: السلوك الحكيم
السلوك: مصدر سلك يقال: سلك طريقاً، وسلك المكان يسلكه سلكاً وسلوكاًً( )، وسلكه غيره.
والسلوك: سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيّئ السلوك( ).
أما الخُلق فهو: حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجة إلى فكر وروِيَّة، وجمعه: أخلاق.
والأخلاق عِلْمٌ موضوعه أحكام قَيِّمة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح( )، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يكون طبيعياً من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ويهيج لأدنى سبب، وكالذي يجبن من أيسر شيء، كمن يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه.
القسم الثاني: ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالرويّة والفكر، ثم يستمر عليه حتى يصير مَلَكَة وخُلقاً( ).
والسلوك عمل إرادي، كقول: الصدق، والكذب، والبخل، والكرم، ونحو ذلك.
فاتضح أن الخلق حالة راسخة في النفس وليس شيئاً خارجاً مظهريّاً، فالأخلاق شيء يتصل بباطن الإنسان، ولابد لنا من مظهر يدلّنا على هذه الصفة النفسية، وهذا المظهر هو السلوك، فالسلوك هو المظهر الخارجي للخلق، فنحن نستدل من السلوك المستمر لشخص ما على خلقه، فالسلوك دليل الخلق، ورمز له، وعنوانه، فإذا كان السلوك حسناً دل على خلق حسن، وإن كان سيئاً دل على خلق قبيح، كما أن الشجرة تعرف بالثمر، فكذلك الخُلق الطيّب يعرف بالأعمال الطيبة( ).
والحكمة تتفرّع إلى فروع، وأحد هذه الفروع هو السلوك الحكيم، والتزام فضائل الأخلاق، واجتناب رذائلها ظاهراً وباطناً هو السلوك الأخلاقي الحكيم( ).
والداعية إذا التزم السلوك الأخلاقي الحكيم كان ذلك من أعظم طرق اكتساب الحكمة، ومن أسباب توفيق الله له في دعوته، وفي أموره كلها، واستقامته، وحسن سيرته، وأدعى لقبول دعوته، وإصلاح الأخلاق، ومحاربة المنكرات، إذ لا يجد في الناس من يغمزه في سلوكه الشخصي، سواء كان ذلك من قبل قيامه بالدعوة أو بعده، وكثيراً ما سمعنا أن أناساً قاموا بدعوة الإصلاح، وخاصة إصلاح الأخلاق، وكان من أكبر العوامل في إعراض الناس عنهم، وعن دعوتهم ما يذكرونه لهم من ماضٍ ملوّث، وخلق غير مستقيم، بل إن هذا الماضي السيئ مدعاة للشك في صدق مثل هؤلاء الدعاة، بحيث يُتَّهمون بالتستر وراء دعوة الإصلاح؛ لأغراض خاصة، أو يتهمون بأنهم ما بدءوا بالدعوة إلى الإصلاح إلا بعد أن قضوا بعض أوقات أو مراحل أعمارهم، وأخذوا نصيبهم من ملذّات الحياة وشهواتها، وأصبحوا في وضع أو عمر لا أمل لهم فيه بالاستمرار فيما كانوا يبلغون فيه من عَرَضٍ أو مالٍ، أو شهرة، أو جاهٍ.
أما الداعية المستقيم في شبابه وحياته كلها، فإنه يظل أبداً بفضل الله رافع الرأس، ناصع الجبين، ولا يجد أعداء الدعوة سبيلاً إلى غمزه بماضٍ قريب أو بعيد، ولا يتخذون من الماضي المنحرف وسيلة إلى التشهير به، أو دعوة الناس إلى الاستخفاف به وبشأنه.
ولاشك أن الله  يقبل توبة التائب المقبل عليه بصدق وإخلاص، ويمحو بحسناته الحاضرة سيئاته المنصرمة. والداعية إذا استقامت سيرته، وحسنت سمعته الطيبة الحميدة، وسلوكه الحكيم( ) نجح في دعوته بإذن الله تعالى.
وإذا سلك الداعية المسالك الحكيمة في سلوكه فقد سلك أعظم الطرق في اكتساب الحكمة، ومن هذه المسالك على سبيل المثال ما يأتي:
المسلك الأول: قدوة الداعية في سلوكه
ينبغي للداعية أن يتخذ في سلوكه وأعماله كلها قدوة حكيماً، وإماماً نبيلاً، وهو محمد بن عبد الله  فقد كان حسن السيرة والسلوك، بل كان أعظم خلق الله في حسن خُلقه الذي دلّ عليه سلوكه الحكيم، ولا غرابة فقد مدحه ربه وأثنى عليه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( )، وعرف قومه ذلك منه، ولكن صدّ بعضهم عن تصديقه الكبر والجحود فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِـمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ ( )، ولهذا عندما قال  لقومه: ((أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مُصدقيَّ؟))، قالوا: ما جرّبنا عليك كذباً. قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))( ).
وفي حديث أبي سفيان مع هرقل حينما سأله عن أحوال النبي  وسلوكه، قال هرقل: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان: قلت: لا... ثم قال: ماذا يأمركم به؟ قال أبو سفيان: قلت: يقول:((اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة، والصدق، والعفاف، والصلة...))، ثم قال هرقل لأبي سفيان في نهاية الحديث: ((فإن كان ما تقول حقاً، فسيملك موضع قدميّ هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، لم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه))( ).
وفي حديث جعفر بن أبي طالب للنجاشي: أيها الملك كنا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحِّده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه: من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا: بالصلاة، والزكاة، والصيام... وعدد عليه أمور الإسلام، فصدّقناه، ثم قال النجاشي لجعفر ووفده: مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده، فأنا أشهد أنه رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أُقبّل نعله( ).
فهذا الرسول الكريم هو قدوة الداعية، وإمامه الذي يسير على هديه، ويلتزم أخلاقه، وسلوكه، فقد كان  حسن السيرة والسلوك الحكيم في حياته كلها، ولم يُتّهم بشيء مما كان يعمله قومه، فقد نشأ  في مجتمع كثرت فيه المفاسد، وعمّت فيه الرذائل: فالبغاء، والاستبضاع، والزنى الجماعي، والإفرادي، ونكاح أسبق الرجال ممن مات زوجها، والاعتداء على الأعراض والأموال والدماء، كل ذلك كان شائعاً في قومه قبل الإسلام، لا ينكره أحد، ولا تحاربه جماعة، هذا بالإضافة إلى وَأْدِ البنات، وقتل الأولاد خشية الفقر أو العار، ولعب الميسر، وشرب الخمر، أمور تُعدُّ في الجاهلية من المفاخر والتباهي، وليس من شرط أن يكون المجتمع كله يرتكب هذه الجرائم، وإنما عدم إنكارها هو دليل على الرضى بها، وهذا ما يدعو إلى انتشارها إلى جانب الأفكار الأخرى.
والنبي  لم يعمل أي عمل أو يباشر أي خُلق من هذه الأخلاق الرذيلة، بل قد اتصف بجميع مكارم الأخلاق بين قومه، فكان صادقاً لا يعرف الكذب، أميناً لا يعرف الخيانة، وفيًّا لا يعرف الغدر، حتى كان معروفاً في مجتمعه بهذه الصفات، مُميزَّاً بها عن غيره، ولا يجهل ذلك أحد ممن عرفه، ولا يساويه في ذلك أحد من خلق الله، ولا ينكر ذلك أحد، سواء كان عدوًّا أو غيره، ولا يمكن أن يتهمه خصم، فقد بُعِثَ  وناصَبَهُ قومه العداء، ولكن لم يستطع واحد منهم أن يتهمه بصفة غير لائقة، أو خُلق يعيبه به، ولو عرفوا شيئاً من ذلك - وقد عاش بينهم أربعين عاماً - لأراحهم من التنقيب عن خصلة غير حميدة يتهمونه بها عندما يحل الموسم، ويلتقي بالناس في الحج حتى يبعدوه عنهم فعجزوا عن ذلك، ووجدوا أن كلمة ((ساحر)) هي أنسب الصفات التي يطلقونها عليه حيث يفرق بدعوته إلى الله بين الأب وابنه، والأخ وأخيه، والرجل وزوجته، واتهموه بالجنون؛ لأنه خالف شركهم ودعا إلى عبادة الله وحده، ولم يستطيعوا أن يأتوا بأي خلق رذيل فينسبوه إليه ، وعندما سألهم  عن صدقه قالوا: ((ما جرّبنا عليك كذباً))( )، ولهذا لُقِّبَ بين قومه بـ((محمد الأمين))( ).
فالصدق والأمانة من أولى الأخلاق وأحكم السلوك التي يجب على الدعاة إلى الله الاتّصاف والتخلّق بها، والصدق يكون في: القول، والنية، والعزم، والعمل.
فالصدق في القول هو أشهر أنواع الصدق، ويكون بالإخبار، فإن نقل الداعية أو غيره من المسلمين خلاف الواقع وما هو عليه فهو كاذب ومفتر، إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله وَأُوْلـئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ( ).
وقال النبي : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان ( ).
والصدق في النية: الإخلاص في العمل لوجه الله تعالى.
والصدق في العزم على العمل: كأن يقول المسلم: لئن عافاني الله لأتصدّق في سبيله بكذا، فإذا عوفي دخل الصدق بالوفاء فيما نذر به.
وقد ذمّ الله  عدم الصدق بالوفاء بالعهد: وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِـحِين * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ( ).
والصدق في العمل: يكون بأن لا يختلف ظاهر الداعية المسلم عن باطنه( )، فما أجمل وما أحسن، وما أحكم، وما أكرم من سار على هديه  واتبع سلوكه الحكيم، وكل سلوكه حكيم  وكيف لا يكون كذلك وهو الذي بعثه الله رحمة للعالمين، متمّماً لمكارم الأخلاق، قال : ((إنما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق))( ).
وسُئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِهِ، فقالت: ((فإن خُلُقَ نبي الله  كان القرآن))( ).
ولنا فيه خير أسوة، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ( )، فحريٌّ بالداعية أن يلتزم سلوكه، وبذلك يكون حكيماً في دعوته، موافقاً للصواب بإذن الله تعالى.
المسلك الثاني: أصول السلوك الحكيم:
لقد جعل الله  للسلوك الحكيم قواعد عظيمة، إذا التزمها الداعية إلى الله  كان ذلك من أسباب توفيق الله لـه، واكتسابه الحكمة، ومن أجمع الآيات في هذا الشأن، قوله تعالى: إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْـمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ( ).
وهذه الآية من أعظم قواعد السلوك الحكيم وأصوله العظيمة، فهي جامعة لجميع المأمورات والمنهيات، لم يبق شيء إلا دخل فيها، وهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات، فكل مسألة مشتملة على عدل، أو إحسان، أو إيتاء ذي قربى، فهي مما أمر الله به.
وكل مسألة مشتملة على فحشاء،أو منكر،أو بغي،فهي مما نهى الله عنه.
وبهذا يُعْلَم حسن ما أمر الله به، وقبح ما نهى عنه، وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال، وتُردّ إليها سائر الأحوال( ).
فهذه الأوامر والنواهي جمعت فضائل الأخلاق والآداب، وأنواع التكاليف التي رسمها الله وحث عليها؛ لما فيها من إصلاح النفوس، وصلاح حال الأمم والشعوب( )؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود : ((أجمع آية في كتاب الله للخير والشر الآية التي في سورة النحل)): إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ...الآية( ).
والداعية المسلم من أولى الناس بتطبيق هذا السلوك الحكيم، فيكون عدلاً محسناً واصلاً لأقربائه، مبتعداً عن الفحشاء والمنكر، والبغي.
والعدل: ضد الجور( )، وهو إعطاء المرء ما لـه وأخذ ما عليه( )، وأنواعه ثلاثة:
النوع الأول: العدل بين العبد وربه، وهو: إيثار حق الله على حظّ نفسه، وتقديم رضاه على هواه، والامتثال للأوامر، والاجتناب للزواجر.
النوع الثاني: العدل بين العبد وبين نفسه: منعها عما فيه من هلاكها ودمارها، وإلزامها بتقوى الله في السر والعلن.
النوع الثالث: العدل بين العبد وبين الخلق: ببذل النصيحة، وترك الخيانة فيما قلّ وكثر، والإنصاف من النفس بكل وجه، ولا يكون من الداعية إلى أحد مساءة بقول أو فعل، والصبر على ما يحصل منهم من البلوى، ويعامل الخلق بالعدل التام، فيؤدي كل ما عليه( ).
والإحسان: مصدر أحسن يحسن إحساناً، وهو على معنيين( ):
المعنى الأول: متعدٍّ بنفسه، كقولك: أحسنت كذا، أي: حسَّنته وكمَّلته، وهو منقول بالهمزة، من: حسن الشيء، وهذا المعنى يدلّ عليه حديث جبريل: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))( ).
وهذا المعنى راجع إلى إحسان العبادة وتكميلها وتحسينها، والقيام بها كما يحبّ الله - تعالى - على الوجه الأكمل، ومراقبة الله فيها واستحضار عظمته وجلاله: حالة الشروع فيها، وحالة الاستمرار.
والمعنى الثاني: متعدٍّ بحرف جر، كقولك: أحسنت إلى فلان، أي: أوصلت إليه ما ينتفع به، وهذا إيصال المنافع بأنواعها إلى الخلق، ويدخل في ذلك حتى الإحسان إلى الحيوانات( ).
ومن قواعد السلوك الحكيم التي تشتمل على عدة من أمّهات الحكم العالية( ) قوله تعالى: لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً * وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... الآيات، إلى قوله تعالى: ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْـحِكْمَةِ( ).
فبيّن الله  في هذه الوصايا الحكيمة قواعد السلوك الحكيم، وبدأه بقاعدة التوحيد؛ ليقيم على هذه القاعدة البناء الاجتماعي كله، وآداب العمل والسلوك فيه، كما تربط بهذه العروة الوثقى جميع الروابط؛ فإن جميع ما في الحياة لا يقوم بناؤه إلا بالتوحيد، وكل سلوك لا يقوم ولا يستند إلى توحيد الله لا تقوم لـه قائمة، ولا يطلق عليه سلوكاً حكيماً، بل سلوكاً جاهليًّا( ).
وهذه الوصايا في سورة الإسراء من أعظم ما تكتسب به الحكمة، قال الإمام الشوكاني: ((وترتقي إلى خمسة وعشرين تكليفاً))( ).
فاشتملت هذه الوصايا على خمس وعشرين حكمة، الأخذ بها خير من الدنيا وما فيها، والتفريط بها هو سبب خسران الدنيا والآخرة( ).
ويختم الله  الأوامر والنواهي في الوصايا كما بدأها بربطها بالله وعقيدة التوحيد والتحذير من الشرك، وبيان أن هذه المذكورات بعض الحكمة التي يهدي إليها القرآن الذي أوحاه الله إلى رسوله : ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْـحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إِلَـهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا( )، وهو ختام يشبه الابتداء، فتجيء محبوكة الطرفين، موصولة بالقاعدة الكبرى التي يقيم عليه الإسلام الحياة، قاعدة: توحيد الله وعبادته وحده دون ما سواه( ).
وبهذا يُعلم أن من عمل بهذه القواعد، والتزم هذا السلوك الحكيم قد سلك أعظم طرق اكتساب الحكمة؛ لأن الحكمة معرفة الحق والصواب والعمل به؛ ولهذا قال تعالى بعد أن ذكر الوصايا العشر في سورة الأنعام: وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ( ).
المسلك الثالث: وصايا الحكماء باكتساب الحكمة:
الحكماء الذين آتاهم الله الحكمة يوصون باكتساب أصول الحِكَم التي من التزمها وعمل بها بإخلاصٍ وصدقٍ وفَّقه الله لاكتساب الحكمة، ومن ذلك ما أخبر الله به عن لقمان الحكيم ووصاياه الحكيمة التي آتاه الله إياها، قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْـحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لله وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ... الآيات إلى قوله تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْـحَمِيرِ( ).
هذه وصية حكيم لابنه، فهي نصيحة مبرأة من العيب، وصاحبها قد أوتي الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيراً كثيراً، وهي تجمع أمهات الحكم، وتستلزم ما لم يذكر منها، وكل وصية من وصايا هذا الحكيم لابنه يقرن بها ما يدعو إلى فعلها إن كانت أمراً، وإلى تركها إن كانت نهياً، وهذا يدل على أن الحكمة هي: العلم بالأحكام، وحكمها، ومناسبتها، ووضع الأشياء مواضعها.
ومن فضل الله على عباده ومنّته أن قصَّ عليهم هذه الحِكَم حتى يعملوا بها ويكتسبوها بفضله تعالى، وهذا الحكيم أمر ابنه بأصل الدين وهو التوحيد، ونهاه عن الشرك بالله، وبين لـه الموجب لتركه، وأمره ببرّ الوالدين، وبين لـه السبب الموجب لبرّهما، وأمره بشكر الله وشكرهما، ثم احترز بأن محلّ برّهما وامتثال أوامرهما ما لم يأمرا بمعصية، ومع ذلك فلا يعقّهما بل يُحسن إليهما، وأن لا يطيعهما إذا جاهداه على الشرك، وأمره بمراقبة الله  وخوفه القدوم عليه، وأنه تعالى لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً من الخير والشر إلا أتى بها، فصوّر له عظمة علم الله، ودقّة شموله، وإحاطته تصويراً يرتعش لـه الوجدان البشري، وأوصاه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد ما أمره بتكميل نفسه بفعل الخير وترك الشر، حتى يحصل الكمال لغيره بعد كمال نفسه، ولما علم هذا الحكيم أنه لابد أن يُبتلى إذا أمر ونهى، وأنّ في الأمر والنهي مشقَّة على النفوس أمره بالصبر على ما يحصل لـه من المشقة والأذى؛ فإنه لابد وأن يواجه المتاعب التي يواجهها صاحب العقيدة الصحيحة، وبيّن لـه أن ذلك من الأمور التي يعزم عليها، ويهتمّ بها، ولا يقف لها إلا أهل العزائم؛ فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الصبر يسهل الله بذلك كل أمرٍ عسير، كما قال تعالى: وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ( ).
ومع ذلك كله من الأمر بجميع الحكم السابقة لم يغفل هذا الحكيم عن وصية ابنه بالآداب السامية، فنهاه عن التكبر، وأمره بالتواضع، ونهاه عن البطر والأشر والمرح، وأمره بالسكون في الحركات والأصوات، ونهاه عن ضد ذلك حتى لا يتطاول على الناس فيفسد بالقدوة ما يصلح الكلام.
فحقيقٌ بمن أوصى بهذه الوصايا، وهذا السلوك الحكيم أن يكون مخصوصاً بالحكمة، مشهوراً بها، وحقيقٌ بمن التزم هذه الوصايا - بصدقٍ وإخلاصٍ ورغبةً فيما عند الله - أن يُؤتيه الحكمة، ويوفقه للصواب في القول والعمل( ).
ومما يبيّن أن الإنسان يكتسب الحكمة بتوفيق الله ثم بالتزامه للسلوك الحكيم - رغبة فيما عند الله وطلباً لرضاه - ما ذُكِرَ من الأسباب التي اكتسب بها لقمان الحكمة بعد توفيق الله لـه وتسديده، ومن ذلك:
أنه وقف رجل على لقمان، فقال لـه: أنت لقمان، أنت عبد بني النحاس؟ قال: نعم، قال: فأنت راعي الغنم الأسود؟ قال: أما سوادي فظاهر، فما الذي يعجبك من أمري؟ قال: وطء الناس بساطك، وغشيهم بابك، ورضاهم بقولك. قال: يا ابن أخي إن أنت صنعت ما أقول لك كنت كذلك، قال: وما هو؟ قال لقمان: ((غَضِّي بصري، وكَفّي لساني، وعفّة طعمتي، وحفظي فرجي، وقيامي بعدتي، ووفائي بعهدي، وتكرمتي ضيفي، وحفظي جاري، وتركي ما لا يعنيني، فذاك الذي صيّرني كما ترى))( ).
وسأله آخر عن السبب الذي بلغ به الحكمة، فقال: ((قدر الله، وأداء الأمانة، وصدق الحديث، وترك ما لا يعنيني))( ).
وسأله آخر، فقال: ((صدق الحديث، والصمت عما لا يعنيني))( ).
وهذه الأخلاق الكريمة، والسلوك الحكيم يزخر بها كتاب الله وسنة رسوله ، وليست من قول لقمان وحده، فاتضح بذلك أن الداعية إلى الله وغيره من المسلمين إذا سلك هذه المسالك اكتسب الحكمة بعون الله تعالى.
المطلب الثاني: العمل بالعلم المقرون بالصدق والإخلاص
العمل بالعلم بإخلاصٍ، وصدقٍ، ورغبة في رضى الله  من أعظم المطالب التي تكتسب بها الحكمة بتوفيق الله وتسديده وفضله وإحسانه.
والعلم هو ما قام عليه الدليل، وهو النقل المصدق والبحث المحقق، والنافع منه ما جاء به الرسول : علم الكتاب والسنة، والمطلوب من الإنسان هو فهم معانيهما، والعمل بما فيهما، فإن لم تكن هذه همة حافظ القرآن وطالب السنة لم يكن من أهل العلم والدين( ).
ولهذا كانت الحكمة عند العرب هي العلم النافع والعمل الصالح( ).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((قال غير واحد من السلف: الحكمة معرفة الدين والعمل به))( ).
والعلم بلا عمل حجة على صاحبه يوم القيامة، ولهذا حذر الله المؤمنين أن يقولوا ما لا يفعلون، فقال : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( ).
ومثل من يتعلم العلم ويزداد منه ولا يعمل به مثل رجل احتطب حطباً فحزم حزمة، ثم ذهب يحملها فعجز عنها، فضمّ إليها أخرى( ).
والداعية لا يكون حكيماً في دعوته ما لم يعمل بعلمه، ولهذا ينفر الناس عنه، وتزل موعظته من القلوب كما يزل القطر من الصفا؛ لأن الكلام - في الغالب - إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان لم يتجاوز الآذان( )، قال الشاعر:
هلاّ لنفسك كان ذا التعليم
يا أيها الرجل المعلم غيره

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها

بالعلم منك وينفع التعليم
فهناك يُقبل ما تقول ويُقتدى

كيما يصح به وأنت سقيم
تصف الدواء لذي السقام من الضنا

نصحاً وأنت من الرشاد عديم
أراك تلقح بالرشاد عقولنا

عار عليك إذا فعلت عظيم( )
لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله

والعمل بالعلم لابد فيه من الإخلاص، والإخلاص لابد أن يقصد به وجه الله، ومحبته، ورضاه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((حُكيَ أن أبا حامد بلغه أن من أخلص لله أربعين يوماً تفجّرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، قال: فأخلصت أربعين يوماً، فلم يتفجر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال لي: إنك أخلصت للحكمة، لم تُخْلِص لله))( ).
وذلك أن الإنسان قد يكون مقصوده نيل العلم والحكمة، أو نيل المكاشفات والتأثيرات، أو نيل تعظيم الناس لـه ومدحهم إياه، أو غير ذلك من المطالب.
وقد عرف أن ذلك لم يحصل بالإخلاص لله، وإرادة وجهه، فإذا قصد أن يطلب ذلك بالإخلاص لله وإرادة وجهه كان متناقضاً؛ لأن من أراد شيئاً لغيره فالثاني هو المراد المقصود بذاته، والأول يراد لكونه وسيلة إليه، فإذا قصد أن يخلص؛ ليصير عالماً، أو عارفاً، أو ذا حكمة، أو متشرفاً بالنسبة إليه، أو صاحب مكاشفات وتصرفات، ونحو ذلك، فهو هنا لم يرد الله، بل جعل الله وسيلة لـه إلى ذلك المطلوب الأدنى، وإنما يريد الله ابتداء من ذاق حلاوة محبته وذكره( ).
وقال ابن تيمية - رحمه الله -: ((وقد روي: إذا زهد العبد في الدنيا وكل الله - سبحانه - بقلبه ملكاً يغرس فيه آثار الحكمة كما يغرس أكار( ) أحدكم الفسيل في بستانه))( ).
أما من لم يعمل بالعلم، أو عمل به ولكنه لم يخلص في ذلك فهذا بعيد عن إيتاء الحكمة التي من أوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً؛ ولهذا قال الشاعر:
وأنت لكل ما تهوى ركوب( )
وكيف يصح أن تُدعى حكيماً

