بلورة فكرية في خضم الغربة!
هبة الشرع
رغم أن ثلاث سنوات من الغربة لا تعدّ مدةً طويلة نسبياً، إلاّ أنني لم أعي حقاً كم أضافت لي حتى عدْتُ إلى بلدي مؤخراً.. من عادتي أنْ أعهدَ إلى حديث النفس بين حينٍ وآخر مُحاوِلةً إعادة النظر إلى الأمور من خارج منظوري الشخصي تقليلاً لتلك النزعة البشرية في الانحياز لنفسي.. وهنا وجدْتُ أنّني حدّثْتُ كثيراً من فلسفتي الخاصة في الحياة وكان للغربة تأثيرٌ بارزٌ في ذلك لم ألحظْهُ كثيراً لحين عودتي إلى بلدي، وأظنُّ أنّ أقرب وصف لذلك يُشبه الخروجَ من القوقعة إلى عالمٍ خارجيٍّ جديد ثمّ العودة إليها ثانيةً..
وجدْتُ أنّ الغربة في المقام الأول هي امتحانٌ مبهم ومعقّد لعقيدتك ومنظومتك الفكريّة وجُلّ ما اعتدْتَ عليه وأَلِفْته وترعرعتَ عليه منذ صغرك.. حين تعيشُ في مجمتعٍ يؤمن بالنظرة المشتركة للأمور وما يبدو "منطقياً" للغالبية من الأفراد وما يعزّزه الدين والعادات والتقاليد في قَوْلبةِ تفكيرك منذ نعومة أظافرك، فإنّك لا تشعر بالغرابة داخلَ مجتمعك بل غالباً ما تنتقد مَنْ يُخالف ذلك بامتعاضٍ واستغراب.. إلاّ أنّ الخروج من هذه القوقعة إلى عالمٍ مفتوح تجدُ فيه من كلّ الأعراق والأديان أو الّلادين والخلفيات الثقافية والاجتماعية والفكرية يتعايشون معاً تحت سقف القانون الذي يقدّس الحرية الشخصية ويحترم النظرة الفردية ويدعو إلى تقبّل الاختلاف من منظور الانفتاح والديمقراطية، فإنّك وللوهلةِ الأولى تتخبّط في داخلك بين ما نشأْتَ عليه وعهِدْته واعتقدْتَ أنّه صحيح بشكلٍ مطلق ولا مجال للنقاش فيه، وبين ما تراه من أنماط حياة وتفكير مختلفة لا حصر لها في البلد الذي هاجرْتَ إليه.. وهنا يبدأ نزاعُ الهوية على شكل امتحانٍ لعقيدتك ومنظومتك الفكرية..
هكذا هي الغربة بما تفرضه من أزمة الهوية، فقد يبدو كلّ هذا سهلاً إلّا أنّه أصعب مما تظن في ظلّ الهيمنةِ الغربية على الفكر ونمط الحياة الحديثة وخاصةً حينما تكونُ مُصنَّفاً بطريقةٍ ضمنية من فئةِ الأقليّات |
ويبدأ معه مرحلة أُسمّيها البَلْوَرة الفكرية.. أو ربما إعادة التدوير.. هنا تبدأ بالنظر إلى نفسك ومن حولك.. يعتريك الشكّ أحياناً حين تقول لنفسك "ولدْتُ مسلماً.. أو مسيحياً.. أو لأيّ ديانة أو ملّة أخرى.. لم أخترْ ديني، ولا عِرقي، ولا أهلي وما أنشؤوني عليه.. ماذا لو كان الآخرون على صواب وما أنا عليه هو خطأ؟".. تخشى على نفسك من الانصهار الكليّ في منطق الغير حدَّ التلاشي.. ثم تبذلُ جهداً أكبر لفهم معتقدك فتتعمّق به أكثر وتَقنَعُ به أكثر كي تجرؤ على أن تكون "مختلفاً" في المجتمع الجديد بما وقر في قلبك وعقلك من ايمانٍ وقِيَم.. تخالط أناساً جُدد.. تتعلم منهم الكثير.. تقرّر بنفسك ماذا ستأخذ عنهم لتضيفَ لنفسك، وكيف ستتعايش مع ما لا يعجبك منهم دون أن يؤثر ذلك على قدرتك على الانخراط مع من حولك في المجتمع الجديد بلطفٍ وانفتاح وتقبّل للآخر.. تعيد النظر فيما ورثته عن مجتمعك من عادات وتقاليد كما تعيد النظر في توضيب خزانتك وأغراضك القديمة.. تقول لنفسك مراجعاً ما يحويه عقلك من معتقدات "هذا ثوبٌ بالٍ وما عاد يصلح.. هذا لا يناسبُ الأجواء المحلية..