المطلب الثالث: الاستقامة
الاستقامة: كلمة جامعة تشمل الدين كله، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْـمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْـجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ( ). وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْـجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( )، وقال تعالى للنبي : فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ).
وعن سفيان بن عبد الله  قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟ قال: ((قل: آمنت بالله، ثم استقم))( ).
والمطلوب من العبد المسلم وخاصة الدعاة إلى الله:الاستقامة،وهي السداد؛فإن لم يقدر فالمقاربة،فإن نزل عن المقاربة فلم يبق إلا التفريط والضياع.
فعن أبي هريرة  عن النبي  أنه قال: ((سدِّدوا وقارِبوا، واعلموا أنه لن ينجوَ أحدٌ منكم بعمله))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلاّ أن يتغمدنيَ الله برحمةٍ منه وفضلٍ))( ).
فجمع هذا الحديث مقامات الدين كلها، فأمر بالاستقامة، وهي: السداد والإصابة في النيات، والأقوال، والأعمال، وعلم النبي  أنهم لا يطيقون الاستقامة، فنقلهم إلى المقاربة، وهي أن يقرب الإنسان من الاستقامة بحسب طاقته، كالذي يرمي إلى الهدف، فإن لم يصبه يقاربه، ومع هذا أخبرهم  أن الاستقامة والمقاربة لا تُنجي يوم القيامة، فلا يعتمد أحدٌ على عمله، ولا يُعجب به، ولا يرى أن نجاته به، بل إنما نجاته برحمة الله، وعفوه، وفضله، فالاستقامة كلمة آخذة بمجامع الدين كله، وهي القيام بين يدي الله على حقيقة الصدق، والوفاء بالعهد، وهي تتعلق بالأقوال، والأفعال، والأحوال، والنيات.
والداعية إلى الله يجب أن يكون من أعظم الناس استقامة، وبهذا - بإذن الله تعالى - لا يُخيِّب الله سعيه، ويجعل الحكمة على لسانه، وفي أفعاله، وتصرفاته، وهو تعالى ذو الفضل والإحسان( ).
وأعظم الكرامة لزوم الاستقامة، وبذلك يُقبل قول الداعية، ويُقتدَى بأفعاله، فيُعطى بذلك خيراً كثيراً، وثواباً جزيلاً؛ لإخلاصه وصدق نيته، ورغبته فيما عند الله ، ويحصل على أحسن قولٍ وعملٍ على الإطلاق، كما قال : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِـحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ( ).
إنّ كلمة الدعوة حينئذٍ هي أحسن كلمة تقال في الأرض، وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، ولكن مع العمل الصالح الذي يصدق الدعوة، ومع الاستسلام الكامل لله وحده، والاعتزاز بالإسلام.
وبهذا يُعلم أن هذه الآية اشتملت على ثلاثة شروط حتى يكون الداعية لا أحد أحكم ولا أحسن قولاً منه في الدنيا أبداً:
الشرط الأول: دعوته إلى الله - تعالى - بأن يُعبد الله وحده، فَيُطاع فلا يُعصى، ويُذكرَ فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر.
الشرط الثاني: عمل الداعية الصالحات بأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والقيام بالمستحبات، والابتعاد عن المكروهات، فهو مع دعوته الخلق إلى الله يبادر هو بنفسه إلى امتثال الأوامر واجتناب النواهي.
الشرط الثالث: اعتزاز الداعية بالإسلام وانقياده لأمره شكراً لربه؛ ولأنه على الحق الواضح المبين، فإذا قام الداعية بهذه الشروط الثلاثة، فلا أحد أحسن قولاً منه( ).
ولكن قد يحصل للداعية ما يصدُّه عن دعوته من شياطين الإنس، وشياطين الجن، فبيّن الله  أن المخرج من شياطين الإنس بالإحسان إليهم، ومعاملتهم باللِّين، والعفو عنهم، والإعراض عن جهلهم وإساءتهم.
أما شياطين الجن فلا منجي منهم إلا بالاستعاذة منهم بالله وحده( )، قال الله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ).
ولاشك أن الداعية إذا سلك هذه المسالك الحكيمة اكتسب الحكمة بتوفيق الله تعالى.
المطلب الرابع: الخبرات والتجارب
التجربة لها الأثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات، وهي من أعظم طرق اكتساب الحكمة، والتجربة لا تخرج الحكمة عن كونها فضل الله يؤتيه من يشاء؛ فإنه المعطي الوهّاب وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله( )؛ ولكنه سبحانه جعل لكل شيء سبباً يوصل إليه.
والتجربة في العلم: اختبار مُنظِّم لظاهرة أو ظواهر يراد ملاحظتها ملاحظة دقيقة منهجية؛ للكشف عن نتيجةٍ ما، أو تحقيق غرضٍ معين، وما يعمل أولاً لتلافي النقص في شيءٍ وإصلاحه( )، ويُقال: جَرَّبَهُ تَجرِبَةً: اختبره، ورجل مجرب، كمعظم: بُـــلـِيَ ما كان عنده، ومجرِّب: عرف الأمور( )، تقول، جربت الشيء تجريباً: اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة، والجمع التجارب( ).
وعن معاوية  قال: ((لا حكيم إلا ذو تجربة))( ).
ومن المعلوم أن الحكيم لابد لـه من تجارب قد أحكمته، ولهذا قيل: ((لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة))( ).
والمعنى: لا حليم إلا صاحب زلة قدم، أو لغزة قلم في تقريره أو تحريره.
وقيل: لا حليم كاملاً إلا من وقع في زلة وحصل منه الخطأ والتخجل فعفي عنه فعرف به رتبة العفو فيحلم عند عثرة غيره؛ لأنه عند ذلك يصير ثابت القدم، ولا حكيم كاملاً إلا من جرب الأمور، وعلم المصالح والمفاسد؛ فإنه لا يفعل فعلاً إلا عن حكمة، إذ الحكمة إحكام الشيء وإصلاحه عن الخلل( ).
والحكيم هو المتيقظ المتنبه، أو المتقن للحكمة الحافظ لها( ).
والحكمة من أثمن نتائج التمييز والتفكير، وهي زبدة العلم والاختبار، فالعلم يخطط الأسس النظرية، ثم يكتمل ويصقل بالخبرة العملية المبنيَّة على المران والتجارب؛ ولهذا كان العلماء الأحداث بسبب قلة تجاربهم أنقص حكمة، وأقل رسوخاً في العلم من كبار العلماء الراسخين في العلم( ).
وبهذا يعلم أن الداعية إلى الله إذا خالط الناس، وعرف عاداتهم وتقاليدهم، وأخلاقهم الاجتماعية، ومواطن الضعف والقوة، سيركز على ما ينفع الناس، ويضع الأشياء في مواضعها؛ لأنه قد جرّبهم، فالتجارب تنمّي المواهب والقدرات، وتزيد البصير بصراً، والحليم حلماً، وتجعل العاقل حكيماً، وقد تشجِّع الجبان، وتسخِّي البخيل، وقد تُليِّن قلب القاسي، وتقوِّي قلب الضعيف، ومن زادته التجارب عمىً إلى عماه فهو من الحمقى الذين لا يفقهون( ).
وأعظم الناس تجربة، وأكملهم حكمةً: الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لأنهم صفوة البشر اصطفاهم الله وربّاهم، ثم أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومع هذا ما بعث الله من نبي إلا رعى الغنم، كما قال النبي : ((ما بعث الله نبيّاً إلاّ رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة))( ).
وفي رواية: قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: ((وهل من نبيٍّ إلاّ وقد رعاها؟))( ).
والحكمة من ذلك - والله أعلم - أن الله  يلهم الأنبياء قبل النبوة رعي الغنم؛ ليحصل لهم التمرين والتجربة برعيها على ما يُكلَّفُونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يُحصِّل لهم الحلم والشفقة، كما قال النبي : ((أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدةً وألين قلوباً. الإيمانُ يَمانٍ، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم))( )؛ ولأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوِّها من سبعٍ وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها، وشدّة تفرّقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طبائعهم وتفاوت عقولهم، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها، فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كُلِّفوا القيام بذلك من أوّل وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخُصّت الغنم بذلك؛ لكونها أضعف من غيرها؛ ولأن تفرّقها أكثر من تفرق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرّقها فهي أسرع انقياداً من غيرها( ).
ثم بعد رعيهم الغنم جرّبوا الناس، وعرفوا طبائعهم، فازدادوا تجارب إلى تجاربهم؛ ولهذا قال موسى  لمحمد  عندما فرضت عليه الصلاة خمسين صلاة في كل يومٍ ليلة الإسراء والمعراج: ((إنّ أمّتك لا تستطيع خمسين صلاة كلّ يومٍ، وإني والله قد جرّبت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك...)) فما زال النبي  يراجع ربه ويضع عنه حتى أُمِرَ بخمسٍ صلواتٍ كل يوم( ).
فموسى قد جرب الناس، وعلم أن أمة محمد  أضعف من بني إسرائيل أجساداً، وأقلّ منهم قوةً، والعادة أن ما عجز عنه القوي فالضعيف من باب أولى( ).
فالداعية بتجاربه بالسفر، ومعاشرته الجماهير، وتعرفه على عوائد الناس وعقائدهم، وأوضاعهم، ومشكلاتهم، واختلاف طبائعهم وقدراتهم، سيكون لـه الأثر الكبير في نجاح دعوته وابتعاده عن الوقوع في الخطأ؛ لأنه إذا وقع في خطأ في منهجه في الدعوة إلى الله، أو أموره الأخرى لا يقع فيه مرة أخرى، وإذا خُدع مرة لم يخدع مرة أخرى، بل يستفيد من تجاربه وخبراته؛ ولهذا قال النبي : ((لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين))( )، وقال: ((كلّكم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون))( ).
وإذا أراد الداعية أن يكتسب الحكمة من التجارب، فلابد لـه - لإصلاح المتديِّنين وتوجيههم - أن يعيش معهم في مساجدهم، ومجتمعاتهم، ومجالسهم، وإذا أراد إصلاح الفلاحين والعمال عاش معهم في قراهم ومصانعهم، وإذا أراد أن يصلح المعاملات التجارية بين الناس، فعليه أن يختلط بهم في أسواقهم، ومتاجرهم، وأنديتهم، ومجالسهم، وإذا أراد أن يصلح الأوضاع السياسية، فعليه أن يختلط بالسِّياسيين، ويتعرَّف إلى تنظيماتهم، ويستمع لخطبهم، ويقرأ لهم برامجهم، ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون فيها، والثقافة التي حصلوا عليها، والاتجاه الذي يندفعون نحوه؛ ليعرف كيف يخاطبهم بما لا تنفر منه نفوسهم، وكيف يسلك في إصلاحهم بما لا يدعوهم إلى محاربته عن كُرْهِ نفسٍ واندفاع عاطفي، فيحرم نفسه من الدعوة إلى الله، ويحرم الناس من علمه( )، وهذا يؤهِّله إلى أن يُحدِّثَ الناس بما يعرفون، ولا يحدِّثهم حديثاً لا تبلغه عقولهم، قال علي : ((حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّبَ الله ورسوله))( ).
وقال ابن مسعود : ((ما أنت بِمُحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنةً))( ).
وهكذا ينبغي أن يكوِّن الداعية من تجاربه في الحياة، ومعرفته بشؤون الناس ما يُمكِّنه من اكتساب الحكمة، وتحقيق قوله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْـهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( ).
المطلب الخامس: السياسة الحكيمة
إذا سلك الداعية إلى الله مسلك السياسة الحكيمة في دعوته إلى الله تعالى، فسيكون لذلك عظيم الأثر في نجاح دعوته واكتسابه الحكمة، والوصول إلى الغاية المطلوبة بإذن الله تعالى.
والنبي  هو أُسوتنا وقدوتنا، وإمام الدعاة إلى الله، وقد سلك هذا المسلك، فنفع الله به العباد، وأنقذهم به من الشرك إلى التوحيد، وكان لسياسته الحكيمة عظيم النفع والأثر في نجاح دعوته، وإنشاء دولته، وقوة سلطانه، ورفعة مقامه، ولم يُعرَف في تاريخ السياسات البشرية أن رجلاً من الساسة المصلحين في أيِّ أمةٍ من الأمم كان لـه مثل هذا الأثر العظيم، ومَن مِن المصلحين المبرِّزين - سواء كان قائداً مُحنَّكاً، أو مربِّياً حكيماً - اجتمع لديه من رجاحة العقل، وأصالة الرأي، وقوة العزم، وصدق الفراسة، ما اجتمع في رسول الله ؟ ولقد برهن على وجود ذلك فيه: صحة رأيه، وصواب تدبيره، وحسن تأليفه، ومكارم أخلاقه، ( ).
فإذا قام الداعية بسلوك هذا المسلك بإخلاص، وصدق، وعزيمة، اكتسب من الحكمة في الدعوة إلى الله مكتسباً عظيماً.
وطرق السياسة الحكيمة في الدعوة إلى الله  كثيرة،منها الطرق الآتية:
الطريق الأول: تحري أوقات الفراغ، والنشاط، والحاجة عند المدعوين حتى لا يملُّوا عن الاستماع ويفوتهم من الإرشاد والتعليم النافع، والنصائح الغالية الشيء الكثير، وقد ثبت عن النبي  أنه كان يتخوّل أصحابه بالموعظة كراهة السآمة عليهم، فعن عبد الله بن مسعود  قال: ((كان النبي  يتخوَّلُنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا))( ).
ولهذا طبَّق الصحابة هذه السياسة، فقد كان عبد الله بن مسعود يُذكِّر الناس في كل خميس، فقال لـه رجل: يا أبا عبد الرحمن، لودِدْتُ أنك ذكرتنا في كل يوم، قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملّكم، وإني أتخوَّلُكم بالموعظة كما كان النبي  يتخوّلنا بها مخافة السآمة علينا( ).
وقد ثبت عن النبي  أنه قال: ((يسّروا ولا تُعسّروا، وبشّروا ولا تُنفِّروا))( ).
الطريق الثاني: ترك الأمر الذي لا ضرر فيه ولا إثم، اتقاءً للفتنة، فقد يجد الداعية قوماً استقر مجتمعهم وعاداتهم على أشياء لا تخالف الشريعة؛ ولكن فعل غيرها أفضل، فإذا علم الداعية أنه سيحصل فتنة إذا دعا إلى ترك هذا الأمر أو فعله فلا حرج ألاَّ يدعو، فقد ترك النبي  هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم  اجتناباً لفتنة قومٍ كانوا حديثي عهدٍ بجاهلية، فعن عائشة رضي الله عنها أن النبي  قال لها: ((يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لأمرت بالبيت فَهُدِمَ، فأدخلت فيه ما أُخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت لـه بابين: باباً شرقياً، وباباً غربياً، فبلغت به أساس إبراهيم))( ).
وفي رواية: ((إن قومك قصرت بهم النفقة))، قلت: فما شأن بابه مرتفعاً؟ قال: ((فعل ذلك قومك لِيُدخِلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديثٌ عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجَدْرَ في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض))( ).
وهذا يدل الداعية على أن المصالح إذا تعارضت، أو تعارضت مصلحة ومفسدة، وتعذَّر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئَ بالأهم؛ لأن النبي  أخبر أن نقض الكعبة وردَّها إلى ما كانت عليه من قواعد إبراهيم  مصلحة، ولكن تعارضه مفسدة أعظم منه، وهو خوف فتنة بعض من أسلم قريباً، وذلك لما كانوا يعتقدونه من فضل الكعبة، فيرون تغييرها عظيماً، فتركها  لدفع هذه المفسدة( ).
الطريق الثالث: تأليف القلوب بالمال أحياناً، فالداعية كالطبيب الذي يشخِّص المرض أولاً، ثم يعطي العلاج على حسب نوع المرض،فإذا علم الداعية أن المدعو لم يرسخ الإيمان في قلبه رسوخاً لا تزلزله الفتن، فله أن يعطيه من المال ما يستطيعه،للاحتفاظ بالبقاء على الهداية بالإسلام، وقد شرع الله للمؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة،وقد كان رسول الله  يسلك هذا المسلك،فيؤثر حديثي العهد بالإسلام بجانب من المال،إذا ظهر لـه أن الإيمان لم يرسخ؛ولذلك أشار  بقوله:((إني لأعطي الرجل وغيره أحبُّ إليَّ منه خشية أن يُكبّ في النار على وجهه))( ).
وقد كان يعطي النبي  أشراف قريش وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، لتلافي أحقادهم؛ ولأن الهدايا تجمع القلوب، وتجعل القلوب متهيئة للنظر في صدق الدعوة، وصحة العقيدة، والاستفادة من الآيات البيِّنات، والبراهين الواضحة( ).
وصدق النبي  حيث قال: ((تهادوا تحابّوا))( ).
وللتأليف بالمال أمثلة كثيرة من هديه ( ).
الطريق الرابع: التأليف بالجاه من السياسة الحكيمة؛ ولهذا قال النبي  للأنصار حينما آثر عليهم غيرهم في العطاء: ((أفلا ترضون أن يذهب الناس بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله ؟ فوالله لما تنقلبون به خير ما ينقلبون به))، فقالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا( ).
وفي رواية: ((لو سلك الناس وادياً أو شِعباً، وسلكت الأنصار وادياً أو شِعباً لسَلكتُ وادي الأنصار أو شِعب الأنصار))( ).
فإذا سلك الداعية هذه السياسة وُفِّق للصواب والحكمة - بإذن الله تعالى -.
الطريق الخامس: التأليف بالعفو في موضع الانتقام، والإحسان في مكان الإساءة، وباللين في موضع المؤاخذة، وبالصبر على الأذى، فكان يقابل الأذى بالصبر الجميل، ويقابل الحمق بالحلم والرفق، ويقابل العجلة والطيش بالأناة والتثبت.
وهذا أعظم ما يجذب المدعوين إلى الإسلام والاستقامة والثبات، وبمثل هذه المعاملة الحسنة جمع النبي  قلوب أصحابه حوله، فتفانوا في محبته والدفاع عنه، وعن دعوته بمؤازرته ومناصرته.
وقد مدح الله رسوله ، وأمره بالعفو والصفح والاستغفار لمن تبعه من المؤمنين بقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَـهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَـهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله إِنَّ الله يُحِبُّ الْـمُتَوَكِّلِينَ ( ).
وقال : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْـمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ).
الطريق السادس: عدم مواجهة الداعية أحداً بعينه عندما يريد أن يُؤدِّبه أو يزجره مادام يجد في الموعظة العامة كفاية، وهذا من السياسة البالغة في منتهى الحكمة؛ ولهذا كان النبي  يسلك هذا الأسلوب الحكيم، ومن ذلك قوله : ((ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه، فيتنخَّع أمامه، أيحب أحدكم أن يُستقبل فيتنخّع في وجهه، فإذا تنخّع أحدكم فليتنخّع عن يساره تحت قدمه، فإن لم يجد فليفعل هكذا))، ووصف القاسم فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه على بعض( ).
وفقد النبي  ناساً في بعض الصلوات، فقال: ((والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمر بحطبٍ فيُحطبَ، ثم آمر بالصلاة فيؤذَّن لها، ثم آمر رجلاً يؤمُّ الناس، ثم أُخالف إلى رجالٍ [يتخلّفون عنها] فأحرق عليهم بيوتهم))( ).
وقال :((ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة))،فاشتدّ قوله في ذلك حتى قال:((لينتهُنَّ عن ذلك أو لتُخطَفنَّ أبصارُهم))( ).
وصنع النبي  شيئاً فرخّص فيه، فتنزَّه عنه قوم، فبلغ ذلك النبي  فخطب، فحمد الله، ثم قال: ((ما بال أقوام يتنزَّهون عن شيءٍ أصنعه، فوالله إني لأعلمهم بالله، وأشدُّهم لـه خشية))( ).
وقال النبي : ((ما بال أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني))( ).
وبلغه شرط أهل بريرة رضي الله عنها أن الولاء لهم بعد بيعها، ثم خطب الناس فقال: ((ما بال أناسٍ يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فليس لـه، وإن شرط مائة مرة، شرط الله أحقُّ وأوثقُ))( ).
وهذا يدلّ الداعية على أن من الحكمة عدم مواجهة الناس بالعتاب ستراً عليهم، ورفقاً بهم، وتلطُّفاً.
والداعية يستطيع أن يُوجِّه العتاب عن طريق مخاطبة الجمهور إذا كان المدعوّ المقصود بينهم ومن جملتهم، وهذا من أحكم الأساليب( ).
الطريق السابع: إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه، كقوله : ((من دلَّ على خير فله مثل أجر فاعله))( ).
فقد صوَّر النبي  الدلالة على فعل الخير في صورة الفعل نفسه.
وكقوله : ((من جهَّز غازياً فقد غزا))( ).
وقال : ((إن من الكبائر أن يلعن الرجل والديه))، قيل: يا رسول الله: وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: ((يسبُّ أبا الرجل فيسبُّ أباه، ويسبُّ أمه فيسب أمَّه))( ).
وهذا أصل في سدّ الذرائع، ويُؤخذ منه أن من آل فعله إلى محرَّمٍ يحرم عليه ذلك الفعل، وإن لم يقصد إلى ما يحرم( )، كما قال تعالى: وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ( ).
فقد أعطى النبي  من يسبُّ أبا الغير وأمه صورة من يسب والديه؛ لأنه تسبَّب في سبِّهما.
الطريق الثامن: أن يجيب الداعية على السؤال الخاص بما يتناوله وغيره حتى يكون ما أجاب به قاعدة عامة للسائل وغيره، قال عمرو بن العاص: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي  فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضت يدي، قال: ((مالك يا عمرو؟)) قال: قلت: أردت أن أشترط، قال: ((تشترط بماذا؟))، قلت: أن يُغفَر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله...)) ( ).
فأجاب  بما يفيد عدم المؤاخذة عن كل من اعتنق الإسلام، وعن كل من هاجر، وعن كل من حج حجًّا مبروراً، وقد كان يكفيه في الجواب أن يقول: غُفر لك، أو نحوها( ).
وقال  لمن سأله عن ماء البحر: ((هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته))( ).
فأجاب  السائل عن الحكم الذي سأل عنه، وزاده حكماً لم يسأل عنه، وهو حلّ ميتة البحر، فعندما عرف  اشتباه الأمرِ على السائل في ماء البحر أشفق أن يشتبه عليه حكم ميتته، وقد يُبْتَلَى بها راكب البحر، فعقّب الجواب عن سؤاله ببيان حكم الميتة، وذلك من محاسن الفتوى أن يُجاء في الجواب بأكثر مما سُئِلَ عنه تتميماً للفائدة، وإفادة لعلم غير المسؤول عنه، ويتأكد عند ظهور الحاجة إلى حكمٍ كما هنا؛ لأن من توقف في طهورية ماء البحر فهو عن العلم بحل ميتته، مع تقدم تحريم الميتة أشد توقفاً( ).
الطريق التاسع: ضرب الأمثال، قال : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك بين أصابعه))( ).
وقد مثل النبي  المؤمنين في تبادل الرحمة والمودة والعطف بالجسد في روابطه العضوية، إذا مرض عضو مرضت باقي الأعضاء، فقال: ((مثل المؤمنين في توادهم، وتراحمهم، وتعاطفهم، كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى لـه سائر الجسد بالسهر والحمى))( ).
ومثّلهم النبي  في الحديث الذي قبل هذا في التعاون على البر والتقوى والتكاتف بالبنيان يشدّ بعضهم بعضاً كشدّ البنيان( ).
ومن المعلوم يقيناً أن الداعية إذا سلك هذه المسالك اكتسب الحكمة بعون الله - تعالى - ووُفِّق لهدي النبي  في دعوته، وسُدِّد في قوله وفعله بتوفيق الله .
المطلب السادس: فقه أركان الدعوة إلى الله تعالى
لا يكون الداعية حكيماً في دعوته إلى الله - تعالى - إلا بفقه وإتقان ركائز الدعوة وأسسها التي تقوم عليها، حتى يسير في دعوته على بصيرة، ولاشك أن فهم هذه الأركان يدخل في قوله تعالى: قُلْ هَـذِهِ سَبِيــلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ( ).
فلابدّ من معرفة الداعية لما يدعو إليه، ومن هو الداعي، وما هي الصفات والآداب التي ينبغي أن تتوافر في الداعية؟ ومن هو المدعو، وما هي الوسائل والأساليب التي تستخدم في نشر الدعوة وتبليغها؟ هذه هي أركان الدعوة: الموضوع، والداعي، والأساليب، والوسائل.
الركن الأول: موضوع الدعوة ((ما يدعو إليه الداعية)):
موضوع الدعوة: هو دين الإسلام ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ( ).
وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْـخَاسِرِينَ ( ).
وهذا ما فَصَّله حديث جبريل في ذكر أركان الإسلام: ((الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً)). وأركان الإيمان: ((أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)). والإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك))( ).
ولاشك أن الإسلام اختص بخصائص عظيمة منها:
1- الإسلام من عند الله تعالى.
2- الإسلام شامل لجميع نظم الحياة وسلوك الإنسان، ومن هذه النظم:
نظام الأخلاق، ونظام المجتمع، والإفتاء، والحسبة، والحكم، والاقتصاد، والجهاد، ونظام الجريمة والعقاب، وذلك كله قائم على الرحمة، والعدل، والإحسان.
3- الإسلام عام لجميع البشرية في كل زمان ومكان، قال الله تعالى: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا( ).
4- الإسلام هو من حيث الجزاء: - الثواب والعقاب الذي يصيب مُتَّبِعَهُ أو مخالفه - ذو جزاء أُخرويّ بالإضافة إلى جزائه الدنيوي إلا ما خصّه الدليل.
5- والإسلام يحرص على إبلاغ الناس أعلى مستوى ممكن من الكمال الإنساني: وهذه مثالية الإسلام، ولكنه لا يغفل عن طبيعة الإنسان وواقعه، وهذه هي واقعيّة الإسلام.
6- الإسلام وسط: في عقائده، وعباداته، وأخلاقه، وأنظمته، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا( ).
كما يلزم الداعية فهم مقاصد الإسلام التي دلّت عليها الشريعة الإسلامية: وهي تحقيق مصالح العباد، ودرء المفاسد والأضرار عنهم في العاجل والآجل.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((إن الشريعة الإسلامية جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها)) ( ).
وبالجملة فإن الشريعة الإسلامية مدارها على ثلاث مصالح:
المصلحة الأولى: درء المفاسد عن ستة أشياء: الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والعرض، والمال.
المصلحة الثانية: جلب المصالح: فقد فتح القرآن الأبواب لجلب المصالح في جميع الميادين وسدّ كل ذريعة تؤدّي إلى الضرر.
المصلحة الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، فالقرآن حلّ جميع المشكلات العالمية التي عجز عنها البشر ولم يترك جانباً من الجوانب التي يحتاجها البشر في الدنيا والآخرة إلا وضع لها القواعد، وهدى إليها بأقوم الطّرق وأعدلها( ).
فالداعية الحكيم هو الذي يدعو إلى ما تقدم من أركان الإسلام، وأصول الإيمان، والإحسان، ويبيّن للناس جميع ما جاء في القرآن والسنة: من العقائد، والعبادات، والمعاملات، والأخلاق، بالتفصيل والشرح والتوضيح( ).
الركن الثاني: الداعي:
لابُدَّ للداعية من معرفة هذا الأصل بشروطه، وما هي عدّة الداعية وسلاحه، وما هي وظيفته، وأخلاقه، وفهم ذلك من أهمّ المهمات للداعية، وإليك التفصيل بإيجاز:
1- وظيفة الداعية:
وظيفة الداعية إلى الله - تعالى - هي وظيفة الرسل عليهم الصلاة والسلام، والرسل هم قدوة الدعاة إلى الله، وأعظمهم محمد ، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا( ).
وقال تعالى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ( ).
وقال سبحانه: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ( )، وقال تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ( ).
والأمة شريكة لرسولها في وظيفة الدعوة إلى الله، فالآيات التي تأمره بالدعوة إلى الله يدخل فيها المسلمون جميعاً؛ لأن الأصل في خطاب الله تعالى لرسوله  دخول أمته فيه إلا ما استُثْني، وليس من هذا المستثنى أمر الله تعالى بالدعوة إليه، قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله( ).
وقد جعل الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أخصِّ أوصاف المؤمنين، كما قال سبحانه: وَالْـمُؤْمِنُونَ وَالْـمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ( )، وبهذا يتضح أن المكلَّف بالدعوة إلى الله هو كل مسلم ومسلمة على قدر الطاقة، وعلى قدر العلم، ولا يختصّ العلماء بأصل هذا الواجب؛ لأنه واجب على الجميع كلٌّ بحسبه، وإنما يختص أهل العلم بتبليغ تفاصيل الإسلام، وأحكامه، ومعانيه الدقيقة، ومسائل الاجتهاد، نظراً لسعة علمهم، ومعرفتهم بالمسائل، والجزئيات، والأصول، والفروع.
ومما يزيد الأمر وضوحاً قوله تعالى: قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ الله وَمَا أَنَاْ مِنَ الْـمُشْرِكِينَ( )، فبين سبحانه أن أتباع الرسول  هم الدعاة إلى الله، وهم أهل البصائر كما كان الرسول  يدعو إلى الله على بصيرةٍ، وعلمٍ، ويقين ( ).
والدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم ومسلمة كلٌ بحسبه، وهي تؤدَّى على صورتين:
الصورة الأولى: فردية، يقوم بها المسلم على صفة فردية بحسب طاقته، وقدرته، وعلمه، كما قال النبي : ((من رأى منكم منكراً فليغيِّرْه بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))( ).
الصورة الثانية: بصفة جماعية، فتكون فرقة متصدية لهذا الشأن، كما قال تعالى: وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْـخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْـمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ( ).
2- عدّة الداعية وسلاحه:
يحتاج الداعية إلى الله - تعالى - في أداء مهمته ووظيفته إلى عُدَّةٍ وسلاحٍ قوي، منها:
السلاح الأول: الفهم الدقيق المبني على العلم قبل العمل، والقائم على تدبّر معاني وأحكام القرآن الكريم، وفهم السنة النبوية الشريفة، ويرتكز هذا الفهم على عدة أمور، من أهمها:
الأمر الأول: فهم الداعية العقيدة الإسلامية فهماً صحيحاً متقناً بالأدلة من الكتاب، والسنة، وإجماع علماء أهل السنة والجماعة.
الأمر الثاني: فهم الداعية غايته في الحياة ومركزه بين البشر.
الأمر الثالث: تعلقه بالآخرة، وتجافيه عن دار الغرور.
السلاح الثاني: الإيمان العميق المثمر: لمحبة الله، وخوفه، ورجائه، واتباع رسوله  في كل أموره.
السلاح الثالث:اتصال الداعية بالله - تعالى - في جميع أموره،وتعلقه به، وتوكله عليه،واستغاثته به،وإخلاصه لـه،والصدق معه في الأقوال والأفعال.
3- أخلاق الداعية وصفاته:
يحتاج الداعية إلى الأخلاق الحسنة والصفات الكريمة: وهي أخلاق الإسلام التي بيّنها الله في كتابه، وبيّنها رسوله  في سنته.
ومن أهمّ هذه الأخلاق والصفات التي ينبغي للداعية أن يلتزمها: الصدق، والإخلاص، والدعوة، إلى الله على بصيرة، والحلم، والرفق، واللين، والصبر، والرحمة، والعفو، والصفح، والتواضع، والوفاء، والإيثار، والشجاعة، والذكاء، والأمانة، والحياء المحمود، والكرم، والتقوى، والإرادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والتفاؤل، والنظام والدقة والمحافظة على الوقت، والاعتزاز بالإسلام، والعمل بما يدعو إليه؛ ليكون قدوةً صالحةً، والزهد، والورع، والاستقامة، وإدراك الداعية لما حوله، والقصد والاعتدال، والشعور بمعيّة الله، والثقة بالله تعالى، والتدرج في الدعوة، والبدء بالأهمّ فالمهمّ كما فعل النبي ، وأمر بذلك معاذ بن جبل عندما أرسله إلى اليمن.
كما ينبغي للداعية أن يبتعد عن كل ما يضادّ هذه الأخلاق من الأخلاق القبيحة.
ومن هذه الأمور المهمّة التي ينبغي للداعية أن يعتني بها، معرفة القواعد، والضوابط التي يجب مراعاتها والسير على ضوئها، حتى يكون الداعية مُسدَّداً في دعوته.
ومن ذلك: قول سفيان الثوري( ): ((لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه، عدل فيما يأمر به عدل فيما ينهى عنه، عالم بما يأمر به، عالم بما ينهى عنه)) ( ).
وقال الإمام محمد المقدسي: ((قال بعض السلف: ((لا يأمر بالمعروف إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه، حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه، فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه)) ( ).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ((فلابد من هذه الثلاثة: العلم،والرفق،والصبر.العلم قبل الأمر والنهي،والرفق معه،والصبر بعده، وإن كان كل من الثلاثة لابد أن يكون مستصحباً في هذه الأحوال)) ( ).
وقال ابن القيم - رحمه الله -: ((فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضدّه.
الثانية: أن يقلّ وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شرّ منه.
فالدرجتان الأُولَيان مشروعتان،والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرَّمة)) ( ).
فإذا طبّق الداعية ما تقدم من الصفات والأخلاق والقواعد والضوابط كان من أعظم الناس حكمة - بإذن الله تعالى-.
الركن الثالث: المدعو:
ينبغي للداعية أن يعلم أن الدعوة إلى الإسلام عامة لجميع البشر، بل للجن والإنس جميعاً، في كل زمانٍ ومكانٍ إلى قيام الساعة، وليست خاصة بجنسٍ دون جنسٍ، أو طبقةٍ دون طبقةٍ، أو فئةٍ دون فئةٍ، أو زمانٍ دون زمانٍ، أو مكانٍ دون مكان. ومن حقّ المدعو أن يُؤتى ويُدعى، ولا يجلس الداعي في بيته وينتظر مجيء الناس إليه، فقد كان النبي  يأتي الناس ويدعوهم، ويخرج إلى القبائل في المواسم، ويذهب إلى مقابلة وملاقاة الوفود ومن يقدم.
ولا يجوز للداعية أن يستصغر شأن أي إنسان أو أن يستهين به؛ لأن من حق كل إنسان أن يُدعى.
وإذا كان من حق المدعو أن يُؤتى ويُدعى ولا يستهان به، ولا يستصغر من شأنه فعليه أن يستجيب.
وينبغي للداعية أن يعلم أن المدعوين أصناف وأقسام:
فمنهم الملحد، ومنهم المشرك الوثني، ومنهم اليهودي، ومنهم النصراني، ومنهم المنافق، ومنهم المسلم الذي يحتاج إلى التربية والتعليم، ومنهم المسلم العاصي، ثم هم أيضاً يختلفون في قدراتهم العقلية، والعلمية، والصحية، ومراكزهم الاجتماعية، فهذا مثقَّفٌ، وهذا أمّيٌ، وهذا رئيسٌ، وهذا مرؤوسٌ، وهذا غنيٌّ، وهذا فقيرٌ، وهذا صحيح، وهذا مريض، وهذا عربي، وهذا أعجمي... فينبغي للداعية أن يكون كالطبيب الحاذق الحكيم الذي يشخِّص المرض، ويعرف الداء ويحدّده، ثم يُعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعياً في ذلك قوة المريض وضعفه، وتحمّله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشقّ بطنه، أو يقطع شيئاً من أعضائه من أجل استئصال المرض طلباً لصحة المريض( ).
والداعية ينبغي لـه أن يبدأ مع المدعوِّين بخطوات مناسبة محسوسة( )، منها ما يأتي:
1- يبدأ بنفسه فيصلحها حتى يكون القدوة الصالحة.
2- ثم يمضي إلى تكوين بيته وإصلاح أسرته، ليُكوِّن البيت المسلم، واللبنة المؤمنة.
3- ثم يتوجّه إلى المجتمع، وينشر دعوة الخير فيه، ويحارب الرذائل والمنكرات بالحكمة، ويشجع الفضائل ومكارم الأخلاق.
4- ثم دعوة غير المسلمين إلى منهج الحق وإلى شريعة الإسلام ((حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)) ( ).
الركن الرابع: أساليب الدعوة ووسائل تبليغها:
الداعية يحتاج إلى فهم أساليب الدعوة ووسائل تبليغها، حتى يكون على قدر من الكفاءة لتبليغ الدعوة إلى الله تعالى بإحكامٍ وإتقانٍ وبصيرةٍ، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: أساليب الدعوة:
الأسلوب: الطريق والفن، يقال: هو على أسلوب من أساليب القوم: أي على طريق من طرقهم، ويقال: أخذنا في أساليب من القول: فنون متنوعة( ).
وأساليب الدعوة: هي العلم الذي يتصل بكيفية مباشرة التبليغ، وإزالة العوائق عنه.
والمصادر الأساسية التي يستمد الداعية ويتعلم أساليب دعوته الحكيمة منها هي: كتاب الله - تعالى -، وسنة رسوله ، وسيرة السلف الصالح: من الصحابة الكرام، والتابعين لهم بإحسان من أهل العلم والإيمان.
وتقوم أساليب الدعوة الحكيمة الناجحة المؤثرة على الأساليب الآتية:
1- تشخيص وتحديد الداء في المدعوين، ومعرفة الدواء: فإن طبيب الأبدان الحاذق الحكيم يشخّص ويعرف الداء أولاً، ثم يصف العلاج حسب الداء. والداعية إلى الله - تعالى - هو طبيب الأرواح والقلوب، فعليه أن يسلك هذا الأسلوب في معالجة الأرواح، والداء عند الناس قد يكون كفراً، وقد يكون معصية، فعلى الداعية أن يعطي الدواء على حسب الداء؛ فإنّ دواء الكفر الإيمان بالله، وبما جاء عنه وعن رسوله ، ودواء المعاصي كبائرها وصغائرها التوبة إلى الله - تعالى -، والإقبال إليه، والإكثار من الطاعات المكفِّرة للسيئات، وهكذا لكل داءٍ دواء.
2- إزالة الشبهات التي تمنع المدعوين من رؤية الداء والإحساس به: ولاشك أن الشبهات: هي ما يثير الشك والارتياب في صدق الداعية وحقيقة ما يدعو إليه، فيمنع ذلك من رؤية الحق والاستجابة لـه، أو تأخير هذه الاستجابة.
3- ترغيب المدعوين وتشويقهم: إلى استعمال الدواء، والاستجابة وقبول الحق، والثبات عليه، وترهيبهم من ترك الدواء بكل ما يخوف ويحذر من عدم الاستجابة، أو عدم الثبات على الحق بعد قبوله.
4- تعهد المستجيبين من المدعوين: بالتربية والتعليم، والتوجيه؛ لتحصل لهم المناعة ضد دائهم القديم، ومن أعظم وسائل التربية المؤثرة: الاتصال بكتاب الله - تعالى - تلاوةً، وتدبراً، وفهماً، والاتصال الدائم بالسنة النبوية، وسيرة السلف من الصحابة ، فعلى الداعية أن يعين المستجيبين على هذه الأمور العظيمة.
5- تقوم جميع الأساليب: على أسلوب الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، ثم استخدام القوة للمعاندين الظالمين.
ثانياً: وسائل تبليغ الدعوة إلى الله تعالى:
الوسيلة في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء( )، ووسائل الدعوة هي: ما يستعين به الداعية على تبليغ الدعوة من أشياء وأمور.
ولاشك أن وسائل الدعوة على نوعين:
النوع الأول: وسائل خارجية تتعلق باتخاذ الأسباب لتهيئة المجال المناسب، ومنها على سبيل المثال ما يأتي:
الوسيلة الأولى: الحذر المبني على التوكل على الله - تعالى - مع الأخذ بالأسباب، ومعلوم أن الحذر أنواع من جهة ما يحذره الداعي المسلم، فهناك: حذره من الوقوع في المعاصي، والحذر من الأهل والولد، والحذر من اتباع الهوى، والحذر من المنافقين والكفار.
الوسيلة الثانية: الاستعانة بعد الله - تعالى - بالغير في تبليغ الدعوة، فالداعية يحرص على إيصال الدعوة إلى الناس، فيستعين بكل وسيلة مشروعة لتحقيق ما يحرص عليه.
الوسيلة الثالثة: المحافظة على النظام المشروع: كحفظ الداعية تنظيم وقته وعدم إضاعته، وإذا كان الدعاة جماعة فعليهم أن يراعوا قواعد النظام التي أمر بها الإسلام، حتى تثمر جهودهم ولا تضيع؛ فإن القليل من العمل بنظامٍ والدوام عليه خير من الكثير مع الفوضى والانقطاع.
النوع الثاني: وسائل تبليغ الدعوة بصورة مباشرة.
وهذه الوسائل تكون: بالقول، وبالعمل، وبسيرة الداعية التي تجعله قدوة حسنة لغيره فتجذبهم إلى الإسلام، ومن هذه الوسائل ما يأتي:
الوسيلة الأولى: التبليغ بالقول:
وسيلة القول في مجال التبليغ أنواع متعددة، منها: الخطبة، والدرس، والمحاضرة، والندوة، والمناقشة، والجدل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلمة الوعظية، والدعوة الفردية، والنصيحة الأخوية، والفتوى الشرعية، والكتابة: كالرسالة، والمقال، والكتاب، والكُتيِّب، والنشرة.
والداعية يستعين في تبليغ دعوته بجميع الوسائل المختلفة،المشروعة، المفيدة،وقد تكون بعض الوسائل نافعة في زمن دون زمن،وفي مجتمع دون آخر،والداعية الحكيم هو الذي يختار الوسائل المناسبة لكل عصر ومصر.
ووسيلة التبليغ بالقول تُبلَّغ عن طريق الوسائل الآتية:
1- اللقاءات العامة:كإقامة المحاضرات،والندوات،والمناقشات، والدروس في المساجد،والجامعات،والمعاهد،والمدارس، والمؤتمرات، وفي المناسبات التي يحضرها الناس بصورة جماعية كبيرة.
2- اللقاءات الخاصة: كالدروس الخاصة بطلاب العلم، ولا يمنع حضور غيرهم.
3- الدعوة الفردية: بالنصيحة الأخوية، والهدية الرمزية.
4- الكتابة: الرسالة، والمقال، والكتاب، والكُتيِّب، والنشرة.
5- وسائل الإعلام الحديثة:المسموعة،والمرئية،والمقروءة،والشخصية.
6- الوسائل الشخصية كالمسجلات، وشرائط التسجيل، والهاتف..
فينبغي للداعية الحكيم أن يغتنم استخدام هذه الوسائل ويشغلها بالحق؛ لأنه بذلك يخاطب ملايين البشر في مشارق الأرض ومغاربها، وعن طريقها تصل الدعوة إلى أقطار بعيدة، وتعمّ أماكن كثيرة.
وينبغي أن يكون قول الداعية واضحاً بيِّناً، خالياً من الألفاظ التي تحمل حقاً وباطلاً، وخطأً وصواباً، وأن يستعمل الألفاظ الشرعية المستعملة في القرآن والسنة وعند علماء المسلمين.
كما ينبغي للداعية أن يتأنّى في كلامه حتى يستوعب السامع كلامه ويفهَمَه، وأن يبتعد عن التفاصح والتعاظل، والتكلف في النطق، ويبتعد عن روح الاستعلاء على المدعو واحتقاره وإظهار فضله عليه، وأن يتلطّف بالقول للمدعوين، ويكون موضع الثقة بين الناس( ).
الوسيلة الثانية: التبليغ بالعمل:
والتبليغ بالعمل هو كل فعل يؤدي إلى إزالة المنكر ونصرة الحق وإظهاره، والأصل في ذلك قول النبي : ((من رأى منكم منكراً فليغيّرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه،فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))( )، والتبليغ بالعمل كما يكون بإزالة المنكر يكون بإقامة المعروف: كبناء المساجد، وبناء الجامعات، والمعاهد، والمدارس الإسلامية، وإقامة المكتبات فيها وتزويدها بالكتب النافعة، وبناء المستشفيات الإسلامية، ودور الرعاية الاجتماعية، وطبع الكتب الإسلامية وتوزيعها، واختيار الرجل الصالح للعمل في هذه المجالات وفي المجالات المهمة، وهذا - كله - في الحقيقة دعوة صامتة إلى الله تعالى.
الوسيلة الثالثة: التبليغ بالسيرة الحسنة:
من وسائل التبليغ المهمّة في تبليغ الدعوة إلى الله، وجذب الناس إلى الإسلام التبليغ بالسيرة الطيّبة للداعي، وأفعاله الحميدة، وصفاته العالية، وأخلاقه الكريمة، والتزامه بالإسلام ظاهراً وباطناً، مما يجعله قدوةً طيبةً، وأُسوةً حسنةً لغيره؛ لأن التأثير بالأفعال والسلوك أبلغ من التأثير بالكلام وحده.
وأصول السيرة الحسنة التي يكون بها الداعية قدوةً طيبةً لغيره ترجع إلى أصلين عظيمين: حسن الخلق، وموافقة العمل للقول.
• فحسن الخلق كلمة يندرج تحتها كثير من الصفات: كالتواضع، والوفاء بالعهد، والأمانة، وقوة العزيمة، والشجاعة، والصبر، والشكر، والحلم، والرفق، والتقوى، والحياء، والعفو والصفح، والجود، والكرم، والصدق والعدل، وحفظ اللسان، والرحمة.
• وموافقة القول للعمل هي أن يكون فعل الداعية موافقاً للطريق المستقيم، وسيرته تطبيقاً عملياً لقوله، ولا يخالف ظاهره باطنه، فإن أمر بشيء التزمه، وإن نهى عن شيء كان أول تاركٍ لـه؛ ليفيد وعظه، وينفع إرشاده ويُثمر، ويُقتدى به، فإن كان يأمر بالخير ولا يفعله، وينهى عن الشر وهو واقع فيه، فهو بحاله هذه عقبة في سبيل الدعوة إلى الله تعالى( ).


المبحث السادس: إنزال الناس منازلهم ومراتبهم
المطلب الأول: إنزال الناس منازلهم
الداعية الحكيم هو الذي يدرس الواقع، وأحوال الناس، ومعتقداتهم، ويُنزل الناس منازلهم، ثم يدعوهم على قدر عقولهم، وأفهامهم، وطبائعهم، وأخلاقهم، ومستواهم العلمي والاجتماعي، والوسائل التي يؤتون من جهتها؛ ولهذا قال علي بن أبي طالب : ((حَدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يُكذَّب الله ورسوله))( ).
وذُكِرَ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ((أمرنا رسول الله  أن نُنْزِلَ الناس منازلهم))( ).
وقال عبد الله بن مسعود : ((ما أنت بمحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة))( ).
وقد بيّن النبي  ذلك للدعاة إلى الله  ، فقال لمعاذ بن جبل  حينما بعثه إلى اليمن - داعياً ومعلماً وقاضياً -: ((إنك تأتي قوماً أهل كتاب...)) الحديث( ).
فبين  لمعاذ عقيدة القوم الذين سوف يقدم عليهم حتى يعرف حالهم، ويستعدّ لهم، ويقدّم لهم ما يناسبهم، وما يُصلح أحوالهم.
وقال النبي  لعائشة رضي الله عنها:((يا عائشة،لولا قومك حديثٌ عهدهم بكفر لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين: باب يدخل الناس،وباب يخرجون))( ).
فترك  هذه المصلحة؛ لأمن الوقوع في المفاسد( ).
فدراسة البيئة والمكان الذي تبلغ فيه الدعوة أمر مهمٌّ جداً؛ فإن الداعية يحتاج في دعوته إلى معرفة أحوال المدعوين: الاعتقادية، والنفسية، والاجتماعية، والاقتصادية، ومعرفة مراكز الضلال ومواطن الانحراف معرفة جيدة، ويحتاج إلى معرفة لغتهم، ولهجتهم، وعاداتهم، والإحاطة بمشكلاتهم ونزعاتهم الخلقية، وثقافتهم، ومستواهم الجدلي، والشُّبه التي انتشرت في مجتمعهم، ومذاهبهم( ).
والدّاعية الحكيم يكون مدركاً لما حوله، مقدّراً للظروف التي يدعو فيها، مراعياً لحاجات الناس ومشاعرهم، وكل أحوالهم.
والداعية إلى الله - تعالى - لا ينجح في دعوته، ولا يكون موفقاً في تبلغيه ولا مسدّداً في قوله وفعله حتى يعرف من يدعوهم، وهل هذا المجتمع من المسلمين العُصاة، أو من المسلمين الذين انتشرت فيهم البدع والخرافات؟ هل هذا المجتمع من أهل الكتاب؟ فإذا كانوا منهم، فهل هم من اليهود أم من النصارى؟ هل هذا المجتمع من الملحدين الطبيعيين والمادّيين والدهريّين؟ أم من الوثنيين المشركين؟.
فإذا عرف الداعية هذا كله، فكيف يدعو كل فئة من هذه الفئات بالحكمة؟ وماذا يقدّم معهم؟وماذا يؤخّر؟وما القضايا التي يعطيها أهمية وأولوية قبل غيرها؟ وما الأفكار الضرورية التي يطرحها ويبدأ بها؟
وهكذا، فالداعية الحكيم كالطبيب الحكيم الذي يُشخِّصُ المرض، ويعرف الداء ويُحدّده، ثم يعطي الدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعياً في ذلك: قوة المريض وضعفه، وتحمله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشق بطنه، أو يقطع شيئاً من أعضائه، من أجل استئصال المرض طلباً لصحة المريض، وهكذا فالداعية الحكيم يعرف أمراض المجتمع، ويُحدّد الدّاء، ويعرف الدّواء، وينظر ما هي الشبه والعوائق فيزيلها، ثم يقدم المادة المناسبة بدءاً بأمور العقيدة الإسلامية الصحيحة الصافية، مع تشويق المدعو إلى القبول والإجابة( ).
المطلب الثاني: مراتب الدعوة والمدعوين
قد دلّ كتاب الله على أنّ مراتب الدعوة - بحسب مراتب البشر - قال الله تعالى: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْـحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْـحَسَنَةِ وَجَادِلْـهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( )، وقال تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ( )، فاتضح بذلك أن مراتب الدعوة إلى الله أربع مراتب على النحو الآتي:
المرتبة الأولى: الحكمة.
المرتبة الثانية: الموعظة الحسنة.
المرتبة الثالثة: الجدال بالتي هي أحسن.
المرتبة الرابعة: استخدام القوة.
ولابد أن تكون مرتبة الحكمة ملازمة لجميع المراتب التي بعدها، فالموعظة لابد أن توضع في موضعها، والجدال في موضعه، واستخدام القوة في موضعه مع بيان الحق بدليله والإصابة في الأقوال والأفعال، وكل ذلك بإحكامٍ وإتقان.
وبهذا تكون مراتب المدعوين بحسب هذه المراتب على النحو الآتي:
1- المستجيب الذّكي، القابل للحقّ، الذي لا يعاند ولا يأباه، وهذا يُبين لـه الحق علماً وعملاً واعتقاداًَ، فيقبله ويعمل به.
2- القابل للحقّ المعترف به؛ لكن عنده نوع غفلة وتأخر، وله أهواء وشهوات تصدّه عن اتّباع الحقّ، فهذا يُدعى بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحقّ والتّرهيب من الباطل.
3- المعاند الجاحد، فهذا يُجادل بالتي هي أحسن( ).
4- فإن ظلم المعاند ولم يرجع إلى الحقّ انتُقِل معه إلى مرتبة استخدام القوة إن أمكن.
واستخدام القوة يكون بالكلام، وبالتأديب لمن لـه سلطة وقوّة، وبالجهاد في سبيل الله - تعالى - تحت لواء ولي أمر المسلمين بالشّروط التي دلّ عليها الكتاب والسنة( )، وهذا ما يقتضيه مفهوم الحكمة الصحيح؛ لأنها وضع الشيء في موضعه اللائق به بإحكام وإتقان وإصابة( ).
ويزيد ذلك وضوحاً وبياناً ما كان عليه الرسول  وهو الذي أعطاه ربه من الحكمة ما لم يعطِ أحداً من العالمين، فقد كان يضع العلم والتّعليم والتّربية في مواضعها، والموعظة في موضعها، والمجادلة بالتي هي أحسن في موضعها، والقوة والغلظة والسيف في مواضعها، وهذا من أحكم الحكم، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْـمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْـمَصِيرُ( )، وهذا عين الحكمة في الدعوة إلى الله تعالى( ).
  

الفصل الثالث: الحِــــــــــــــــــــــــــــلْمُ

المبحث الأول: مفهوم الحلم.
المبحث الثاني: أهمية الحلم.
المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الحلم في الدعوة.
المبحث الرابع: طرق تحصيل الحلم.

المبحث الأول: مفهوم الحِلْم
الحِلْم: بالكسر: العقل( )، وحلم حلماً: تأنَّى وسكن عند الغضب أو مكروه مع قدرة، وقوة، وعقل( )، ومن أسماء الله - تعالى -: (الحليم)، وهو الذي لا يستخفّه شيء من عصيان العباد، ولا يستفزه الغضب عليهم، ولكنه جعل لكل شيء مقداراً فهو منتهٍ إليه( ).
والحلم: ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب( ).
والحلم: هو حالة متوسطة بين رذيلتين: الغضب، والبلادة، فإذا استجاب المرء لغضبه بلا تعقّل ولا تبصّر كان على رذيلة، وإن تبلّد، وضيّع حقه ورضي بالهضم والظلم كان على رذيلة، وإن تحلّى بالحلم مع القدرة وكان حلمه مع من يستحقه كان على فضيلة.
وهناك ارتباط بين الحلم وكظم الغيظ، وهو أن ابتداء التخلق بفضيلة الحلم يكون بالتحلم: وهو كظم الغيظ، وهذا يحتاج إلى مجاهدة شديدة، لما في كظم الغيظ من كتمان ومقاومة واحتمال، فإذا أصبح ذلك هيئة راسخة في النفس، وأصبح طبعاً من طبائعها كان ذلك هو الحلم، والله أعلم( ).
وقد وصف الله نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى: وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ( ).
ونلاحظ أن الآيات التي وصفت الله بصفة الحلم قد قرنت صفة الحلم - في أغلب هذه الآيات - بصفة المغفرة أو العفو، ويأتي هذا الاقتران في الغالب بعد إشارة سابقة إلى خطأ واقع، أو تفريط في أمر محمود، وهذا أمر يتفق مع الحلم؛ لأنه تأخير عقوبة، قال سبحانه: وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى( ).
ونجد أيضاً أن عدداً من الآيات التي وصفت الله بالحلم قد قرن فيها ذكر الحلم بالعلم، كقوله تعالى: وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ( )، وهذا يفيد - والله أعلم بمراده - أن كمال الحلم يكون مع كمال العلم، وهذا من أعظم مقومات الداعية الناجح، ومن أعظم أركان الحكمة( ).


المبحث الثاني: أهمية الحِلْم
الحلم من أعظم مقومات الداعية الناجح، وهو أيضاً من دعائم الحكمة، فلا يكون الداعية ناجحاً حتى يكون: حكيماً، فالحكمة تقوم على ثلاثة أركان: العلم، والحلم، والأناة، وكل خلل في الداعية إلى الله فسببه الإخلال بالحكمة وأركانها، فأكمل الناس أوفرهم منها نصيباً، وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلّهم منها ميراثاً، ومعاول هدم الحكمة: الجهل، والطيش، والعجلة، فلا حكمة لجاهل، وطائش، ولا عجول( ).
ومما يُؤكِّد أن الحلم من أعظم مقومات الداعية ومن أركان الحكمة التي ينبغي للداعية أن يدعو بها إلى الله - تعالى - مدح النبي  للحلم، وتعظيمه لأمره، وأنه من الخصال التي يحبها الله ، قال النبي  للأشجِّ( ): ((إن فيك خصلتين يحبِّهما الله: الحلم والأناة))( ).
وفي رواية قال الأشجّ: يا رسول الله، أنا تخلَّقت بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: ((بل الله جبلك عليهما))، قال: الحمد لله الذي جبلني على خُلُقيْن يحبهما الله ورسوله( ).
وسبب قول النبي  ذلك للأشجّ ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي ، وأقام الأشجّ عند رحالهم، فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي  فقرّبه النبي  وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي : ((تبايعونِ على أنفسكم وقومكم؟)) فقال القوم: نعم، فقال الأشجّ: يا رسول الله، إنك لم تزاول الرجل على شيء أشدّ عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتبَّعَنا كان منا، ومن أبى قاتلناه، قال: ((صدقت، إن فيك خصلتين...)) الحديث.
فالأناة: تربُّصُه حتى نظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحّة عقله، وجودة نظره للعواقب( ).
ومما يُؤكِّد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها العظام أنه خُلُق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم عظماء البشر، وقدوة أتباعهم من الدعاة إلى الله والصالحين في الأخلاق المحمودة كافة.
وقد واجه كل واحد منهم من قومه ما يثير الغضب، ويغضب منه عظماء الرجال، ولكن حلموا عليهم، ورفقوا بهم، ولانوا لهم حتى جاءهم نصر الله المؤزَّر، وعلى رأسهم إمامهم، وسيدهم، وخاتمهم محمد  ولم يكن غريباً أن يوجهه الله تعالى إلى قمة هذه السيادة حين يقول لـه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( ).
وقال : وَلا تَسْتَوِي الْـحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ( ).
وقال : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَـهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( ).


المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الحلم في الدعوة إلى الله
بَلَغَ النبي  في حلمه، وعفوه في دعوته إلى الله - تعالى - الغاية المثالية، والدلائل على ذلك كثيرة جداً، منها على سبيل المثال لا الحصر الصور الآتية:
الصورة الأولى: مع من قال هذه قسمة ما عُدِلَ فيها:
عن ابن مسعود  قال: لما كان يوم حنينٍ آثر النبيُّ  أُناساً في القسمة، فأعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عيينة مثل ذلك، وأعطى أُناساً من أشراف العرب فآثرهم يومئذ في القسمة، قال رجل: والله إن هذه القسمة ما عُدِلَ فيها، وما أُريدَ بها وجه الله، فقلت: والله لأُخبرنَّ النبي ، فأتيته فأخبرته، فقال: ((فمن يعدلْ إذا لم يعدلِ الله ورسولُه؟! رحم الله موسى فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ))( ).
وهذا من أعظم مظاهر الحلم في الدعوة إلى الله - تعالى - وقد اقتضت حكمة النبي  أن يقسم الغنائم بين هؤلاء المؤلفة قلوبهم، ويوكِّل من قلبه ممتلئ بالإيمان إلى إيمانه( ).
الصورة الثانية: مع من قال: كنا أحقَّ بهذا:
عن أبي سعيد الخدري  قال بعث علي بن أبي طالب  إلى رسول الله من اليمن بذهيبة( ) في أديم مقروظ( ) لم تُحصِّل من ترابها، قال: فقسمها بين أربعة نفر: بين عيينة بن بدر( )، وأقرع بن حابس، وزيد الخيل( )، والرابع إما علقمة( ) وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحقَّ بهذا من هؤلاء، قال: فبلغ ذلك النبيَّ  فقال: ((ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحاً ومساء؟)) قال: فقام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كثّ اللحية، محلوق الرأس، مشمِّر الإزار، فقال: يا رسول الله! اتّقِ الله، قال: ((ويلك، أولست أحقَّ أهل الأرض أن يتقي الله؟))، قال: ثم ولَّى الرجل، قال خالد بن الوليد: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ قال: ((لا، لعله أن يكون يصلي))، فقال خالد: وكم من مصلٍّ يقول بلسانه ما ليس في قلبه! قال رسول الله : ((إني لم أومر أن أنقِّب قلوب الناس، ولا أشقّ بطونهم))، قال: ثم نظر إليه وهو مُقفٍّ فقال: ((إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطباً لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد))( ).
وهذا من ظواهر حلم النبي ، فقد أخذ بالظاهر، ولم يؤمر أن ينقب قلوب الناس، ولا أن يشق بطونهم، والرجل قد استحق القتل واستوجبه؛ ولكن النبي  لم يقتله، لئلا يتحدّث الناس أنه يقتل أصحابه، ولاسيما من صلّى( ).
الصورة الثالثة: مع الطفيل
من مواقف الحلم ما فعله رسول الله  مع الطفيل بن عمرو الدوسي ، فقد أسلم الطفيل  قبل الهجرة في مكة، ثم رجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، فبدأ بأهل بيته، فأسلم أبوه وزوجته، ثم دعا قومه إلى الله  فأبت عليه وعصت، وأبطؤوا عليه، فجاء الطفيل إلى رسول الله  وذكر لـه أن دوساً هلكت وكفرت وعصت وأبت.
فعن أبي هريرة  قال: جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى رسول الله  فقال: إن دوساً قد عصت وأبت، فادع الله عليهم، فاستقبل رسول الله القبلة ورفع يديه، فقال الناس: هلكوا. فقال: ((اللهم اهد دوساً، وائت بهم، اللهم اهد دوساً، وائت بهم))( ).
وهذا يدلّ على حلم النبي  وصبره، وتأنِّيه في الدعوة إلى الله ؛ فإنه  لم يعجل بالعقوبة، أو الدعاء على من ردّ الدعوة؛ ولكنه  دعا لهم بالهداية، فاستجاب الله دعاءه، وحصل على ثمرة الصبر والتأني وعدم العجلة، فقد رجع الطفيل إلى قومه، ورفق بهم، فأسلم على يديه خلق كثير، ثم قدم على النبي  وهو بخيبر، فدخل المدينة بثمانين أو تسعين بيتاً من دوس، ثم لحقوا بالنبي  بخيبر، فأسهم لهم مع المسلمين( ).
الله أكبر! ما أعظمها من حكمة أسلم بسببها ثمانون أو تسعون أسرة.
وهذا مما يوجب على الدعاة إلى الله  العناية بالحلم في دعوتهم، ولا يحصل لهم ذلك إلا بفضل الله ثم معرفة هدي النبي  في دعوته.
الصورة الرابعة: مع من أراد قتل النبي 
روى البخاري ومسلم، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: غزونا مع رسول الله  قِبَلَ نجد( )، فأدركنا رسول الله  في وادٍ كثير العضاه، فنزل رسول الله  تحت شجرة، فعلّق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يستظلّون بالشجر، قال: فقال رسول الله : ((إن رجلاً أتاني وأنا نائم، فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي، فلم أشعر إلا والسيف صلتاً( ) في يده، فقال لي: من يمنعنك مني؟ قال: قلت: الله، ثم قال في الثانية: من يمنعك مني؟ قال: قلت: الله، قال: فشام( ) السيف، فها هو ذا جالس))، ثم لم يعرض لـه رسول الله ( ).
الله أكبر! ما أعظم هذا الخلق! وما أكبر أثره في النفس! أعرابي يريد قتل النبي  ثم يعصمه الله منه، ويمكِّنه من القدرة على قتله، ثم يعفو عنه! إن هذا لخُلُقٌ عظيم، وصدق الله العظيم إذ يقول للنبي : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( )، وهذا الخلق الحكيم قد أثَّر في حياة الرجل، وأسلم بعد ذلك، فاهتدى به خلق كثير( ).
الصورة الخامسة: مع زيد الحبر
كان النبي  يعفو عند القدرة، ويحلم عند الغضب، ويحسن إلى المسيء، وقد كانت هذه الأخلاق العالية من أعظم الأسباب في إجابة دعوته والإيمان به، واجتماع القلوب عليه، ومن ذلك ما فعله مع زيد بن سعنة، أحد أحبار اليهود وعلمائهم الكبار( ).
جاء زيد بن سعنة إلى رسول الله  يطلبه ديناً لـه، فأخذ بمجامع قميصه وردائه وجذبه، وأغلظ لـه القول، ونظر إلى النبي  بوجهٍ غليظٍ وقال: يا محمد، ألا تقضيني حقي، إنكم يا بني عبد المطلب قوم مُطْلٌ، وشدّد لـه في القول، فنظر إليه عمر وعنياه تدوران في رأسه كالفلك المستدير، ثم قال: يا عدو الله، أتقول لرسول الله  ما أسمع، وتفعل ما أرى، فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر لومه لضربت بسيفي رأسك، ورسول الله  ينظر إلى عمر في سكون وتُؤَدَةٍ وتَبَسُّمٍ، ثم قال: ((أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التقاضي، اذهب به يا عمر فاقضه حقه، وزده عشرين صاعاً من تمرٍ))، فكان هذا سبباً لإسلامه، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
وكان زيد قبل هذه القصة يقول: ((لم يبق شيء من علامات النبوة إلا وقد عرفتها في وجه محمد  إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً))( ).
فاختبره بهذه الحادثة فوجده كما وُصِفَ، فأسلم وآمن وصدق، وشهد مع النبي  مشاهده، واستشهد في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر( ).
فقد أقام محمد  براهين عديدة من أخلاقه على صدقه، وأن ما يدعو إليه حق.
الصورة السادسة: مع زعيم المنافقين
قدم النبي  المدينة،وقد أجمع الأوس والخزرج على تمليك عبد الله بن أُبيّ، ولم يختلف عليه في شرفه اثنان، ولم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين، وكانوا قد نظموا لـه الخرز، ليُتَوِّجوه ثم يملِّكوه عليهم، فجاءهم الله - تعالى - برسول الله  وهم على ذلك، فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام امتلأ قلبه حقداً وعداوة وبغضاً، ورأى أن رسول الله  قد استلبه ملكه، فلما رأى قومه أبوا إلا الإسلام، دخل فيه كارهاً مُصرّاً على النفاق والحقد والعداوة( )، ولم يألُ جهداً في الصدّ عن الإسلام، وتفريق جماعة المسلمين، والذبّ عن اليهود ومساعدتهم.
وقد ظهرت مواقفه الخبيثة في معاداته لدعوة الإسلام، ولكن عن طريق التستر والنفاق، وقد كان النبيُّ  يقابل عداوته بالعفو والصفح والحلم؛ لأنه يُظهر الإسلام؛ ولأن لـه أعواناً من المنافقين، هو رئيسهم وهم تبع لـه، فكان  يحسن إليه بالمقال والفعل، ويقابل إساءته بالعفو والإحسان في عدة مواقف، منها على سبيل المثال ما يأتي:
1- شفاعته لليهود - بنو قينقاع - عندما نقضوا العهد:
نقض بنو قينقاع العهد بعد بدر بكشف عورة امرأة من المسلمين في السوق، وبقتل رجل نصرها من المسلمين( )، فسار إليهم رسول الله  يوم السبت للنصف من شوال، على رأس عشرين شهراً من الهجرة، وحاصرهم خمسة عشر يوماً، وتحصنوا في حصونهم، فحاصرهم أشدّ الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله  فأمر بهم فَكُتِّفُوا، وكانوا سبعمائة مقاتل، فقام إلى النبي  عبد الله بن أُبيّ حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد، أحسن في مواليّ، فأبطأ عليه رسول الله ، فقال: يا محمد، أحسن في مواليّ، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع النبي ، وقال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي أربع مائة حاسر، وثلاث مائة دارع( )، قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر، فوهبهم النبي  لـه( )، وأمرهم أن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى أذرعات من أرض الشام، وقبض منهم أموالهم، وخمس غنائمهم صلوات الله وسلامه عليه( ).
2- ما فعله مع النبي  يوم أحد:
خرج النبي  إلى معركة أحد، فلما صار بين أُحُد والمدينة انخزل عبدالله بن أُبيّ بنحو ثلث العسكر، ورجع بهم إلى المدينة فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، والد جابر رضي الله عنهما فوبّخهم، وحضّهم على الرجوع، وقال: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع، فرجع عنهم وسبّهم( ).
فلم يعاقبه رسول الله  على هذا الجرم العظيم، وتخذيل المسلمين.
3- صدّه الرسول  عن الدعوة إلى الله تعالى:
ركب النبيُّ  إلى سعد بن عبادة، فمرّ بعدوّ الله عبد الله بن أٌبيّ وحوله رجال من قومه، فنزل  فسلّم ثم جلس قليلاً، فتلا القرآن، ودعا إلى الله ، وذكَّر بالله، وحذّر وبشّر وأنذر، وعندما فرغ النبي  من مقالته، قال لـه عبد الله بن أٌبيّ: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا، إن كان حقاً فاجلس في بيتك فمن جاءك له فحدِّثه إيَّاه، ومن لم يأتك فلا تغته( )، ولا تأته في مجلسه بما يكره منه( )، فلم يؤاخذه النبي  وعفا عنه وصفح.
4- تثبيته بني النضير:
عندما نقض يهود بني النضير العهد بِهَمِّهِم بقتل النبي ، بعث إليهم محمد بن مسلمة يأمرهم بالخروج من جواره وبلده، فبعث إليهم أهل النفاق - وعلى رأسهم عبد الله بن أُبيّ - أن اثبتوا وتمنّعوا فإنا لن نُسلمكم، إن قُوتلتم قاتلنا معكم، وإن أُخرجتم خرجنا معكم، فقويت عزيمة اليهود، ونابذوا رسول الله  بنقض العهد، فخرج إليهم حتى نزل بهم وحاصرهم، فقذف الله في قلوبهم الرعب، وأجلاهم النبي  وخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام( ).
وترك النبي  عبد الله بن أُبيّ فلم يُعاقبه على ذلك.
5- كيده وغدره للنبي ومن معه من المسلمين في غزوة المريسيع:
في هذه الغزوة قام عبد الله بن أُبيّ بعدة مواقف مخزية توجب قتله وعقابه، ومنها:
الموقف المخزي الأول: دبّر المنافقون في هذه الغزوة قصة الإفك، وتولّى كِبْرَه عبد الله بن أُبيّ بن سلول( ).
الموقف المخزي الثاني: وفي هذه الغزوة قال عبد الله بن أُبيّ: لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْـمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلّ ( ).
الموقف المخزي الثالث: وفي هذه الغزوة قال عدو الله: لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنفَضُّوا ( ).
وقد ظهرت الحكمة المحمدية، وتجلت السياسة الرشيدة في إخماد النبي  نار الفتنة، وقطع دابر الشرّ - بفضل الله ثم بصبره - على عبدالله بن أُبيّ، وتحمّله لـه، والإحسان إليه، ومقابلة هذه المواقف المخزية من هذا الزعيم المنافق بالعفو؛ لأن هذا الرجل لـه أعوان، ويخشى من شرهم على الدعوة الإسلامية؛ ولأنه يُظهر إسلامه؛ ولهذا قال النبي  لعمر بن الخطاب - حينما قال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق -: ((دعه حتى لا يتحدّث الناس أن محمداً يقتل أصحابه))( ).
فلو قتله رسول الله  لكان ذلك منفِّراً للناس عن الدخول في الإسلام؛ لأنهم يرون أن عبد الله بن أُبيّ مسلم، ومن ثم سيقول الناس: إن محمداً يقتل المسلمين، فعند ذلك تظهر المفاسد، وتتعطَّل المصالح.
فظهرت حكمة النبي  وصبره على بعض المفاسد خوفاً من أن تترتّب على ذلك مفسدة أعظم؛ ولتقوى شوكة الإسلام، وقد أُمر بالحكم الظاهر، والله يتولّى السرائر.
وقد ظهرت الحكمة لعمر بعد ذلك في عدم قتل عبد الله بن أُبيّ فقال: ((قد والله علمت، لأمر رسول الله  أعظم بركة من أمري))( ).
وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله أن يسلكوا طريق الحكمة في دعوتهم اقتداء بنبيهم .
الصورة السابعة: مع ثمامة
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة  أنه قال: بعث رسول الله  خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة، يقال لـه ثمامة بن أُثال، سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله  فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة؟)) فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم( )، وإن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تُعطَ منه ما شئت؛ فتركه رسول الله حتى كان بعد الغد، فقال: ((ما عندك يا ثمامة؟ )) فقال: ما قلت لك، إن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تعطَ منه ما شئت؟ فتركه رسول الله  حتى كان من الغد، فقال: ((ماذا عندك يا ثمامة؟))، فقال: عندي ما قلت لك، إن تُنعم تُنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل تُعطَ منه ما شئت؟ فقال رسول الله : ((أطلقوا ثمامة)), فانطلق إلى نخلٍ قريبٍ من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد فقال: ((أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يا محمد! والله ما كان على الأرض وجه أبغضَ إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ، والله ما كان من دين أبغضَ إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك، فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها إليَّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشّره رسول الله ، وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال لـه قائل: أصبوت؟ فقال: [لا والله]، ولكني أسلمت مع رسول الله ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله  ))( ).
((ثم خرج  إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً، فكتبوا إلى رسول الله : إنك تأمر بصلة الرحم، وإنك قد قطعت أرحامنا، وقد قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع، فكتب رسول الله  إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين الحمل ))( ).
وذكر ابن حجر أن ابن منده روى بإسناده عن ابن عباس قصة إسلام ثمامة ورجوعه إلى اليمامة، ومنعه قريش عن الميرة، ونزول قوله تعالى:
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ( ).
وقد ثبت ثمامة على إسلامه لما ارتدّ أهل اليمامة، وارتحل هو ومن أطاعه من قومه فلحقوا بالعلاء بن الحضرمي فقاتل معه المرتدين من أهل البحرين( ).
الله أكبر، ما أحلم النبي محمداً ، وما أعظمه من موقف، فقد كان  يتألف القلوب، ويلاطف من يُرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير.
وهكذا ينبغي للدعاة إلى الله  أن يعظّموا أمر الحلم والعفو عن المسيء، لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبًّا في ساعة واحدة؛ لما أسداه النبي  إليه من الحلم والعفو والمنّ بغير مقابل، وقد ظهر لهذا العفو الأثر الكبير في حياة ثمامة، وفي ثباته على الإسلام ودعوته إليه( )؛ ولهذا قال:
إلى القول إنعامُ النّبيّ محمّدِ
أهمّ بترك القول ثم يردّني

رأيت خيالاً من حسامٍ مهنّدِ( )
شكرتُ لـه فكّي من الغلِّ بعدما

الصورة الثامنة: مع من جبذ النبي  بردائه
عن أنس بن مالك  قال: كنت أمشي مع النبي  وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذةً شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي  قد أثّرت به حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد، مُرْ لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله  فضحك، ثم أمر لـه بعطاء( ).
وهذا من روائع حلمه  وكماله، وحسن خلقه، وصفحه الجميل، وصبره على الأذى في النفس، والمال، والتجاوز على جفاء من يريد تألفه على الإسلام؛ وليتأسّى به الدعاة إلى الله، والولاة بعده في حلمه، وخُلُقه الجميل من الصفح، والإغضاء، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن( ).
الصورة التاسعة: اللهم اغفر لقومي
ومن عظيم حلمه عدم دعائه على من آذاه من قومه، وقد كان باستطاعته أن يدعو عليهم، فيهلكهم الله، ويدمرهم، ولكنه  حليم حكيم يهدف إلى الغاية العظمى، وهي رجاء إسلامهم، أو إسلام ذرياتهم؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود : كأني أنظر إلى رسول الله  يحكي نبيّاً من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدْمَوْهُ وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون))( ).
الصورة العاشرة: مع أبي إبراهيم
ومما يدلّ على أن الحلم ركن من أركان الحكمة ملازمة صفة الحلم للأنبياء قبل النبي  في دعوتهم إلى الله تعالى.
فهذا إبراهيم أبو الأنبياء، عليه وعليهم الصلاة والسلام، قد بلغ من الحلم مبلغاً عظيماً حتى وصفه الله بقوله: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لله تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ( ).
فقد كان إبراهيم كثير الدعاء، حليماً عمّن ظلمه، وأناله مكروهاً، ولهذا استغفر لأبيه مع شدة أذاه لـه في قوله:أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِـهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لّـَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا ( ).
فحلم عنه مع أذاه لـه، ودعا لـه، واستغفر( )، ولهذا قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ( ).
وهكذا جميع الأنبياء والمرسلين، كانوا من أعظم الناس حلماً مع أقوامهم في دعوتهم إلى الله تعالى( ).
الصورة الحادية عشر: مع من سبّ
ومن وراء الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، يأتي الدعاة إلى الله والصالحون من أتباعهم، وإذا كان الله  قد جعل محمداً  مثلاً عالياً في الحلم، فقد أراد لأتباعه أن يسيروا على نهجه وسنته، ولذلك يقول الله - تعالى - عن الأخيار من هؤلاء: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْـجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ( ).
فمن صفاتهم أنهم أصحاب حلم، فإذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يقابلوهم عليه بمثله، بل يعفون ويصفحون، ولا يقولون إلا خيراً كما كان رسول الله  لا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً( ).
فعن النعمان بن مقرن المزني ، قال: قال رسول الله  وسبّ رجل رجلاً عنده، فجعل المسبُوبُ يقول: عليك السلام، فقال رسول الله : ((أما إنَّ ملكاً بينكما يذبّ عنك كلما يشتمك هذا، قال لـه: بل أنت وأنت أحقّ به، وإذا قال لـه: عليك السلام، قال: بل لك، أنت أحق به ))( ).
فهؤلاء الدعاة إلى الله والصالحون إذا خاطبهم الجاهلون قالوا صواباً وسداداً، ويردّون المعروف من القول على من جهل عليهم( )؛ لأن من أخلاقهم العفو والصفح عمن أساء إليهم، فقد تخلّقوا بمكارم الأخلاق، ومحاسن الشيم، فصار الحلم لهم سجية، وحسن الخلق لهم طبيعةً، حتى إذا أغضبهم أحد بمقاله أو فعاله كظموا ذلك الغضب فلم يُنفِّذُوه، وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ( )، فترتّب على هذا الحلم، والعفو، والصفح من المصالح ودفع المفاسد في أنفسهم وغيرهم شيء كثير( )، كما قال تعالى: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِـيٌّ حَمِيمٌ ( ).
الصورة الثانية عشرة: مع عيينة
ومما يُبيّن حلم أصحاب النبي  من بعده وإن كانوا خلفاء وأمراء، ما رواه البخاري عن ابن عباس  قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة فنزل على أخيه الحرّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القرّاء أصحاب مجالس عمر ومشاورته كهولاً كانوا أو شباناً، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة فأذن لـه عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى همّ به، فقال لـه الحر: يا أمير المؤمنين، إن الله - تعالى - قال لنبيّه : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـجَاهِلِينَ ( )، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله( ).
وهذا الرجل قد جفا عمر أمير المؤمنين بعدة أمور تثير الغضب، وتجعله عرضة للانتقام والتأديب.
أول هذه الأمور: قوله: هي يا ابن الخطاب، ولم يقل: يا أمير المؤمنين.
والثاني: قوله: والله ما تعطينا الجزل، يعني العطاء الكثير.
والثالث: وهو أقبح الأمور الثلاثة، قوله: ولا تحكم بيننا بالعدل.
ومع هذا كله حلم عنه عمر وعفا عنه، وصفح بعدما سمع الآية، وسمع قول الحر: إن هذا من الجاهلين، ووقف عند الآية: ولم يعمل بغير ما دلت عليه، بل عمل بمقتضاها،  وأرضاه( )، وهذا يدل على كمال حلمه وحكمته التي استفادها من هدي رسول الله  فرسخت في ذهنه حتى كانت هيئة راسخة ثابتة في نفسه وخُلُقه.
وهذا يحتاج في بداية الأمر إلى جهاد وقوة؛ ولهذا قال النبي : ((ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب ))( ).
ولاشك أن الغضب يهدم الحلم وينافيه، وصاحب الغضب لا يكون حليماً، ولهذا قال  لمن قال أوصني: ((لا تغضب ))( ).
والداعية إلى الله يستطيع أن يتّصف بالحلم؛ ليكون حكيماً، وذلك بعلاج الغضب( )، إذا حلّ به ونزل، ولا يكون العلاج النافع إلا بما شرعه الله، وبينه نبيه ، فقد عمل على تربية المسلمين تربية قولية وفعلية وعملية حتى يكونوا حلماء، حكماء.
الصورة الثالثة عشرة: حلم زين العابدين
ولم يقتصر الحلم على النبي  وأصحابه، بل حلم أتباعه أهل العلم والإيمان ومن ذلك:
سبَّ رجلٌ عليَّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب المشهور بزين العابدين يوماً فجل يتغافل عنه - يريه أنه لم يسمعه - فقال لـه الرجل: إياك أعني، فقال لـه علي: وعنك أغضي( ).
وخرج يوماً من المسجد فسبه رجل فانتدب الناس إليه فقال: دعوه. ثم أقبل عليه فقال: ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل فألقى إليه خميصة كانت عليه وأمر لـه بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك إذ رآه يقول: إنك من أولاد الأنبياء( ).
  

المبحث الرابع: طرق تحصيل الحلم
هناك أسباب تجلب الحلم وتدعو إليه، من حافظ عليها واجتهد في تحصيلها كان حليماً بإذن الله تعالى، ومنها على سبيل المثال ما يأتي في المطالب الآتية:
المطلب الأول: علاج الغضب
علاج الغضب بالأدوية المشروعة يكون بطريقين:
الطريق الأول: الوقاية:
ومعلوم أن الوقاية خير من العلاج، وتحصل الوقاية من الغضب قبل وقوعه باجتناب أسبابه، واستئصالها قبل وقوعها، ومن هذا الأسباب التي ينبغي لكل مسلم أن يُطهِّر نفسه منها: الكبر، والإعجاب بالنفس، والافتخار، والتِّيه، والحرص المذموم، والمزاح في غير مناسبة، أو الهزل وما شابه ذلك( ).
الطريق الثاني: العلاج إذا وقع الغضب:
وينحصر في أربعة أنواع على النحو الآتي:
النوع الأول:الاستعاذة بالله من الشيطان،قال الله تعالى:وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( )،وعن سليمان بن صُردٍ  قال: استبَّ رجلان عند النبي  ونحن عنده جلوس وأحدهما يسبّ صاحبه مغضباً قد احمرّ وجهه، فقال النبي : ((إني لأعلمُ كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد. لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ))( ).
ولما كان الشيطان على نوعين:
نوع يُرى عياناً، وهو شيطان الإنس، ونوع لا يُرى، وهو شيطان الجن.
جعل الله سبحانه المخرج من شر شيطان الإنس بالإعراض عنه، والعفو، والدفع بالتي هي أحسن، ومن شر شيطان الجن بالاستعاذة بالله منه( )، وما أحسن ما قاله القائل:
أو الدفع بالحُسْنَى هما خيرُ مطلوب
فما هو إلا الاستعاذة ضارعاً

وذاك دواء الداء من شر محجوب( )
فهذا دواء الداء من شر ما يُرى

النوع الثاني: الوضوء؛ لحديث عطية السعدي  قال: قال رسول الله : ((إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خُلِقَ من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ))( ).
النوع الثالث: تغيير الحالة التي عليها الغضبان، بالجلوس، أو الخروج، أو غير ذلك، عن أبي ذر  قال: إن رسول الله  قال لنا: ((إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلاّ فليضطجع))( ).
النوع الرابع: استحضار ما ورد في فضل كظم الغيظ من الثواب، وما ورد في عاقبة الغضب من الخذلان العاجل والآجل، عن معاذ  أن رسول الله  قال: ((من كظم غيظاً وهو قادرٌ على أن ينفذه دعاه الله  على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يُخيّره من الحور ما شاء ))( ).
المطلب الثاني: أسباب تحصيل الحلم
وإذا أراد الداعية أن يزداد حلمه، وتعظم حكمته، فليحرص على الأسباب التي تدعو إلى الحلم، فليعمل بها، وهي عشرة:
1- الرحمة بالجهال؛ فإنها من أوكد أسباب الحلم.
2- القدرة على الانتصار؛ وذلك من سعة الصدر، وحسن الثقة.
3- الترفع عن السباب، وذلك من شرف النفس وعلو الهمة.
4- الاستهانة بالمسيء:
فخير من إجابته السكوتُ
إذا نطق السفيه فلا تجبه

5- الاستحياء من جزاء الجواب، وهذا من صيانة النفس وكمال المروءة.
6- التفضّل على السّابّ، وهذا من الكرم وحبّ التألّف.
7- قطع السّباب، وهذا من الحزم كما قال الشاعر:
وفي الخرق إغراء فلا تك أخرقا وفي الحلم ردع للسفيه عن الأذى

8- الخوف من العقوبة على الجواب، وهذا مما يقتضيه الحزم، فقد قيل: الحلم حجاب الآفات.
9- الرعاية ليد سالفة، وحرمة لازمة، وهذا من الوفاء وحسن العهد، قال الشاعر:
واللؤم مقرون بذي الإخلاف
إن الوفاء على الكريم فريضة

10- المكر وتوقع الفرص الخفية، وهذا من الدهاء، وقد قيل: من ظهر غضبه قلّ كيده.
وقال بعض الشعراء:
أضرّ لـه من شتمه حين يشتم( )
ولَلْكفُّ عن شتم اللئيم تكرّماً

فإذا راعى الداعية الوقاية من الغضب، والعلاج، وهذه الأسباب العشرة كان حليماً بإذن الله - تعالى - وبهذا يحقّق ركناً من أركان الحكمة التي من أوتيها فقد أُوتي خيراً كثيراً.
وينبغي أن يعلم أن الغضب لله يكون محموداً، ولا يدخل في الغضب المذموم، فالغضب المحمود يكون من أجل الله عندما ترتكب حرمات الله، أو تترك أوامره ويستهان بها، وهذا من علامات قوة الإيمان، ولكن بشرط أن لا يخرج هذا الغضب عن حدود الحلم والحكمة، وقد كان رسول الله  يغضب لله إذا انتهكت محارمه، وكان لا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتُهكت حرمات الله لم يقم لغضبه شيء، ولم يضرب بيده خادماً، ولا امرأة، إلاّ أن يجاهد في سبيل الله، وقد خدمه أنس بن مالك  عشر سنوات، فما قال لـه: أُفٍّ قطّ، ولا قال لـه لشيء فعله: لم فعلت كذا، ولا لشيء لم يفعله: ألا فعلت كذا؟( ).
وهذا لا ينافي الحلم والحكمة، بل الغضب لله في حدود الحكمة من صميم الحلم والحكمة.
  

الفصل الرابع: الأنـــــــــــاة والتثـبُّت

المبحث الأول: مفهوم الأناة.
المبحث الثاني: أهمية الأناة.
المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الأناة في الدعوة.
المبحث الرابع: العجلة والاستعجال.

المبحث الأول: مفهوم الأناة والتثبت
الأناة في اللغة: التثبت وعدم العجلة، يقال: تَأنَّى في الأمر: مكث ولم يعجل، والاسم منه: أناة( ).
ويقال: تأنَّى في الأمر: ترفَّق، وتنظّر، وتَمهّلَ، واستأنى به: انتظر به وأمهله( ).
وتأتي الأناة بمعنى التبيّن والتثبّت في الأمور، يقال: تَبيّنَ في الأمر والرأي: تثبّت، وتأنّى فيه ولم يعجل( ).
ويأتي التبين بمعنى: التبصر: التعرف والتأمل، يقال: تبصّر الشيء، وتأمل في رأيه: تبين ما يأتيه من خيرٍ أو شرٍ( ).
وعلى ضوء ما تقدم تكون الأناة هي: التصرف الحكيم بين العجلة والتباطؤ( ).
والأناة مظهر من مظاهر خُلق الصبر، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش، وهي تدل على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية القادرة على ضبط نفسه تجاه انفعالاته العجولة، وبخلاف التباطؤ والتواني فهما من صفات أصحاب الكسل والتهاون بالأمور، ويدلاّن على أن صاحبهما لا يملك القدرة على دفع همّته للقيام بالأعمال التي تحقّق لـه ما يرجوه، أو ليس لديه همة عالية تنشد الكمال، فهو يرضى بالدنيات، إيثاراً للراحة، وكسلاً عن القيام بالواجب.


المبحث الثاني: أهمية الأناة والتثبت
والأناة عند الداعية إلى الله - تعالى - تسمح لـه بأن يُحكِّم أموره، ويضع الأشياء في مواضعها، فهي ركن من أركان الحكمة، بخلاف العجلة فإنها تعرّضه لكثير من الأخطاء والإخفاق، والتعثر، والارتباك، ثم تعرضه للتخلف من حيث يريد السبق، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه، وبخلاف التباطؤ والكسل فهو أيضاً يعرضه للتخلف والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها( ).
والداعية مطلوب منه أن يتخلّق بخُلُق الأناة، ولكن ما يتطلب من الأمور عملاً سريعاً فالحكمة السرعة إذن، وهي لا تخرج عن الأناة، فالقضية نسبية، وما يتطلب من الأمور عملاً بطيئاً فالحكمة البطء إذن، وهو لا يخرج عن الأناة؛ لأن الأمر نسبي، وليس للأناة مقادير زمنية ثابتة؛ ولكنها تختلف باختلاف حاجة الأشياء إلى مقدار السرعة الزمنية التي تحتاجها وتستدعيها النتائج المطلوبة، فالأشياء مربوطة بأوقاتها، والعجلة فيها مع معرفة أوقاتها المطلوبة خُلُقٌ مذموم يدل على ضعف الهمة والإخلاد إلى الراحة والكسل، أما الأناة فليست تعجلاً ومسابقة لأوقات الأشياء، ولا تباطؤاً وكسلاً، وكل من العجلة والتباطؤ يضيعان على أصحابهما الجهد والزمن، وما بذلوه، والأناة هي الكفيلة - بإذن الله تعالى - بتحقيق المطلوب، وتفادي الخسارة.
وقد ذم الإسلام الاستعجال ونهى عنه، وذم التباطؤ والكسل ونهى عنه، ومدح الأناة وأمر بها، وعمل على تربية المسلمين على الأناة والتثبت الحكيم بالأعمال وتصريف الأمور( ).
قال الله - تعالى - للنبي  تربية لـه وتعليماً: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ( ).
فأمر الله سبحانه نبيه بعدم العجلة ومسابقة الملَك في قراءته، وتكفل الله لـه أن يجمعه في صدره، وأن ييسره لأدائه على الوجه الذي ألقاه إليه، وأن يبيِّنه لـه ويفسِّره( ).
وقال تعالى: فَتَعَالَى الله الـمَلِكُ الـحـَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ( ).
وأمر سبحانه عباده المؤمنين والدعاة إلى الله - تعالى - بالتأني في الأمور والتثبت فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ( )، قرأ الجمهور (فتبينوا) من التبين، وهو التأمل، وقرأ حمزة والكسائي: (فتَثبَّتوا)، والمراد من التبيّن التعرّف والتفحّص، ومن التثبّت: الأناة وعدم العجلة، والتبصر في الأمر الواقع والخبر الوارد حتى يتضح ويظهر( ).
والدعاة إلى الله أولى بامتثال أمر الله - تعالى - وبالتأنِّي والتثبُّت من الأقوال والأفعال، والاستيثاق من مصدرها قبل الحكم عليها أو لها، وعليهم أن يتدبروا الأمور على مهلٍ، غير متعجلين؛ لتظهر لهم جلية واضحة، لا غموض فيها ولا التباس( ).
والداعية إلى الله - تعالى - إذا أبصر العاقبة أمِنَ الندامة، ولا يكون ذلك إلا إذا تدبّر الأمور التي تعرض لـه، ويواجهها، فإذا كانت رشداً، وحقاً، وصواباً فليمض، وإذا كانت غيَّا، وضلالاً، وظنًّا خاطئاً، فليقف ولينتهِ حتى يتضح لـه الحق.
والمشاهَد والواقع أن عدم التثبت وعدم التأني يؤدِّيان إلى كثير من الأضرار والمفاسد، فقد يسمع الإنسان خبراً، أو يقرأ نبأ في صحيفة، أو مجلة، فيسارع بتصديقه، ويعادي ويصادق، ويبني على ذلك التصرفات والأعمال التي يصدرها للمقاومة أو الموافقة، على أساس أنه حق واقع، ثم يظهر أنه كان مكذوباً، أو مُحرّفاً، أو مزوَّراً، أو مبالغاً فيه، أو مراداً به غير ما فهمه الإنسان، ومن هنا يكتوي المتسرع بلهب الندم والحسرة بسبب استعجاله وعدم تثبته.
وقد يصاب الداعية أو غيره من المسلمين بأذى دون أن يعرف مصدره، فيستعجل ويسارع فيتّهم هذا، أو يسبّ ذاك، فيندم ويحصد ثمرة عجلته وعدم تثبته، ولو أنه تأنَّى، وتبيَّن، وتثبَّت؛ لأدرك مصدر الأذى على حقيقته، وحينئذ يصدر التصرف على أساس البينة والبرهان، فلا يفقد أصدقاء لـه، ولا يضيف إلى أعداءه عدواً جديداً منهم.
ويدخل في العجلة وعدم التثبت تعجل الإنسان في المدح أو الذم، دون دراية أو دون موجب لذلك، أو يتعجل بالكلام قبل أن يديره على عقله، أو بالفتوى قبل أن يعرف دليله وبرهانه الذي اعتمد عليه، وبنى عليه فتواه، وبعد ذلك يحصد الغم والأسف( )، وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْـخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً ( ).
ولعظم أمر الأناة والتبين التي أمر الله بها حتى في جهاد الكفار في سبيل الله الذي هو من أعظم وسائل الدعوة إلى الله تعالى، فقال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِـمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ).
ومن المعلوم أن الأمور قسمان: أمور واضحة، وأمور غير واضحة.
فالواضحة البينة لا تحتاج إلى تثبيت وتبين، لأن ذلك تحصيل حاصل.
وأما الأمور المشكلة غير الواضحة فإن الداعية خاصة والمسلمين عامةً بحاجة إلى التثبت فيها والتبين؛ فإن ذلك يحصل فيه من الفوائد الكثيرة، والكفّ عن شرور عظيمة ما يجعل المسلم في سلامة عن الزلل، وبذلك يُعرفُ دين العبد وعقله ورزانته( ).
ومما يزيد الآية السابقة وضوحاً ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما وَلاَ تَقُولُواْ لِـمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا  قال: كان رجل في غُنَيمة لـه فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غُنَيمته، فأنزل الله في ذلك إلى قوله: عَرَضَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا  تلك الغُنَيمة، وقرأ ابن عباس: السلام( ).


المبحث الثالث:صور من مواقف تطبيق الأ ناة في الدعوة
لا يكون الداعية ناجحاً في دعوته إلا إذا التزم الأناة في جميع أموره وتصرفاته، ومما يوضح ذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي ، ومنها:
الصورة الأولى: مع أسامة:
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله  إلى الحرقة من جهينة، قال: فصبَّحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلاً منهم، قال: فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، قال: فكف عنه الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي  قال: فقال لي: ((يا أسامة، أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟)) قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوِّذاً، قال: فقال: ((أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟))، قال، فمازال يُكرّرها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم( ).
وفي رواية: قال: قلت يا رسول الله: إنما قالها خوفاً من السلاح، قال: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا))، فمازال يكررها حتى تمنيت أني أسلمت يومئذٍ( ).
وفي رواية: ((كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟))، قال: يا رسول الله: استغفر لي، قال: ((وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟)). قال فجعل لا يزيده على أن يقول: ((كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة))( ).
ولهذا كان النبي  أعظم الناس أناةً وتثبُّتاً، فكان لا يُقاتل أحداً من الكفار إلا بعد التأكد بأنهم لا يقيمون شعائر الإسلام، فعن أنس بن مالك : ((أن النبي  كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن يغزو بنا حتى يصبح وينظر، فإن سمع أذاناً كف عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم...)) ( ).
الصورة الثانية: قبل القتال:
كان النبي  يُعلِّم ويربِّي أصحابه على الأناة والتثبُّت في دعوتهم إلى الله - تعالى - ومن ذلك أنه كان يأمر أمير سريته أن يدعوَ عدوَّه قبل القتال إلى ثلاث خصال:
الخصلة الأولى: الإسلام والهجرة، أو إلى الإسلام دون الهجرة، ويكونون كأعراب المسلمين.
الخصلة الثانية: فإن أبوا الإسلام دعاهم إلى بذل الجزية.
الخصلة الثالثة: فإن امتنعوا عن ذلك كله استعان بالله وقاتلهم( ).
الصورة الثالثة: في الصلاة:
ومن تربيته لأصحابه  على الأناة وعدم العجلة قوله: ((إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تَسْعون، وأتوها تمشون، وعليكم السكينة فما أدركْتُمْ فصلّوا، وما فاتكم فأتموا ))( ).
وقوله :((إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني قد خرجت))( ).
ولِسُمُوِّ الأناة أحبها الله  ، قال رسول الله  للأشج: ((إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم، والأناة))( ).
والرسل عليهم الصلاة والسلام هم صفوة الخلق وقدوتهم، وهم أكمل الناس أناة وحلماً، وأعظمهم في ذلك وأوفرهم حظاً محمد .
الصورة الرابعة: من تثبت سليمان :
ومن أمثلة ذلك قصة سليمان مع الهدهد وتثبّته وعدم عجلته، قال سبحانه عن ذلك: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْـهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ( ).
فهذا الهدهد من جنود سليمان  كان غائباً بغير إذن سليمان، وحينئذ يتعيّن أن يُؤخذ الأمر بالحزم والجدّ في تنظيم الجنود حتى لا تكون فوضى؛ فإن سليمان إذا لم يأخذ بذلك في تنظيم الجنود ومراقبتهم كان المتأخر منهم قدوة سيئة لبقية الجنود؛ ولهذا نجد سليمان النبي الملك الحازم يتهدد الجندي الغائب المخالف، ولكن سليمان ليس ملكاً جباراً في الأرض، ولا متسرّعاً عجولاً، وهو لم يسمع بعد حجة الهدهد الغائب، فلا ينبغي أن يترك الأناة والتثبت ويقضي في شأنه قضاءً نهائياً قبل أن يسمع منه ويتبين عذره، ومن ثم تبرز سمة النبي العادل المتثبت أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ  أي: حجة قوية واضحة توضح عذره وتنفي المؤاخذة عنه( ).
فالأناة صفة جميلة، وتكون أجمل إذا جاءت من القادر على العقاب، ولهذا قال الشاعر ابن هانئ المغربي:
ولا كأناة من قديرٍ محكم
وكل أناة في المواطن سؤدد

من السيف يصفح عن كثير ويحلم
ومن يتبين أن للصفح موضعاً

ولا الحزم إلا بعد طول تلوم
وما الرأي إلا بعد طول تَثَبُّتٍ

وقال الشاعر يمدح عاقلاً حكيماً:
يخاطبه في كل أمر عواقبه( )
بصير بأعقاب الأمور كأنما

والداعية إلى الله  إذا تثبت، وتأمل في جميع أموره اكتسب ركناً من أركان الحكمة، وينبغي ألا يقتصر في منهجه المتكامل على التأني والتثبت في الأفعال والأقوال فحسب، بل عليه أن يجري ذلك على القلب في خواطره، وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ( ).
فلا يقول اللسان كلمة، ولا يروي حادثة، ولا يحكم العقل حكماً، ولا يبرم الداعية أمراً إلا وقد تثبّت من كل جزئية، ومن كل ملابسة، ومن كل نتيجة، حتى لا يبقى هنالك شك ولا شبهة في صحتها، وحينئذ يصل الداعية المسلم المتمسك بهذه الضوابط إلى أعلى درجات الأناة والحكمة والسداد - بإذن الله تعالى -( ).
الصورة الخامسة: في الغزو:
عن أنس  قال: كان رسول الله  يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان فإن سمع أذاناً أمسك وإلا أغار، فسمع رجلاً يقول: الله أكبر، الله أكبر فقال رسول الله : ((على الفطرة ))، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن لا إله إلا الله، فقال رسول الله : ((خرجت من النار))( ).
وعنه  أن النبي  كان إذا غزا بنا قوماً لم يغزُ بنا حتى يصبح وينظر فإن سمع أذاناً كف عنهم وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم... ( ).
وهذا يدل على تثبته  وعدم عجلته، وهو أسوة الدعاة إلى الله تعالى وقدوتهم.
وعن عبد الله بن سرجس المزني ،أن النبي  قال:((السَّمْتُ الحسن( )، والتُّؤَدَةُ، والاقتصاد( )، جزء من أربعةٍ وعشرين جزءاً من النبوة))( ).
وبهذا يُعلم أن الأناة في كل شيء محمودة وخيرٌ إلا ما كان من أمر الآخرة، بشرط مراعاة الضوابط التي شرعها الله حتى تكون المسارعة مما يحبه الله تعالى( ).


المبحث الرابع: العجلة والاستعجال
المطلب الأول: مفهوم العجلة وصورها
الاستعجال: هو طلب وقوع الأمر قبل وقته، وهو صفة مذمومة. والذي يحرك هذه الصفة: هو أن طبيعة الإنسان العجلة خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ( )، ولكن المؤمن يعمل بالأسباب، ويبتعد عن أسباب العجلة.
وللعجلة صور في حياة الناس، منها:
1- استعجال نزول العذاب بالمخالفين،وهذا أمارة وعلامة اليأس الذي لا يليق بالدعاة إلى الله تعالى:فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَـهُمْ عَدًّا( ).
2- استعجال البروز قبل النضوج والرسوخ في العلم، فلا يجوز الاستعجال في ذلك بدون بصيرة؛ ولهذا قال بعضهم:
فضحته شواهد الامتحان( )
من تَحلّى بغير ما هو فيه

وقد قيل: العلم ثلاثة أشبار: من دخل في الشبر الأول تكبّر، ومن دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه ما يعلم( )، لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَـهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ( ).
3- ترك الدعاء، قال : ((لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل )) قيل: يا رسول الله، فما الاستعجال؟ قال: ((يقول قد دعوت فلم أر يُستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع
الدعاء))( ).
4- استعجال النصر دون التمكن من أسبابه.
وهناك صور كثيرة لا يمكن حصرها فعلى الدعاة أن يبتعدوا عن العجلة وأسبابها.
المطلب الثاني: ذمّ العجلة
العجلة مذمومة، قال سبحانه عن فرعون: فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ
فَأَطَاعُوهُ( )، استخفهم وحملهم على الضلالة والجهل، واستخف عقولهم، يقال: استخف عن رأيه: إذا حمله على الجهل وأزاله عما كان عليه من الصواب( ).
وقال سبحانه: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ( ).
ولاشك أن الإنسان قد خلق من عجل خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( )؛ ولكنه - بحمد الله - إذا امتثل أمر الله وترك نهيه حسنت أخلاقه وطبائعه.
والعجلة لها أسباب ينبغي اجتنابها، منها: عدم النظر في العواقب، وسنن الله في الكون، ومنها الشيطان عدو الإنسان؛ فإن أساس العجلة من الشيطان؛ لأنه الحامل عليها بوسوسته، فيمنع من التثبت والنظر في العواقب، فيقع المستعجل في المعاطب والفشل( ).
وعن أنس بن مالك  يرفعه: ((التأني من الله والعجلة من الشيطان))( )؛ ولذلك قيل:
إن النجاح رهين أن لا تعجلا
يا صاحبيّ تلوّما لا تعجلا

وقال عمرو بن العاص : ((لا يزال الرجل يجني من ثمرة العجلة الندامة))( ).
وينبغي أن يُعْلَم أن العجلة المذمومة ما كان في غير طاعة، ومع عدم التثبت وعدم خوف الفوت، ولهذا قيل لبعض السلف: لا تعجل، فإن العجلة من الشيطان، فقال: لو كان كذلك لما قال موسى: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ( ).
وقد قال بعض السلف:لا تعجل عجلة الأخرق وتحجم إحجام الواني.
والخلاصة: أنه يستثنى من العجلة ما لا شبهة في خيريته، قال تعالى:
إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْـخَيْرَاتِ( ).
وعن سعد بن أبي وقاص  قال الأعمش: ولا أعلمه إلا عن النبي : ((التُّؤَدَة( ) في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة ))( ).
المطلب الثالث: علاج الاستعجال
يمكن التخلّص من الاستعجال بأمور، منها:
1- العلم بأن وعد الله آتٍ لا ريب فيه، فإن كان الاستعجال بنزول العذاب على المخالفين، فليعلم المستعجل أنما هي آجال محدودة، وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِـمُونَ ( )، وإن كان استعجال النصر قبل التمكن من أسبابه فليعلم المستعجل أن الله مُتمُّ نوره ولو كره الكافرون.
2- النظر إلى سنن الله في الغابرين الذين استعجلوا العذاب، فأصبح لا يُرى إلا مساكنهم عبرة لكل معتبر؛ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْـحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْـمَثُلاَتُ...( ).
3- عدم وقوع الأمر على وفق استعجال المستعجل قد يكون رحمة من الله تعالى كقوله تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَـهُم بِالْـخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ( ).
4- يتخلص من العجلة بالتدرب، والتصبّر، والمجاهدة على عدم العجلة، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَـمَعَ
الْـمُحْسِنِينَ ( ).
5- تقوى الله تعالى ودعاؤه، قال الله تعالى: وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ( ).
وقال : يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ( ).
وقال تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ( ).
  

الفصل الخامس: الرفـــــــــــق والليــــــــن

المبحث الأول: مفهوم الرفق واللين.
المبحث الثاني: أهمية الرفق واللين.
المبحث الثالث:صور من مواقف تطبيق الرفق في الدعوة.

المبحث الأول: مفهوم الرفق واللين
الرفق لغة: اللطف ولين الجانب( )، وهو ضد العنف( )، واللين: ضد الخشونة( )، قال الله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَـهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( ).
ومعنى لِنتَ لَـهُمْ : سهَّلت لهم أخلاقك، وكثرة احتمالك، ولم تسرع إليهم بالغضب فيما كان منهم( ).
فظهر من هذه التعريفات اللغوية أن الرفق واللين يتضمن: لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأسهل والأيسر وحسن الخلق، وكثرة الاحتمال، وعدم الإسراع بالغضب والتعنيف( ).
ويُطلق الرفق واللين على المداراة إذا كان في ذلك دفع برفق، يُقال: ((دَارَأهُ)) أي لاينه واتقاه( )، ودفعه( )، ولاطفه ولاينه اتقاءً لشرِّه( )، وفي الحديث: ((أن رسول الله  كان يصلي فجاءت بهمة تمرّ بين يديه فمازال يُدارئُها)) أي يدافعها( )، وقد بوّب البخاري - رحمه الله - باباً في صحيحه فقال: (باب المداراة مع الناس) ثم أورد حديث عائشة أنه استأذن على النبي  رجل فقال: ((ائذنوا لـه فبئس ابن العشيرة)) - أو بئس أخو العشيرة ))، فلما دخل ((ألان لـه الكلام )). قالت عائشة: فقلت لـه: يا رسول الله قلت ما قلت ثم ألنت لـه في القول. فقال: ((أي عائشة إن شر الناس منزلة عند الله من تركه - أو ودعه - الناس اتِّقاء فُحشه))( )، ويذكر عن أبي الدرداء : ((إنا لنكشِرُ( ) في وجوه أقوام وإن قلوبنا تلعنهم))( ).
فظهر أن المداراة هي: الدفع برفق ولين.
والمداراة ليست من المداهنة: قال ابن بطال - رحمه الله -: المداراة من أخلاق المؤمنين وهي خفض الجناح للناس، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة. قال: وظن بعضهم أن المداراة هي المداهنة فغلط؛ لأن المداراة مندوب إليها، والمداهنة محرمة، والفرق: أن المداهنة من الدهان وهو الذي يظهر على الشيء ويستر باطنه، وفسرها العلماء بأنها معاشرة الفاسق وإظهار الرضى بما هو فيه من غير إنكار عليه.
والمداراة هي الرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله وترك الإغلاظ عليه حيث لا يظهر ما هو فيه، والإنكار عليه بلطف القول والفعل لاسيما إذا احتيج إلى تألفّه ونحو ذلك( ).
وقد قال الله تعالى لموسى وهارون: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( )، ومعنى: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا: يقول: دارياه وارفقا به( )، وقد استدل بهذه الآية المأمون عندما عنّفه واعظ وشدّد عليه القول، فقال: يا رجل ارفق، فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق، فقال: فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( )، ويؤيد ذلك قوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَـهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ( ).
ولهذا قال القائل:
وامزح لـه إن المزاحَ وفاقُ
وإذا عجزت عن العدوِّ فداره

تُعطي النِّضاح وطبعُها الإحراقُ
فالنارُ بالماء الذي هو ضدُّها

فظهر مما تقدم:
1- أن الرفق واللين: لين الجانب بالقول، والفعل، والأخذ بالأسهل والأيسر، وحسن الخلق، وكثرة الاحتمال، وعدم الإسراع بالغضب والتعنيف والشدة والخشونة.
2- أن المداراة تطلق على الرفق واللين إذا كان فيها مدافعة، كتعليم الجاهل، ونهي الفاسق عن فسقه. والمداراة من أخلاق المؤمنين.
3- أن المداهنة مذمومة محرمة، وهي: معاشرة الفاسق ومخاللته مع الرضى بما هو عليه من المعاصي وعدم الإنكار عليه، والله الموفق.


المبحث الثاني: أهمية الرفق واللين
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي  قال لها: ((إنه من أُعطي حظّه من الرفق فقد أُعطي حظّه من خير الدنيا والآخرة، وصلة الرحم، وحسن الخُلُق، وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار ))( ).
فقد عظّم النبي  شأن الرفق في الأمور كلها، وبين ذلك بفعله وقوله بياناً شافياً كافياً؛ لكي تعمل أمّتهُ بالرفق في أمورها كلها، وخاصة الدعاة إلى الله ؛ فإنهم أولى الناس بالرفق في دعوتهم، وفي جميع تصرّفاتهم، وأحوالهم. وهذا الحديث السابق وغيره من الأحاديث التي ستأتي تُبيّن فضل الرفق، والحث على التخلّق به، وبغيره من الأخلاق الحسنة، وذمّ العنف وذمّ من تخلَّق به.
فالرفق سبب لكل خير؛ لأنه يحصل به من الأغراض ويسهل من المطالب، ومن الثواب ما لا يحصل بغيره، وما لا يأتي من ضده( ).
وقد حذّر النبي  من العنف، وعن التشديد على أمته ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله  يقول في بيتي هذا: ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشقّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به ))( )، وكان  إذا أرسل أحداً من أصحابه في بعض أموره أمرهم بالتيسير ونهاهم عن التنفير.
فعن أبي موسى  قال:كان رسول الله  إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أموره قال:((بشِّرُوا ولا تُنفِّرُوا،ويسِّرُوا ولا تُعسِّرُوا))( ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((إذا أراد الله  بأهل بيتٍ خيراً أدخل عليهم الرفق))( ).
وقال النبي  لأبي موسى الأشعري ومعاذ رضي الله عنهما حينما بعثهما إلى اليمن: ((يسَّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوَعَا ولا تختلِفَا ))( ).
وعن أنس بن مالك  قال: قال رسول الله : ((يسِّرُوا ولا تعسِّرُوا، وبشِّرُوا ولا تنفِّرُوا ))( ).
في هذه الأحاديث الأمر بالتيسير والنهي عن التنفير، وقد جمع النبي  في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأن الإنسان قد يفعل التيسير في وقتٍ والتعسير في وقت، ويبشر في وقت وينفر في وقت آخر، فلو اقتصر على يسّروا لصدق ذلك على من يسِّر مرّة أو مرّات، وعسّر في معظم الحالات، فإذا قال: ولا تعسِّرُوا انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه،وهذا هو المطلوب،وكذا يقال في يسّرا ولا تعسرا،وبشرا ولا تنفرا،وتطاوعا ولا تختلفا؛لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء، والنبي  قد حثّ في هذه الأحاديث وفي غيرها على التبشير بفضل الله وعظيم ثوابه،وجزيل عطائه،وسعة رحمته،ونهى عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير،وهذا فيه تأليف لمن قرب إسلامه وترك التشديد عليه،وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان،ومن بلغ، ومن تاب من المعاصي كلهم ينبغي أن يتدرج معهم ويُتلطّف بهم في أنواع الطاعات قليلاً قليلاً،وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج فمتى يُسِّرَ على الداخل في الطاعة،أو المريد للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته غالباً الازدياد منها، ومتى عُسِّرت عليه أوْشَكَ أن لا يدخل فيها، وإن دخل أوشك أن لا يدوم ولا يستحليها( )، وهكذا تعليم العلم ينبغي أن يكون بالتدريج؛ ولهذا كان النبي  يتخوّل أصحابه بالموعظة في الأيام كراهة السَّآمة عليهم( ).
فصلوات الله وسلامه عليه فقد دلّ أمته على كل خير، وحذّرهم من كل شرّ، ودعا على من شقّ على أمته، ودعا لمن رفق بهم كما تقدم في حديث عائشة، وهذا من أبلغ الزواجر عن المشقة على الناس، وأعظم الحث على الرفق بهم( ).


المبحث الثالث: صور من مواقف تطبيق الرفق في الدعوة
الصورة الأولى: مع شاب استأذن في الزنا
عن أبي أمامة  قال: إن فتىً شاباً أتى النبي  فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا لـه: مه مه! فقال لـه: ((ادنه))، فدنا منه قريباً، قال: ((أتحبّه لأمك؟)) قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ((ولا الناس يحبّونه لأمهاتهم)). قال: ((أفتحبّه لابنتك؟)) قال: لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لبناتهم)). قال: ((أفتحبه لأختك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لأخواتهم)). قال: ((أفتحبه لعمتك؟)) قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لعماتهم)). قال: ((أفتحبه لخالتك؟)) قال: لا والله جعلني الله فداءك. قال: ((ولا الناس يحبونه لخالاتهم)). قال: فوضع يده عليه، وقال: ((اللهم اغفر ذنبه، وطهِّر قلبه، وحصّن فرجه))، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء( ).
وهذا الموقف العظيم مما يؤكد على الدعاة إلى الله  أن يعتنوا بالرفق والإحسان إلى الناس، ولاسيما من يُرغَبُ في استئلافهم ليدخلوا في الإسلام، أو ليزيد إيمانهم ويثبتوا على إسلامهم.
وكما يبين لنا الرسول  الرّفق بفعله بينه لنا بقوله وأمرنا بالرفق في الأمر كله.
الصورة الثانية: مع اليهود:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله  فقالوا: السامُ عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السامُ واللعنة. قالت: فقال رسول الله : ((مهلاً يا عائشة إن الله يُحبّ الرفق في الأمر كله))، فقلت: يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله : ((قد قلت وعليكم))( ).
وقال رسول الله : ((يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يُعطي على العُنْف، وما لا يُعطي على ما سواه))( ).
وقال النبي : ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا يُنْزع من شيء إلا شانه))( ).
وبين رسول الله  أن من حُرِمَ الرفق فقد حرم الخير، قال : ((من يحرم الرفق يحرم الخير))( ).
وعن أبي الدرداء  عن النبي  قال: ((من أٌعطيَ حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حُرِمَ حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير))( )، وعنه  يبلغ به قال: ((من أعطي حظه من الرفق أعطي حظه من الخير، وليس شيء أثقل في الميزان من الخُلُق الحسن))( ).
الصورة الثالثة: مع من بال في المسجد:
عن أنس بن مالك  قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله  إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله : مَهْ مَهْ( )، قال: قال رسول الله : ((لا تزرموه( )، دعوه))، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله  دعاه فقال لـه: ((إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول الله .
قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنّه( ) عليه( ).
وقد ثبت في البخاري وغيره أن هذا الرجل هو الذي قال: ((اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً))، فعن أبي هريرة  قال: قام رسول الله  وقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فلما سلم النبي  قال للأعرابي: ((لقد حجّرت واسعاً)) يريد رحمة الله( ).
وتُفسّر هذه الرواية الروايات الأخرى عند غير البخاري، فعن أبي هريرة  قال: دخل رجل أعرابي المسجد فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً! فالتفت إليه رسول الله  فقال: ((لقد تحجّرت واسعاً))، ثم لم يلبث أن بال في المسجد، فأسرع الناس إليه، فقال لهم رسول الله : ((إنما بُعثتم مُيسِّرين، ولم تُبعثوا مُعسِّرين، أهريقوا عليه دلواً من ماء، أو سجلاً من ماء))( ).
قال: يقول الأعرابي بعد أن فقه: ((فقام النبي  إليّ بأبي وأمي فلم يسبّ، ولم يؤنّب، ولم يضرب))( ).
النبي  أحكم خلق الله، فمواقفه وتصرفاته كلها مواقف حكمة مشرفة، ومن وقف على أخلاقه ورفقه وعفوه وحلمه، ازداد يقينه وإيمانه بذلك.
وهذا الأعرابي قد عمل أعمالاً تثير الغضب، وتسبّب عقوبته وتأديبه من الحاضرين؛ ولذلك قام الصحابة إليه، واستنكروا أمره، وزجروه، فنهاهم النبي  أن يقطعوا عليه بوله.
وهذا في غاية الرفق والحلم والرحمة، ويجمع ذلك كله الحكمة، فقد أنكر النبي  بالحكمة على هذا الأعرابي عمله، فقال لـه حينما قال: ((اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً)): ((لقد حجّرت واسعاً))، يريد  رحمة الله، فإن رحمة الله قد وسعت كل شيء، قال : وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ( )، فقد بخل هذا الأعرابي برحمة الله على خلقه.
وقد أثنى الله  من فعل خلاف ذلك حيث قال: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ ( ).
وهذا الأعرابي قد دعا بخلاف ذلك، فأنكر عليه النبي  بالحكمة( ).
وحينما بال في المسجد أمر النبي  بتركه؛ لأنه قد شرع في المفسدة، فلو منع ذلك لزادت المفسدة، وقد حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منعه  بعد ذلك لدار بين أمرين:
1- إما أن يقطع عليه بوله فيتضرّر الأعرابي بحبس البول بعد خروجه.
2- وإما أن يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه،أو ثوبه،أو مواضع أخرى من المسجد.
فأمر النبي  بالكفّ عنه للمصلحة الراجحة، وهي دفع أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما( ).
وهذا من أعظم الحكم العالية، فقد راعى النبي  هذه المصالح، وما يقابلها من المفاسد، ورسم  لأمته والدعاة من بعده كيفية الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف، ولا سبٍّ ولا إيذاء ولا تشديد، إذا لم يكن ذلك منه عناداً ولا استخفافاً، وقد كان لهذا الاستئلاف والرحمة والرفق الأثر الكبير في حياة هذا الأعرابي وغيره، فقد قال بعد أن فقه - كما تقدّم - وفي رواية الإمام أحمد: فقام النبي  إليّ بأبي وأمي، فلم يسبّ، ولم يؤنّب، ولم يضرب( ).
فقد أثّر هذا الخلق العظيم في حياة الرجل( ).
الصورة الرابعة: مع معاوية بن الحكم:
عن معاوية بن الحكم السلمي  قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله  إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمّياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله  فبأبي هو وأمي ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني( ) ولا ضربني ولا شتمني، قال: ((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول الله .
قلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإنا منا رجالاً يأتون الكهان، قال: ((فلا تأتهم)).
قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: ((ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدّنّهم))( )، (قال ابن الصلاح: فلا يصدّنكم)، قال: قلت: ومنا رجال يخطّون، قال: ((كان نبي من الأنبياء يخطّ، فمن وافق خطّه فذاك))( ).
قال: وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبَلَ أُحُد والجوَّانية( )، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول الله  فعظَّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها، قال: ((ائتني بها))، فأتيته بها، فقال لها: ((أين الله؟)) قالت: في السماء، قال: ((من أنا؟)) قالت: أنت رسول الله. قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة))( ).
وهذا الموقف من أعظم الحكم البارزة السامية التي أوتيها النبي ، وقد ظهر أثر ذلك في حياة ونفس معاوية ؛ لأن النفوس مجبولة على حبّ من أحسن إليها، ولهذا قال معاوية : ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه.
الصورة الخامسة: مع من كانت يده تطيش:
عن عمر بن أبي سلمة  قال: كنت غلاماً في حجر رسول الله  وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي رسول الله : ((يا غلام سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك))، فمازالت تلك طعمتي بعد( ).
الصورة السادسة: مع من أصاب من امرأته قبل الكفارة:
عن سلمة بن صخر الأنصاري  قال في حديثه: ((... خرجت فأتيت النبي  فأخبرته خبري فقال لي: ((أنت بذاك))؟ فقلت: أنا بذاك، فقال: ((أنت بذاك))؟ فقلت: أنا بذاك، فقال: ((أنت بذاك))؟ فقلت: نعم ها أنذا فامضِ فيَّ حكمك فإني صابر لـه، قال: ((أعتق رقبة))، قال: فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها. قال: ((فصم شهرين)) قال: قلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام، قال: ((فتصدق)) قال: فقلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا هذه وحشاً ما لنا عشاء، قال: ((اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل لـه فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقاً ثم استعن بسائره عليك وعلى عيالك))، قال فرجعت إلى قومي فقلت:وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي،ووجدت عند رسول الله  السعة والبركة وقد أمر لي بصدقتكم فادفعوها لي،قال:فدفعوها لي)) ( ).
الصورة السابعة: مع من بكت عند القبر:
عن أنس  قال: مرَّ النبي  بامرأة تبكي عند قبر فقال: ((اتقِ الله واصبري)) قالت: إليك عنّي فإنك لم تُصَبْ بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي ، فأتت النبي  فلم تجد عنده بوّابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى))( )، وهذا فيه الدلالة على رفق النبي  بالجاهل، وترك المؤاخذة.
الصورة الثامنة: من رفق صلة بن أشيم:
ومن المواقف التطبيقية ما فعله صلة بن أشيم - رحمه الله - حين مر رجل قد أسبل ثيابه يسحبها ويجرّها على الأرض، فأخذ الناس يسبّونه ويُغلظون لـه في القول، فساءه ذلك، وأراد أن يريهم درساً عملياً للرفق واللين في الإنكار فقال لهم: دعوني أكفكم أمره، ثم قال: يا ابن أخي إنّ لي إليك حاجة. قال: ما هي؟ قال: أحب أن ترفع إزارك، قال: نعم ونعمى عيني - أي أقر عينك بطاعتك واتباع أمرك - فرفع إزاره. فقال: صلة لأصحابه: هذا كان أمثل مما أردتم، فإنكم لو شتمتموه وآذيتموه لشتمكم( ).
  

الفصل السادس: الصــــــــــــــبــر

المبحث الأول: مفهوم الصبر.
المبحث الثاني: أهمية الصبر في الدعوة.
المبحث الثالث: مجالات الصبر.
المبحث الرابع: حكم الصبر.
المبحث الخامس: أنواع الصبر.
المبحث السادس: صور من مواقف تطبيق الصبر والشجاعة في الدعوة.
المبحث السابع: طرق تحصيل الصبر.

المبحث الأول: مفهوم الصبر
الصبر لغة: الحبس والمنع، وهو ضدّ الجزع، ويقال: صبر صبراً: تجلَّد ولم يجزع، وصبر: انتظر، وصبّر نفسه: حبسها وضبطها، وصبر فلاناً: حبسه، وصبرت صبراً: حبست النفس عن الجزع، وسُمّي الصوم صبراً لما فيه من حبس النفس عن الطعام، والشراب، والنكاح( ).
فتبين بذلك أن الصبر هو:منع وحبس النفس عن الجزع،واللسان عن التشكِّي،والجوارح عن التشْويش:كلطم الخدود،وشقّ الجيوب ونحوهما( ).
وحقيقة الصبر: هو خُلُقٌ فاضل من أخلاق النفس يمنع صاحبه من فعل ما لا يَحْسُنُ، ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها( ).
وهذه القوة تمكِّن الإنسان من ضبط نفسه لتحمّل المتاعب، والمشاق، والآلام( ).


المبحث الثاني: أهمية الصبر في الدعوة إلى الله تعالى
الصبر في الدعوة إلى الله تعالى من أهم المهمات، ومن أعظم الواجبات على الدعاة إلى الله ، والصبر وإن كان واجباً بأنواعه على كل مسلم، فإنه على الدعاة إلى الله من باب أولى وأولى؛ ولهذا أمر الله به إمام الدعاة وقدوتهم رسول الله عليه الصلاة والسلام:  وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِالله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( )، وقال تعالى:  فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّـهُمْ ( )، وقال تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْـمُرْسَلِينَ ( )، فهذا سيد ولد آدم  قد أمره الله بالصبر، وأتباعه من باب أولى.
والله  قد أوضح للناس أنه لابد من الابتلاء، والاختبار، والامتحان لعباده، وخاصة الدعاة إلى الله تعالى؛ ليظهر الصادق من الكاذب، والمؤمن من المنافق، والصابر من غيره، وهذه سنة الله في خلقه، قال سبحانه: الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ( )، وقال : وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْـمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ( ).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه...))( ).
وقد ذم الله  من لم يصبر على الأذى من أجل الدعوة إلى الله فقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِالله فَإِذَا أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ الله ( )؛ ولهذا قال سبحانه: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ الله
قَرِيبٌ ( )، وقال تعالى: مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ( ).
وتبرز أهمية الصبر في الدعوة إلى الله  في عدة أمور، منها:
أولاً:إن الابتلاء للدعاة إلى الله لابد منه،فلو سلم أحد من الأذى لسلم رسل الله عليهم الصلاة والسلام وعلى رأسهم إمامهم محمد بن عبد الله عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام فقد أُوذوا فصبروا، وجاهدوا حتى نصرهم الله على أعداء الدعوة إلى الله تعالى، ولاشك أن كل داعية مخلص يصيبه الأذى، وإن سلم أحد فذلك من أندر النوادر.
ثانياً: الصبر يحتاجه الداعية في دعوته إلى الله في ثلاثة أحوال:
1 - قبل الدعوة بتصحيح النية والإخلاص، وتجنب دواعي الرياء والسمعة، وعقد العزم على الوفاء بالواجب.
2 - أثناء الدعوة، فيلازم الصبر عن دواعي التقصير والتفريط، ويلازم الصبر على استصحاب ذكر النية، وعلى حضور القلب بين يدي الله تعالى، ولا ينساه في أمره.
3 - بعد الدعوة، وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن يُصبِّر نفسه عن الإتيان بما يُبطل عمله، فليس الشأن الإتيان بالطاعة، وإنما الشأن في حفظها مما يبطلها.
الوجه الثاني:أن يصبر عن رؤيتها والعجب بها، والتكبر، والتعظم بها.
الوجه الثالث: أن يصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فإن العبد يعمل العمل سرّاً بينه وبين الله سبحانه فيكتب في ديوان السر، فإن تحدث به نُقل إلى ديوان العلانية( ).
ثالثاً: الصبر في الدعوة إلى الله  بمثابة الرأس من الجسد، فلا دعوة لمن لا صبر لـه كما أنه لا جسد لمن لا رأس لـه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ((الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر لـه، كما أنه لا جسد لمن لا رأس لـه ))( )، فإذا كان ذلك في الإيمان فالصبر في الدعوة إلى الله تعالى من باب أولى.
رابعاً: الصبر في الدعوة إلى الله تعالى من أعظم أركان السعادة الأربعة قال : وَالْعَصْرِ* إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( )، كما قال ذلك سماحة العلامة ابن باز رحمه الله تعالى.
خامساً: الصبر من أعظم أركان الخُلق الحسن الذي يحتاجه كل مسلم عامة وكل داعية إلى الله تعالى خاصة، وقد أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى( ).
سادساً: الصبر في الدعوة إلى الله من أهم المهمات؛ ولهذا ذكره الله  في القرآن الكريم في نحو تسعين موضعاً كما قال الإمام أحمد( ).
سابعاً: الصبر في الدعوة إلى الله  من أعظم القربات ومن أجل الهبات ولم أعلم -على قلة علمي - أن هناك شيئاً غير الصبر يُجازى ويثاب عليه العبد بغير حساب قال الله : إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ( )، اللهم إلا الصيام فإن الصيام من الصبر.
ثامناً: الدعوة إلى الله سبيلها طويل تحف به المتاعب والآلام؛ لأن الدعاة إلى الله يطلبون من الناس أن يتركوا أهواءهم وشهواتهم التي لا يرضاها الله ، وينقادوا لأوامر الله، ويقفوا عند حدوده، ويعملوا بشرائعه التي شرع، فيتخذ أعداء الدعوة من هذه الدعوة عدواً يحاربونه بكل سلاح، وأمام هذه القوة لا يجد الدعاة مفرّاً من الاعتصام باليقين والصبر؛ لأن الصبر سيف لا ينبو، ومطية لا تكبو، ونور لا يخبو.
تاسعاً: الصبر في مقام الدعوة إلى الله تعالى هو وصف الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وعليه مدار نجاح دعوتهم إلى الله تعالى، ولاشك أن الداعية إذا فقد الصبر كان كمن يريد السفر في بحر لُجِّي بغير مركب فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ( )؛ ولهذا أوصى به الحكماء من أتباع الأنبياء، فهذا لقمان الحكيم عندما أوصى ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرن ذلك بالصبر يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( )، فهو عندما أمره بتكميل نفسه بطاعة الله أمره أن يكمّل غيره وأن يصبر على ما ينزل به من الشدائد والابتلاء.
عاشراً: الداعية إلى الله  لا يكون قدوة في الخير مطلقاً إلا بالصبر والثبات عليه، كما قال سبحانه في صفات عباد الرحمن: ... وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ( )، وهذه الإمامة في الدين لا تحصل قطعاً إلا بالصبر، فقد جعل الله الإمامة في الدين موروثة بالصبر واليقين وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ( )، فإن الدين كله علم بالحق وعمل به، والعمل به لابد فيه من صبر، والداعية لابد لـه من أن يعلم الحق ويعمل به حتى يقوم بالدعوة، ولا يقوم بالدعوة إلا بالصبر على ما أصابه.
الحادي عشر: الصبر ينتصر به الداعية على عدوه - مع الأخذ بالأسباب - من الكفار والمنافقين، والمعاندين، وعلى من ظلمه من المسلمين ولصاحبه تكون العاقبة الحميدة، قال : ... وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( )، وقال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( )، وحكى الله عن يوسف عليه الصلاة والسلام قوله وبأي شيء نال النصر والتمكين، فقال لإخوته حينما سألوه: أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ ( ), ولابد بعون الله وتوفيقه من النصر للداعية المتقي الصابر العامل بما أمره ربه،ومن ذلك الأخذ بجميع الأسباب المشروعة وَاصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْـمُحْسِنِينَ( ).
الثاني عشر: الصبر من أهم المهمات للداعية؛ لأنه لا يكون داعية مُوَفَّقاً إلا إذا كان صابراً على دعوته وما يدعو إليه، صابراً على ما يعترض دعوته من معارضات، صابراً على ما يعترضه هو من أذى.
الثالث عشر: الصبر يشتمل على أكثر مكارم الأخلاق، فيدخل فيه الحلم؛ فإنه صبر عن دواعي الانتقام عند الغضب، والأناة: صبر عن إجابة دواعي العجلة، والعفو والصفح صبر عن إجابة دواعي الانتقام، والجود والكرم صبر عن إجابة دواعي الإمساك، والكيس: صبر عن إجابة دواعي الكسل والخمول، والعدل صبر إذا تعلق بالتسوية بين المتماثلين، وسعة الصدر صبر عن الضجر، والكتمان وحفظ السر صبر عن إظهار ما لا يحسن إظهاره، والشجاعة صبر عن إجابة دواعي الفرار، وهذا يدل على أهمية الصبر في الدعوة إلى الله تعالى، وأن الداعية لا يسعه أن يستغني عنه في جميع أحواله.
الرابع عشر:الصبر نصف الإيمان:فالإيمان نصفان:نصف صبر ونصف شكر، قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( ). وقال النبي : ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً لـه، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً لـه...)) ( ).
الخامس عشر:الصبر سبب حصول كل كمال،فأكمل الخلق أصبرهم؛ لأن كمال الصبر بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن لـه عزيمة فهو ناقص، ومن كان لـه عزيمة ولكن لا ثبات لـه عليها فهو ناقص، فإذا انضم الثبات إلى العزيمة أثمر كل مقام شريف وحالٍ كامل، ولهذا يُرْوَى: ((اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد ))( )، وشجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر( ).
السادس عشر: الصبر يجعل الداعية إلى الله  يضبط نفسه عن أمور لابد لـه من الابتعاد عنها، ومنها: ضبط النفس عن الاندفاع بعوامل الضجر، والجزع، والسأم، والملل، والعجلة، والرعونة، والغضب، والطيش، والخوف، والطمع، والأهواء، والشهوات، وبالصبر يتمكن الداعية أن يضع الأشياء مواضعها، ويتصرف في الأمور بعقل واتِّزان، وينفِّذ ما يريد من تصرف في الزمن المناسب بالطريقة المناسبة الحكيمة، وعلى الوجه المناسب، بخلاف عدم الصبر الذي يوقع في التسرع والعجلة، فيضع الداعية الأشياء في غير مواضعها، ويتصرف فيخطئ في تحديد الزمان، ويسيء في طريقة التنفيذ، وربما يكون صاحب حق فيكون مفسداً، ولو أنه اعتصم بالصبر لسلم من ذلك كله بإذن الله تعالى( )، وبهذا يتضح أن الصبر ضروري للداعية يتسلح به ويتصف به في محاور ثلاثة:
المحور الأول: الصبر على طاعة الله والدعوة إليه.
المحور الثاني: الصبر عن محارم الله.
المحور الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة.
وكل هذه المحاور الثلاثة لها ارتباط وثيق بوظيفة الدعوة إلى الله ؛ لأنها تجعل الداعية قدوة حسنة لغيره من الناس( ).
السابع عشر: الصبر ذو مقام كريم وخلق عظيم؛ ولهذا قرنه الله بالقيم العليا في الإسلام، ومن هذه القيم التي قرنه بها ما يأتي:
1- قرنه باليقين وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ( ).
2- ربطه الله تعالى بالشكر في أربع سور إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( ).
3- جمعه مع التوكل الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( ).
4- قرنه بالصلاة وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ( ).
5- قرنه بالتسبيح والاستغفار وَاصْبِرْ لِـحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ( ).
6- جمعه مع الجهاد ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ).
7- ربطه بالتقوى وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ( ).
8- ربطه بالحق وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( ).
9- قرنه بالرحمة: وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْـمَرْحَمَةِ ( ).
الثامن عشر: رتَّب الله تعالى خيرات الدنيا والآخرة على الصبر ومن ذلك:
1- معيَّة الله مع الصابرين إِنَّ الله مَعَ الصَّابِرِينَ ( ).
2- محبَّة الله للصابرين وَالله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ( ).
3- صلوات الله ورحمته على الصابرين ... وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لله وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْـمُهْتَدُونَ ( ).
4- ضمان النصر والمدد للصابرين بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْـمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ الله الْعَزِيزِ الْـحَكِيمِ ( ).
5- الحفظ من كيد الأعداء إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ( ).
6- استحقاق دخول الجنة أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا ( ).
وهذه الفضائل قليل من كثير، ولله دَرُّ القائل:
لكن عواقبه أحلى من العسل
الصبر مثل اسمه مرٌّ مذاقته



المبحث الثالث: مجالات الصبر
للصبر مجالات كثيرة في حياة الإنسان منها المجالات الآتية:
المجال الأول:ضبط النفس عن السأم والملل عند القيام بالأعمال التي تتطلب الصبر والمثابرة خلال مدة مناسبة قد يراها المستعجل مدة طويلة.
المجال الثاني:ضبط النفس عن الضجر والجزع عند حلول المصائب والمكاره.
المجال الثالث: ضبط النفس عن العجلة والرعونة عند تحقيق مطلب من المطالب المادية أو المعنوية.
المجال الرابع: ضبط النفس عن الغضب، والطيش عند مثيرات عوامل الغضب في النفس، ومحرضات الإرادة للاندفاع بطيش لا حكمة فيه ولا اتّزان في القول أو في العمل.
المجال الخامس: ضبط النفس عن الخوف عند مثيرات الخوف في النفس، حتى لا يجبن الإنسان في المواضع التي تحسن فيها الشجاعة، وتكون خيراً، ويقبح فيها الجبن ويكون شراً.
المجال السادس: ضبط النفس عن الطمع عند مثيرات الطمع حتى لا يندفع الإنسان وراء الطمع في أمرٍ يقبح الطمع فيه.
المجال السابع: ضبط النفس عن الاندفاع وراء أهوائها، وشهواتها وغرائزها كلما كان هذا الاندفاع أمراً لا خير فيه.
المجال الثامن: ضبط النفس لتحمل المتاعب، والمشاقّ، والآلام الجسدية والنفسية كلما كان في هذا التحمل خير عاجل أو آجل.
وحين يتأمل المسلم في المجالات التي تحتاج إلى صبر في حياة الإنسان يتبيّن لـه أن الصبر ضرورة لكل عمل نافع: فكسب الرزق يحتاج إلى صبر، ومعاملة الناس تحتاج إلى صبر، والقيام بالواجبات والمستحبات يحتاج إلى صبر، والكفّ عن المحرمات والمكروهات يحتاج إلى صبر، والجهاد في سبيل الله يحتاج إلى صبر، ومقارعة شدائد الحياة ومقاومة مكارهها وتحمل تكاليفها يحتاج إلى صبر، والدراسة والبحث العلمي والاجتهاد في استخراج الأحكام الشرعية من مصادرها الأصلية أمور تحتاج إلى صبر جميل، فلا يقوم بها إلا كل صابر، وكظم الغيظ والدفع بالتي هي أحسن أمور تحتاج إلى حظ عظيم من خلق الصبر( ).
والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتربية الأسرة المسلمة تربية إسلامية أمور تحتاج إلى صبر عظيم.
فتبين بذلك أن الإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من أحواله؛ لأنه بين أمر يجب عليه تنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه( ).
فالصبر ضرورة لازمة للإنسان ليبلغ آماله، وتنجح مقاصده، فمن صبر ظفر، فكل الناجحين في الدنيا والآخرة إنما حققوا آمالهم بالله ثم بالصبر، ولله درُّ أبي يعلى الموصلي القائل:
للصبر عاقبة محمودة الأثر
إني رأيتُ وفي الأيام تجربة

واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر( )
وقلَّ من جدَّ في أمرٍ يحاوله



المبحث الرابع: حكم الصبر
ذكر الإمام ابن القيم أن الصبر واجب بإجماع الأئمة( )، ويقصد بذلك -رحمه الله - الصبر الواجب؛ فإن الصبر ينقسم إلى خمسة أقسام:
القسم الأول: صبر واجب: كالصبر على الطاعات، والصبر عن المحرّمات، والصبر على المصائب التي لا صنع للعبد فيها: كالأمراض، والفقر، وفقد الأنفس والأموال وغيرها.
القسم الثاني: صبر مندوب: كالصبر عن المكروهات، والصبر على المستحبات.
القسم الثالث: صبر محرم: كالصبر على المحرّمات: كمن يصبر عن الطعام والشراب حتى يموت أو يصبر على ما يهلكه من سبع أو حية، أو حريق أو ماء، وهو يستطيع مدافعة ذلك بالأسباب النافعة.
القسم الرابع:صبر مكروه: كمن يصبر عن الطعام والشراب حتى يتضرر بذلك بدنه.
القسم الخامس: صبر مباح: وهو الصبر عن كل فعلٍ مستوي الطرفين خُيِّر بين فعله وتركه.
وبالجملة: فالصبر على الواجب واجب، وعن الواجب حرام.
والصبر عن الحرام واجب، وعليه حرام.
والصبر عن المكروه مستحب، وعليه مكروه.
والصبر على المستحبّ مستحبٌّ، وعنه مكروه.
والصبر عن المباح مباح، وعليه مباح. والله أعلم.
والصبر المحمود والمأجور عليه صاحبه هو ما اشتمل على شروط ثلاثة:
1- الإخلاص لله وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ( ).
2- عدم الشكوى إلى العباد.
3- أن يكون الصبر في أوانه عند الصدمة الأولى( ).


المبحث الخامس: أنواع الصبر
سبق في أقسام الصبر باعتبار تعلق الأحكام الخمسة به أن الصبر الواجب ثلاثة أنواع هي: صبر على طاعة الله وأداء الواجبات، وصبر عن المعاصي والمحرمات، وصبر على المصائب والبليات وأقدار الله المؤلمة. وسأبين ذلك بشيء من التفصيل في المطالب الآتية:
المطلب الأول: الصبر على طاعة الله
الطريق إلى الله تعالى مليئة بالعوائق؛ لأن النفس بطبعها تنفر من القيود، والعبودية لله قيد لشهوات النفس؛ ولذلك فالنفس لا تستقيم على أمر الله بيسر وسهولة، فلابد من ترويضها، وكبح جماحها، وهذا يحتاج إلى اصطبار.
قال تعالى:رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ( ).
وقال جل ثناؤه:وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ( ).
والصبر على الطاعة يتكون من ثلاث شعب:
الأولى: صبر قبل الطاعة بتصحيح النية، والإخلاص، والتبرؤ من شوائب الرياء.
قال تعالى: إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِـحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَـهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ( ).
فقدم الله  الصبر على العمل.
الثانية: الصبر حال الطاعة حيث لا يغفل عنها أثناء تأديتها، ولا يتكاسل، فيأتي بها على أكمل وجه مشروع متّبعاً ما بينه الرسول  حذو القُذَّة بالقُذَّة.
قال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُم مِّنَ الْـجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( ).
الثالثة: الصبر بعد العمل، فلا ينظر لنفسه بعين العجب، فيتظاهر بما قدَّم سمعةً ورياءً؛ لئلا يحبط عمله ويبطل أجره، ويمحو أثره.
والصبر على الدعوة إلى الله من أعظم الطاعات؛ فإن الدعوة إلى الله سبيلها طويل، تحف به المتاعب والآلام، وذلك أن الدعاة يطلبون من الناس أن يطلِّقوا أهواءهم، وينحروا أوهامهم، ويثوروا على شهواتهم، ويقفوا عند حدود الله أمراً ونهياً.
وأكثر الناس لا يؤمنون بهذا النمط الجديد، فيتخذون من هذه الدعوة عدواً يحاربونه بكل سلاح.
وأمام هذه الدعوة العاتية، والسلطة الطاغية لا يجد الدعاة مفراً من الاعتصام باليقين والصبر؛ لأن الصبر سيف لا ينبو، ومطية لا تكبو، ونور لا يخبو.
وحينئذٍ لابد أن يتنادى أهل الإيمان ليتواصوا بالحق، ويتواصوا بالصبر لينجوا من الخسران المبين الذي يواجه الفارِّين من وجه الهدى.
وفي ذلك أنزل الحق سورة كاملة هي سورة العصر: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( ).
ومن هذه العصابة المباركة العبد الصالح لقمان وابنه، وهاهو لقمان يوصي ابنه: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْـمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْـمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( ).
ودونك أيها الداعي إلى الله على بصيرة بعض المعوقات التي تعترض طريقك لئلا تأخذك على حين غرة:
العائق الأول: إعراض الناس عن دعوتك:
لا شيء أثقل على صاحب الدعوة وهو يصيح بأعلى صوته، وينادي بملء فيه لينقذ الناس من الظلمات إلى النور، فلا يجد إلا آذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وأناساً قد استغشوا ثيابهم، وأصرّوا واستكبروا استكباراً.
فهاهو نبي الله نوح  يناجي ربه: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَـهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا
اسْتِكْبَارًا ( ).
ولكن التحديات تزيد عود الداعية صلابة، وهمته شموخاً، فلا يفتأ قائماً على أمر الله، ظاهراً على الحق، لا يضره من خالفه، ولا من خذله حتى يجعل الله لـه سبيلاً: ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَـهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَـهُمْ إِسْرَارًا ( ).
هذا هو شأن قوم أول المرسلين نوح ، وهو موقف قوم خاتم المرسلين محمد  لم يتغير ولم يتبدل، وهذه هي سبيل المجرمين في كل القرون... أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ .
ويصف الله تبارك وتعالى موقف قريش من النبي : حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُـوا قُـــلُوبُـنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ( ).
ولهذا قال الله تعالى آمراً نبيه : وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِالله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( ).
العائق الثاني: الأذى من الناس قولاً وفعلاً:
أعداء الحق يقابلون الإحسان بالإساءة، فالداعي إلى الله يمحض لهم النصح فيتهمونه بما ليس فيه، ويدعوهم إلى الله بالموعظة الحسنة فيردونه بالسوء، ويجادلهم بالتي هي أحسن فيقاومونه بالتي هي أخشن وأسوأ، ويصدع بينهم بالحق فلا يسمع منهم إلا الباطل.
وفوق هذا كله تمتدّ يد الباطل إلى الأموال فتنهبها، وإلى الأبدان فتعذّبها، والحرمات فتنتهكها، والأنفس فتقتلها.
وهذا ما أشار إليه رب العزة مخاطباً المؤمنين ليوطّنوا أنفسهم على الصبر والثبات: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ( ).
وفي الآية: نكت لطيفة ينبغي لفت نظر الدعاة إليها:
الأولى: وصف الله  الأذى المسموع من أهل الكتاب والمشركين بالكثرة، وهذا يدل على أن حرباً كلامية وإعلامية ستشن على أهل الإيمان.
أسلحتها: التشويه، والتشويش، والدسّ، والافتراء، والتحريف.
شعارها: الغاية تبرر الوسيلة، واكذب حتى يصدِّقك الناس.
فلابُدَّ من احتمال مكارهها، والصبر على تجرّع غصصها حتى يأتي نصر الله فيحقّ الحق، ويبطل الباطل إن الباطل كان زهوقاً.
الثانية: قرن الله الصبر بالتقوى، فلابدَّ أن يجمع المؤمنون التقوى والصّبر لمواجهة هذه الحرب الضروس.
الصبر للثبات في وجه الباطل.
والتقوى للتعفّف عن مقابلة الخصوم بأسلحتهم الخبيثة، فالمؤمن لا يواجه الدسّ بالدسّ، ولا الافتراء بمثله؛ لأن المؤمنين يحكمهم قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لله شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ( ).
الثالثة: قرن الله بين أهل الكتاب والمشركين هذا مع اختلاف مشربهم ووجهتهم، وفي هذا لفتة رائعة إلى أن عدواتهم للإسلام وأهله وحَّدت بينهم على اختلاف.
هذا ما قرره القرآن الكريم قبل مئات السنين، وأيده التاريخ والواقع.
لقد وجدنا اليهودية العالمية، والصليبية، والشيوعية الدولية تختلف بينها أشد الاختلاف، ثم تتناسى هذا كلّه عندما يحاربون الإسلام.
قال الله تعالى: وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ( ).
وقال جل ثناؤه: وإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ( ).
فصبر جميل، والله المستعان على ما يفعلون.
وأنبياء الله جميعاً يمثلون هذا النوع من الصبر حيث قالوا ردّاً على أذى أقوامهم: وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْـمُتَوَكِّلُونَ ( ).
وكان عزاء رسول الله  أن الرسل جميعاً من قبله حدث لهم الأذى والتشويه والافتراء: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله ( ).
ومن هنا أمر الله رسوله أن يصبر على إيذاء قومه: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا ( ).
ولقد ضرب سحرة فرعون - حين وقع الحق فآمنوا - مثلاً رائعاً في الصبر، فلم يفتّ من عضُدِهم، ولم يزعزع يقينَهم تهديدُ فرعون:
... آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَـذَا لَـمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْـمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ( ).
ما هذا الوعيد الهادر( ) من طاغية جبار يقول للناس: أنا ربكم الأعلى، وما علمت لكم من إلهٍ غيري.
إن أمواجه تتحطّم على يقين المؤمنين الذين وقفوا كالجبال الشمّ، ولكنهم توجهوا إلى الله ليثبّتهم، ويلقي في قلوبهم السكينة، ويفرغ عليهم الصبر: قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَـمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ( ).
العائق الثالث: استبطاء النصر والفرج:
لقد جعل الله  العاقبة للمتقين،وكتب لهم التمكين في الأرض؛ ليكون الدين كله لله،ولكن هذه المنزلة لن يبلغها المؤمنون بين عشيةٍ وضحاها.
قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ ( ).
متى نصر الله؟ استبطاءً لـه، واستعجالاً لمجيئه؛ هنالك يجيء الغوث للملهوف، والفرج للمكروب، فتفرح القلوب - ألا إن نصر الله قريب.
وليعلم المسلم أن في تأخير الفرج لطائف وأسراراً، منها:
1- أن الكرب كلما اشتدّ كان الفرج قريباً كما في قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْـمُجْرِمِينَ ( ).
2- أن الكرب كلما اشتدّ وجد اليأس من كشفه من جهة المخلوق، وازداد التعلق بالخالق حتى يصل العبد إلى محض التوكل الذي هو من أعظم الأسباب التي تطلب بها الحوائج، كما قال تعالى: وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ( ).
3- أن الكرب كلما اشتدّ فإن العبد حينئذ يحتاج إلى زيادة مجاهدة الشيطان لأنه يأتيه فيقنِّطه، ويسخِّطه، فيحتاج العبد إلى مجاهدته ودفعه، فيحوز ثواب مجاهدة عدوّه ودفعه.
ولهذا قال النبي : ((يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول: قد دعوت فلم يستجب لي فَيَدع الدعاء ))( ).
واعلم أخا الإيمان أن المؤمن كلما استبطأ الفرج واستيأس منه ولاسيما بعد كثرة الدعاء وإلحاح التضرع ولم تظهر لـه إجابة رجع إلى نفسه يلومها، قائلاً: إنما أُتيتُ من قِبَلِكِ.
وهذا اللّوم أحبّ إلى الله من أكثر الطاعات لأنه يورث انكسار العبد الصالح لربِّه، فلذلك يسرع إليه الفرج ويتواثب إليه اليسر؛ لأن الله يجبر المنكسرة قلوبهم لأجله، وعلى قدر الكسر يكون الجبر.
قال تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْـمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ الله قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ ( ).
المطلب الثاني: الصبر عن المعاصي والمحرمات
إذا أخذت الدنيا زينتها وأقبلت على الإنسان تتراقص كالحسناء اللعوب، ونشرت شهواتها ذات اليمين وذات الشمال، فهذا لون جديد من الابتلاء، إنه فتنة السرَّاء؛ لأن الله يبلو عباده بالشر والخير.
قال تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْـخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ( ).
انظر رحمك الله لقد جعل ذو الجلال والإكرام التنعيم والإكرام ابتلاءً كالتضييق في الرزق سواء.
ولذلك فالعبد محتاج إلى الصبر عن ملاذ الدنيا وشهوات النفس، فلا يطلق لها العنان لتسترسل وراء شهواتها من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث.
وثمة أمر آخر للصبر في هذا المجال إنه الصبر عن التطلُّع إلى دنيا الآخرين، والاغترار بما ينعمون به من مال وبنين.
قال تعالى: وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرُ وَأَبْقَى ( ).
ولا تظن أيها العبد القانع بما آتاه الله أن ما في أيدي الطغاة العتاة المغرورين نعم.. إنها نقم ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
ألم تقرأ قول الله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَـهُمْ فِي الْـخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ ( ).
وهذا هو المثال لا يزال شاخصاً للذين يعتبرون في كل القرون، لقد خرج قارون الذي ملك الكنوز ذات المفاتيح التي تنوء بالعصبة أولي القوة... خرج على قومه في كامل زينته، وأبهى حلته، وفخامة موكبه ومركبه. فقال الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها في حسرة وتلهف:
... يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ( ).
ولكن الدنيا لن تخلو من ناصح أمين ورِث العلم والإيمان والصبر من المرسلين: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لّـِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِـحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلا الصَّابِرُونَ ( ).
وكان ما قدَّره الله فصل الخطاب: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مِنَ المـُنتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِـمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَـخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ( ).
المطلب الثالث: الصبر على المصائب وأقدار الله المؤلمة
لا أحد يسلم من آلام النفس، وأمراض البدن، وفقدان الأحباء، وخسران المال.
وهذا ما لا يخلو منه بَرٌّ ولا فاجر، ولا مؤمن ولا كافر، ولكن المؤمن يتلقَّى هذه المصائب برضىً وطمأنينة تفعم قلبه الذي أسلس قياده لمقلِّب القلوب والأبصار؛ لأنه يعلم علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْـخَوفْ وَالْـجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ( ).
فالبلاء هنا عام يصيب القلوب بالخوف، والبطون بالجوع، والأموال بالنقص، والأنفس بالموت، والثمرات بالآفات.
ومن لطف الله ورحمته بعباده أنه جعل البلاء: بِشَيْءٍ مِّنَ
الْـخَوفْ... الآية؛ ليدل على التقليل مراعاة لضعف العباد، وتخفيفاً عليهم، ورحمةً بهم.
وفي هذا المجال كان صبر أنبياء الله مثلاً يُقتدى به،فأيوب صبر على مرضه وفقد أهله،ويعقوب عليه الصلاة والسلام صبر على فراق ولده، وكيد أبنائه،ويوسف عليه الصلاة والسلام صبر على السجن والافتراء والدسّ والتشويه الذي مارسته امرأة العزيز قبل أن يحصحص الحق، ومحمد  صبر على كسر رباعيَّته، وشجّ وجهه، ووضع السلا على ظهره ... !!