هذا ثمين لديّ ولا يمكن أن أفرّط به يوماً! هذا كان لوالدي وأرغب أن أحتفظ به لأولادي.. هذا لا بأس به هنا.. هذا لم يعد مقاسه أو تفصيله ملائماً فقد تقدّمْتُ بالعمر.. وهذا - يا إلهي كم يبدو هذا ساذجاً - عليّ أن أشتري شيئاً جديداً في أسرع وقت".. وهكذا تستمر في انتقاء ما يناسبك وما أنت مقتنع بأهميته وترمي ببعض الأثقال والأعرافِ القديمة وتساؤلُ نفسَك لِمَ لم تتخلص منها منذ زمن! فتتكوّن لديك منظومة فكرية مُبَلْورة تفرح بها لأنها تناسبك لشخصك.. فقد كوّنتَها بنفسك بعد جُهدٍ طويل من الصراع الداخلي.. وتصبح قوياً جداً بعدها فما عاد يقلقك تقبّل الآخرين لك في المجتمع الجديد لأنك تعي أهمية ما احتفظتَ به رغم عدم شيوعه بين من حولك، وما عُدْتَ تأبه بما استغنيتَ عنه من تقاليد مجتمعك الأصليّ لأنك توصّلتَ بعقلك لعدم أهميته أو صحته أو ملاءمته للبلد الذي تقيم فيه، أو لأنّ بعض مبادئه تضمحلُّ تدريجياً في الفجوة الزمنية بين الأجيال القديمة والأجيال المُعاصرة وبما يفرضه زمن التقدم التكنولوجي.
إنّ تجربةَ الغربة في بلدٍ أجنبيّ كتجربةِ الغوص في المحيط، تبدو مثيرةً وثريةً بالمغامرة في البداية حتى تعي عند خوضِها حجمَ الضغط العمودي الهائل للماء من فوقك كلما زاد عمق التجربة وفي هذه اللحظات بالذات تستطيع اتخاذ القرار: هل يغدو منظر المحيط بزهوه وكائناته الفريدة على اختلاف أشكالها وألوانها مُغرياً للبقاء وإكمال التجربة، أم أنكَ ما عُدْتَ تحتملُ ضغطَ الماء الساحق لرئتيك الصغيرتين؟ وهكذا هي الغربة بما تفرضه من أزمة الهوية، فقد يبدو كلّ هذا سهلاً إلّا أنّه أصعب مما تظن في ظلّ الهيمنةِ الغربية على الفكر ونمط الحياة الحديثة وخاصةً حينما تكونُ مُصنَّفاً بطريقةٍ ضمنية من فئةِ الأقليّات في المجتمع الأجنبيّ الذي تسعى فيه إلى الاندماج المشروط والمتّزن فلا تنخرطُ فيه كلّ الانخراط فتطمسُ ملامحَ هويّتك العربية، ولا تلوذُ عنه فتصبحَ منعزلاً منطوياً على نفسك كمن يعيشُ في زنزانةٍ زجاجيةٍ لا مرئية يراقبُ العالمَ الخارجيّ دون أن يستطيع التفاعلَ معه أو الخوضَ في تجاربه.
ربما تصل إلى سلامٍ نفسيّ جميل بعد كل ما سبق، إلّا أنّك حين تعود إلى "قوقعتك" كزائرٍ مشتاق.. فإنك ستدهشُ بحجم التغيير الذي وصلتَ إليه.. وكم أصبحتَ غريباً نوعاً ما عمّن حولك.. تقابل كثيراً من الأمور بالصمت.. وبعضها الآخر بالتجاهل والتجلّي.. وبعضها بالحوار ومحاولة الإقناع فقد أصبح "منطقك" مخالفاً "لمنطق الغالبية" في بلدك رغم أنك تعلّمْتَ في الغربة أنّ كل إنسان له منطقٌ مختلف وقد يبدو لك "منطقياً" رغم أنك غير مقتنع به.. يراودك شكٌّ لوهلةٍ بأنك أصبحتَ غريب الأطوار ثم تتغافل عن كل شيء وتمضي محاولاً الاحتفاظ بتوازنك الداخلي لأنك لا تريد إعادة بعثرته مجدّداً فقد تعبْتَ في توضيبه مسبقاً.. تحاول الاستمتاع بكل ما هو جميل وتثمّن جداً تلك اللحظات التي تسترقها مع مَن تحب.. تصل إلى تلك القناعة الجوهرية بأنّك قادر على أن تتعلم شيئاً جديداً من كل شخصٍ تقابله بحيادية بالغة عن أصله وعمره وعرقه ومركزه وتجعل الإنسانية أساس كلّ علاقة مع من حولك أينما كنت وحللت.. تؤمن أنّها اللغة العجيبة التي توحّد الجميع وتذوب عندها الفروقات..