المبحث السادس:صور من تطبيق الصبر في الدعوة
المطلب الأول: صور من صبر النبي  في دعوته
للنبي محمد  مواقف في الدعوة إلى الله تدل على صبره، ورغبته فيما عند الله تعالى، ومن المعلوم أنه صبر في جميع أحواله ابتداءً بدعوته السرية حتى لَقِيَ ربه صابراً محتسباً، وصور صبره في دعوته كثيرة جداً لا تحصر، ولكني أقتصر على إيراد الصور التطبيقية الآتية:
الصورة الأولى: صعوده على الصفا ونداؤه العام:
أمر الله نبيه بإنذار عشيرته الأقربين، فقال : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِـمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ * فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ( ).
فقام رسول الله  بتنفيذ أمر ربه بالجهر بالدعوة والصدع بها، وإنذار عشيرته، فوقف مواقف حكيمة أظهر الله بها الدعوة الإسلامية، وبيّن بها حكمة النبي  وشجاعته، وصبره وإخلاصه لله رب العالمين، وقمع بها الشرك وأهله، وأذلهم إلى يوم الدين.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ  صعد النبي  على الصفا فجعل ينادي: ((يا بني فهر، يا بني عدي - لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب، وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقيّ؟ قالو: نعم، ما جرَّبنا عليك إلا صدقاً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )). فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَـهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ( ).
وفي رواية لأبي هريرة  أنه  ناداهم بطناً بطناً، ويقول لكل بطن: ((أنقذوا أنفسكم من النار...))، ثم قال: ((يا فاطمة أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئاً،غير أن لكم رحماً سأبلُّها ببلالها))( ).
وهذه الصيحة العالمية غاية البلاغ، وغاية الإنذار، فقد أوضح  لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأوضح أن عصبية القرابة التي يقوم عليها العرب ذابت في حرارة هذا الإنذار، الذي جاء من عند الله تعالى، فقد دعا  قومه - في هذا الموقف العظيم - إلى الإسلام، ونهاهم عن عبادة الأوثان، ورغّبهم في الجنة، وحذّرهم من النار، وقد ماجت مكة بالغرابة والاستنكار، واستعدّت لحسم هذه الصرخة العظيمة التي ستزلزل عاداتها وتقاليدها وموروثاتها الجاهلية؛ ولكن الرسول الكريم  لم يضرب لصرخاتهم حساباً؛ لأنه مرسل من الله ، ولابدَّ أن يُبلِّغ البلاغ المبين عن رب العالمين، حتى ولو خالفه أو ردّ دعوته جميع العالمين، وقد فعل ( ).
استمرّ  يدعو إلى الله - تعالى - ليلاً ونهاراً، وسرّاً وجهراًًً، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يردّه عن ذلك رادّ، ولا يصدّه عن ذلك صادّ، استمر يتتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، يدعو من لقيه من: حرٍّ وعبدٍ، وقويٍّ وضعيفٍ، وغنيٍّ وفقيرٍ، جميع الخلق عنده في ذلك سواء.
وقد تسلط عليه وعلى من اتبعه الأشدَّاء الأقوياء من مشركي قريش بالأذيَّة القوليَّة والفعليَّة، وانفجرت مكة بمشاعر الغضب لأنها لا تريد أن تفارق عبادة الأصنام والأوثان( )، ومع ذلك لم يفتر محمد  في دعوته، ولم يترك العناية والتربية الخاصة لأولئك الذين دخلوا في الإسلام، فقد كان يجتمع بالمسلمين في بيوتهم على شكل أُسرٍ بعيدة عن أعين قريش، وتتكوّن هذه الأسر من الأبطال الذين عقد عليهم رسول الله  الأمل بعد الله - تعالى - في حمل العبء والمهامّ الجسيمة لنشر الإسلام، وبذلك تكوّنت طبقة خاصة من المؤمنين الأوائل قوية في إيمانها، متينة في عقيدتها، مدركة لمسئوليتها، منقادة لأمر ربها، طائعة لقائدها، مطبقة لكل أمر يصدر عنه برغبة وشوق واندفاع لا يعادله اندفاع، وحب لا يساويه حب.
وبهذه المواقف الحكيمة، والتربية الصالحة المتينة استطاع محمد  أن يؤدِّي الأمانة، ويبلّغ الرسالة، وينصح الأمة، ويجاهد في الله حقّ جهاده، ويرسم لنا طريقاً نسير عليه في دعوتنا وعملنا وسلوكنا، فهو قدوتنا وإمامنا الذي نسير على هديه، ونستنير بحِكَمِهِ .
فقد بدأ الدعوة بعناصر اختارها وربّاها، فلبّت الدعوة، وآمنت به، وكانت دعوته عامة للناس، وأثناء هذه الدعوة يركّز على من يجد عندهم الإمكانات أو يتوقع منهم ذلك، وقد تكوَّن من هذه العناصر نواة القاعدة الصلبة التي ثبتت عليها أركان الدعوة( ).
ومع هذا الجهد المبارك العظيم لم يلجأ رسول الله  إلى الاغتيال السياسي، ولم يتخلَّص بالاغتيال من أفراد بأعيانهم، وكان بإمكانه ذلك وبكل يسر وسهولة، إذ كان يستطيع أن يكلف أحد الصحابة بقتل بعض قادة الكفر:كالوليد بن المغيرة المخزومي،أو العاص بن وائل السهمي، أو أبي جهل عمرو بن هشام، أو أبي لهب عبد العزى بن عبد المطلب، أو النضر بن الحارث،أو عقبة بن أبي معيط،أو أُبّي بن خلف،أو أُمية بن خلف...، وهؤلاء هم من أشدّ الناس أذيّة لرسول الله ،فلم يأمر أحداً من أصحابه باغتيال أحد منهم أو غيرهم من أعداء الإسلام؛فإن مثل هذا الفعل قد يُوْدي بالجماعة الإسلامية كاملة،أو يعرقل مسيرتها مدة ليست باليسيرة،كردّ فعل من أعداء الإسلام الذين يتكالبون على حربه، والنبي  لم يؤمر في هذه المرحلة باغتيالهم؛لأن الذي أرسله هو أحكم الحاكمين.
وعلى هذا يجب أن يسير الدعاة إلى الله فوق كل أرض، وتحت كل سماء، وفي كل وقت، يجب أن تكون الدعوة على حسب المنهج الذي سار عليه رسول الله  سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها، فطريق الدعوة الصحيح هو هديه والتزام أخلاقه وحكمه وتصرفاته على حسب ما أرادها ( ).
الصورة الثانية: اضطهاد سادات قريش:
رأت قريش أن تجرّب أسلوباً آخر تجمع فيه بين الترغيب والترهيب، فلترسل إلى محمد  تعرض عليه من الدنيا ما يشاء، ولترسل إلى عمه الذي يحميه تحذِّره مغبّة هذا التأييد والنصر لمحمد ، وتطلب منه أن يكف عنها محمداً ودينه( ).
جاءت سادات قريش إلى أبي طالب، فقالوا لـه: يا أبا طالب، إن لك سناً وشرفاً ومنزلة فينا، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه، وإنا والله لا نصبر على هذا، مِنْ: شَتْم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى نكفَّه عنا، أو ننازله وإيَّاك في ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين.
فعظُم على أبي طالب هذا الوعيد والتهديد الشديد، وعظم عليه فراق قومه وعداوته لهم، ولم يطب نفساً بإسلام رسول الله  لهم، ولا خذلانه، فبعث إلى رسول الله  فقال لـه: يا ابن أخي، إن قومك جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، للذي كانوا قالوا لـه، فأبقِ عليّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك.
فثبت النبي  على دعوته إلى الله، ولم تأخذه في الله لومة لائم؛ لأنه على الحق، ويعلم بأن الله سينصر دينه ويعلي كلمته، وعندما رأى أبو طالب هذا الثبات ويئس من موافقة النبي  لقريش على ترك دعوته إلى التوحيد قال:
حتى أُوسَّد في التراب دفينا
والله لن يصلوا إليك بجمعهم

وأبشر وقرّ بذاك منك عيونا( )
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة

الصورة الثالثة: مع عتبة:
بعد أن أسلم حمزة بن عبد المطلب، وعمر بن الخطاب أخذت السحائب تنقشع، وأقلق هذا الموقف الجديد مضاجع المشركين، وأفزعهم وزادهم هولاً وفزعاً تزايد عدد المسلمين، وإعلانهم إسلامهم، وعدم مبالاتهم بعداء المشركين لهم، الأمر الذي جعل رجال قريش يساومون رسول الله ، فبعث المشركون عتبة بن ربيعة ليعرض على رسول الله  أموراً لعله يقبل بعضها فيُعطَى من أمور الدنيا ما يريد.
فجاء عتبة حتى جلس إلى رسول الله ، فقال: يا ابن أخي إنك منَّا حيث قد علمت من السطة( ) في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرَّقت به جماعتهم، وسفَّهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها، قال رسول الله : ((قل أبا الوليد أسمع))، قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد به شرفاً سوّدناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً ملّكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع ردّه عن نفسك طلبنا لك الطبّ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه... حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله  يستمع منه، قال: ((أقد فرغت يا أبا الوليد؟))قال: نعم، قال: ((فاستمع مني))، قال: أفعل، فقال: بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم* حم * تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ( ). ثم مضى رسول الله  فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه، ثم انتهى رسول الله  إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: ((قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك))( ).
وفي رواية أخرى أن عتبة استمع حتى جاء الرسول  إلى قوله تعالى:
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ( )،فقام مذعوراً فوضع يده على فم رسول الله  يقول:أنشدك الله والرحم، وطلب منه أن يكفّ عنه،فرجع إلى قومه مسرعاً كأن الصواعق ستلاحقه،واقترح على قريش أن تترك محمداً وشأنه،وأخذ يرغبهم في ذلك( ).
لقد تخّير رسول الله  بفضل الله - تعالى -، ثم بحكمته العظيمة هذه الآيات من الوحي، ليعرف عتبة حقيقة الرسالة والرسول، وأن محمداً  يحمل كتاباً من الخالق إلى خلقه، يهديهم من الضلال، وينقذهم من الخبال، ومحمد  قبل غيره مكلف بتصديقه والعمل به، والوقوف عند أحكامه، فإذا كان الله  يأمر الناس بالاستقامة على أمره، فمحمد  أولى الناس بذلك، وهو لا يطلب ملكاً ولا مالاً ولا جاهاً، لقد مكّنه الله من هذا كله، فعفّ عنه وترفّع أن يمدّ يديه إلى هذا الحطام الفاني؛ لأنه صادق في دعوته، مخلص لربه، ( ).
وهذا موقف من أعظم مواقف الصبر والحكمة التي أوتيها النبي ، فهو قد ثبت وصدق في دعوته، ولم يرد مالاً، ولا جاهاً، ولا مُلكاً، ولا نكاحاً، من أجل أن يتخلّى عن دعوته، وقد اختار الكلام المناسب في الموضع المناسب، وهذا هو عين الحكمة.
الصورة الرابعة: مع أبي جهل:
قرَّر المشركون ألا يألوا جهداً في محاربة الإسلام وإيذاء النبي  ومن دخل معه في الإسلام، والتعرض لهم بألوان النكال والإيلام.
ومنذ جهر النبي  بدعوته إلى الله، وبيّن أباطيل الجاهلية، انفجرت مكة بمشاعر الغضب، وظلت عشرة أعوام تعدّ المسلمين عصاة ثائرين فزلزلت الأرض من تحت أقدامهم، واستباحت في الحرم الآمن دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وصاحبت هذه النار المشتعلة حرب من السخرية والتحقير، والاستهزاء والتكذيب، وتشويه تعاليم الإسلام، وإثارة الشبهات، وبثّ الدعايات الكاذبة، ومعارضة القرآن، والقول بأنه أساطير الأولين، ومحاولة المشركين للنبي  أن يعبد آلهتهم عاماً، ويعبدون الله عاماً! إلى غير ذلك من مفاوضاتهم المضحكة!
واتَّهموا النبيَّ  بالجنون، والسحر، والكذب والكهانة، والنبي  ثابت صابر محتسب يرجو من الله النصر لدينه، وإظهاره( ).
لقد نال المشركون من النبي  ما لم ينالوه من كثير من المؤمنين، فهذا أبو جهل يعتدي على النبي  ليعفِّر وجهه في التراب، ولكن الله حماه منه، وردَّ كيد أبي جهل في نحره، فعن أبي هريرة  قال: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: قيل: نعم. فقال: واللات والعزى، لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته، أو لأعفرنَّ وجهه في التراب، قال: فأتى رسول الله  وهو يصلي، زعم ليطأنَّ على رقبته، قال: فما فجئهم( ) منه إلا وهو ينكص على عقبيه( )، ويتقي بيديه، قال: فقيل لـه: ما لك؟ فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نار، وهولاً،وأجنحة،فقال رسول الله : ((لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً)). قال: فأنزل الله : كَلاّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى  إلى آخر السورة( ).
وقد عصم الله النبي  من هذا الطاغية ومن غيره، وصبر على هذا الأذى العظيم ابتغاء وجه الله - تعالى -، فضحّى بنفسه وماله ووقته في سبيل الله تعالى.
الصورة الخامسة: وضع السَّلا على ظهره  :
ومما أُصيب به محمد  من الأذى ما رواه ابن مسعود  قال: بينما رسول الله  يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب لـه جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سَلا( ) جزور بني فلان فيأخذه فيضعه على ظهر محمد إذا سجد، فانبعث أشقى القوم( ) فأخذه، فلما سجد النبي  وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله ، والنبي  ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية، فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي  صلاته، رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً، ثم قال: ((اللهم عليك بقريش)) ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: ((اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي مُعيط))، وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعث محمداً  بالحق لقد رأيت الذين سمّى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب، قليب بدر( ).
الصورة السادسة: مع عقبة
ومن أشد ما صنع به المشركون  ما رواه البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير ، قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشدّ ما صنع المشركون برسول الله ؟ قال: بينما رسول الله  يصلي في حجر الكعبة، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله  ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر، فأخذ بمنكبه، ودفعه عن رسول الله  وقال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ ( ).
وقد اشتدّ أذى المشركين لرسول الله  ولأصحابه، حتى جاء بعض الصحابة إلى رسول الله  يستنصره، ويسأل منه الدعاء والعون، ولكن النبي الحكيم واثق بنصر الله وتأييده، فإن العاقبة للمتقين.
عن خباب بن الأرتِّ  قال: شكونا إلى رسول الله  وهو متوسِّد بردة لـه في ظل الكعبة، [ولقد لقينا من المشركين شِدّة]، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان من قبلكم يُؤخذ الرجل فيُحفر لـه في الأرض فيُجعل فيها، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه فيُجعل نصفين، ويُمشَّط بأمشاط الحديد [ما دون عظامه من لحم أو عصب]، فما يصدّه ذلك عن دينه، والله ليُتَمَّنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون))( ).
وهكذا اشتدّ أذى قريش على رسول الله  وعلى أصحابه، وما ذلك كله إلا من أجل إعلاء كلمة الله، والصدع بالحق، والثبات عليه، والدعوة إلى التوحيد الخالص، ونبذ عادات الجاهلية وخرافاتها ووثنيتها.
الصورة السابعة: مع زوجة أبي لهب:
لقي النبي  أشدّ الأذى، ووصل الأمر إلى تغيير اسمه  احتقاراً لـه ولدينه، وحسداً وبُغضاً لـه، فقد كان المشركون من قريش من شدة كراهتهم للنبي  لا يُسمّونه باسمه الدال على المدح فيعدلون إلى ضده، فيقولون: مُذمَّم، وإذا ذكروه بسوء قالوا: فعل الله بمذمم، ومذمم ليس هو اسمه ولا يعرف به، فكان الذي يقع منهم في ذلك مصروفاً إلى غيره بحمد الله تعالى( ).
قال النبي : ((ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش، ولعنهم؟! يشتمون مذمماً، ويلعنون مُذمماً، وأنا محمد))( ).
والنبي  لـه خمسة أسماء ليس منها مُذَمَم( ).
جاءت أم جميل زوجة أبي لهب - حين سمعت ما أنزل الله فيها وفي زوجها من القرآن - إلى رسول الله  وهو جالس في المسجد عند الكعبة، ومعه أبو بكر الصديق، وفي يدها ملء الكف من حجارة، فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله  فلا ترى إلا أبا بكر، فقالت: يا أبا بكر! أين صاحبك؟ قد بلغني أنه يهجوني، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه، أما والله إني لشاعرة، ثم قالت:
مُذَمماً عصينا وأمره أبينا ودينه قلينا( )
استمر المشركون في إلحاق الأذى برسول الله  وبأصحابه الذين أسلموا وبعد أن زاد عدد المسلمين وكثر ازداد حنق المشركين على المسلمين، وبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء، ولما رأى رسول الله  ذلك، ورأى أنه في حماية الله ثم عمه أبي طالب، وهو لا يستطيع أن يمنع المسلمين مما هم فيه من العذاب - فقد مات منهم من مات، وعُذّب من عُذّب حتى عمي وهو تحت العذاب - فأذن رسول الله لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فكان أهل هذه الهجرة الأولى اثني عشر رجلاً، وأربع نسوة، ورئيسهم عثمان بن عفان ، ذهبوا فوفَّق الله لهم ساعة وصولهم إلى الساحل سفينتين، فحملوهم فيها إلى أرض الحبشة، وكان ذلك في رجب، في السنة الخامسة من البعثة، وخرجت قريش في آثارهم حتى جاءوا البحر فلم يدركوا منهم أحداً، ثم بلغ هؤلاء المهاجرين أن قريشاً قد كفّوا عن النبي  فرجعوا إلى مكة من الحبشة، وقبل وصولهم مكة بساعة من نهار بلغهم أن الخبر كذب، وأن قريشاً أشد ما كانوا عداوة لرسول الله  فدخل من دخل مكة بجوار، وكان من الداخلين ابن مسعود ، ووجد أن ما بلغهم من إسلام أهل مكة كان باطلاً، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار - كابن مسعود -أو مستخفياً، ثم اشتد البلاء من قريش على من دخل مكة من المهاجرين وغيرهم، ولقوا منهم أذىً شديداً، فأذن لهم رسول الله  في الخروج إلى الحبشة مرة ثانية، وكان عدد من خرج في هذه المرة الثانية ثلاثة وثمانين رجلاً، إن كان فيهم عمار بن ياسر، ومن النساء تسع عشرة امرأة، فكان المهاجرون في مملكة أصحمة النجاشي آمنين، فلما علمت قريش بذلك أرسلت للنجاشي بهدايا وتحف ليردّهم عليهم، فمنع ذلك عليهم، ورد عليهم هداياهم، وبقي المهاجرون في الحبشة آمنين حتى قدموا إلى رسول الله  عام خيبر( ).
الصورة الثامنة: حبسه  في الشعب:
ولما رأت قريش انتشار الإسلام، وكثرة من يدخل فيه، وبلغها ما لقي المهاجرون في بلاد الحبشة، من: إكرام وتأمين، مع عودة وفدها خائباً، اشتد حنقها على الإسلام، وأجمعوا على أن يتعاقدوا على بني هاشم، وبني عبد المطلب، وبني عبد مناف، وأن لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله ، وكتبوا بذلك صحيفة وعلّقوها في سقف الكعبة، فانحاز بنو هاشم، وبنو عبد المطلب مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب، فإنه بقي مظاهراً لقريش على رسول الله  وعلى بني هاشم، وبني عبد المطلب.
وحُبِسَ رسول الله  في شعب أبي طالب ليلة هلال محرم، سنة سبع من البعثة، وبقوا محصورين محبوسين، مضيقاً عليهم جداً، مقطوعاً عنهم الطعام والماء نحو ثلاث سنين حتى بلغهم الجهد، وسُمِعَ أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب، ثم أطلع الله رسوله على أمر الصحيفة، وأنه أرسل عليها الأرضة فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله ، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أن محمداً قد قال كذا وكذا، فإن كان كاذباً خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت، فأنزلوا الصحيفة، فلما رأوا الأمر كما أخبر به رسول الله  ازدادوا كفراً إلى كفرهم، وخرج رسول الله  ومن معه من الشعب بعد عشرة أعوام من البعثة، ومات أبو طالب بعد ذلك بستة أشهر، وماتت خديجة بعده بثلاثة أيام، وقيل غير ذلك( ).
ولما نُقِضَت الصحيفة وافق موت أبي طالب موت خديجة وبينهما زمن يسير، فاشتد البلاء على رسول الله  من سفهاء قومه، وتجرؤوا عليه فكاشفوه بالأذى، فازدادوا غمّاً على غمٍّ حتى يئس منهم، وخرج إلى الطائف رجاء أن يستجيبوا لدعوته أو يؤووه أو ينصروه على قومه، فلم ير من يؤوي، ولم ير ناصراً، وآذوه مع ذلك أشد الأذى، ونالوا منه ما لم ينله قومه( ).
الصورة التاسعة: مع أهل الطائف:
في شوال،من السنة العاشرة بعد النبوة،خرج النبي  إلى الطائف لعله يجد في ثقيف حسن الإصغاء لدعوته والانتصار لها،وكان معه زيد بن حارثة مولاه، وكان في طريقه كلما مرَّ على قبيلة دعاهم إلى الإسلام، فلم تُجِبْه واحدة منها.
عندما وصل إلى الطائف عمد إلى رؤسائها فجلس إليهم، ودعاهم إلى الإسلام، فردوا عليه رداً قبيحاً، وأقام رسول الله  بين أهل الطائف عشرة أيام، لا يدع أحداً من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فقالوا: اخرج من بلادنا، وأغروا به سفهاءهم وصبيانهم، فلما أراد الخروج تبعه هؤلاء السفهاء واجتمعوا عليه صَفَّين يرمونه بالحجارة، وبكلمات من السَّفه، ورجموا عراقيبه حتى اختضب نعلاه بالدماء، وكان زيد بن حارثة  يقيه بنفسه حتى أصابه شجاج في رأسه، ورجع رسول الله  من الطائف إلى مكة محزوناً، كسير القلب، وفي طريقه إلى مكة أرسل الله إليه جبريل ومعه ملك الجبال يستأمره أن يطبق الأخشبَيْن على أهل مكة، وهما جبلاها اللذان هي بينهما( ).
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله : يا رسول الله هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ فقال: ((لقد لقيت من قومك [ما لقيت]، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال( )، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أسْتَفِق إلا بقرن الثعالب( )، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني: فقال: إن الله  قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم عليّ، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك فما شئت( )؟ إن شئت أن أُطْبِق عليهم الأخشبين )). فقال لـه رسول الله : ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً))( ).
وفي هذا الجواب الذي أدلى به رسول الله  تتجلى شخصيته الفذة، وما كان عليه من الخلق العظيم الذي أمدّه الله به.
وفي ذلك بيان شفقته على قومه، ومزيد صبره وحلمه، وهذا موافق لقوله تعالى: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لـَهُمْ ( )، وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ( ). فصلوات الله وسلامه عليه( ).
وأقام  بنخلة أياماً، وصمّم على الرجوع إلى مكة، وعلى القيام باستئناف خطته الأولى في عرض الإسلام، وإبلاغ رسالة الله الخالدة، بنشاط جديد، وجدٍّ وحماسٍ، وحينئذ قال لـه زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟ فَرُوي عنه( ) أنه قال: ((يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه، ومظهر نبيه)).
ثم سار حتى وصل إلى مكة فأرسل رجل من خزاعة إلى مطعم بن عدي ليدخل في جواره، فقال مطعم: نعم، ودعا بنيه وقومه فقال: البسوا السلاح، وكونوا عند أركان البيت، فإني قد أجرت محمداً، فدخل رسول الله  ومعه زيد بن حارثة حتى انتهى إلى المسجد الحرام، فقام المُطْعمُ بن عدي على راحلته فنادى: يا معشر قريش إني قد أجرت محمداً فلا يهجه أحد منكم، فانتهى رسول الله  إلى الركن فاستلمه وصلى ركعتين، وانصرف إلى بيته، والمطعم بن عدي وولده محدقون به بالسلاح حتى دخل بيته( ).
وفي هذه المواقف العظيمة التي وقفها النبي  في رحلته إلى الطائف دليل واضح على تصميمه الجازم في الاستمرار في دعوته، وعدم اليأس من استجابة الناس لها، وبَحَثَ عن ميدان جديد للدعوة، بعد أن قامت الحواجز دونها في الميدان الأول.
وفي ذلك دليل على أن النبي  كان أستاذاً في الحكمة، وذلك؛ لأنه حينما قدم الطائف اختار الرؤساء وسادة ثقيف في الطائف وقد علم أنهم إذا أجابوه أجابت كل قبائل أهل الطائف.
وفي سيل الدماء من قدمي النبي  - وهو النبي الكريم - أكبر مثل لما يتحمله الداعية في سبيل الله من أذى واضطهاد.
وفي عدم دعائه على قومه، وعلى أهل الطائف، وعدم موافقة ملك الجبال في إطباق الأخْشَبيْن على أهل مكة أكبر مثل لما يتحمله الداعية في صبره على من ردّ دعوته، وعدم اليأس من هدايتهم، فربما يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً.
ومن حكمته  أنه لم يدخل مكة إلا بعد أن دخل في جوار المُطْعم بن عدي، وهكذا ينبغي للداعية أن يبحث عمن يحميه من كيد أعدائه؛ ليقوم بدعوته على الوجه المطلوب( ).
الصورة العاشرة: مع أهل الأسواق والمواسم:
باشر النبي  دعوته في مكة بعد عودته من الطائف في شهر ذي القعدة سنة عشر من النبوة، فبدأ يذهب إلى المواسم التي تقام في الأسواق مثل: عكاظ، ومجنة، وذي مجاز، وغيرها، التي تحضرها القبائل العربية للتجارة والاستماع لما يُلقى فيها من الشعر، ويعرض نفسه على هذه القبائل يدعوها إلى الله - تعالى -، وجاء موسم الحج لهذه السنة فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم الإسلام كما كان يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة.
ولم يكتف رسول الله  بعرض الإسلام على القبائل فحسب، بل كان يعرضه على الأفراد أيضاً.
وكان  يرغب جميع الناس بالفلاح، فعن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، قال: أخبرني رجل يقال لـه: ربيعة بن عباد، من بني الديل، وكان جاهليّاً، قال: رأيت النبي  في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول: ((يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا))، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول، ذو غديرتين، يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب، فسألت عنه، فذكروا لي نسب رسول الله  وقالوا: هذا عمه أبو لهب( ).
وقد كانت الأوس والخزرج يحجّون كما تحجّ العرب دون اليهود، فلما رأى الأنصار أحواله  ودعوته، عرفوا أنه الذي تتوعدهم به اليهود، فأرادوا أن يسبقوهم؛ ولكنهم لم يبايعوا النبي  في هذه السنة، ورجعوا إلى المدينة( ).
وفي موسم الحج من السنة الحادية عشرة من النبوة، عرض النبي  نفسه على القبائل، وبينما الرسول  يعرض نفسه، مر بعقبة مِنَى فوجد بها ستة نفر من شباب يثرب، فعرض عليهم الإسلام، فأجابوا دعوته، ورجعوا إلى قومهم وقد حملوا معهم رسالة الإسلام حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله ( ).
ثم استدار العام وأقبل الناس إلى الحج في السنة الثانية عشرة من النبوة، وكان من بين حجاج يثرب اثنا عشر رجلاً، فيهم خمسة من الستة الذين كانوا قد اتصلوا برسول الله  في العام السابق، والتقوا حسب الموعد مع رسول الله  عند العقبة بمنى، وبايعوا رسول الله  بيعة النساء( ).
عن عبادة بن الصامت  أن رسول الله  قال وحوله عصابة من أصحابه: ((تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتانٍِ تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروفٍ، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو لـه كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فأمره إلى الله: إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عنه)) فبايعناه على ذلك( ).
وبعد أن انتهت المبايعة، وانتهى الموسم بعث النبي  مع هؤلاء مصعب بن عمير  ليعلّم المسلمين شرائع الإسلام؛ وليقوم بنشر الإسلام، وقد قام بذلك  أتم قيام، وفي موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة حضر لأداء الحج من يثرب ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان، وكلهم قد أسلموا.
فلما قدموا مكة واعدوا النبي  عند العقبة، وجاءهم على موعدهم، ثم تكلم رسول الله ، ثم قالوا: يا رسول الله، على ما نبايعك؟ فقال: ((تبايعوني على: السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة ))( )، فقاموا إليه فبايعوه.
وبعد عقد هذه البيعة جعل عليهم رسول الله  اثني عشر زعيماً، يكونون نقباء على قومهم، وكانوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس، ثم رجعوا إلى يثرب، وعندما وصلوا أظهروا الإسلام فيها، ونفع الله بهم في الدعوة إلى الله تعالى( ).
وبعد أن تمت بيعة العقبة الثانية ونجح النبي  في تأسيس وطن للإسلام، انتشر الخبر في مكة كثيراً، وثبت لقريش أن النبي  قد بايع أهل يثرب، فاشتد أذاهم على من أسلم في مكة، فأمر النبي  بالهجرة إلى المدينة، فهاجر المسلمون، فاجتمع قريش في السادس والعشرين من شهر صفر في السنة الرابعة عشرة من النبوة، وأجمعوا على قتل النبي ، فأوحى الله إلى النبي  بذلك؛ ولحسن سياسته وحكمته أمر علياً أن يبيت في فراشه تلك الليلة، فبقي المشركون ينظرون إلى علي من صِير الباب( )، وخرج رسول الله ، ومرّ بأبي بكر، وهاجر إلى المدينة( ).
وهذه المواقف العظيمة التي وقفها رسول الله  دليل واضح على حكمة النبي ،وعلى صبره،وشجاعته،وأنه  حينما علم بأن قريشاً قد طغت، ورفضت الدعوة بحث عن مكان يتخذ فيه قاعدة للدعوة الإسلامية، ولم يكتف بذلك، بل أخذ منهم البيعة والمعاهدة على نصرة الإسلام، وتم ذلك في مؤتمرين:بيعة العقبة الأولى، ثم الثانية، وعندما وجد مكان الدعوة الذي يتخذ قاعدة لها، ووجد أنصار الدعوة أذن بالهجرة لأصحابه، وأخذ هو بالأسباب عندما تآمرت عليه قريش، وهذا لا يعتبر جبناً، ولا فراراً من الموت؛ ولكن يعتبر أخذاً بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، وهذه السياسة الحكيمة من أسباب نجاح الدعوة، وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة إلى الله، فإن النبي  هو قدوتهم وإمامهم( ).
الصورة الحادية عشرة: جرح وجهه وكسرت رباعيته  :
وعن سهل بن سعد  أنه سُئلَ عن جرح النبي  يوم أحد فقال: جُرِحَ وجه النبي  وكُسِرَت رباعيته، وهُشِمَت البيضة على رأسه، فكانت فاطمة رضي الله عنها تغسل الدم، وعليٌّ  يمسك، فلما رأت الدم لا يرتد إلا كثرة أخذت حصيراً فأحرقته حتى صار رماداً ، ثم ألزقته فاستمسك الدم( ).
وقد حصل لـه هذا الأذى العظيم الذي ترتج لعظمته الجبال، هو نبي الله  ولم يدع على قومه، بل دعا لهم بالمغفرة، لأنهم لا يعلمون.
فعن عبد الله بن مسعود  قال: كأني أنظر إلى رسول الله  يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه، ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ))( ).
فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وعلى رأسهم محمد  قد كانوا( ) على جانب عظيم من الحلم والتصبر، والعفو والشفقة على قومهم ودعائهم لهم بالهداية والغفران، وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون( )، قال النبي : ((اشتد غضب الله على قوم فعلوا هذا برسول الله ))، وهو حينئذ يشير إلى رباعيته، ((اشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله  في سبيل الله  ))( ).
وفي إصابة النبي  يوم أحد عزاء للدعاة فيما ينالهم في سبيل الله من أذى في أجسامهم، أو اضطهاد لحرياتهم، أو قضاء على حياتهم، فالنبي  هو القدوة قد أوذي وصبر( ).
المطلب الثاني: صور من شجاعته وإقدامه 
لاشك أن الشجاعة صبر في ساحات القتال والوغى، وفيها ضبط النفس عن مثيرات الخوف حتى لا يجبن الإنسان في المواضع التي تحسن فيها الشجاعة ويقبح فيها الجبن ويكون شراً، ومن هذه الصور يجد الإنسان أن النبي  خير قدوة وخير مثال في ذلك؛ ولهذا جاهد في سبيل الله: بالقلب، واللسان، والسيف، والسنان، والدعوة والبيان، فقد أرسل ستاً وخمسين سرية وقاد بنفسه سبعاً وعشرين غزوة، وقاتل في تسع من غزواته، ومن ذلك الصور الآتية( ):
الصورة الأولى: شجاعته  في معركة بدر الكبرى:
من مواقفه التي تزخر بالحكمة في هذه الغزوة أنه  استشار الناس قبل بدء المعركة؛ لأنه  يريد أن يعرف مدى رغبة الأنصار في القتال؛ لأنه شُرِطَ لـه في البيعة أن يمنعوه في المدينة مما يمنعون منه أنفسهم وأموالهم وأبناءهم وأزواجهم، أما خارج المدينة فلم يحصل أي شرط، فأراد  أن يستشيرهم، فجمعهم  واستشارهم، فقام أبو بكر  فقال وأحسن، ثم عمر بن الخطاب  فقال وأحسن، ثم استشارهم ثانياً، فقام المِقْدَاد فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، [نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، ومن بين يديك، ومن خلفك، ثم استشار الناس ثالثاً، ففهمت الأنصار أنه يعنيهم، فبادر سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله كأنك تريدنا]، وكان النبي  يعنيهم، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخروج استشارهم؛ ليعلم ما عندهم، فقال لـه سعد: لعلك تخشى أن تكون الأنصار ترى حقاً عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم: فاظعن حيث شئت، وصِلْ حَبْل من شئت، واقطع حبل من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرتنا فيه من أمر فأمرنا تبع لأمرك، فوالله لئن سرت حتى تبلغ البرك من غمدان لنسيرنَّ معك، والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فَخُضْتَهُ لخضناه معك، ما تخلّف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدواً غداً، إنا لَصُبُرٌ في الحرب، صُدقٌ في اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، فأشرق وجه رسول الله  وسُرَّ بما سمع، ونشَّطه ذلك، ثم قال: ((سيروا وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، ولكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم))( ).
ومن مواقفه العظيمة في بدر: اعتماده على ربه - تبارك وتعالى - لأنه قد علم أن النصر لا يكون بكثرة العدد ولا العدة، وإنما يكون بنصر الله  مع الأخذ بالأسباب والاعتماد على الله .
عن عمر بن الخطاب  قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله  إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله  القبلة، ثم مدَّ يديه، فجعل يهتف بربه( ): ((اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض))، فمازال يهتف بربه، مادّاً يديه، مستقبل القبلة، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله كفاك مناشدة ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله : إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْـمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ( ) فأمدّه الله بالملائكة( ).
وقد خرج رسول الله  من العريش وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْـجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ( ).
وقاتل  في المعركة، وكان من أشدِّ الخلق وأقواهم وأشجعهم، ومعه أبو بكر  كما كانا في العريش يُجاهِدان بالدعاء والتضرع، ثم نزلا فحرضا،وحثا على القتال،وقاتلا بالأبدان جمعاً بين المقامين الشريفين( ).
وكان أشجع الناس الرسول ، فعن علي بن أبي طالب  قال: ((لقد رأَيْتُنَا يوم بدر، ونحن نلوذ برسول الله  وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً))( ).
وعنه  قال: ((كنا إذا حمي البأس، ولقي القوم القوم اتقينا برسول الله  فلا يكون أحدنا أدنى إلى القوم منه))( ).
الصورة الثانية: شجاعته  في غزوة أحد:
من مواقفه في الشجاعة أيضاً، وصبره على أذى قومه ما فعله  في غزوة أحد، فقد كان يقاتل قتالاً عظيماً؛ فإن الدولة كانت أول النهار للمسلمين على المشركين، فانهزم أعداء الله وولَّوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم، فلما رأى الرماة هزيمتهم تركوا مركزهم الذي أمرهم رسول الله  بحفظه، وذلك أنهم ظنوا أنه ليس للمشركين رجعة، فذهبوا في طلب الغنيمة، وتركوا الجبل فكرّ فرسان المشركين فوجدوا الثغر خالياً قد خلا من الرُّماة فجازوا منه، وتمكنوا حتى أقبل آخرهم فأحاطوا بالمسلمين، فأكرم الله من أكرم منهم بالشهادة، وهم سبعون، وتولَّى الصحابة، وخلص المشركون إلى رسول الله  فجرحوا وجهه، وكسروا رباعيَّته اليمنى، وكانت السفلى، وهشموا البيضة على رأسه، وقاتل الصحابة دفاعاً عن رسول الله ( ).
وكان حول النبي  رجلان من قريش،وسبعة من الأنصار، فقال  لما رهقوه، وقربوا منه:((من يردّهم عنَّا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة))، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتِلَ،ثم رهقوه أيضاً فقال:((من يردّهم عنَّا وله الجنة))،فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قُتِلَ،فلم يزل كذلك حتى قُتِلَ السبعة،فقال رسول الله  لصاحبيه:((ما أنصفنا أصحابنا))( ).
وعندما اجتمع المسلمون،ونهضوا مع النبي  إلى الشعب الذي نزل فيه،وفيهم أبو بكر،وعمر،وعلي،والحارث بن الصّمة الأنصاري وغيرهم، فلما استندوا إلى الجبل أدرك رسولَ الله  أُبَيُّ بن خلف، وهو على جواد لـه،ويقول:أين محمد، لا نجوت إن نجا؟ فقال القوم:يا رسول الله، أيعطف عليه رجل منا،فأمرهم رسول الله  بتركه،فلما دنا منه تناول رسول الله  الحربة من الحارث بن الصمة،فلما أخذها منه انتفض انتفاضة تطايروا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انتفض،ثم استقبله وأبصر ترقوته من فرجةٍ بين سابغة الدرع والبيضة،فطعنه فيها طعنة تدحرج منها عن فرسه مراراً،فلما رجع عدو الله إلى قريش وقد خدشه في عنقه خدشاً غير كبير...قال:قتلني والله محمد،فقالوا لـه:ذهب والله فؤادك والله إن بك من بأس،قال:إنه قد قال لي بمكة:أنا أقتلك، فوالله لو بصق عليَّ لقتلني،فمات عدو الله بسرف،وهم قافلون إلى مكة( ).
الصورة الثالثة: شجاعته  في معركة حنين
بعد أن دارت معركة حنين والتقى المسلمون والكفار، ولَّى المسلمون مدبرين( )، فطفق رسول الله  يركض بغلته قِبَلَ الكفار... ثم قال: ((أي عباس، ناد أصحاب السمرة )) فقال عباس- وكان رجلاً صيِّتاً-: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السمرة؟ قال: فوالله لكأن عَطْفَتهم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك، قال: فاقتتلوا والكفار... فنظر رسول الله  وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم، فقال : ((الآن حمي الوطيس))( ).
وظهرت شجاعة النبي  التي لا نظير لها في هذا الموقف الذي عجز عنه عظماء الرجال( ).
وسئل البراء، فقال لـه رجل: يا أبا عمارة، أكنتم وليتم يوم حنين؟ قال: لا والله ما ولّى رسول الله ، ولكنه خرج شبان أصحابه( ) وأخفاؤهم( ) حسراً( ) ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح،فلقوا قوماً رماة لا يكاد يسقط لهم سهم،جمع هوازن،وبني نصر،فرشقوهم رشقاً( )،ما يكادون يخطئون،فانكشفوا،فأقبل القوم إلى رسول الله  وأبو سفيان بن الحارث يقود بغلته، فنزل ودعا واستنصر وهو يقول:
أنا النبيُّ لا كَذِبْ
أنا ابنُ عبدِ المطّلبْ

اللهم نزِّل نصرك( )

قال البراء: كُنَّا والله إذا احمرّ البأس( ) نتَّقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي ( ).
وفي رواية لمسلم عن سلمة قال: مررت على رسول الله  منهزماً( )، وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله : ((لقد رأى ابن الأكوع فزعاً)). فلما غشوا رسول الله  نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: ((شاهت الوجوه))( )، فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولَّوْا مدبرين، فهزمهم الله، وقسم رسول الله  غنائمهم بين المسلمين( ).
وقد قال العلماء: إن ركوب النبي  البغلة في موضع الحرب، وعند اشتداد البأس هو النهاية في الشجاعة والثبات؛ ولأنه أيضاً يكون معتمداً يرجع الناس إليه، وتطمئن قلوبهم به وبمكانه، وإنما فعل هذا عمداً، وإلا فقد كانت لـه  أفراس معروفة.
ومما يدلّ على شجاعته تقدمه  وهو يركض بغلته إلى جمع المشركين، وقد فرَّ الناس عنه، ونزوله إلى الأرض حين غشوه مبالغة في الشجاعة والصبر، وقيل: فعل ذلك مواساة لمن كان نازلاً على الأرض من المسلمين، وقد أخبر الصحابة  بشجاعته  في جميع المواطن( ).
الصورة الرابعة: شجاعته  في الحماية لأصحابه:
روى البخاري ومسلم، عن أنس  قال:كان النبي  أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فَزِعَ أهل المدينة ذات ليلةٍ، فانطلق الناس قَبِلَ الصوت، فاستقبلهم النبي  قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول:((لم تراعوا، لم تراعوا))،وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج،في عنقه سيف،فقال:((لقد وجدته بحراً،أو إنه لبحر))( ).
وهذا المثال وغيره من الأمثلة السابقة تدل دلالة واضحة على أن النبي  أشجع إنسان على الإطلاق، فلم يكتحل الوجود بمثله ، وقد شهد لـه بذلك الشجعان الأبطال( ).
قال البراء : ((كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني النبي ))( ).
وقال أنس في الحديث السابق: ((كان النبي  أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس...))( ).
الصورة الخامسة: شجاعته  العقلية:
كانت هذه الشواهد السابقة لشجاعته القلبية، أما شجاعته العقلية فسأكتفي بشاهدٍ واحدٍ؛ فإنه يكفي عن ألف شاهد ويزيد، وهو موقفه من تعنّت سهيل بن عمرو، وهو يملي وثيقة صلح الحديبية، إذْ تنازل  عن كلمة (( بسم الله الرحمن الرحيم )) إلى باسمك اللهم، وعن كلمة ((محمد رسول الله )) إلى كلمة: محمد بن عبد الله، وقبوله شرط سهيل على أن لا يأتي النبي  رجل من قريش حتى ولو كان مسلماً إلاّ ردّه إلى أهل مكة، وقد استشاط الصحابة غيظاً، وبلغ الغضب حدًّا لا مزيد عليه، وهو  صابر ثابت حتى انتهت الوثيقة، وكان بعد أيام فتحاً مبيناً.
فضرب  بذلك المثل الأعلى في الشجاعتين: القلبية، والعقلية، مع بُعد النظر، وأصالة الرأي، وإصابته؛ فإن من الحكمة أن يتنازل الداعية عن أشياء لا تضرّه بأصل قضيته لتحقيق أشياء أعظم منها( ).
وجميع ما تقدم من نماذج من شجاعته  وثباته، وهذا نقطة من بحر، وإلا فإنه لو كُتِبَ في شجاعته  بالاستقصاء لكُتِبَ مجلدات، فيجب على كل مسلم، وخاصة الدعاة إلى الله  أن يتخذوا الرسول  قدوةًَ في كل أحوالهم وتصرفاتهم، وبذلك يحصل الفوز والنجاح، والسعادة في الدنيا والآخرة، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا ( ).
المطلب الثالث: صور من صبر الصحابة 
الصحابة  لهم مواقف كثيرة جدًّا لا يستطيع أحد أن يحصرها؛ لأنهم  باعوا أنفسهم، وأموالهم وحياتهم لله، ابتغاء مرضاته، وخوفاً من عقابه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة.
ومن درس حياتهم، ونظر إلى تطبيقاتهم للإسلام قولاً، وعملاً، واعتقاداً ازداد إيماناً، وأحبهم؛ فيحصل لـه بذلك محبة الله تعالى.
الصورة الأولى: صبر بلال:
بلال بن رباح  كان يعذبه أمية بن خلف على توحيده وإيمانه بالله
- تعالى - وقد عذّبه أشد العذاب، ومن ذلك أن أمية كان يُخرجُ بلالاً إذا حميت الشمس في الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصّخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فيقول وهو في ذلك البلاء: أَحدٌ أحدٌ، فمر به أبو بكر فاشتراه. وهذه الكلمة التي زعزعت كيان أمية بن خلف( ).
الصورة الثانية: صبر آل ياسر:
وهذا عمار بن ياسر، وأبوه ياسر، وأمه سُميّة  يُعذبون أشد العذاب من أجل إيمانهم بالله - تعالى -، فلم يردَّهم ذلك العذاب عن دينهم؛ لأنهم صدقوا مع الله فصدقهم الله - تعالى - ولهذا قيل لهم: (( صبراً آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة ))( ) فرضي الله عنهم وأرضاهم( ).
الصورة الثالثة: صبر صُهيب:
وهذا صُهيب الرومي  أراد الهجرة فمنعه كفار قريش أن يُهاجر بماله، وإن أحب يتجرّد من ماله كلِّه ويدفعه إليهم تركوه وما أراد، فأعطاهم ماله ونجا بدينه مهاجراً إلى الله ورسوله، وأنزل الله : وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ الله وَالله رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ( )، فتلقاه عمر بن الخطاب  وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا لـه: ربح البيع. فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية( ).
الصورة الرابعة: صبر أبي سلمة وزوجته:
وهذا عبد الله بن عبد الأسد أبو سلمة وزوجته أم سلمة رضي الله عنهما يصبران على البلاء العظيم ويقفان الموقف الحكيم الذي يدل على صدقهما مع الله( ).
كان أبو سلمة أول من هاجر من مكة إلى المدينة، قبل العقبة الثانية بسنة تقريباً.
بعد أن رجع أبو سلمة وزوجته أم سلمة من الهجرة إلى الحبشة آذته قريش، وعلم بإسلام من أسلم من الأنصار، فقرر الهجرة إلى المدينة - فراراً بدينه - فحمل زوجته أم سلمة، وابنهما سلمة وقاد بهما راحلته وخرج متجهاً إلى المدينة وقبل أن يخرج من مكة لحقه رجال من بني مخزوم فقالوا لـه: هذه نفسك غلبتنا عليها أرأيتك صاحبتك هذه عَلامَ نتركك تسير بها في البلاد؟ ونزعوا خطام البعير من يده، وأخذوا الراحلة وعليها أم سلمة وابنه سلمة، وغضب لذلك رجال من بني عبد الأسد وقالوا: والله لا نترك ابننا عندها إذا نزعتموها من بني صاحبنا فتجاذب بنو مخزوم وبنو عبد الأسد الطفل حتى خُلِعَت يده، وأخذه بنو عبدالأسد وحبس بنو المغيرة أم سلمة عندهم، وانطلق أبو سلمة إلى المدينة هارباً بدينه. قالت أم سلمة: ففرَّقوا بيني وبين زوجي وبيني وبين ابني، فكنت أخرج كل غداة إلى الأبطح فما أزال أبكي حتى أمسي، وذلك سنة أو قريباً منها حتى مرّ بي رجل من بني عمي - أحد بني المغيرة - فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تخرجون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين زوجها، وبينها وبين ولدها؟ قالت: فقالوا لي: الحقي بزوجك إن شئت، قالت: وردّ بنو عبد الأسد عند ذلك ابني فارتحلت ببعيري ثم أخذت ابني فوضعته في حجري ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة وما معي أحد من خلق الله( ).
الله أكبر ما أعظم هذا الموقف وما أحكمه: فقد ترك أبو سلمة زوجته وابنه، وماله، وهاجر بنفسه تاركاً نصفه وراءه من أجل دينه ويتجاذب بنو عبد الأسد وبنو المغيرة بن أم سلمة،ويخلعون يده وهي تنظر، وتحبس من أجل دينها،وتبكي كل يوم في الأبطح سنة أو قريباً منها، إنه موقف عظيم وبلاء كبير أسفر عن قوة الإيمان والصدق مع الله،فنسأل الله العافية في الدنيا والآخرة،ورضي الله عن أبي سلمة وزوجته وأرضاهما، فقد جاهدا في الله، وأُوذيا في الله، وصبرا في الله، والله المستعان.
الصورة الخامسة: صبر عبد الله بن حذافة:
وعندما ينظر الإنسان في موقف عبد الله بن حذافة بن قيس  عندما حاول ملك الروم أن يصدّه عن دينه يرى الموقف الحكيم، والرجل العظيم!
وجَّه عمر بن الخطاب  جيشاً إلى الروم، فأسروا عبد الله بن حذافة، فذهبوا به إلى مَلِكِهم، فقالوا: إن هذا من أصحاب محمد. فقال: هل لك أن تتنصَّر وأُعطيك نصف ملكي؟ قال: لو أعطيتني جميع ما تملك، وجميع ما تملك، وجميع ملك العرب، ما رجعت عن دين محمد  طرفة عين، قال: إذاً أقتلك. قال: أنت وذاك، فأُمِرَ به فصُلِبَ وقال للرماة: ارموه قريباً من بدنه، وهو يعرض عليه ويأبى ولم يجزع، فأنزله، وأمر بقدر فصُبَّ فيه ماء وأُغليَ عليه حتى احترقت، ودعا بأسيريْنِ من المسلمين، فأمر بأحدهما، فأُلقي فيها فإذا عظامه تلوح، وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى، فأمر بإلقائه في القدر إن لم يتنصّر، فلما ذهبوا به بكى، فقيل للمَلِك: إنه بكى، فظن أنه قد جزع، فقال: رُدُّوه، فقال: ما أبكاك؟ قال: قلت هي نفس واحدة تُلقى الساعة فتذهب فكنت أشتهي أن يكون بعدد شعري أنفس تُلقى في النار في الله، فتعجب الطاغية فقال لـه: هل لك أن تُقبّل رأسي وأُخلِّي عنك؟ فقال لـه عبد الله: وعن جميع أسارى المسلمين؟ قال: نعم، فقبّل رأسه، فخلّى عنهم، وقدم بالأسارى على عمر، فأخبره خبره. فقال عمر: حقٌّ على كلِّ مسلم أن يُقبِّل رأس عبد الله بن حذافة، وأنا أبدأُ. فقبَّل رأسه( ).
هذا موقف عظيم حكيم؛ فإن عبد الله  ثبت على دينه، ولم يقبل سواه، ولو أُعطي ملك كسرى ومثله معه، وملك العرب جميعاً، ثم لصدقه مع الله لم يجزع من الرّماة عندما رموه وهو مصلوب، ولم يجزع من القِدْرِ والماء المغليّ وقد رأى من يُلقى في النار من الأسرى وعظامه تلوح، ومع ذلك تمنَّى أن يكون لـه عدد شعره من الأنفس تعذب في الله ومن أجل الله، وعندما رأى أن المصلحة عامة لجميع الأسرى قبَّل رأس الطاغية؛ لكي يخرج المسلمين من الأسر، وهذا من أعظم الحكم العظيمة. فرضي الله عن عبد الله بن حُذافة وأرضاه.
الصورة السادسة: صبر خبيب:
ومن هذه المواقف العظيمة التي تدل على قوة الإيمان والرغبة فيما عند الله والدار الآخرة، ما فعله الصحابي الجليل: خبيب بن عدي بن عامر  عندما أسرته كفار قريش وعذبته فثبت حتى قُتِلَ شهيداً .
قالت بعض بنات الحارث بن عامر: والله ما رأيت أسيراً قطُّ خيراً من خبيب والله لقد وجدته يوماً يأكل قِطفاً من عنبٍ في يده وإنه لمُوثَقٌ بالحديد وما بمكة من ثمرة. وكانت تقول: إنه لرزق رزقه الله خبيباً. فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل قال لهم خبيبٌ: دعوني أصلي ركعتين فتركوه فركع ركعتين فقال والله لولا أن تحسبوا أن ما بي جزعٌ لزدت. ثم قال: اللهم أحصهم عدداً, واقتلهم بَدَداً، ولا تبق منهم أحداً، ثم أنشأ يقول:
فلستُ أُبالي حين أقتلُ مسلماً
على أيِّ جنب كان لله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ
يُبارك على أوصالِ شِلوٍّ ممزّعِ

ثم قام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله، وكان خبيب هو الذي سن لكلِّ مسلم قُتِلَ صبراً الصلاة( ).
الصورة السابعة: صبر سعد بن أبي وقاص :
وهذا سعد بن أبي وقاص  تَعْرض أمه عليه أن يكفر بدين محمد ، وحلفت أن لا تكلمه، ولا تأكل ولا تشرب حتى تموت فيعيّر بها، فيقال: يا قاتل أمه! وقالت لـه: زعمت أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا. قال سعد: لا تفعلي يا أُمّه إني لا أدع ديني هذا لشيء. فبقيت ثلاثة أيام لا تأكل ولا تشرب، فلما رأى سعد بن أبي وقاص ذلك منها قال لها: يا أُمّه، تعلمين والله لو كان لك مائة نفسٍ، فخرجت نفساً نفساً، ما تركت ديني، إن شئتِ فكلي أو لا تأكلي. فلما رأت ذلك أكلت( ). قال سعد : نزلت هذه الآية فيّ: وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ( )، وقد جعل الله سعداً مستجاب الدعوة لدعوة النبي : (( اللهم استجب لسعد إذا دعاك ))( ).
الصورة الثامنة: صبر أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها:
ومن ذلك ما فعلته أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان؛أم المؤمنين رضي الله عنها، وذلك أن أباها قدم من مكة إلى المدينة يريد أن يزيد في الهدنة بينه وبين الرسول ، فلما دخل على بنته أم حبيبة رضي الله عنها وذهب ليجلس على فراش رسول الله  طوته دونه، فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني أم بي عنه؟ قالت: بل هو فراش رسول الله  وأنت امرؤ نجس مشرك، فقال: والله لقد أصابك يا بنية بعدي شر( )، قلت: والله لم يصبها إلا قوة الإيمان ومحبة الله ورسوله، فقدَّمت محبة الله ورسوله على محبة والدها المشرك ولم ترضَ أن يجلس المشرك على فراش رسول الله ، فرضي الله عن أم المؤمنين؛ فإنها لم تأخذها في الله لومة لائم، وهذا من أعظم الحكم.
والصحابة رضي الله عنهم جميعاً رجالاً ونساءً، كانت أعمالهم وحياتهم، ومماتهم لله لا يريدون، ولا يرغبون إلا ما يرضيه - تعالى - حتى ولو كان ذلك ببذل أحبّ الأشياء إليهم.
الصورة التاسعة: صبر أنس بن النضر :
عن أنس  قال: غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يارسول الله غبتُ عن أول قتال قاتلتَ فيه المشركين، والله لئن أشهدني الله قتال المشركين ليريَنّ الله ما أصنع. فلما كان يوم أحد انكشف المسلمون فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين -، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء -يعني المشركين-، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: أي سعد والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فقاتلهم حتى قتل. قال أنس: فوجدناه بين القتلى به بضع وثمانون جراحة:من بين ضربة بسيف وطعنة برمح،ورمية بسهم وقد مَثَّلوا به، فما عرفناه حتى عرفته أخته ببنانه.ونزلت هذه الآية:مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ( ). قال فكنا نقول: نزلت هذه الآية فيه وفي أصحابه( ).
الصورة العاشرة: صبر عمير بن الحُمَام :
ويدل على رغبة الصحابة  فيما عند الله ما فعل عُمير بن الحُمام في بدر حينما سمع رسول الله يقول لأصحابه: ((قومُوا إلى جَنّةٍ عرضُهَا السّموات والأرضُ )) فقال: يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض؟ قال: ((نعم )). قال: بخ بخ( )، فقال : ((ما يحملك على قولك بخ بخ؟))، قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها. قال: ((فإنك من أهلها )) فأخرج تمرات من قرنه( ) فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل من تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتل حتى قتل( ).
وهذه النماذج تدل على صبر الصحابة وحكمتهم العظيمة، وصدقهم مع الله ورغبتهم فيما عنده - سبحانه - من الثواب وزهدهم في الدنيا.
والصحابة  لهم مواقف حكيمة كثيرة لا تُحْصَى، ولكن ما ذكرته هنا من مواقفهم ما هو إلا بعض الأمثلة اليسيرة من المواقف الحكيمة التي تدل على حكمتهم ويستفيد منها الدعاة إلى الله -تعالى -.
وأسأل الله أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا. والله المستعان.


المبحث السابع: طرق تحصيل الصبر
المطلب الأول: الطرق العامة لتحصيل الصبر
لا يشك ذو مسكة عقل أن الصبر مرُّ المذاق،صعب على النفس البشرية لأنه يُعطِّلها عن مألوفاتها،ورغباتها،لذلك فلابدَّ من تعويدها عليه شيئاً فشيئاً حتى تستسيغه وتعضّ عليه بالنواجذ عند المصائب والفتن.
وسأبيّن جملة من الأمور التي تعين على الصبر، وتهوّنه على النفس، وهي على النحو الآتي:
أولاً: معرفة طبيعة الحياة الدنيا:
لعل أقرب أمر يعين الإنسان على الصبر ويحمل النفس عليه هو تصوّر الحياة التي يعيش فيها، ومعرفتها على حقيقتها وواقعها، فهي ليست جنة نعيم، ولا دار مُقامة، إنما ممرّ ابتلاء وتكليف؛ لذلك فالكَيِّس الفطن لا يفاجأ بكوارثها، فالشيء من معدنه لا يستغرب.
ولله دَرُّ القائل:
طلقوا الدنيا وخافوا الفِتَنا
إن لله عباداً فُطَنا

أنها ليست لحيٍّ وَطَنا
نظروا فيها فلما علموا

صالح الأعمال فيها سُفُنا
جعلوها لُجَّةً واتخذوا

ورب العالمين يشير إلى أن حياة الإنسان محفوفة بالمخاطر مملوءة بالمتاعب في قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ( ).
فها هي الدنيا كما وصفت لا تستقيم على حال، ولا يقر لها قرار، فيوم لك وآخر عليك، قال تعالى: إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُـهَا بَيْنَ النَّاسِ ( ).
وقد أحسن أبو البقاء الرندي القائل:
فلا يغرّ بطيب العيش إنسان
لكل شيء إذا ما تم نقصان

من سره زمان ساءته أزمان
هي الأيام كما شاهدتها دول

وليعلم العبد الصالح أنه لو فتش العالم لم يجد إلا مبتلى: إما بفوات محبوب، أو حصول مكروه، وأن سرور الدنيا أحلام نائم، وظل زائل، وسحابة صيف، إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً، وإن سرّت يوماً أساءت دهراً، وإن متّعت قليلاً، منعت طويلاً.
ثانياً: اليقين بحسن الجزاء عند الله:
إذا علم العبد أن الصابرين ينتظرهم أحسن الجزاء عند الله حين يرجعون إليه، ويقفون بيديه، فيعوضهم عن صبرهم خيراً، ويمنحهم أجراً، ويجزل لهم المثوبة، فإنه لاشك يتصبّر ويرضى بما قدّره الله.
ولا يجد المتتبع لآيات القرآن الكريم شيئاً ضُخِّمَ جزاؤه، وعُظِّم أجره مثل الصبر.
فهاهو يتحدث عن هذا الأجر بأسلوب المدح والتفخيم: نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( ).
ويُبيِّن أن جزاءهم يكون بأحسن ما كانوا يعملون: مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ
يَعْمَلُونَ ( ).
ويصرّح أن أجر الصابرين غير معدود، ورزقهم غير محدود: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ ( ).
ثالثاً: معرفة الإنسان نفسه:
الله  هو الذي منح الإنسان الحياة؛ فخلقه من عدم، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، فهو ملك لله أولاً وآخراً، لذلك فإذا نزل بالعبد نازل سلبه شيئاً مما عنده، فإنما استردّ صاحب الملك بعض ما وهب، ولا ينبغي للمودَع أن يسخط على صاحب العارية إذا استردَّها.
وصدق لبيد بن ربيعة  القائل:
ولابدّ يوماً أن تُردَّ الودائع
وما المالُ والأَهلون إلا ودائعٌ

وفي قصة أم سُلَيم مع زوجها أبي طلحة دليل واضح على فهم السلف الصالح - رضوان الله عليهم - لهذه الحقيقة حيث عرفوا أنفسهم فعرفوا مقام ربهم وقدَّروه حقَّ قدره.
عن أنس  قال: مات ابنٌ لأبي طلحة من أم سُلَيم فقالت لأهلها: لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه.
قال:فجاء فَقَرَّبَتْ إليه عشاءً فأكل وشرب، قال:ثم تَصَنَّعتْ لـه أحسن ما كان تصنَّعُ قبل ذلك،فوقع بها،فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها.
قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوماً أعاروا عاريتهم أهل بيت فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟
قال: لا.
قالت: فاحتسب ابنك.
قال: فغضب، وقال: تركتِني حتى تلطَّختُ ثم أخبرتني بابني، فانطلق حتى أتى رسول الله  فأخبره بما كان.
فقال رسول الله : ((بارك الله لكما في غابر ليلتكما )).
قال: فحملت، قال: فكان رسول الله  في سفر وهي معه، وكان رسول الله  إذا أتى المدينة من سفر لا يطرقها طُرُوقاً فدنوا من المدينة فضربها المخاض فاحتبس عليها أبو طلحة وانطلق رسول الله .
قال: يقول أبو طلحة: إنك لتعلم يا رب أنه يعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج وأدخل معه إذا دخل وقد احتبست بما ترى.
قال: تقول أم سُلَيم: يا أبا طلحة ما أجد الذي كنت أجد انطلق، فانطلقنا.
قال: فضربها المخاض حين قدما فولدت غلاماً.
فقالت لي أمي: يا أنس لا يرضعه أحد حتى تغدو به على رسـول الله ، فلما أصبح احتملته فانطلقت به إلى رسول الله  قال: فصادفته ومعه ميسم فلما رآني قال: ((لعل أم سُلَيم ولدت )).
قلت: نعم، فوضع الميسم. وقال: وجئت به فوضعته في حجره ودعا رسول الله  بعجوة من عجوة المدينة فَلاكَها في فيه حتى ذابت ثم قَذَفَها في الصبي يتلمظها. قال: فقال رسول الله : ((انظروا إلى حُبِّ الأنصار التَّمْر)).
قال: فمسح وجهه وسمّاه ((عبد الله )).
[قال سفيان: قال رجل من الأنصار: فرأيت لهما تسعة أولاد كلهم قد قرأ القرآن] ( ).
وهذه المعاني قبس من قوله تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لله وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ ( ).
هذه الكلمة الطيبة تتضمن أصلين عظيمين إذا تحقق العبد بمعرفتهما تسلّى عن مصيبته:
1-أن العبد وأهله وماله ملك لله  حقيقة.
2-أن مصير العبد ومرجعه إلى الله مولاه الحق ليوفيه حسابه.
فإذا كانت هذه بداية العبد وما خوِّله ونهايته، فكيف يفرح بموجود أو يأسى على مفقود؟ ففكره في مبدئه ومعاده أعظم معين على التحلِّي بالصبر عند الشدائد والمصائب والمحن والفتن، فاللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.
رابعاً: اليقين بالفرج:
لا يشك العاقل أن نصر الله قريب، وفرجه آتٍ لا ريب فيه، وأن بعد الضيق سعة،ومع العسر يسراً؛ لأن الله وعد بهذا، والله لا يخلف الميعاد.
هذا اليقين جدير أن يبدد ظلمة القلق، ويقهر شبح اليأس، ويضيء نفس المؤمن بنور الصبر الذي لا يخبو.
ولذلك ورد الصبر في كتاب الله مقروناً بأن وعد الله حق كما في قوله تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ ( ).
وقوله جل شأنه: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ ( ).
وقد وعد الله عباده الصابرين بقرب الفرج في صور، منها:
الأولى: الوعد بالسعة بعد الضيق، والرخاء بعد الشدة، واليسر بعد العسر، وفي هذا يقول جل وعلا: سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ( ).
ولم يكتف الخالق  أن جعل اليسر بعد العسر، بل جعله في موطن آخر معه وبصيغة التأكيد حيث قال: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ( ).
وفي هذه الآيات يتجلى أمران:
1- تحقق اليسر بعد العسر تحققاً قريباً حتى كأنه معه ومتصل به، حتى لو دخل العسر جحر ضب لتبعه اليسر، ولن يغلب عُسرٌ يُسرَين.
2- إن مع العسر يسراً بالفعل، ولكن قد يكون ملموساً أو مكنوناً، ففي كل قدر لطف، وفي كل بلاء نعمة.
ولا يشكّ مؤمن عرف ربه وآمن به أن الله يُقدِّر ويلطف: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّـمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْـحَكِيمُ ( )؛ لأنه أعلم بمن خلق وأرحم بهم من أنفسهم: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْـخَبِيرُ ( ).
الثانية: الوعد بحسن العاقبة، والعبرة بالعواقب، والمدار على الخواتيم. قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ( ).
ولقد أحسن القائل:
قد آذن ليلك بالبلج

اشتدّي أزمة تنفرجي

ولله درّ القائل:
ذرعاً وعند الله منها المخرجُ
ولرُبَّ نازلةٍ يضيق بها الفتى

فُرِجت وكنت أظنها لا تُفرَجُ
ضاقت فلمّا استحكمتْ حلقاتُها

الثالثة: الوعد بحسن العوض عما فات، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. قال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي الله مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( ).
خامساً: الاستعانة بالله:
إذا استعان العبد بربه ولجأ إلى حماه شعر بالطمأنينة في قلبه، والسكينة تملأ جوارحه، فمن كان في حمى الله فلن يضام. قال تعالى: اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ ( ).
ومن كانت معيّة الله معه، وعين الله ترعاه، فهو حقيق أن يتحمل المتاعب، ويصبر على الأذى.
سادساً: التأسّي بأهل الصبر والعزائم:
إن التأمّل في سِير الصابرين، وما لاقوه من ألوان الشدائد، وما ذاقوه من صنوف البلاء يعين على الصبر، ويطفئ نار المصيبة ببرد التأسي.
ومن هنا حرص القرآن الكريم والسنة النبوية على ذكر قصص الأنبياء والصالحين تسلية للنبي  والمؤمنين، وتثبيتاً لقلوبهم في مواجهة البلاء والفتن. قال تعالى: وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَـذِهِ الْـحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ( ).
ويجيء الخطاب الرباني لرسول الله  قائلاً: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّـهُمْ ( ).
فإذا ضاق صدره بما يفعلون، وأدركه الحزن عليهم مما يمكرون، وجد في صبر إخوانه من المرسلين ما يشد أزره، ويمضي عزمه، ويذهب همه، فهو ليس بدعاً مما أصاب الرسل من قبله، يقول الله : وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْـمُرْسَلِينَ ( ).
سابعاً: الإيمان بقدر الله وقضائه:
على المسلم أن يعلم علم اليقين أن قدر الله نافذ لا محالة، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف. قال تعالى: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَالله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ( )، مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله وَمَن يُؤْمِن بِالله يَهْدِ قَلْبَهُ وَالله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ).
إن الركون للصبر في مثل هذا المقام أمر محمود بل واجب لأن مقادير الله نافذة سواء رضي العبد أم سخط، صبر أم جزع، ولكن العاقل ينبغي أن يتحلى بالصبر حتى لا يحرم المثوبة، وإلا ستؤول به السنن الكونية إلى صبر الاضطرار الذي لا قيمة لـه في دين الله كما قال النبي : ((إنما الصبر عند الصدمة الأولى ))( ).
وذلك لأن العبد إن صبر إيماناً واحتساباً نفذت فيه المقادير وله الأجر، وإن جزع وهلع وتبرّم سلا سَلْوَ البهائم ونفذت فيه المقادير، وعليه الوزر.
إن التسليم بالقدر هو مقتضى العقل والدين معاً، وإلا فليفعل ما يشاء من إظهار الكآبة والمبالغة في التوجع والتشكي، ولن يغيِّر من الواقع شيئاً، ولن يبدِّل سنن الله في الكون، وإنما يزيد نفسه كمداً وغماً، وحسرة.
وانظر أيها العبد الصالح كيف يقرّر الله هذه الحقيقة مخاطباً رسوله الكريم  حين آذاه موقف قريش وتكذيبها لـه: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْـمُرْسَلِينَ * وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ الله لَـجَمَعَهُمْ عَلَى الْـهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْـجَاهِلِينَ ( ).
وقال الله  للقانطين من رحمة الله اليائسين من نصره: مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ ( ).
ثامناً: استصغار المصيبة:
قال النبي : ((يا أيها الناس أيما أحدٍ من الناس أو من المؤمنين أُصيب فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري؛ فإن أحداً من أمتي لن يُصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي ))( ).
وكتب بعض العقلاء إلى أخ لـه يعزيه عن ابن لـه يقال لـه: محمد، فنظم الحديث الآنف شعراً فقال:
واعلم بأن المرء غير مُخلّدِ
اصبر لكل مصيبةٍ وتجلّدِ

فاذكر مصابك بالنبي محمّدِ
وإذا ذكرت محمداً ومصابَهُ

تاسعاً: الحذر من الآفات العائقة في الطريق:
لابدَّ للناس عامة، وللمؤمنين خاصة، ولحملة الدعوة على وجه أخص أن يحذروا من الآفات النفسية التي تعتري النفس البشرية فتعيق الصبر وتعترض طريقه وهي:
1- الاستعجال:
الإنسان مولع بالعاجل لأنه خلق من عجل؛ لقوله تعالى: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ ( ).
فإذا أبطأ الخير عن الإنسان نفد صبره، وضاق صدره ناسياً أن لكل أجل كتاباً مسمى، وأن الله لا يعجل بعجلة الخلق.
وليعلم العبد أن لكل ثمرة أواناً لنضوجها، فيحسن عندئذٍ قطافها، والاستعجال لا ينضجها بل يهلكها، وقديماً قيل: ((من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه )).
ولهذا خاطب الله رسوله قائلاً: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لّـَهُمْ ( ).
والاستعجال من سنن المشركين لجهلهم وسفههم فقد كانوا يستعجلون عذاب الله غروراً وعناداً، فردّ عليهم ربهم بما يقطع دابرهم: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ( ).
2- الغضب:
قد يرى المسلم ما يكره،ويسمع ما يؤذيه فيستفزّه الغضب إلى الإعراض عن الناس والنفور منهم،ومن ثم إلى اليأس والقنوط وهما آفة الصبر.
فيجب على المسلم أن يصبر على أذى الناس وإعراضهم عن دعوته، ويعاودهم المرة بعد المرة عسى أن يهدي الله به رجلاً واحداً، فيكون خيراً لـه مما طلعت عليه الشمس.
3- الضيق:
قال تعالى لرسوله الكريم: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِالله وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ( ).
وقال جل شأنه: فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( ).
إن الإيمان والكفر والهدى والضلال لا يستطيع الإنسان أن يجلبها لمن أحب ويدفعها عنه، وإنما عليه التذكير والنصيحة والبيان والبلاغ.
4- اليأس:
اليأس آفة الصبر الكبرى، لأنها تطفئ سراج الأمل، فيترك العبد العمل، ويخلد إلى الكسل.
ولهذا حرص القرآن الكريم والسنة المطهرة على غرس بذور الأمل في نفوس المؤمنين. قال تعالى: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ).
وقال  مخبراً عن موسى وقومه: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لله يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ( ).
وعلى منهج القرآن في إضاءة شعلة الأمل أمام المؤمنين درج رسول الله  عندما جاءه خبّاب بن الأرتّ  يشكو ما يلاقيه المؤمنون من أذى المشركين شكوى تحمل معنى الضيق والتبرّم والاستعجال، فضرب لـه رسول الله  مثلاً فقال: ((لقد كان من قبلكم ليُمشّط بمشاط من حديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويُوضع المنشار على مفرق رأسه فيُشقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتِمَّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حَضر مَوت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه )) وفي رواية: ((ولكنكم تستعجلون ))( ).
وما ذلك إلا لأن الأمل أعظم معين على الصبر على طول الطريق وقلة الرفيق، وخاصة في زمن الغربة، فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك وعافنا واعفُ عنا( ).
المطلب الثاني: طرق تحصيل الصبر عن المعاصي
الصبر عن المعاصي والسيئات ينشأ من أسباب عديدة، منها على سبيل المثال ما يأتي:
أولاً: علم العبد بقبحها ورذالتها ودناءتها، وأن الله إنما حرَّمها ونهى عنها صيانة وحماية عن الدَّنايا والرذائل، كما يحمي الوالد الشفيق ولده عما يضره. وهذا السبب يحمل العاقل على تركها ولو لم يعلق عليها وعيد العذاب.
ثانياً: الحياء من الله سبحانه؛ فإن العبد متى علم بنظر الله إليه، ومقامه عليه، وأنه بمرأى منه ومسمع، وكان حييّاً استحيى من ربه أن يتعرض لمساخطه.
ثالثاً: مراعاة نعمه عليك وإحسانه إليك؛ فإن الذنوب تزيل النعم ولابدَّ، فما أذنب عبدٌ ذنباً إلا زالت عنه نعمة من الله بحسب ذلك الذنب، فإن تاب ورجع رجعت إليه أو مثلها، وإن أصرّ لم ترجع إليه، ولا تزال الذنوب تزيل عنه نعمة نعمة حتى تسلب النعم كلها، كما قال تعالى: إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ( )، وقال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ).
وأعظم النعم الإيمان، وذنب الزنا والسرقة وشرب الخمر وانتهاب النهبه يزيل النعم ويسلبها.
قال بعض السلف: أذنبتُ ذنباً فحُرِمتُ من قيام الليل سنة.
وقال آخر: أذنبتُ ذنباً فحُرِمتُ فهم القرآن. وفي مثل هذا قيل:
فإنّ المعاصي تُزيل النعم
إذا كنتَ في نعمة فارْعَهَا

وبالجملة فإن المعاصي نار النعم تأكلها كما تأكل النار الحطب، عياذاً بالله من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفُجاءة نقمته، وجميع سخطه.
رابعاً: خوف الله وخشية عقابه، وهذا إنما يثبت بتصديقه في وعده ووعيده والإيمان به وبكتابه وبرسوله، وهذا السبب يَقْوَى بالعلم واليقين، ويضعف بضعفهما. قال الله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ( ).
خامساً: محبة الله، وهي من أقوى الأسباب في الصبر عن مخالفته ومعاصيه؛ فإن المحب لمن يحب مطيع.
سادساً: شرف النفس وزكاؤها وفضلها وأنفتها وحميتها أن تختار الأسباب التي تحطّها وتضع قدرها، وتخفض منزلتها وتحقرها، وتسوّي بينها وبين السفلة.
سابعاً: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية، وقبح أثرها والضرر الناشئ منها: من سواد الوجه، وظلمة القلب، وضيقه وغمّه، وحزنه وألمه، وانحصاره وشدة قلقه واضطرابه، وتمزّق شمله، وضعفه عن مقاومة عدوّه؛ فإن الذنوب تميت القلوب، والعبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب منها صقل قلبه، وإن أذنب ذنباً آخر نكت نكتة أخرى، ولا تزال حتى تعلو قلبه، فذلك هو الران قال الله تعالى: كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ).
وبالجملة فآثار المعصية القبيحة أكثر من أن يحيط بها العبد علماً، وآثار الطاعة الحسنة أكثر من أن يحيط بها علماً، فخير الدنيا والآخرة بحذافيره في طاعة الله، وشر الدنيا والآخرة بحذافيره في معصيته.
ثامناً: قصر الأمل، وعلمه بسرعة انتقاله، وأنه كمسافر دخل قرية وهو عازم على الخروج منها، أو كراكب قال في ظل شجرة ثم سار وتركها، فهو لعلمه بقلة مقامه وسرعة انتقاله حريص على ترك ما يثقله حمله ويضرّه ولا ينفعه، حريص على الانتقال بخير ما بحضرته، فليس للعبد أنفع من قصر الأمل، ولا أضرّ من التسويف وطول الأمل.
تاسعاً: مجانبة الفضول في مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه واجتماعه بالناس؛ فإن قوة الداعي إلى المعاصي إنما تنشأ من هذه الفضلات، فإنها تطلب لها مصرفاً فيضيق عليها المباح فتتعدّاه إلى الحرام، وأعظم الأشياء ضرراً على العبد بطالته وفراغه؛ فإن النفس لا تقعد فارغة، بل إن لم يشغلها بما ينفعه شغلته بما يضره ولابد.
عاشراً:ثبات شجرة الإيمان في القلب،وهو الجامع لهذه الأسباب كلها: فصبر العبد عن المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه، فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتمّ، وإذا ضعف الإيمان ضعف الصبر. والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
المطلب الثالث: طرق تحصيل الصبر على الطاعات
والصبر على الطاعة ينشأ من معرفة أسباب الصبر عن المعاصي السابقة، ومن معرفة ما تجلبه الطاعة من العواقب الحميدة والآثار الجميلة، ومن أقوى أسبابها الإيمان والمحبة، فكلما قوي داعي الإيمان والمحبة لله تعالى، ولرسوله  في القلب كانت استجابته للطاعة بحسبه.
المطلب الرابع:طرق تحصيل الصبر على المصيبة والبلاء وأقدار الله المؤلمة
كثيرة، منها الطرق الآتية:
أولاً: معرفة جزائها وثوابها( ).
ثانياً: العلم بتكفيرها للسيئات ومحوها لها( ).
ثالثاً: الإيمان بالقدر السابق الجاري بها، وأنها مقدرة في أم الكتاب قبل أن يُخلق فلابد منها، فجزعه لا يزيده إلا بلاء.
رابعاً: معرفة حق الله عليه في تلك البلوى، وواجبه فيها الصبر بلا خلاف بين الأمة، أو الصبر والرضا على أحد القولين، فهو مأمور بأداء حق الله وعبوديته عليه في تلك البلوى، فلابد لـه منه وإلا تضاعف عليه.
خامساً: العلم بترتبها عليه بذنبه، كما قال الله تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير ( ).
فهذا عام في كل مصيبة دقيقة وجليلة، فشغله شهود هذا السبب بالاستغفار الذي هو أعظم أسباب دفع تلك المصيبة.
قال علي بن أبي طالب :((ما نزل بلاء إلا بذنب،ولا رفع بلاء إلا بتوبة))( ).
سادساً: أن يعلم أن الله قد ارتضاها لـه واختارها وقسمها وأن العبودية تقتضي رضاه بما رضي لـه به سيده ومولاه، فإن لم يوفِّ قدر المقام حقه فهو لضعفه، فلينزل إلى مقام الصبر عليها، فإن نزل عنه نزل إلى مقام الظلم وتعدي الحق.
سابعاً: أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواءٌ نافع ساقه إليه الطبيب العليم بمصلحته، الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيأه بتسخطه وشكواه فيذهب نفعه باطلاً.
ثامناً: أن يعلم أن في عُقبى هذا الدواء من الشفاء والعافية والصحة وزوال الألم ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء ومرارته فلينظر إلى عاقبته وحسن تأثيره. قال الله تعالى: وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَالله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( )، فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ( ).
تاسعاً: أن يعلم أن المصيبة ما جاءت لتهلكه وتقتله وإنما جاءت لتمتحن صبره وتبتليه؛ فيتبين حينئذ هل يصلح لاستخدامه وجعله من أوليائه وحزبه أم لا؟ وفضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
عاشراً: أن يعلم أن الله يربِّي عبده على السراء والضراء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديته في جميع الأحوال؛ فإن العبد على الحقيقة من قام بعبودية الله على اختلاف الأحوال وقال: ((اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ))( ).
فهذه الأسباب ونحوها تثمر الصبر على البلاء،فإن قويت أثمرت الرضا والشكر.
نسأل الله أن يسترنا بعافيته،ولا يفضحنا بابتلائه بمنّه وكرمه( ).


الفصــــل الســـــــــــــابع: الإخـلاص والصـدق

المبحث الأول: مفهوم الإخلاص.
المبحث الثاني: أهمية الإخلاص.
المبحث الثالث: النية أساس العمل.
المبحث الرابع: خطر الرياء وأنواعه وأقسامه.
المبحث الخامس: طرق تحصيل الإخلاص وعلاج الرياء.
المبحث السادس: الصدق.

المبحث الأول: مفهوم الإخلاص
الإخلاص في اللغة: خَلَصَ يخلص خلوصاً: صفا وزال عنه شوبه، ويقال: خلص من ورطته: سلم منها ونجا، ويقال: خلَّصه تخليصاً: أي نجَّاه، والإخلاص في الطاعة ترك الرياء( ).
وحقيقة الإخلاص: هو أن يريد العبد بعمله التقرب إلى الله تعالى وحده.
وقد ذكر أهل العلم تعريفات بعضها قريب من بعض:
فقيل: الإخلاص: إفراد الحق - سبحانه - بالقصد في الطاعة.
وقيل: الإخلاص: استواء أعمال العبد في الظاهر والباطن، والرياء أن يكون ظاهره خيراً من باطنه، والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره.
وقيل: تصفية العمل من كل ما يشوبه( ).
وعلى ما تقدم: يتضح أن الإخلاص: صرف العمل والتقرب به إلى الله وحده، لا رياءً ولا سمعة، ولا طلباً للعرض الزائل، ولا تصنعاً، وإنما يرجو ثواب الله ويخشى عقابه ويطمع في رضاه.
ولهذا قال القاضي عياض: ((ترك العمل من أجل الناس رياء، والعمل من أجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما))( ).
والإخلاص في حياة الداعية: أن يقصد بإراداته، وأعماله، وأقواله، وسائر تصرفاته، وتوجيهاته وتعليمه وجه الله تعالى وحده لا شريك لـه ولا ربَّ سواه.



المبحث الثاني: أهمية الإخلاص
لقد خلق الله الخلق: الجن والإنس لعبادته وحده لا شريك لـه، وأمر جميع المكلفين بالإخلاص، قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ( ).
وقال الله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْـحَقِّ فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ أَلا لله الدِّينُ الْـخَالِصُ ( ).
وقال تعالى:  قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لله رَبِّ الْعَالَـمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْـمُسْلِمِينَ ( ).
وقال تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْـمَوْتَ وَالْـحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ( ).
قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا يعلى: ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: ((إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يُقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاًَ لم يُقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة( ). ثم قرأ قوله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِـحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ( ).
وقال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ ( )، فإسلام الوجه: إخلاص القصد والعمل لله، والإحسان فيه: متابعة رسول الله  وسنته))( ).
وقد ثبت في الحديث عن أنس بن مالك  قال: قال النبي : ((ثلاث لا يغلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم))( ).
والإخلاص هو روح عمل الداعية، وأهم صفاته، فبدونه يكون جهد الداعية وعمله هباءً منثوراً.
والإخلاص من أهم أعمال القلوب باتفاق أئمة الإسلام، ولاشك أن أعمال القلوب هي الأصل: لمحبة الله ورسوله، والتوكل عليه، والإخلاص لـه، والخوف منه، والرجاء لـه، وأعمال الجوارح تبع؛ فإن النية بمنزلة الروح، والعمل بمنزلة الجسد للأعضاء الذي إذا فارق الروح مات، فمعرفة أحكام القلوب أهمّ من معرفة أحكام الجوارح.
فيجب على الداعية أن يكون مخلصاً لله  لا يريد رياءً ولا سمعة، ولا ثناء الناس ولا مدحهم وحمدهم، إنما يدعو إلى الله يريد
وجه الله - تعالى - كما قال سبحانه: قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى الله ( )، وقال سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِّمَّن دَعَا إِلَى الله ( ).
والإخلاص أعظم الصفات التي تجب على الدعاة فيريدوا بدعوتهم وجه الله والدار الآخرة، ويريدوا إصلاح الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور( ).


المبحث الثالث: النية أساس العمل
المطلب الأول: أهمية النية ومكانتها
النية: أساس العمل وقاعدته، ورأس الأمر وعموده، وأصله الذي عليه بُنيَ؛ لأنها روح العمل، وقائده، وسائقه، والعمل تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، وبها يحصل التوفيق، وبعدمها يحصل الخذلان، وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة( )؛ ولهذا قال النبي : ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى...))( ).
وقال الله تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ).
وهذا يدلّ على أهمية ومكانة النية، وأن الدعاة إلى الله وغيرهم من المسلمين بحاجة إلى إصلاح النية، فإذا صلحت أُعطي العبد الأجر الكبير والثواب العظيم، ولو لم يعمل وإنما نوى نية صادقة، ولهذا قال النبي : ((إذا مرض العبد أو سافر كُتِبَ لـه مثلُ ما كان يعمل مقيماً صحيحاً))( )، وقال  : ((ما من امرئٍ تكون لـه صلاة بليل فيغلبه عليها نوم إلا كُتبَ لـه أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة ))( ).
وقال النبي : ((من توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلى وحضر لا ينقص ذلك من أجره شيئاً))( ).
وقال الرسول : ((من سأل الله الشهادة بصدقٍ بلّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه))( ).
وهذا يدل على فضل الله  وإحسانه إلى عباده؛ ولهذا قال النبي  في غزوة تبوك: ((لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً، ولا أنفقتم من نفقة، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه ))، قالوا: يا رسول الله كيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ فقال: ((حَبَسهُمُ العُذر ))( ).
وبالنية الصالحة يضاعف الله الأعمال اليسيرة؛ ولهذا قال الرسول  لرجل جاء إليه مقنع بالحديد، فقال: يا رسول الله: أقاتل أو أسلم؟ فقال : ((أسلم ثم قاتل ))، فأسلم ثم قاتل فَقُتِل، فقال رسول الله : ((عمل قليلاً وأجر كثيراً ))( ).
وجاء رجل إلى رسول الله  فدخل في الإسلام، فكان رسول الله  يعلّمه الإسلام وهو في مسيره، فدخل خف بعيره في جحر يربوع فوقصه بعيره فمات، فقال رسول الله : ((عمل قليلاً وأجر كثيراً)) قالها حماد ثلاثاً( ).
وبالنية الصالحة يبارك الله في الأعمال المباحة فيثاب عليها العبد؛ ولهذا قال رسول الله : ((إذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فهو لـه صدقة))( )، وقال النبي  لسعد بن أبي وقاص : ((إنك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعلُ في فِي امرأتك))( ).
وقال رسول الله : ((إنما الدنيا لأربعة نفرٍ: عبدٍ رزقه الله مالاً وعلماً فهو يتقي به ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقاً، فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقه الله علماً ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء، وعبدٍ رزقه الله مالاً ولم يرزقه علماً فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقاً فهو بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه الله مالاً ولا علماً، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان فهو بنيته فوزرهما سواء))( ). وقال الرسول  فيما يرويه عن ربه: ((إن الله  كتب الحسنات والسيئات ثم بيّن ذلك فمن همّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة...))( ).
المطلب الثاني: خطر إرادة الدنيا بعمل الآخرة
من الخطر العظيم أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً يريد به عرضاً من الدنيا، وهذا شرك ينافي كمال التوحيد الواجب ويحبط العمل، وهو أعظم من الرياء؛ لأن مريد الدنيا قد تغلب إرادته على كثير من عمله، وأما الرياء فقد يعرض لـه في عمل دون عمل ولا يسترسل معه، والمؤمن يكون حذراً من هذا وهذا.
والفرق بين الرياء، وإرادة الإنسان بعمله الدنيا: هو أن بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً يجتمعان في أن الإنسان إذا أراد بعمله التزين عند الناس، ليروه ويعظِّموه ويمدحوه، فهذا رياء، وهو أيضاً إرادة الدنيا؛ لأنه تصنّع عند الناس وطلب الإكرام والمدح والثناء.
أما العمل للدنيا فهو أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً لا يقصد به الرياء للناس، وإنما يقصد به عرضاً من الدنيا: كمن يحج عن غيره ليأخذ مالاً، أو يجاهد للمغنم، أو غير ذلك، فالمرائي عمل لأجل المدح والثناء من الناس، والعامل للدنيا يعمل العمل الصالح يريد به عرض الدنيا وكلاهما خاسر، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه( ).
وقد جاءت النصوص تدل على خسران صاحب هذا العمل في الدنيا والآخرة، قال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْـحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَـهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَـهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ).
وقال تعالى: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِـمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ( ).
وقال تعالى: مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ( ).
وقال تعالى: فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ( ).
وقال الرسول : ((من تعلّم علماً مما يُبتغى به وجه الله  لا يتعلّمهُ إلا ليُصيب به عَرَضاً من الدنيا لم يجد عَرْف الجنة يوم القيامة)) يعني ريحها( ).
وعن جابر  يرفعه: ((لا تعلَّموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا لتخيّروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار))( ).
وقال ابن مسعود : ((لا تعلّموا العلم لثلاث: لتماروا به السفهاء، وتجادلوا به العلماء، ولتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم ما عند الله؛ فإنه يدوم ويبقى وينفد ما سواه))( ).
ولهذا تكفّل الله بالسعادة لمن عمل لله، فعن أنس يرفعه: ((من كانت الآخرة همّهُ جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همّه جعل الله فقره بين عينيه، وفرَّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّرَ له ))( ).
المطلب الثالث: أنواع العمل للدنيا
العمل للدنيا أنواع متعددة، وقد ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى أنه جاء عن السلف في ذلك أربعة أنواع:
النوع الأول: العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله تعالى: من صدقة، وصلاة، وإحسان إلى الناس، ورد ظلم، ونحو ذلك مما يفعله الإنسان أو يتركه خالصاً لله تعالى؛ لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة، وإنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله، وتنميته، أو حفظه أهله وعياله، أو إدامة النعم عليه وعليهم، ولا همّة له في طلب الجنة والهرب من النار، فهذا يُعطى ثواب عمله في الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب، وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
النوع الثاني: وهو أكبر من الأول وأخوف، وهو أن يعمل أعمالاً صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة. وهو ما ذكر عن مجاهد رحمه الله تعالى.
النوع الثالث: أن يعمل أعمالاً صالحة يقصد بها مالاً، مثل أن يحج عن غيره لمال يأخذه، ولا يقصد بذلك وجه الله ولا الدار الآخرة، أو يهاجر لدنيا يصيبها، أو يجاهد لأجل المغنم، أو يتعلّم العلم ليحصل على الشهادة وعلى الجاه، ولا يقصد بذلك وجه الله مطلقاً، أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة؛ لأجل وظيفة المسجد أو غيره من الوظائف الدينية، ولا يريد بذلك ثواباً مطلقاً.
النوع الرابع: أن يعمل بطاعة الله مخلصاً في ذلك لله وحده لا شريك له، لكنه على عمل يكفّره كفراً يخرجه عن الإسلام، كمن يأتي بناقض من نواقض الإسلام. ذُكِرَ ذلك عن أنس  وغيره( ).
فليحذر الداعية إلى الله تعالى مما يُحبط عمله ويعرّضه لسخط الله وغضبه، وليحذر جميع المسلمين من هذه الأنواع الفاسدة نعوذ بالله منها.


المبحث الرابع: خطر الرياء، وأنواعه، وأسبابه
المطلب الأول: خطر الرياء
الرياء خطره عظيم جداً على الفرد والمجتمع والأمة؛ لأنه يحبط العمل والعياذ بالله، ويظهر خطره في الأمور الآتية:
1 - الرياء أخطر على المسلمين من المسيح الدجال: قال الرسول : (( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال، الشرك الخفي أن يقوم الرجل فيصلي، فيزين صلاته لِمَا يرى من نظر رجل ))( ).
2 - الرياء أشد فتكاً من الذئب في الغنم، قال رسول الله : ((ما ذئبان جائعان أُرسلا في غنم بأفسَدَ من حرص المرء على المال والشرف لدينه))( ).
وهذا مثل ضربه رسول الله  بيّن فيه أن الدين يفسد بالحرص على المال، وذلك بأن يشغله عن طاعة الله، وبالحرص على الشرف في الدنيا بالدين، وذلك إذا قصد الرياء والسمعة.
3 - خطورة الرياء على الأعمال الصالحة خطر عظيم؛ لأنه يُذهب بركتها، ويُبطلها والعياذ بالله، قال الله تعالى:  كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَالله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِين  ( ).
هذه هي آثار الرياء تمحق العمل الصالح محقاً في وقت لا يملك صاحبه قوة ولا عوناً، ولا يستطيع لذلك ردَّاً.
قال تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون ( ).
فهذا العمل الصالح أصله كالبستان العظيم كثير الثمار، فهل هناك أحد يحب أن تكون له هذه الثمار والبستان العظيم ثم يرسل عليها الرياء فيمحقها محقاً، وهو في أشد الحاجة إليها!!
ولهذا قال رسول الله  فيما يرويه عن ربه تعالى: ((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه))( )، وفي الحديث:((إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة، ليوم لا ريب فيه نادى منادٍ: من كان أشرك في عملٍ عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك))( ).
4 - أول من تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة: قارئ القرآن، والمجاهد، والمتصدق بماله، الذين فعلوا ذلك ليقال: فلان قارئ، فلان شجاع، فلان كريم متصدق، ولم تكن أعمالهم خالصة لله تعالى( ).
5 - الرياء يورث الذلّ والصغار والهوان والفضيحة، قال رسول الله : ((من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به ))( ).
6 - الرياء يحرم ثواب الآخرة، قال النبي : ((بشّر هذه الأمة بالسناء( )، والدين، والرفعة، والتمكين، في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب))( ).
7 - الرياء سبب في هزيمة الأمة، قال رسول الله : ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم، وصلاتهم، وإخلاصهم ))( ).
وهذا يبين أن الإخلاص لله سبب في نصر الأمة على أعدائها، وأن الرياء سبب في هزيمة الأمة!
8 - الرياء يزيد الضلال، قال الله تعالى عن المنافقين: يُخَادِعُونَ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا وَلَـهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ( ).
المطلب الثاني: أنواع الرياء
أبواب الرياء كثيرة نعوذ بالله من ذلك وهذه الأنواع على النحو الآتي:
1 - أن يكون مراد العبد غير الله، ويريد ويحب أن يعرف الناس أنه يفعل ذلك، ولا يقصد الإخلاص مطلقاً، نعوذ بالله من ذلك، فهذا نوع من النفاق.
2 - أن يكون قصد العبد ومراده لله تعالى فإذا اطّلع عليه الناس نشط في العبادة وزينها وهذا شرك السرائر، قال رسول الله : ((يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر))، قالوا: يا رسول الله: وما شرك السرائر؟ قال: ((يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهداً لِمَا يرى من نظر الناس إليه فذلك شرك السرائر ))( ).
3 - أن يدخل العبد في العبادة لله ويخرج منها لله فَعُرِفَ بذلك ومُدِح فسكن قلبه إلى ذلك المدح، ومنّى النفس بأن يحمدوه ويمجِّدوه، وينال ما يريده من الدنيا، وهذا السرور والرغبة في الازدياد منه والحصول على مطلوبه يدل على رياء خفي.
4 - وهناك رياء بدني: كمن يظهر الصفار والنحول، ليُريَ الناس بذلك أنه صاحب عبادة قد غلب عليه خوف الآخرة، وقد يكون الرياء بخفض الصوت وذبول الشفتين ليدل الناس على أنه صائم.
5 - رياء من جهة اللباس أو الزي: كمن يلبس ثياباً مرقّعة؛ ليقول الناس إنه زاهد في الدنيا، أو من يلبس لباساً معيناً يرتديه ويلبسه طائفة من الناس يعدّهم الناس علماء، فيلبس هذا اللباس ليُقال عالم.
6 - الرياء بالقول: وهو على الغالب رياء أهل الدين بالوعظ والتذكير، وحفظ الأخبار والآثار؛ لأجل المحاورة، والمجادلة، والمناظرة، وإظهار غزارة العلم.
7 - الرياء بالعمل: كمراءاة المصلي بطول الصلاة والركوع والسجود، وإظهار الخشوع، والمراءاة في الصوم والحج والصدقة.
8 - الرياء بالأصحاب والزائرين: كالذي يتكلف أن يستزير عالماً؛ ليقال إن فلاناً قد زار فلاناً، ودعوة الناس لزيارته كي يقال: إن أهل الدين يترددون عليه.
9 - الرياء بذمّ النفس بين الناس، ويريد بذلك أن يُرِيَ الناس أنه متواضع عند نفسه، فيرتفع بذلك عندهم ويمدحونه به، وهذا من دقائق أبواب الرياء.
10 - ومن دقائق الرياء وخفاياه: أن يخفي العامل طاعته بحيث لا يريد أن يطّلع عليها أحدٌ، ولا يُسرَّ بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحبّ أن يبدءوه بالسلام، وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير، وأن يثنوا عليه، وأن ينشطوا في قضاء حوائجه، وأن يسامحوه في البيع والشراء، فإن لم يجد ذلك وجد ألماً في نفسه، كأنه يتقاضى الاحترام على الطاعة التي أخفاها.
11 - ومن دقائق الرياء أن يجعل الإخلاص وسيلة لِمَا يريد من المطالب، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((حُكِيَ أن أبا حامد الغزالي بلغه أن من أخلص لله أربعين يوماً تفجّرت الحكمة من قلبه على لسانه، قال: فأخلصت أربعين يوماً، فلم يتفجّر شيء، فذكرت ذلك لبعض العارفين فقال لي: إنك أخلصت للحكمة، لم تخلص لله))( )، وذلك أن الإنسان قد يكون مقصوده نيل الحلم والحكمة، أو نيل تعظيم الناس له ومدحهم له، أو غير ذلك من المطالب. وهذا لم يحصل بالإخلاص لله وإرادة وجهه؛ إنما حصل هذا العمل لنيل ذلك المطلوب.
المطلب الثالث: أقسام الرياء
الرياء أعاذنا الله منه أقسام ودركات ينبغي لكل مسلم أن يعرف هذه الأقسام؛ ليهرب منها وهي على النحو الآتي:
1 - أن يكون العمل رياء محضاً، ولا يراد به إلا مراءاة المخلوقين كحال المنافقين، قال الله : وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً ( )، وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام، وقد يصدر في الصدقة الواجبة أو الحج وغيرهما من الأعمال الظاهرة، وهذا العمل لا شك في بطلانه وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة، والعياذ بالله.
2 - أن يكون العمل لله، ويشاركه الرياء من أصله - أي من أوله إلى آخره -، فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه وحبوطه أيضاً.
3 - أن يكون أصل العمل لله، ثم طرأت عليه نية الرياء أثناء العبادة، فهذه العبادة لا تخلو من حالين:
الحال الأولى: أن لا يرتبط أول العبادة بآخرها، فأولها صحيح بكل حال وآخرها باطل، مثال ذلك: إنسان عنده عشرون ريالاً يريد أن يتصدق بها، فتصدق بعشرة خالصة لله، ثم طرأ عليه الرياء في العشرة الباقية، فالصدقة الأولى صحيحة مقبولة، والثانية صدقة باطلة لاختلاط الرياء فيها بالإخلاص.
الحال الثانية:أن يرتبط أول العبادة بآخرها فلا يخلو الإنسان حينئذ من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون هذا الرياء خاطراً ثم دفعه الإنسان ولم يسكن إليه، وأعرض عنه وكرهه، فإنه لا يضره بغير خلاف؛ لقول النبي : ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تكلم به ))( ).
الأمر الثاني: أن يسترسل معه الرياء ويطمئن إليه ولا يدافعه ويحبه، فتبطل جميع العبادة على الصحيح؛ لأن أولها مرتبط بآخرها، مثال ذلك: من ابتدأ الصلاة مخلصاً بها لله تعالى ثم طرأ عليه الرياء في الركعة الثانية واسترسل معه إلى نهاية صلاته، ولم يدافعه، فتبطل الصلاة كلها لارتباط أولها بآخرها( ).
4 - أن يكون الرياء بعد الانتهاء من العبادة( ).
وأما إذا عمل المسلم العمل لله خالصاً، ثم ألقى الله الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك، ففرح بفضل الله ورحمته، واستبشر بذلك لم يضرّه ذلك، فقد سئل رسول الله  عن الرجل يعمل العمل لله من الخير ثم يحمده الناس عليه، فقال: ((تلك عاجل بُشْرَى المؤمن ))( ).
المطلب الرابع: أسباب الرياء ودوافعه
أصل الرياء حب الجاه والمنزلة، ومن غلب على قلبه حُبّ هذا صار مقصور الهم على مراعاة الخلق، مشغوفاً بالتردد إليهم، والمراءاة لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله وتصرفاته ملتفتاً إلى كل ما يعظِّم منزلته عند الناس، وهذا أصل الداء والبلاء، فإن من رغب في ذلك احتاج إلى الرياء في العبادات، واقتحام المحظورات، وهذا باب غامض لا يعرفه إلا العلماء بالله، العارفون به، المحبون له.
وإذا فُصِّل هذا السبب والمرض الفتاك رجع إلى ثلاثة أصول:
1 - حب لذّة الحمد والثناء والمدح.
2 - الفرار من الذم.
3 - الطمع فيما في أيدي الناس( ).
ويشهد لهذا ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري  قال: جاء رجل إلى النبي  فقال: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حَميّة، ويقاتل رياءً، فأيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال : ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله ))( ).
فقوله: ((يقاتل شجاعة)) أي ليُذكر ويُشكر ويُمدح ويُثنى عليه.
وقوله: ((يقاتل حمية )) أي يأنف أن يُغلب ويُقهر أو يُذمّ.
وقوله: ((يقاتل رياءً )) أي ليُرَى مكانه، وهذا هو لذة الجاه والمنزلة في القلوب.
وقد يرغب الإنسان في المدح، ولكنه يحذر من الذم كالجبان بين الشجعان، فإنه يثبت ولا يفر، لئلا يذم، وقد يفتي الإنسان بغير علم حذراً من الذم بالجهل، فهذه الأمور الثلاثة هي التي تحرك إلى الرياء وتدعو إليه فاحذرها!
  

المبحث الخامس:طرق تحصيل الإخلاص وعلاج الرياء
قد عُرِفَ أن الرياء محبط للعمل، وسبب لغضب الله ومقته، وأنه من المهلكات، وأشد خطراً على المسلم من المسيح الدجال.
ومَن هذه حاله فهو جدير بالتشمير عن ساق الجد في إزالته وعلاجه، وقطع عروقه وأصوله. ومن هذا العلاج الذي يزيل الرياء، ويحصِّل الإخلاص بإذن الله تعالى ما يأتي:
1 - معرفة أنواع الرياء، ودوافعه، وأسبابه ثم قطعها وقلع عروقها، وتقدمت هذه الدوافع والأسباب.
2 - معرفة عظمة الله تعالى، بمعرفة: أسمائه، وصفاته، وأفعاله معرفةً صحيحةً مبنية على فهم الكتاب والسنة على مذهب أهل السنة والجماعة؛ فإن العبد إذا عرف أن الله وحده هو الذي ينفع ويضرّ، ويعزّ ويذلّ، ويخفض ويرفع، ويعطي ويمنع، ويحيي ويميت، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، إذا عرف ذلك، وعلم بأن الله هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له فسيُثمرُ ذلك إخلاصاً وصدقاً مع الله، فلابُدَّ من معرفة أنواع التوحيد كلها معرفة صحيحة سليمة.
3 - معرفة ما أعدَّه الله في الدار الآخرة من نعيم وعذاب، وأهوال الموت، وعذاب القبر؛ فإن العبد إذا عرف ذلك، وكان عاقلاً هرب من الرياء إلى الإخلاص.
4 - الخوف من الرياء المحبط للعمل؛ فإن من خاف أمراً بقي حَذِراً منه فينجو؛ فإن من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزلة. فينبغي للمرء بل يجب عليه إذا هاجت رغبته إلى آفة حُبّ الحمد والمدح أن يُذَكِّرَ نفسه بآفات الرياء، والتعرّض لمقت الله، ومن عرف فقر الناس وضعفهم استراح كما قال بعض السلف: ((جاهد نفسك في دفع أسباب الرياء عنك، واحرص أن يكون الناس عندك كالبهائم والصبيان فلا تفرق في عبادتك بين وجودهم وعدمهم، وعلمهم بها أو غفلتهم عنها، واقنع بعلم الله وحده))( ).
وبالله وحده ثم بالخوف من حبوط العمل نجا أهل العلم والإيمان من الرياء وحبوط العمل، فعن محمد بن لبيد  يرفعه إلى النبي : ((إنَّ أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ))، قالوا: وما الشرك الأصــغر يا رسول الله؛ قال: ((الرياء، يقول الله  لهم يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ))( ).
ولهذا الخطر العظيم خاف الصحابة والتابعون وأهل العلم والإيمان من هذا البلاء الخطير، ومن ذلك الأمثلة الآتية:
المثال الأول: قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ( )، قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله: أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر؟ قال: ((لا يا بنت أبي بكر ((أو يا بنت الصديق)) ولكنه الرجل يصوم، ويتصدّق، ويصلّي وهو يخاف ألا يُتقبَّل منه ))( ).
المثال الثاني: قال ابن أبي مُلَيْكة: ((أدركت ثلاثين من أصحاب النبي  كلُّهم يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إنه على إيمان جبريل وميكائيل))( ).
المثال الثالث: وقال إبراهيم التيميّ: ((ما عرضتُ قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذِّباً))( ).
المثال الرابع: ويُذكر عن الحسن أنه قال: ((ما خافه إلا مؤمن ولا أمِنه إلا منافق))( ).
المثال الخامس: وقال عمر بن الخطاب لحذيفة رضي الله عنهما: ((نشدتك بالله هل سمّاني لك رسول الله  منهم - يعني من المنافقين - قال: لا، ولا أُزكِّي بعدك أحداً))( ).
المثال السادس: ويُذكر عن أبي الدرداء  أنه قال: ((اللهم إني أعوذ بك من خشوع النفاق)) قيل: وما خشوع النفاق؟ قال: ((أن ترى البدن خاشعاً والقلب ليس بخاشع)) ( ).
المثال السابع: ويُذكر عن أبي الدرداء  أنه قال: ((لئن أستيقن أن الله تقبَّل لي صلاة واحدة أحبّ إليَّ من الدنيا وما فيها، إن الله يقول: إِنَّـمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْـمُتَّقِينَ ))( ).
المثال الثامن: وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: ((أدركتُ عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله  ، يُسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم رجل إلا ودَّ أن أخاه كفاه))( ).
5 - الفرار من ذمّ الله؛ فإن من أسباب الرياء الفرار من ذمّ الناس، ولكن العاقل يعلم أن الفرار من ذمّ الله أولى؛ لأن ذمّه شين، كما قال رجلٌ لرسول الله : يا رسول الله إنَّ مدحي زين وذمّي شين، فقال : ((ذاك الله))( )، ولا شك أن العبد إذا خاف الناس وأرضاهم بسخط الله سخط الله عليه، وغضب وأسخط الناس عليه، فهل أنت تخشى غضب الناس؟ فالله أحق أن تخشاه إن كنت صادقاً.
6 - معرفة ما يفرُّ منه الشيطان؛ لأن الشيطان منبع الرياء وأصل البلاء، والشيطان يفر من أمور كثيرة، منها الأذانُ، وقراءة القرآن، وسجود التلاوة، والاستعاذة بالله منه، والتسمية عند الخروج من البيت والدخول في المسجد مع الذكر المشروع في ذلك، والمحافظة على أذكار الصباح والمساء، وأدبار الصلوات، وجميع الأذكار المشروعة( ).
7 - الإكثار من أعمال الخير والعبادات غير المشاهدة، وإخفاؤها: كقيام الليل، وصدقة السر، والبكاء خالياً من خشية الله، وصلاة النوافل، والدعاء للإخوة في الله بظهر الغيب، والله  يحب العبد التقيّ، النقيّ، الخفيّ، قال سعد بن أبي وقاص : سمعت رسول الله  يقول: ((إن الله يحب العبد التقيّ، النقيّ، الخفيّ))( ).
8 - عدم الاكتراث بذمّ الناس ومدحهم؛ لأن ذلك لا يضر ولا ينفع، بل يجب أن يكون الخوف من ذمّ الله، والفرح بفضل الله، قال الله : قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ( )، فيا عبد الله أقبل على حب المدح والثناء فازهد فيهما زهد عشاق الدنيا في الآخرة، فإذا استقام لك ذلك سَهُل عليك الإخلاص( ).
ويسهِّلُ الزهد في حب المدح والثناء العلم يقيناً أنه ليس أحد ينفع مدحه ويزين ويضر ذمّه ويشين إلا الله وحده، فازهد في مدح من لا يزينك مدحه، وفي ذمِّ من لا يشينك ذمّهُ، وارغب في مدح مَن كلّ الزين في مدحه وكل الشين في ذمه، ولن يقدر على ذلك إلا بالصبر واليقين، فمن فقد الصبر واليقين كان كمن أراد السفر في البحر بغير مركب( ).
وانظر إلى من ذمّك فإن يك صادقاً قاصداً النصح لك فاقبل هديته ونصحه فإنه قد أهدى إليك عيوبك، وإن كان كاذباً فقد جنى على نفسه وانتفعتَ بقوله؛ لأنه عرَّفك ما لم تكن تعــــرف، وذكّرك من خطـــاياك ما نسيت، وإن كان ذلك افتراءً عليك، فإنك إن خلوت من هذا العيب لم تخلُ من غيره، فاذكر نعمة الله عليك إذ لم يطلع هذا المفتري على عيوبك، وهذا الافتراء كفارات لذنوبك إن صبرت واحتسبت، وعليك أن تعلم أن هذا الجاهل جنى على نفسه وتعرض لمقت الله تعالى، فكن خيراً منه: فاعف واصفح، واستغفر له، قال الله : أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ).
9 - تذكّر الموت وقصر الأمل، قال الله : كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْـمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْـجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْـحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ ( ).
قال الله تعالى: وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ ( ).
10 - الخوف من سوء الخاتمة، فعلى العبد أن يخاف أن تكون أعمال الرياء هي خاتمة عمله ونهاية أجله، فيخسر خسارة فادحة عظيمة؛ لأن الإنسان يبعث يوم القيامة على ما مات عليه، والناس يبعثون على نياتهم، وخير الأعمال خواتمها.
11 - مصاحبة أهل الإخلاص والتقوى؛ فإن الـجـليس الـمخلص لا يعدمك الخير، وتجد منه قدوة لك صالحة، وأما المرائي والمشرك فيحرقك في نار جهنم إن أخذت بعمله.
12 - الدعاء والالتجاء إلى الله تعالى، وقد علَّمنا رسول الله  ذلك فقال: ((يا أيها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل))، فقال بعض الصحابة: كيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: ((قولوا: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئاً نعلمه ونستغفرك لِمَا لا نعلمه))( ).
13 - حبّ العبد ذكر الله له، وتقديم حبّ ذكره له على حب مدح الخلق، قال الله : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ( )، وقال رسول الله  فيما يرويه عن ربه: ((أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرّب إليّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً، وإن تقرّب إلي ذراعاً تقرّبت منه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة))( )، والله المستعان( ).
14 - عدم الطمع فيما في أيدي الناس؛ فإن الإخلاص لا يجتمع في القلب ومحبّة المدح والثناء والطمع فيما في أيدي الناس إلا كما يجتمع الماء والنار، والضبّ والحوت، فإذا حدّثتك نفسك بطلب الإخلاص فأقبل على الطمع أولاً فاذبحه بسكين اليأس مما في أيدي الناس، ويسهِّل ذبح الطمع العلم يقيناً أنه ليس من شيء يُطمع فيه إلا وبيد الله وحده خزائنه لا يملكها غيره، ولا يؤتي العبد منها شيئاً سواه( ).
15 - معرفة ثمرات الإخلاص وفوائده وعواقبه الحميدة في الدنيا والآخرة، ومن ذلك أن الإخلاص سبب لنصر الأمة، والنجاة من عذاب الله، ورفع المنزلة والدرجة في الدنيا والآخرة، والسلامة من الضلال في الدنيا، والفوز بحبّ الله للعبد وحبّ أهل السماء والأرض، والصيت الطيّب، وتفريج كروب الدنيا والآخرة، والطمأنينة والشعور بالسعادة والتوفيق، وتحمّل المتاعب والمصاعب، وتزيين الإيمان في القلوب، واستجابة الدعاء، والنعيم في القبر والتبشير بالسرور، والله الموفق سبحانه( ).
فالداعية الذي يريد نجاح دعوته، والفوز بنجاته ومحبة الله له، عليه أن يعمل جاهداً في تحصيل الإخلاص والفرار من الرياء، أسأل الله أن يعصمني وإياك وجميع دعاة المسلمين وأئمتهم وعامتهم من هذا البلاء الخطير.



المبحث السادس: الصدق
المطلب الأول: مفهوم الصدق وأهميته وفضله
الصدق: مطابقة الكلام للواقع بحسب اعتقاد المتكلم، وهو ضد الكذب( )، وقيل: مطابقة القول الضمير والمخبر عنه معاً، ومتى انخرم شرط من ذلك لم يكن صدقاً تاماً( )، وقيل: الصدق حصول الشيء وتمامه وكمال قوته واجتماع أجزائه( ).
ولا يخفى ما للصدق من فضل عظيم، وثواب جزيل، ومقام كريم، ومما يدلّ على فضل الصدق، وسموّ منزلته، وعلوّ مكانه أنه من خصائص أهل الإيمان والتقوى، قال تعالى: إِنَّ الْـمُسْلِمِينَ وَالْـمُسْلِمَاتِ وَالْـمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْـخَاشِعِينَ وَالْـخَاشِعَاتِ وَالْـمُتَصَدِّقِينَ وَالْـمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْـحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْـحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ الله كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ الله لَـهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( )، فمن اتصف بهذه الصفات العظام وكانت لباسه وحليته فقد فاز. نسأل الله أن يجعلنا منهم.
ولقد أمر الله عباده المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين ويلازموا الصدق في كل الأحوال فهو سبيل النجاة من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ( ).
ومما يدل على فضل الصدق والصادقين سوء مصير الكذابين وبوارهم، وأن الكذب من علامات النفاق والعياذ بالله - تعالى - وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي  قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان))( )، وفي رواية: ((أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها... )) فذكر الكذب ( ).
والصدق طريق البر والجنة على عكس الكذب الذي هو طريق الفجور والنار والعياذ بالله، وفي الصحيحين عن النبي  أنه قال: ((إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكون عند الله صدّيقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذّاباً))( ).
المطلب الثاني: مجالات الصدق
أهم مجالات الصدق ثلاثة:
الصدق في القصد بمعنى خلوص النية وصدق العزيمة وثبات الإرادة.
والصدق في القول بالأخذ بالحق ونبذ الباطل واللغو واللهو المحرم.
والصدق في العمل بموافقة القول العمل،وموافقتهما هدي الكتاب والسنة.
ومتى بلغ العبد تحقيق الصدق في هذه المجالات كلها على الوجه الأتم الأكمل كان من الصِّدِّيقين، وكانت الحياة حينئذ لا تساوي عنده إلا بقدر ما يتبلغ به المسافر، وكان ما عند الله  أحبّ إليه مما في أيدي الناس.
وسأتناول فيما يلي كل واحد من هذه المجالات ببعض البسط.
1 - الصدق في النية والقصد: الصدق في القصد يستلزم إخلاص النية لله  في الدعوة وفي كل طاعة وقربة، فلا يدعو لطلب جاه ولا محمدة ولا وجاهة، ومتى دخل شيء من هذه الشوائب النية خرج الإخلاص المشروط لقبول العمل، ومتى حصل الصدق في القصد وتحقق الإخلاص أثمر ذلك عزيمة صادقة وإرادة ماضية، فلا يتوانى الداعي الصادق عن المضي في إيصال الحق والخير للناس يبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، يتعلَّم ويعلِّم، ويتوخّى الحق والصدق أينما كان.
2 - الصدق في القول: يستلزم أن لا ينطق الداعي بالباطل أياً كانت صورة هذا الباطل: كذباً، أو شتماً، أو سباباً، أو لعناً، أو فحشاً، أو غيبة، أو نميمة، أو قول الزور.. وبالجملة فهو أبعد الناس عن آفات اللسان. هذا ما يمس حياة الدعاة وسيرتهم الذاتية.
أما في مجال الدعوة فالحال كذلك، فلا يدعو إلا على بصيرة، ومعرفة بالحق ودليله، وبعد تبصّر وتفقّه، فالدعوة لا تصحّ إلا على بصيرة... ولا يعظ الناس إلا بالصادق من القصص والأمثال، ويبتعد عن الكذب، والدجل، والأحلام، والرؤى التي لا يُعرف مصدرها ولا صدقها ولا عدالة صاحبها ولا ثبوتها عنه.. فدين الله  مصدره الكتاب والسنة وفهم السلف لهما لا غير، ومتى استبدل الداعي هذين المصدرين بغيرهما - أعني الكتاب والسنة - فقد ضلّ سواء السبيل.
وبالجملة فرائد الدعاة الصادقين توخّي الحق والحق هو ما في الكتاب والسنة منهما يستمدون، ومنهما ينهلون، وعلى هداهما يسيرون، وإليهما يدعون، وفي ساحتهما يتحاكمون.
نسأل الله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يجعلنا من أهل الصدق والرشد إنه سميع مجيب.
3 - وأما صدق العمل: فهو مطابقة الأقوال والأعمال للحق الذي يدعو إليه، وقد تقدم في مبحث العمل بالعلم.
المطلب الثالث: أثر الصدق في نجاح الدعوة
الصدق له الآثار الحميدة في حياة الدعاة، ونجاح الدعوة، ومن هذه الآثار الآتية:
1 - لا يخفى أن للصدق أثره البالغ في مسيرة الدعاة، إذ يظهر الصدق في كلام الداعي، وسمته، ولهجته، وحرارة عاطفته، فيؤثر ذلك في المدعوين، ويترك فيهم انطباعاً عميقاً بمصداقية الفكرة التي يدعو إليها ويؤمن بها.
ولقد كان النبي  يحدث الذين يلقونه أول مرة فيقولون: والله ما هذا بوجه كذّاب ولا بكلام كذاب! وإذا كان المسلم مطالباً بالصدق في الأقوال والأعمال والمقاصد؛ فإن الدعاة إلى الله تعالى من باب أولى وأوجب.
2 - للصدق أثره الحميد في التآلف والتآزر والتوادد وتقارب القلوب، على عكس الكذب الذي يغرس الضغينة ويرفع الثقة، ويورث الريبة بفعل التلوّن والتغيّر وعدم الثبات الذي يتصف به الكاذب، ومن هذا المنطلق كان من لوازم الصدق ترك كل آفات اللسان: كالهمز، واللمز، والقيل، والقال، وكثرة السؤال.. ومتى تآلفت القلوب وتصافت واجتمعت على محبة الله سرت الدعوة في المجتمع سريان الماء في الزرع، فأمدته بالحياة والنماء والبقاء، ونما في المجتمع - كذلك – الإيمان، واستوثقت عراه وارتفعت أعلامه.
3 - الصدق يزرع في النفوس الثقة والطمأنينة والراحة والأنس، فيركن الناس إلى الدعاة الصادقين، ويثقون فيهم وبهم ويأمنونهم، وتقوية هذه الوشائج بين الدعاة والمدعوين من أهم أسباب نجاح الدعوة، ولا يتحقق ذلك إلا بالصدق.. على عكس الكذب الذي يزرع في النفوس بذور الريبة والشك والحذر، فليس أمر أهل الكذب من الوضوح والثبات بالمكان الذي يألفه الناس ويحبذونه.
ومتى وثق الناس في الداعي لصدقه فتحوا له القلوب فاستمعوا إليه إذا تحدّث وقبلوا إرشاده وتوجيهه إذا وجّه وأرشد وبيّن وحدّث، وتوجهوا إليه يسألون ويستفتون.. وحصل التواصل بينه وبينهم وهي نعمة لا تُقدَّر بثمن ولم تحصل إلا بفضل الله، ثم بفضل الصدق، ونقاء الصفحة، وخلو السيرة من مساوئ الأعمال والأخلاق( ).
  

الفصل الثامن: القُدوة الحسنة

المبحث الأول: مفهوم القدوة الحسنة.
المبحث الثاني: أهمية القدوة الحسنة.
المبحث الثالث: وجوب القدوة الحسنة.

المبحث الأول: مفهوم القدوة الحسنة
الأُسوةُ: والإِسوةُ كالقِدوة، والقدوة: هي الحالة التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسناً وإن قبحاً، وإن سارّاً وإن ضارّاً؛ ولهذا قال تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّـِمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا ( )، فوصفها بالحسنة( )، ويقال: فلان قُدوةٌ إذا كان يُقتدى به( ).
والأسوة أو القدوة نوعان: أسوة حسنة، وأسوة سيئة: فالأُسوة الحسنة الأسوة بالرسول ، وأما الأسوة بغيره إذا خالفه فهي أسوة سيئة، كقول المشركين حين دعتهم الرسل للتأسي بهم بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ( ).
والمقصود من الأُسوة أو القدوة أن يكون الداعية المسلم قدوةً صالحة فيما يدعو إليه فلا يناقض قولُهُ فِعلَهُ، ولا فعله قوله.
  

المبحث الثاني: أهمية القدوة الحسنة
لا شـــك أن الداعية إلـى الله تعالـى بحاجة شديدة جــداً إلى تطبيق ما يقول ويدعو إليه حتى يقتدي به الناس؛ ولهذا بيّن ابن القيم رحمه الله تعالى هذه المسألة، وشدّد في عدم التزامها حيث قال: ((علماء السوء جلسوا على أبواب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونهم إلى النار بأفعالهم، فلما قالت أقوالهم للناس: هلموا، قالت أفعالهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما يدعون إليه حقاً، كانوا أول المستجيبين له، فهم في الصورة أدلاّء، وفي الحقيقة قطّاع طرق))( ).
ويمكن إجمال أهمية القدوة العملية في الأمور الآتية:
1 - إن المثال الحي والقدوة الصالحة يثير في نفس البصير العاقل قدراً كبيراً من الاستحسان والإعجاب والتقدير والمحبة، فيميل إلى الخير، ويتطلّع إلى مراتب الكمال ويأخذ يحاول، ويعمل مثله حتى يحتل درجة الكمال والاستقامة.
2 - إن القدوة الحسنة المتحلِّية بالفضائل تُعطي الآخرين قناعة بأن بلوغ هذه الفضائل والأعمال الصالحة من الأمور الممكنة التي هي في متناول القدرات الإنسانية، وشاهد الحال أقوى من شاهد المقال( ).
3 - إن الأتباع والمدعوّين الذين يربّيهم ويدعوهم الداعية ينظرون إليه نظرة دقيقة دون أن يعلم هو أنه تحت رقابة مجهرية، فرُبّ عمل يقوم به من المخالفات لا يلقي له بالاً يكون في نظرهم من الكبائر؛ لأنهم يعدُّونه قدوة لهم( )، وقد يراه الجاهل على عملٍ غير مشروع أو محرم فيظن أنه على حق، ولا شك أن الأمر خطير، والنجاة من ذلك أن يعمل الدعاة بالعلم، وليتقوا الله تعالى.
4 - إن مستويات الفهم للكلام عند الناس تتفاوت، ولكن الجميع يستوون أمام الرؤية بالعين المجردة، وذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريد الداعية إيصالها للناس المقتدين به، ومما يدل على ذلك أن البخاري بوّب باباً قال فيه: ((باب الاقتداء بأفعال النبي ))، ثم ساق الحديث: ((اتخذ النبي  خاتماً من ذهب فاتخذ الناس خواتيم من ذهب)) فقال النبي : ((إني اتخذت خاتماً من ذهب)) فنبذه وقال: ((إني لن ألبسه أبداً))، فنبذ الناس خواتيمهم( ).
قال ابن بطّال: ((فدلّ ذلك على أن الفعل أبلغ من القول))( ).
ولهذا أمثلة كثيرة؛ فإنه خلع خاتمه فخلعوا خواتيمهم في هذه القصة، ونزع نعله في الصلاة حينما أخبره جبريل أن فيهما أذىً فنزعوا، ولَمّا أمرهم عام الحديبية بالتحلّل وتأخّروا عن المبادرة رجاء أن يأذن لهم في القتال وأن ينصروا فيكملوا عمرتهم، قالت له أم سلمة: اخرج إليهم واذبح واحلق ففعل فتابعوه مسرعين( )، فدلّ ذلك كله على أهمية القدوة وعظيم مكانتها.
5 - إن النبي  قد حذّر الدعاة من المخالفة لِمَا يقولون، فبيّن  في الحديث الشريف حال الدعاة الذين يأمرون الناس وينهونهم وينسون أنفسهم، قال: ((أتيت ليلة أُسري بي على قومٍ تُقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلَّما قرضت وفت، فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: خطباءُ أمتكَ الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به))( ).
ولا يقتصر الخطر على الداعية وعلى دينه، بل يتعدّى إلى كل من يدعوهم.
وإن مما يذكر في هذا الشأن، أن انحراف الداعية وخروجه عن النهج الصحيح هو في الوقت نفسه سببٌ في انحراف كل من تأثر به أو سمع منه، وما ذلك إلا بسبب أن سلوك الداعية وتصرفاته كلها مرصودة من قبل الناس، وجميع أفعاله وأقواله موضوعة تحت المجهر.
فليحتطِ الداعية لهذا الأمر المهم، ويراقب أفعاله وأقواله.. وليرِ الله تعالى من نفسه خيراً.
6 - إن جميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم كانوا قُـِدوةً حسنةً لأقوامهم، وهذا يدل على عِظَم وأهمية القدوة الحسنة؛ ولهذا قال شعيب عليه الصلاة والسلام لقومه: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ( ).
7 - إن الناس كما ينظرون إلى الداعية في أعماله وتصرفاته ينظرون إلى أسرته وأهل بيته، وإلى مدى تطبيقهم لِمَا يقول، وهذا يفيد ويبيّن أن الداعية كما يجب عليه أن يكون قدوة في نفسه يجب عليه أن يقوِّم أهل بيته وأسرته، ويلزمهم بما يأمر به الناس، ويدعوهم إليه؛ ولهذه الأهمية كان عمر بن الخطاب  إذا صعد المنبر فنهى الناس عن شيء، جمع أهله فقال: ((إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة ))( ).
ولقد تنبه لخطورة هذا الأمر الفقيه أبو المنصور الدمياطي فأخذ يحذر القدوات قائلاً:
واحذرِ الهفوةَ، فالخطبُ جلَلْ
أيها العالِم إياك الزلل

إن هفا أصبح في الخلق مَثَلْ
هفوة العالِم مستعظمة

فبها يحتجّ من أخطأ وزَلّْ
وعلى زلَته عمدتهم

بلْ بها يحصل في العلم الخلَلْ
لا تقلْ يستر علمي زلَّتي

فهي عند الله والناس جَبَلْ
إن تكن عندك مستحقرةً

وجلُ الخلقُ لها كل الوَجَلْ
فإذا الشمس بدت كاسفةً

في انزعاجٍ واضطرابٍ وزجَلْ
وترامت نحوها أبصارُهم

فغدت مُظلمةً منها السُّبُلْ
وسرى النقص لهم من نقصها

يفتن العالم طُرّاً ويضِلّْ
وكذا العالِم في زلَّته

لا بما استعصم فيه واستَقَلّْ
يُقتدى منه بما فيه هفا

إن بدا فيه فسادٌ وخَلَلْ( )
فهو ملحُ الأرض ما يصلحه

المبحث الثالث: وجوب القدوة الحسنة
من الأخلاق والأوصاف التي ينبغي، بل يجب أن يكون عليها الداعية، العمل بدعوته، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه، أو ينهى عنه ثم يرتكبه، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاةالحق يعملون به وينشطون فيه، ويسارعون إليه، ويبتعدون عما ينهون عنه، قال الله - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِـمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( )، وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِـحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ ( ).
هذه الآية العظيمة تُبيِّن لنا أن الداعي إلى الله  ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضاً؛ ولهذا قال بعده: وَعَمِلَ صَالِـحًا ، فالداعي إلى الله  يكون داعية باللسان، وداعية بالعمل، ولا أحسن قولاً من هذا الصنف من الناس، هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة، وهم يوجِّهون الناس بالأقوال والأعمال فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم( ).
وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام، دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال، والسيرة وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال، ولا سيما العامّة وأرباب العلوم القاصرة؛ فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها، فالداعي إلى الله  من أهمّ المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة، وذا عمل صالح، وذا خلق فاضل حتى يُقتدى بفعاله وأقواله( ).
ولهذا قال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ
صَالِـحًا ، الآية. وهذه الآية الكريمة تفيد أن الدعاة إلى الله  هم أحسن الناس قولاً إذا حققوا قولهم بالعمل الصالح، والتزموا الإسلام عن إيمان ومحبة وفرح بهذه النعمة العظيمة، وبذلك يتأثّر الناس بدعوتـهم، وينتفعون بها ويـحبونهم عليها، بخلاف الدعاة الذين يقولون ما لا يفعلون، فإنهم لا حظّ لهم من هذا الثناء العاطر، ولا أثر لدعوتهم في المجتمع، إنما نصيبهم في هذه الدعوة المقت من الله - سبحانه - والسب من الناس، والإعراض عنهم والتنفير من دعوتهم.
قال الله  موبِّخاً اليهود: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( )، فأرشد - سبحانه - في هذه الآية إلى أن مخالفة الداعي لِمَا يقول أمر يخالف العقل، كما أنه يخالف الشرع، فكيف يرضى بذلك من له دين أو عقل( ).
وصحّ عن النبي،  أنه قال: ((يُؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار بالرّحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون له يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه))( ).
هذه حال من دعا إلى الله وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم خالف قوله فعله وفعله قوله، نعوذ بالله من ذلك، فمن أهمّ الأخلاق ومن أعظمها في حق الداعية، أن يعمل بما يدعو إليه، وأن ينتهي عما ينهى عنه، وأن يكون ذا خلق فاضل، وسيرة حميدة، وصبر ومصابرة، وإخلاص في دعوته( ).
فأنت يا عبد الله في أشدّ الحاجة إلى تقوى ربك ولزومها والاستقامة عليها ولو جرى من الامتحان، ولو أصابك من الأذى أو الاستهزاء من أعداء الله، أو من الفسقة والمجرمين فلا تبالِ، واذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام، واذكر أتباعهم بإحسان، فقد أوذوا واستهزئ بهم وسخر بهم، ولكنهم صبروا فكانت لهم العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة( ).
والمؤمن الداعي إلى الله قويّ الإيمان، البصير بأمر الله يصرِّح بحق الله، وينشط في الدعوة إلى الله، ويعمل بما يدعو إليه، ويحذر ما ينهى عنه، فيكون من أسرع الناس إلـى ما يدعو إليه، ومن أبعـــد الناس عن كل ما ينهى عنه، ومع ذلك يصرّح بأنه مسلم، وبأنه يدعو إلى الإسلام، ويغتبط بذلك ويفرح به كما قال : قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ( )، فالفرح برحمة الله فرح الاغتباط، فرح السرور، أمر مشروع( ).
وينبغي للدعاة إلى الله تعالى: أن يُعنوا عناية تامة بالقرآن الكريم تلاوة وتدبراً وتعقلاً، وعملاً بالسنة المطهرة؛ لأنها الأصل الثاني، ولأنها المفسِّرة لكتاب الله، كما قال الله : وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ( )، وقال : وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَـهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ).
والعلم هو ما قاله الله في كتابه الكريم، أو قاله الرسول  في سنته الصحيحة، وذلك بأن يعتني الداعية بالقرآن الكريم والسنة المطهرة؛ ليعرف ما أمر الله به وما نهى الله عنه، ويعرف طريقة الرسول  في دعوته إلى الله وإنكاره المنكر وطريقة أصحابه ( ).
فجدير بأهل العلم من الدعاة والمدرسين والطلبة، جدير بهم أن يعنوا بكتاب الله  حتى يستقيموا عليه، وحتى يكون لهم خلقاً ومنهجاً يسيرون عليه أينما كانوا، يقول : إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ( )، فهو الهادي إلى الطريقة التي هي أقوم الطرق وأهدى السبل، وهل هناك هدف للمؤمن أعظم من أن يكون على أهدى السبل وأقومها.
فعلى جميع أهل العلم وطلبته أن يُعنوا بهذا الخُلُق، وأن يُقبلوا على كتاب الله قراءةً، وتدبُّراً، وتعقّلاً، وعملاً، يقول : كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ( ).
أصحاب العقول الصحيحة الذين وهبهم الله التمييز بين الحق والباطل وبين الهدى والضلال، ومن أراد هذا الخلق العظيم فعليه بالإقبال على كتاب الله  والعناية به: تلاوةً، وتدبراً، وتعقلاً، ومذاكرة بينه وبين زملائه، وسؤالاً لأهل العلم عمَّا أشكل عليه من الاستفادة من كتب التفسير المعتمدة، ومع العناية بالسنة النبوية؛ لأنها تفسر القرآن وتدل عليه، حتى يسير على هذا النهج القويم، وحتى يكون من أهل كتاب الله قراءة وتدبراً وعملاً( ).
  

الفصل التاسع: الخُــــــــــلُق الحَسَن

المبحث الأول: مفهوم الخلق الحسن.
المبحث الثاني: أهمية الخلق الحسن في الدعوة.
المبحث الثالث: طرق تحصيل الخلق الحسن.
المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن وتطبيقها في الدعوة.

المبحث الأول: مفهوم الخُلُق الحسن
الخُلْقُ لغةً: السجيّة، والطبع، والمروءة، والدين( ).
وحقيقته أنه صورة الإنسان الباطنة، وهي: نفسه، وأوصافها، ومعانيها المختصة بها، بمنزلة: الخَلْق لصورته الظاهرة، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة( ).
فالخلق: حال في النفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر من غير حاجةٍ إلى فكر ورويّة،وجمعه:أخلاق. والأخلاق:علم موضوعه أحكام قيمة تتعلق بالأعمال التي توصف بالحسن أو القبح( )،وهذه الحال تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما يكون طبيعياً من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ويهيج لأدنى سبب، وكالذي يجبن من أيسر شيء، كمن يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه.
القسم الثاني: ما يكون مستفاداً بالعادة والتدريب، وربما كان مبدؤه بالرويَّة والفكر ثم يستمر عليه حتى يكون ملكةً وخلقاً( ).
أما السلوك: فهو سيرة الإنسان ومذهبه واتجاهه، يقال: فلان حسن السلوك أو سيّئ السلوك( ).
والسلوك: عمل إراديٌّ، كقول: الكذب، والصدق، والبخل، والكرم ونحو ذلك.
فاتّضح أن الخلق حالة راسخة في النفس، وليس شيئاً خارجاً مظهريّاً، فالأخلاق شيء يتصل بباطن الإنسان، ولا بد لنا من مظهر يدلنا على هذه الصفة النفسية، وهذا المظهر هو: السلوك، فالسلوك: هو المظهر الخارجي للخلق، فنحن نستدل من السلوك المستمر لشخصٍ ما على خلقه، فالسلوك دليل الخلق، ورمز له، وعنوانه، فإذا كان السلوك حسناً دلّ على خلق حسن، وإن كان السلوك سيئاً دلّ على سلوك قبيح، كما أن الشجرة تعرف بالثمر، فكذلك الخلق الحسن يعرف بالأعمال الطيبة( ).
  

المبحث الثاني: أهمية الخلق الحسن
الخلق الحسن في الدعوة إلى الله تعالى من أهم المهمات، ومن أعظم القربات، ومن أولى الواجبات التي ينبغي أن يتصف بها الدعاة، ولابد منها لكل داعية يرغب فيما عند الله تعالى، ويرغب في نجاح دعوته وظهور ثمراتها؛ فإن الدعاة إلى الله تعالى أشدّ حاجة من غيرهم لمعرفة الخلق الحسن وتطبيقه على أنفسهم في جميع مجالات الحياة طلباً لحصول الآثار العظيمة النبيلة في مجتمعاتهم كما حصل في صدر الإسلام؛ فإنه لا يُحصَى من دخل في الإسلام بسبب خلق النبي الكريم عليه الصلاة والسلام سواء كان ذلك الخلق الحسن من: جوده أو كرمه، أو عفوه أو صفحه، أو حلمه أو أناته، أو رفقه أو صبره، أو تواضعه أو عدله، أو رحمته أو منّه، أو شجاعته وقوته.. وهكذا أصحابه الكرام ، ومن أشهر الأمثلة قصة مصعب بن عمير  مع سَيِّدَي: الأوس والخزرج حينما استخدم معهما الخلق الحسن - الرفق والحلم والأناة - فأسلما على يديه، ثم دعا كلٌّ منهما قومه إلى الإسلام، فلم يبقَ بيت إلا دخله الإسلام بفضل الله تعالى ثم بفضل هذا الخلق الحسن العظيم.
وتبرز أهمية الخلق الحسن في الدعوة إلى الله تعالى في أمور منها:
الأمر الأول: الخلق الحسن في حياة المسلم عامة وفي حياة الدعاة إلى الله تعالى خاصة من أعظم روابط الإيمان وأعلى درجاته؛ لقوله : ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً))( ).
الأمر الثاني: الخلق الحسن ضرورة اجتماعية لجميع المجتمعات، وهو من أعظم المهمات التي تتعين على جميع الدعاة إلى الله تعالى؛ لأن من تخلّق به كان من أحبّ الناس إلى النبي  وأقربهم منه مجلساً يوم القيامة: ((إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً))( ).
الأمر الثالث: الخلق الحسن يجعل الداعية إلى الله تعالى من أحسن الناس، ومن خيارهم مطلقاً، ولا يكون كذلك إلا بالتخلّق بهذا الخلق العظيم، قال النبي : ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً))( ).
وقد أحسن الشاعر إذ يقول:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
الأمر الرابع: الخلق الحسن من أعظم القربات وأجلّ العطايا والهبات، والداعية إلى الله تعالى هو من أحق الناس بهذا الخير العظيم؛ ليطبِّقه على نفسه، ويدعو الناس إليه؛ ليحصل على الثواب الجزيل؛ ولهذا قال النبي : ((ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن))( ).
وقال النبي : ((إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم))( )، وقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو: ((أربع إذا كن فيك فما عليك ما فاتك من الدنيا: حفظُ أمانةٍ، وصدق حديث، وحسن خليقة، وعفة في طعمة))( ).
وبهذا يحصل الداعية على جوامع الخيرات والبركات ((البر حسن الخلق))( ).
الأمر الخامس: الخلق الحسن هو وصية رسول الله  إلى جميع الدعاة، فقد أوصى به  معاذ بن جبل حينما بعثه إلى اليمن والياً، وقاضياً، وداعياً إلى الله فقال له: ((.. وخالق الناس بخلق حسن))( ).
الأمر السادس: الخلق الحسن ذو أهمية بالغة؛ لأن الله  أمر به نبيه الكريم، وأثنى عليه به، وعظّم شأنه الرسول الأمين . قال الله : خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْـجَاهِلِينَ ( )، وقال : وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ( )، وقال النبي : ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق))( ).
وسئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلُقِهِ  فقالت: ((.. فإن خلق نبيكم  كان القرآن))( ).
الأمر السابع: الخلق الحسن من أعظم الأساليب التي تجذب الناس إلى الإسلام، والهداية، والاستقامة؛ ولهذا من تتبَّع سيرة المصطفى  وجد أنه كان يلازم الخلق الحسن في سائر أحواله وخاصة في دعوته إلى الله تعالى، فأقبل الناس ودخلوا في دين الله أفواجاً بفضل الله تعالى ثم بفضل حسن خلقه ، فكم دخل في الإسلام بسبب خلقه العظيم.
فهذا يُسلم ويقول: ((والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلها إليَّ ))( ).
وذاك يقول: ((اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً))( )، تأثر بعفو النبي  ولم يتركه على تحجيره رحمة الله التي وسعت كل شيء، بل قال له: ((لقد تحجَّرت واسعاً)).
والآخر يقول: ((فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه ))( ).
والرابع يقول: ((يا قومي أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة ))( ).
والخامس يقول: ((والله لقد أعطاني رسول الله  ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحبّ الناس إليَّ ))( ).
والسادس يقول: بعد عفو النبي  عنه: ((جئتكم من عند خير الناس ))، ثم يدعو قومه للإسلام فأسلم منهم خلق كثير( )، وهناك أمثلة كثيرة جداً.
الأمر الثامن: الخلق الحسن هو أمنية كل مسلم وكل داعية مخلص خاصة؛ لأنه بذلك ينجو ويفوز وينجح في جميع أموره الخاصة والعامة؛ ولهذه الأهمية كان  يدعو ربه أن يهديه للخلق الحسن، فكان  يقول في استفتاحه لصلاة الليل: ((واهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت..))( )، وكان يقول: ((اللهم كما أحسنت خلْقي فحسّن خُلُقي))( ).
الأمر التاسع: الخلق الحسن يحبّب الداعية إلى الناس جميعاً حتى أعدائه، ويتمكن بذلك من إرضاء الناس على اختلاف طبقاتهم، وكل من جالسه أو خالطه أحبه، وبهذا يسهل على الداعية إدراك مطالبه السامية بإذن الله تعالى؛ لأن الدعاة إلى الله  لا يَسعَون الناس بأموالهم ولكن ببسط الوجه وحسن الخلق.
الأمر العاشر: من لم يتخلّق بالخلق الحسن من الدعاة ينفِّر الناس من دعوته، ولا يستفيدون من علمه وخبرته؛ لأن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون ممن يستطيل عليهم أو يبدو منه احتقارهم، واستصغارهم، ولو كان ما يقوله حقاً. قال  للنبي الكريم : فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَـهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَـهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ( ).
وقال :وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِـمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ ( ).
وقال  ممتناً على عباده: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْـمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ( ).
وقال الله تعالى: لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْـمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْـحِكْمَةَ..( ) الآية.
وقال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ( )، وقال: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ( ).
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا * وَبَشِّرِ الْـمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَـهُم مِّنَ الله فَضْلاً كَبِيرًا ( ).
ولا شك أنه يتعين على كل داعية أن يتخذه  قدوة وإماماً لقوله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّـِمَن كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ الله كَثِيرًا ( ).
الأمر الحادي عشر: إن صلاح الأمة وهدايتها والنهوض بها لا يكون سليماً نقياً إلا بالأخذ من المنبع الصافي، والبعد عن الأفكار الهدامة المنحرفة، والتزام الدعاة إلى الله تعالى بالخلق الحسن ودعوة الناس إليه هو من هذا المنبع، وتطبيق ذلك على أنفسهم قبل الدعوة إليه يَا أيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا لِـمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ( )؛ ولهذا أمر الله بالعلم قبل العمل، وبالعمل قبل الدعوة إليه، فقال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ ( )، وقال: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْـحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( )، فقدَّم العمل قبل الدعوة إلى الحق.
الأمر الثاني عشر: الخلق الحسن في الدعوة يجعل الداعية مستنير القلب، ويفتح مداركه، فيتبصَّر به مواطن الحق، ويهتدي به إلى الوسائل والأساليب الصحيحة في دعوة الناس الملائمة للظروف والأحوال، والأشخاص يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ( ) الآية.
الأمر الثالث عشر: الخلق الحسن في الدعوة من أعظم الأسباب التي تُنجي من النار وتُورث الفوز بأعلى الدرجات في جنات النعيم، وهذا هو غاية كل مسلم بعد رضى الله ؛ ولهذا عندما سأل النبي  رجلاً فقال له: ((ما تقول في الصلاة؟)) قال: أتشهّد ثم أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار. أما والله! ما أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ، فقال النبي : ((حَوْلها نُدَنْدِنُ))( )، وهذا يدلّ أن جميع الأقوال والدعوات والأعمال؛ إنما هو من أجل الفوز بالجنة والنجاة من النار بعد رضى الله .
وقد تكفل النبي  ببيت في أعْلى الجنة لمن حسَّن خلقه فقال: ((أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المِراء وإن كان مُحقّاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسَّن خلقه))( )، وسُئل عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال: ((تقوى الله وحسن الخلق))( ).
ويبين النبي  فيما أخرجه الترمذي بإسناد حسن ((أن النار تحرم على كل قريب هيّن سهل))( ).
الأمر الرابع عشر: الخلق الحسن موضوع واسع جداً يشمل: الحلم، والأناة، والجود والكرم، والعفو والصفح، والرفق واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل والإنصاف، والصدق، والبرّ، والوفاء بالعهد، والإيثار، والرحمة، والعفّة، والتواضع، والزهد، والكيِّس والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، والإخلاص... وهذا هو الخلق الحسن في الدعوة إلى الله تعالى وما يتفرّع منه.
أما الخلق العظيم الذي مدح الله به النبي  فهو الدين كله، والخلق الحسن جزء منه كما ذكر ابن تيمية رحمه الله تعالى في الفتاوى( )، وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - في مدارج السالكين: (( حسن الخلق يقوم على أربعة أركان، لا يتصوّر قيام ساقِه إلا عليها: الصبر، والعفّة، والشجاعة، والعدل، ومنشأ جميع الأخلاق الفاضلة من هذه الأربعة))( ).
  

المبحث الثالث: طرق تحصل الخلق الحسن
الأسباب والوسائل التي يكتسب بها الخلق الحسن كثيرة، ولكن من أبرزها على سبيل المثال ما يأتي:
1 - التدريب العملي، والممارسة التطبيقية للأخلاق الحسنة ولو مع التكلّف في أول الأمر، وقسر النفس على غير ما تهوى؛ فالعلم بالتعلم والحلم بالتحلّم، والصبر بالتصبّر، والاستعفاف بالتعفّف، قال : ((ومن يستعفف يعفّه الله ومن يستغن يُغنه الله، ومن يتصبّر يصبِّره الله))( ).
2 - الغمس في البيئة الصالحة؛ لأن من طبيعة الإنسان أن يكتسب من البيئة التي ينغمس فيها ويعيش مع أهلها، فيكتسب ما لديهم من أخلاق، وعادات، وتقاليد، وأنواع سلوك عن طريق المحاكاة والتقليد، وبذلك تتم العدوى النافعة، ولهذا قيل: إن الطبع للطبع يسرق، وأعظم من ذلك توجيه النبي  وبيانه أن الجليس الصالح كحامل المسك إما أن تبتاع منه أو تجد منه ريحاً طيبة( ).
ولاشك أن الرجل على دين خليله، فلينظر كل داعية من يخالل( )
  

المبحث الرابع: فروع الخلق الحسن
تمهيد: فروع الخلق الحسن:
فروع حسن الخلق كثيرة جداً فهو يشمل: الحلم، والأناة، والجود والكرم، والعفو، والصفح، والرفق واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل، والإنصاف، والصدق والإخلاص، والبر، والوفاء، والإيثار والرحمة، والتواضع، والزهد، والكيس والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، وحفظ السر، والورع، واليقين، والتوكل... وهذا مفهوم واسع لا يتسع له هذا المبحث، وقد تقدم في الفصول والمباحث السابقة جملة من هذه الأخلاق الحسنة.
أما في هذا المبحث فسأقتصر على المطالب الآتية:
المطلب الأول: الجود والكرم
الجود والكرم خُلقٌ عظيم وهو على عشر مراتب على النحو الآتي:
1 - الجود بالنفس وهو أَعْلى مراتب الجود.
الجود بالرياسة، فيحمل الجواد جوده على الجود برياسته والإيثار في قضاء حاجات الناس.
3 - الجود براحته، فيجود بها تعباً في مصلحة غيره.
4 - الجود بالعلم وبذله وهو من أعلى مراتب الجود،وهو أفضل من المال.
5 - الجود بالنفع بالجاه كالشفاعة وغيرها.
6 - الجود بنفع البدن على اختلاف أنواعه، فكل يوم تعدل فيه بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فترفع متاعه عليها أو تحمله عليها صدقة، والكلمة الطيبة صدقة.
7 - الجود بالعرض، كمن يعفو عمن اغتابه، أو سبّه، ونال من عرضه، كما فعل أبو ضمضم.
8 - الجود بالصبر، والاحتمال، وكظم الغيظ، وهذا أنفع من الجود بالمال.
9 - الجود بالخلق الحسن، والبشاشة، والبسطة، وهو فوق الجود بالصبر.
10 - الجود بترك ما في أيدي الناس عليهم فلا يلتفت إليه.
ولكل مرتبة من الجود مزيد وتأثير خاص في القلب، والله سبحانه قد ضمن المزيد للجواد والإتلاف للممسك، والله المستعان( ).
وكل أنواع الجود والكرم ينبغي للدعاة أن يتحلوا بها في دعوتهم، ومن الصور العظيمة لتطبيق الجود والكرم ما فعله رسول الله  ومن ذلك:
عن أنس  قال: ما سئل رسول الله  على الإسلام شيئاً إلا أعطاهُ، قال: فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قومي أسلموا فإن محمداً يعطي عطاءً لا يخشى الفاقة( ).
وهذا الموقف الحكيم العظيم يدلّ على عظم سخاء النبي ، وغزارة جوده( ).
وكان  يعطي العطاء ابتغاء مرضاة الله  وترغيباً للناس في الإسلام، وتأليفاً لقلوبهم، وقد يُظهر الرجل إسلامه أولاً للدنيا ثم - بفضل الله تعالى، ثم بفضل النبي  ونور الإسلام - لا يلبث إلا قليلاً حتى ينشرح صدره للإسلام بحقيقة الإيمان، ويتمكّن من قلبه، فيكون أحب إليه من الدنيا وما فيها( ).
ولهذا شواهد كثيرة، منها: ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي  غزا غزوة الفتح - فتح مكة - ثم خرج  بمن معه من المسلمين فاقتتلوا بحنين، فنصر الله دينه والمسلمين، وأعطى رسول الله  يومئذ صفوان بن أمية مائة من الغنم، ثم مائة، ثم مائة، قال صفوان: والله لقد أعطاني رسول الله  ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إليّ، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليّ( ).
وقال أنس : ((إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها))( ).
وإذا رأى النبي  الرجل ضعيف الإيمان، فقد كان  يجزل له في العطاء، قال : ((إني لأعطي الرجل وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يُكبَّ في النار على وجهه))( )؛ ولذلك كان ((يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل))( ).
ومن مواقفه الحكيمة العظيمة في ذلك ما فعله  مع المرأة المشركة صاحبة المزادتين، فإنه بعد أن أسقى أصحابه من مزادتيها، ورجعت المزادتان أشد ملاءةً منها حين ابتدأ فيها قال لأصحابه: ((اجمعوا لها))، فجمعوا لها - من بين عجوة ودقيقة وسويقة - حتى جمعوا لها طعاماً كثيراً وجعلوه في ثوب، وحملوها على بعيرها، ووضعوا الثوب بين يديها، فقال لها : ((اذهبي فأطعمي هذا عيالك، تعلمين والله ما رزأناك( ) من مائك شيئاً، ولكن الله هو الذي أسقانا)).
وفي القصة أنها رجعت إلى قومها فقالت: لقيت أسحر الناس، أو هو نبي كما زعموا، فهدى الله ذلك الصرم( ) بتلك المرأة، فأسلمت وأسلموا( ).
وفي رواية: فكان المسلمون بعد ذلك يغيرون على من حولها من المشركين ولا يصيبون ذلك الصرم الذي هي فيه، فقالت يوماً لقومها: ما أرى أن هؤلاء القوم يدعونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ فأطاعوها، فدخلوا في الإسلام( ).
وقد كان سبب إسلام هذه المرأة أمران:
الأمر الأول: ما رأته من أخذ النبي  وأصحابه من مزادتيها ولم ينقص ذلك من مائها شيئاً، وهذا من معجزات النبي  التي تدل على صدق رسالته.
الأمر الثاني: كرم النبي  حينما أمر أصحابه أن يجمعوا لها، فجمعوا لها طعاماً كثيراً.
أما قومها، فقد أسلموا على يديها؛ لأن المسلمين صاروا يراعون قومها بإقرار النبي  على سبيل الاستئلاف لهم، حتى كان ذلك سبباً لإسلامهم( ).
وهذه الأمثلة التي سُقْتُها ما هي إلا قطرة من بحر من كرم النبي ، فما أحوجنا، وما أولى جميع الدعاة إلى الله  إلى الاقتداء بالنبي  والاقتباس من نوره وهديه في دعوته وفي أموره كلها، والله المستعان.
المطلب الثاني: العدل
العدل له مجالات كثيرة لا تحصر منها: العدل في الولاية، والعدل في القضاء، والعدل في تطبيق الحدود، والعدل في المعاملات بين الناس، والعدل في الإصلاح بين الناس، والعدل مع الأعداء، والعدل مع الأولاد، والعدل بين الزوجات... وغير ذلك.
ومن الأمثلة العظيمة في تطبيق العدل المثال العظيم الآتي:
قد كان النبي  أعدل البشر في جميع أموره وأحكامه، ومما يُضرب به المثل في عدله إلى يوم القيامة قصة المخزومية التي سرقت فقطع يدها بعد أن شفع فيها أسامة، ولكن الرسول  لم يحابِ في ذلك، ولم يقبل الشفاعة في حدٍّ من حدود الله تعالى.
فعن عائشة رضي الله عنها أن قريشاً أهمّهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت في عهد النبي  في غزوة الفتح، فقالوا: من يكلّم فيها رسول الله ؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حِبّ رسول الله  فأُتِيَ بها رسول الله ، فكلّمه فيها أسامة بن زيد، فتلوَّن وجه رسول الله  فقال: ((أتشفع في حدٍّ من حدود الله؟)) فقال له أسامة: استغفر لي يا رسول الله! فلما كان العشي قام رسول الله  فاختطب فأثنى على الله بما هو أهله، فقال: ((أما بعد، أيها الناس: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدّ، وإني والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)).
ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها.
قالت عائشة: فحسنت توبتها بعد، وتزوجت، وكانت تأتيني فأرفع حاجتها إلى رسول الله ( ).
إن العدل خلاف الجور، وقد أمر الله  به في القول والحكم، فقال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ( )، وقال: وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ( ).
ولاشك أن هذا الموقف الحكيم وغيره من مواقفه  مما يوجب على الدعاة تطبيقها أسوة به ( ).
المطلب الثالث: التواضع
يقال: تواضع: تذلّل وتخاشع( )، والمراد بالتواضع: إظهار التنزل لمن يراد تعظيمه، وقيل: تعظيم من فوقه لفضله( ).
والتواضع صفة عظيمة وخلق كريم يجب على الدعاة إلى الله تعالى، وغيرهم، ولهذا مدح الله المتواضعين فقال: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْـجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا ( )، أي يمشون في سكينة ووقار متواضعين غير أشرين ولا متكبّرين، ولا مرحين، فهم علماء، حلماء، وأصحاب وقار وعفّة( ).
والدعاة إلى الله تعالى إذا تواضعوا رفعهم الله في الدنيا والآخرة؛ لقول النبي : ((ما نقصت صدقةٌ من مال، وما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه))( ).
وهذا ما يفتح الله به للداعية قلوب الناس؛ فإن الله يرفعه في الدنيا والآخرة، ويثبت له بتواضعه في قلوب الناس منزلة ويرفعه عندهم ويجلُّ مكانه( )، أمَّا من تكبر على الناس فقد توعده الله بالذلّ والهوان في الدنيا والآخرة؛ لأن الله  ((العزُّ إزاره، والكبرياءُ رداؤه فمن ينازعه ذلك عذّبه))( ).
وعن أنس  قال: كانت ناقة لرسول الله  تُسمّى العضباء وكانت لا تُسْبَقُ، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتدّ ذلك على المسلمين وقالوا: سُبِقَتِ العضباء، فقال رسول الله : ((إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه))( ).
ورسول الله  هو الأسوة الحسنة للدعاة فقد كان متواضعاً في دعوته للناس، فعن أبي مسعود  قال: أتى النبي  رجل فكلّمه فجعل ترعُد فرائصه فقال له: ((هوِّن عَليكَ نفسك فإني لستُ بِمَلِكٍ، إنما أنا ابن امرأةٍ كانت تأكل القديد)) وزاد الحاكم في روايته عن جرير بن عبد الله: ((... في هذه البطحاء))، ثم تلا جرير: وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ( ).
فعلى الدعاة أن يقتدوا برسول الله  فقد كان متواضعاً في دعوته مع الناس، فكان يمرّ بالصبيان فيسلّم عليهم، وتأخذه بيده الأمة فتنطلق به حيث شاءت، وكان في بيته في خدمة أهله، ولم يكن ينتقم لنفسه قط، وكان يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويحلب الشاة لأهله، ويعلف البعير، ويأكل مع الخادم، ويجالس المساكين، ويمشي مع الأرملة واليتيم في حاجتهما، ويبدأ من لقيه بالسلام، ويجيب دعوة من دعاه ولو إلى أيسر شيء، فكان متواضعاً من غير ذلّة، جواداً من غير سَرَف، رقيق القلب رحيماً بكل مسلم خافض الجناح للمؤمنين، لين الجانب لهم( )، فيجب على الدعاة إلى الله  الاقتداء به .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.


الخاتمة: ملخص البحث وأهم النتائج
الحمد لله الذي منّ على عبده الضعيف إليه وحده بمعالجة هذا الموضوع على قدر الفهم والاستطاعة.
لاشك أني قد حاولت في العمل في هذا البحث التسديد والمقاربة، وبذلت ما استطعت من جهد في إعداده، ولا أدّعي الكمال؛ فإن الكمال المطلق من جميع الوجوه لله وحده، وما منا إلا يُؤخذ من قوله ويُردّ إلا محمد عبد الله عليه الصلاة والسلام.
وأسأل الله أن يجعله مباركاً نافعاً لكاتبه، ومن انتهى إليه إلى يوم الدين.
أما أهم النتائج التي أعانني الله عليها، ويسّر سبحانه التوصّل إليها في هذا البحث فهي على النحو الآتي:
1 - إن مقومات الداعية الناجح هي المعدِّلات التي تعدِّل الداعية وتقوِّم اعوجاجه فتجعله مستقيماً معتدلاً، حكيماً منضبطاً في كل أموره، ناجحاً في دعوته موفّقاً مُسدَّداً بإذن الله تعالى.
2 - إن مقومات الداعية الناجح كثيرة متعددة، ولكني اقتصرت على أصولها وأسسها التي تتفرّع منها جميع المقومات، التي لابد لكل داعية من معرفتها والعمل بها وتطبيقها في حياته. وهي في نظري عشرة أصول: العلم النافع، والحكمة، والحلم، والأناة، والرفق، والصبر، والصدق، والإخلاص، والقدوة الحسنة، والخلق الحسن.
ولا ريب أن معرفة الداعية للمقومات التي تجعله ناجحاً في دعوته من أهم المهمات، ومن أولى الواجبات؛ لأن نجاح دعوته، وفوزه برضى ربه، وتوفيقه موقوف على العمل بهذه المقومات.
3 - إن العلم النافع من أعظم مقومات الداعية الناجح؛ ولهذا أمر الله به قبل القول والعمل فقال سبحانه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْـمُؤْمِنَاتِ ( )؛ ولهذا بوّب البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه باباً قال فيه: بابٌ: العلم قبل القول والعمل.
والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول ، قال النبي : ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))( ).
والعلم النافع أقسام ثلاثة: علم بالله وأوصافه وما يتبع ذلك، وعلم بما أخبر الله به مما كان من الأمور الماضية وما يكون في المستقبل، وعلم بما أمر الله به من العلوم المتعلقة بالقلوب والجوارح.
والعلم لابد فيه من إقرار القلب ومعرفته بما طُلِبَ منه عمله وتمامه العمل بمقتضاه؛ فإن العلم النافع ما كان مقروناً بالعمل، أما العلم بلا عمل فهو حجة على صاحبه يوم القيامة. وقد أحسن القائل حيث قال:
عليك ولم تُعْذَرْ بما أنت جاهله
إذا العلم لم تعمل به كان حجةً حجة

فإنما يصدق قول المرء ما هو فاعله فإن كنت قد أوتيت علماً

والعلم له طرق يكتسب بها، ومن أعظمها: أن يسأل العبد ربه العلم النافع، وأن يجتهد في طلبه، وأن يبتعد عن جميع المعاصي؛ لأنها سبب في حرمان العلم، وأن لا يستحيي من طلب العلم، ولا يتكبر عن طلبه، وأن يخلص في الطلب.
4 - إن الحكمة هي الركن الأعظم من مقومات الداعية الناجح، وهي بلا شك الإصابة في الأقوال والأفعال، ووضع كل شيء في موضعه بإحكام وإتقان.
والحكمة تكون تارة باستخدام الرفق واللين، وتارة باستخدام الموعظة الحسنة، وتارة تكون باستخدام الجدال بالتي هي أحسن، وتارة تكون باستخدام القوة لمن كان له سلطة مشروعة بالضوابط التي دلّ عليها الكتاب والسنة.
والحكمة حكمتان: حكمة علمية وحكمة عملية وهي درجات بيّنها أهل العلم، والحكمة لها طرق تكتسب بها وتُحصّل بها، فإذا سلك الداعية هذه الطرق وُفِّق لاكتساب الحكمة بإذن الله تعالى، ومن أبرز وأهم هذه الطرق الطرق الآتية:
الطريق الأول: السلوك الحكيم الذي يسلكه الداعية في حياته وتصرفاته، وسيرته.
الطريق الثاني: العلم بالعمل المقرون بالصدق والإخلاص.
وما أحسن وأجمل ما قاله الشاعر الحكيم:
وأنت لكل ما تهوى ركوب
وكيف يصح أن تُدْعى حكيماً

الطريق الثالث: الخبرات والتجارب؛ لأن التجارب لها الأثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات.
الطريق الرابع: السياسة الحكيمة ومن أعظمها: تحرّي أوقات الفراغ والنشاط والحاجة عند المدعوين، حتى لا يملّوا عن الاستماع، وترك الأمر الذي لا إثم في تركه ولا ضرر اتقاءً للفتنة، وهذا يبيّن للداعية أن المصالح إذا تعارضت أو تعارضت مصلحة ومفسدة وتعذّر الجمع بين فعل المصلحة وترك المفسدة بُدِئَ بالأهم، فإنّ دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح، ودفع أعظم المفسدتين أو الضررين باحتمال أيسرهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.
الطريق الخامس: فقه ركائز الدعوة وأركانها؛ فإن الداعية لا يكون حكيماً حتى يعرف موضوع الدعوة الذي يدعو إليه، ومن هو الداعي، وما هي الصفات والآداب التي ينبغي أن تتوافر في الداعية؟ ومن هو المدعو، وما هي الوسائل والأساليب التي تستخدم في نشر الدعوة وتبليغها؟
والداعية الحكيم هو الذي ينزل الناس منازلهم، ومراتبهم، فيدرس الواقع لأحوال الناس ومعتقداتهم، ونفسياتهم، ويعرف مراكز الضلال ومواطن الانحراف معرفة جيدة، ثم يدعوهم على حسب أحوالهم وما يحتاجون إليه، فالداعية الحكيم كالطبيب الذي يُشخِّص المرض، ويعرف الداء ويحدّده، ثم يعطي العلاج والدواء المناسب على حسب حال المريض ومرضه، مراعياً في ذلك قوة المريض، وضعفه وتحمّله للعلاج، وقد يحتاج المريض إلى عملية جراحية فيشقّ بطنه، أو يقطع شيئاً من أعضائه؛ من أجل استئصال المرض طلباً لصحة المريض، وهكذا الداعية الحكيم يعرف أمراض المجتمع، ويحدّد المرض تحديداً دقيقاً، وينظر ما هي الشبه والعوائق فيزيلها، ثم يقدم العلاج المناسب بدءاً بأمور العقيدة الإسلامية الصحيحة مع تشويق المدعوّ إلى القبول والإجابة.
5 - إن الحلم هو ضبط النفس والطبع عن هيجان الغضب، وهو من أعظم مقومات الداعية الناجح، وما أكثر الصور التطبيقية التي فعلها رسول الله  وأصحابه الكرام  في مجال الحلم في الدعوة إلى الله تعالى فدخل الناس في دين الله أفواجاً بفضل الله تعالى ثم بتطبيق هذا المقوم العظيم.
والحلم له طرق يكتسب بها إذا سلكها الداعية كان حليماً وموفقاً.
6 - إن الأناة من أعظم مقومات الداعية الناجح، وهي من صفات أصحاب العقل والرزانة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش، وهي تدلّ على أن صاحبها لا يملك الإرادة القوية التي تضبط نفسه؛ فإن الأناة عند الداعية تجعله يحكِّم أموره ويضع الأشياء مواضعها، والتثبت في الأمور الواقعة وفي الأخبار الواردة حتى تتضح وتظهر، والاستيثاق من مصدرها قبل الحكم عليها أوْ لها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا ( ) وكم من الصور التطبيقية للأناة في الدعوة إلى الله تعالى التي طبقها رسول الله  وطبقها مِنْ بعدِهِ أهل العلم والإيمان فنفع الله بها؟
7 - إن الرفق هو لين الجانب بالقول والفعل، والأخذ بالأيسر والأسهل، وحسن الخلق وكثرة الاحتمال، وعدم الإسراع بالغضب والتعنيف والشدة، وهو من أعظم مقومات الداعية الناجح؛ ولهذا قال النبي : ((إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه))( )، وقال : ((يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا))( ).
8 - إن الصبر هو منع النفس وحبسها عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عن التشويش، وهو يمنع صاحبه من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها وقوام أمرها، وهذه القوة تمكِّن الداعية من ضبط نفسه لتحمّل المشاق والمتاعب والآلام ابتغاء مرضاة الله تعالى، وهو من أعظم مقومات الداعية الناجح، ويحتاجه الداعية قبل الدعوة، وأثناء الدعوة، وبعد الدعوة كما بيّن ذلك أهل العلم والإيمان.
والصبر في الدعوة بمثابة الرأس من الجسد، فلا دعوة لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له.
والصبر ينتصر به الداعية على عدوه مع الأخذ بالأسباب المشروعة وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ( ).
فلابد للداعية أن يصبر على دعوته وما يدعو إليه، وعلى ما يتعرّض دعوته من معارضات، وعلى ما يصيبه هو من أذى، فإذا فعل ذلك كان إماماً يُقتدى به: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ( ).
9 - إن الصدق والإخلاص في الدعوة إلى الله: هو التقرّب بهذا العلم إلى الله وحده: لا رياءً ولا سمعةً، ولا طلباً للعرض الزائل، ولا تصنعاً وإنما يرجو ثواب الله ويخشى عقابه، ويطمع في رضاه، ويقصد بدعوته وسائر تصرفاته وتوجيهاته وجه الله وحده لا شريك له، ولا رب سواه. ولهذا قال سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ...( ).
والصدق يكون في القصد والنية وهو الإخلاص، وفي القول بالأخذ بالحق ونبذ الباطل، وفي العمل بموافقة القول، وهذه المجالات تحت قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ الله وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ( ).
10 - إن القدوة الحسنة هي أن يكون الداعية قدوة صالحة فيما يدعو إليه فلا يناقض قوله فعله ولا فعله قوله، وهي من أعظم مقومات الداعية الناجح؛ لأن الناس ينظرون إلى الداعية نظرة دقيقة دون أن يعلم أنه تحت رقابة مجهرية، فرب عمل يقوم به الداعية من المخالفات لا يلقي له بالاً يكون في نظرهم من الكبائر والموبقات؛ لأنهم يعدّونه قُدوة، وقد يراه الجاهل على عملٍ غير مشروع فيظن أنه على حق، ومعلوم أن الداعية إذا كان عاملاً بما يدعو إليه كان ذلك أيسر في إيصال المفاهيم التي يريد الداعية إيصالها للناس المقتدين به؛ لأن كثيراً من الناس ينتفعون بالسيرة الحسنة أكثر مما ينتفعون بالأقوال، ولاسيما عامة الناس؛ ولهذا قال سبحانه: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِـحًا...( ) وقد ذم سبحانه من خالف قوله فعله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا
تَفْعَلُونَ ( )، ، أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ( ) ، وما أحسن ما قاله القائل:
هلاَّ لنفسك كان ذا التعليم
يا أيها الرجل المعلِّم غيره

فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها

بالعلم منك وينفع التعليمُ
فهناك يقبل ما تقولُ ويُقتدى

عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيم
لا تنهَ عن خلقٍ وتأتي مثله

11 - إن الخلق الحسن حالة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال الحسنة الجميلة وهو من أعظم مقومات الداعية الناجح، وإذا تخلَّق به الداعية أحبه الناس جميعاً حتى أعدائه في الغالب، فيتمكن بذلك من إدراك مطالبه السامية بإذن الله تعالى؛ لأن الداعية لا يسع الناس بماله ولكن ببسط الوجه وحسن الخلق.
ومن التجارب الملموسة والمشاهدة أن من لم يتخلق بالخلق الحسن من الدعاة ينفر الناس من دعوته، ولا يستفيدون من علمه وخبرته؛ لأن من طبائع الناس أنهم لا يقبلون ممن يسيء إليهم، ويبدو منه احتقارهم ولو كان ما يقوله حقاً؛ ولهذا قال الله تعالى لنبيه الكريم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَـهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَـهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ... ( ).
والخلق الحسن موضوع واسع جداً يشمل: الحلم، والأناة، والجود، والكرم، والعفو والصفح، والرفق واللين، والصبر والعزيمة، والثبات، والعدل والإنصاف، والصدق والإخلاص، والبر والإحسان، والوفاء، والإيثار، والرحمة، والتواضع، والزهد، والكيس والنشاط، والسماحة، والمروءة، والشجاعة، والأمانة، وحفظ السر، والورع، واليقين، والتوكل، وهذا مفهوم واسع إذا عمل به الداعية كان ناجحاً في دعوته بعون الله.
والله أسأل أن يوفق جميع علماء المسلمين ودعاتهم إلى العمل بهذه المقومات، وأن يزيدني وإياهم علماً، وهدىً، وتوفيقاً، وأن يحسن لي ولهم ولجميع المسلمين العاقبة في الأمور كلها، وأن يجيرنا جميعاً من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تأليف الفقير إلى الله تعالى
سعيد بن علي بن وهف القحطاني

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك