الدين والمجتمع والشأن العام في الديانات الكبرى

الدين والمجتمع والشأن العام في الديانات الكبرى

مصطفى بوهندي*

سأركز اهتمامي على مدارسة الموضوع من خلال الأديان الإبراهيمية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، دون أن أنكر أن ديانات أخرى كبيرة في شرق أسيا وجنوبها وفي باقي أنحاء العالم تحتاج إلى اهتمام أكبر ودراسات أوفى.

ارتبطت الديانات الإبراهيمية الثلاث بالأب إبراهيم -عليه السلام-، باعتباره المؤسس الأول لديانة التوحيد، وقد ورد في سفر التكوين بيان هذا التأسيس من خلال أمر الرب لإبراهيم بالخروج من بلده إلى الأرض التي اختار له الله(1)، فأصبح إبراهيم بهذا الخروج أساسا للبركة في الأرض؛ وبالتأكيد لم يكن تركه لعشيرته وبلده وبيت أبيه من أجل أن يقتني أراضي(2) ويجمع أموالا ومواشي لنفسه وآل بيته، كما قد نستشفه من بعض النصوص أو نقرأه في بعض الروايات والتفسيرات، وإنما كان خروجه من أجل أعظم مهمة في الأرض، وهي مباركة جميع الأمم ، من المكان الذي أوصاه الله بأن يسير إليه، ويستقر فيه، ويقوم بمهام البركة للعالمين، ولذلك سمي إبراهيم(3)، بمعنى أبو جمهور من الأمم، وليس أبا أمة واحدة كما يدعي كثيرون.

وإذا كانت قصة سفر التكوين لم تتحدث عن الحياة الدينية لإبراهيم قبل هجرته إلى الأرض المباركة لجميع الأمم، فإن إشارات مهمة إلى الموضوع قد وردت في أسفار أخرى، منها ما ورد في سفر يشوع(4) وهو يتحدث عن آباء إبراهيم الذين كانوا في عبر النهر وعبدوا آلهة أخرى، ومنها ما ورد في أسفار غير قانونية كرؤيا إبراهيم، ووصية إبراهيم، وكتاب الخمسينيات(5) وغيرها، والتي تحدثت بتفصيل عجيب عن الحياة الدينية لإبراهيم وقومه قبل الهجرة إلى الأرض المباركة؛ حيث كانوا يعبدون الأصنام والكواكب والملوك وغيرها من الكائنات التي لا يمكن بحال أن تكون آلهة، وكان لإبراهيم مواقف عديدة ظهرت فيها ثورته على كل الآلهة المزعومة ورفضه للاعتراف بها، حتى أنه كسرها وهدّم معبدها، فأراد قومه أن يحرقوه فأنجاه الله من النار، وإن جزءا من قصة يربعل الواردة في سفر القضاة(6) هي عينها قصة إبراهيم الواردة في الأسفار الكتابية المنحولة...

وقد تحدث القرآن الكريم بإسهاب عن قصة إبراهيم قبل الهجرة، في سور متعددة، مبينا مفهوم دين التوحيد ومميزا له عن دين الشرك، فتحدث عن مواجهته لأبيه وقومه في شأن الأصنام التي كانوا يصنعونها، وفي شأن الكواكب التي عبدوها، وفي شأن الملوك الذين يستكبرون عليهم بغير الحق، حتى وصل الأمر إلى محاولة إحراقه فنجاه الله من النار، وبعد ذلك نال الجزاء الأوفى بأن جعله إماما للعالمين في بيت الله الحرام؛ وعهد إلى الصالحين من ذريته بالإمامة الدينية في ذلك البيت(7)، وإن كانت بعض التوجيهات الحاخامية تريد أن تجعل العهد بالإمامة عهدا بملكية الأرض وطرد أهلها منها(8) وإبادتهم(9) والاستيطان فيها مكانهم، كما تريد أن تصرف أنظار قارئي الكتاب المقدس عن بيت الله (بيت إيل) الذي أسسه إبراهيم بتلك الأرض، واستمر في أداء مهامه الدينية العالمية منذ ذلك الحين وإلى يوم الناس هذا، من غير انقطاع كما هو موعود به في الكتب المقدسة والقرآن الكريم؛ وهذه التوجيهات تتعارض مع البركة العالمية التي هي المهمة الأساسية لإبراهيم وذريته في ذلك المكان المبارك(10).

وخلاصة الأمر أن اختيار إبراهيم للهجرة لم يكن أمرا عبثيا(11)، إنما كان بسبب الاستحقاقات التي استحقها إبراهيم، بعد أن نجح في امتحانات عدة، حصل منها على أجر عظيم، فوعده الله بأن يعظّم اسمه ويجعله بركة، ويجعله أمة عظيمة، وتخرج منه أمم عديدة(12)، وتتبارك فيه جميع أمم الأرض. فهاجر تاركا بيت أبيه وعشيرته وأرضه، والتحق بالمكان المعلوم، وهناك بنى بيتا لله، سماه (بيت الله) (بيت إيل) وقدم فيه الذبائح وطقوس العبادة وأقام فيه(13).

لم يهتم الكاهن ولا الربي اليهودي، ولا المترجم والمفسر الكتابي عموما، بهذا البيت، رغم أنه بيت الله، ومكان العبادة الأول، ومقام إبراهيم وبنيه من بعده، ومنه انطلقت البركات لتشمل جميع قبائل الأرض؛ لأن الدين في الفكر اليهودي أصبح خاصا بالشعب المختار، مرتبطا بالتاريخ والمجتمع الإسرائيلي دون غيره من المجتمعات البشرية، ولم يعد دينا عالميا؛ كما أن أئمة هذا الدين وكهنته وخدام معبده، لابد وأن يكونوا من هذا الشعب دون غيره من الشعوب، لذلك لم ينل (بيت الله) الذي أقام فيه إبراهيم، كبير عناية من طرف الكهنة أولا، وبقية الدارسين والباحثين والمفسرين والمترجمين، لأنهم كانوا يرددون في أهم قضايا العهد القديم آراء وأقوال الكهنة والربيين اليهود وأفكارهم.

والسبب في عدم اهتمام اليهود ببيت الله يرجع إلى أن بني إسرائيل قد تركوا هذا البيت منذ فترة مبكرة، عندما دعاهم يوسف وجميعَ أبنائهم للالتحاق بمصر، لمّا أصابتهم المجاعة، وأنقذهم يوسف واستضافهم في البلاد الجديدة، فخرجوا من هذا البيت وانقطع تاريخهم عنه، إلا ما كان من زيارة أنبيائهم وصالحيهم له في مناسبات العبادة كما تحدثنا كثير من أسفار العهد القديم. وعندما كانوا يجمعون نصوص أسفارهم لم يكن لهم بيت عبادة، لأن هيكلهم قد ضاع، و الذين بقوا في (البيت العتيق) هم أبناء عمومتهم من الإسماعليين والهاجريين والعمونيين وبني الأنبياء، الذين لم يكن ينظر إلى إمامتهم لهذا البيت إلا باعتبارها إمامة غير مقبولة، وعبادة لغير الله، ودينا للمشركين وكهنة المرتفعات، ولذلك كانت قصص هدم هذا البيت وإحراقه، والقتال فيه وموت ملوكه ورؤسائه، والتشاجر فيما بين سكانه وإفناء بعضهم لبعض هي السمة الغالبة على أخباره، وإذا ذكرت في بعض الأحيان زيارة بعض الأنبياء له، سنة بعد سنة، وإقامة الشعائر فيه، فإنها تُفسَّر غالبا بكونها أخطاء من هؤلاء الأنبياء، فصموئيل وشاؤول وداود وسليمان وغيرهم، أخطأوا عندما قدَّموا قرابينهم في هذا المكان، وذبحوا في المرتفعة العظمى لآلهة غير بني إسرائيل، وعبدوا آلهة بني عمون وآلهة الشعوب الأخرى.

لهذا السبب لم يجرؤ أحد من المترجمين على ترجمة (بيت إيل) بـ (بيت الله)، سواء إلى اللغة العربية أو إلى غيرها من اللغات الأخرى، مع أن لفظة (بيت) تعني (بيت) و(إل) تعني (الله)، والعجيب أن هاتين اللفظتين دائما تترجم بـ (بيت) وبـ (الله) إلا في موضوع (بيت الله) الذي أسسه إبراهيم، وحج إليه كل الأنبياء من بعده، وقد جاء في سفر التكوين حديث عن يعقوب، وهو ينام في مكان ويرى رؤية يعرف من خلالها أنه في المكان المقدس الذي هو باب السماء، والذي هو بيت الله، ويسميه مرة ثانية (بيت إيل)(14):

لكن بني إسرائيل في تاريخهم الخاص أنشأوا بيتا بديلا للعبادة هو بيت الرب، أو الهيكل (الذي بناه نبي الله سليمان)، وعندما أُُخرجوا منه وهُدمت أساساته وسلبت آنيته، ووقعوا في الأسر والسبي البابلي، تطلعوا إلى هيكل جديد بديلا لهيكلهم الضائع، وليس –بالتأكيد- (بيت الله) القائم أي (بيت إيل)، لأن أئمته الموجودين فيه آنذاك ليسوا من بني إسرائيل، وارتبط بالهيكل المأمول كل الأماني الإسرائيلية في الخلاص من التشرذم والشتات والاستضعاف، واسترداد الملك الضائع، والانتقام من أعدائهم الذين أذلوهم واحتقروهم وسخَّروهم، وكذلك الذين أخذوا مكانتهم في إمامة البيت العتيق، وحرموهم من أن يكونوا كهنة لـ(بيت إيلوهيم)، في المكان الذي اختاره (كل أيام الدهر).

وتبلورت تبعا لتلكم الأماني صورة المسيح المخلص، الذي سيُخلص بني إسرائيل من طغيان الأمم مثلما خلصهم موسى من بطش فرعون، و يعيد ملك داود ويكون من نسله، ويجلس على كرسي أبيه سليمان ويقيم هيكله ويحاكم أعداءه وينتقم منهم شر انتقام؛ ويحقق لهم وعد إبراهيم بامتلاك أرض الميعاد ملكا أبديا، لهم ولنسلهم دون غيرهم من العالمين.

أصبحت هذه الأماني جزءا من الاعتقاد اليهودي الكهنوتي، وأثرت في الحكم على بيت الله الذي أقامه إبراهيم، وكان يحج إليه كل أنبياء بني إسرائيل ومنهم يعقوب الأب نفسه -عليه السلام-؛ كما أصبح الدين في المنظومة اليهودية مرتبطا بسبط من أسباط بني إسرائيل هم بنو لاوي، وأصبحت الكهانة فيه مرتبطة بفرقة من هذا السبط، وهم بنو هارون، ولا يمكن لغير بني لاوي القيام بالخدمة الدينية، كما لا يمكن لغير بني هارون القيام بأعمال الكهنوت؛ وبذلك تأسست الكنيسة اليهودية وما ارتبط بها من كهنة وربيين وخدام بيوت العبادة، وتأسست معها حقوق وواجبات هؤلاء المشتغلين بالخدمة الدينية، ومنها العُشُر من كل شيء للاويين، وعُشر العشر لبني هارون؛ ومنها أبكار كل شيء، ومنها القرابين والتقدمات من كل شيء عن كل إثم أو خطيئة أو سلامة أو نذر، وهو ما حدثنا عنه بإسهاب سفر الخروج واللاويين والعدد والتثنية، وأُعيدَ ذكر بعض تفاصيله في عدد من الأسفار القانونية الأخرى. فاكتسبت الكنيسة اليهودية سلطة دينية على المجتمع، وتحول الدين إلى علاقة بين الله والناس عن طريق رجال الدين، فهم الذين يحدّدون نوعية القرابين والتقدِمات والشعائر، وشكلها وقيمتها ومناسباتها، وغير ذلك مما يتعلق بأمور العبادة، وإليهم يرجع أمر قبولها أو رفضها، فمن قبلوا قرابينه وتقدماته وشعائره فهو المقبول والمبارك، ومن رُفضت له فهو المرفوض والملعون.

لم يكن الأمر كذلك على العهد الإبراهيمي، وفي (بيت الله) المبارك للعالمين، ولم تكن إمامة البيت الحرام على ذلك العهد كهنوتا بين الناس وبين الله، كما تحوّل فيما بعد، ولم يكن مفهوم الدين محصورا في جانب الذبائح والتقدمات والشعائر، يستفيد منها الكهنة والربيون وأقرباؤهم، ولم يكن خاصا بشعب دون غيره من الشعوب، ولا بسبط دون باقي الأسباط والفرق.

كان الجانب الاجتماعي في الدين حاضرا بقوة، وكانت مباركة العالمين ونفع عموم الناس هي الغاية والمقصد من خروج إبراهيم من أرضه وتركه عشيرته وبيت أبيه، والذهاب إلى الأرض الجديدة، ليكون بركة وتتبارك فيه جميع قبائل الأرض، ولذلك تُحدثنا أخبار كثيرة من الأسفار المقدسة القانونية والأبوكريفا عن هذه البركة وعن هذا العطاء الذي لا حدود له من كرم إبراهيم -عليه السلام-، نذكر منها ما جاء في بعض روايات الهاكاداه اليهودية عن البيت الذي بناه إبراهيم:

(فقد جاء إبراهيم إلى مفترق طرق، فبنى بيتا وجعل له أربعة أبواب، كل باب في اتجاه طريق من الطرق الأربع، شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وغرس فيه أشجارا وهيأه لاستقبال الزوار، الذين يدخلون من أي باب شاءوا، حسب الطريق التي جاءوا منها، فيؤويهم ويطعمهم ويسقيهم، ومن كان عريانا كساه، ومن كان فقيرا أعطاه ذهبا وفضة، ويحسن ضيافتهم حتى يستوفوا؛ وعندما يريدون المغادرة، فيرغبون في شكره على الضيافة، يقول لهم، لا تشكروني أنا بل اشكروا مضيفكم؛ فيسألونه من هو؟ فيخبرهم بأنه الله، فيطلبون منه أن يعرفهم به، فيبين لهم أنه خالق السماوات والأرض، لا يشاركه في خلقه أحد، وهو العليم الرحيم الرزاق المشافي الكريم، ويعدد لهم صفاته، فيسألونه عن كيفية شكره؟ فيبين لهم طرق شكره بالقيام بمجموعة من الشعائر من صلاة وصيام وذبائح، وبالإنفاق على الفقراء والمحتاجين والمساكين والأرامل والمستضعفين، وكل أفعال الخير التي يمكن القيام بها، وبذلك أصبح بيته ليس بيت ضيافة فقط، وإنما بيت عبادة وتعليم).

انطلاقا من هذا النص، نفهم ما معنى أن يكون إبراهيم بركة وأن تتبارك فيه وفي نسله جميع قبائل الأرض، في المكان الذي أمره الله أن يهاجر إليه، ويبني فيه (بيت الله).

فالبركة هي كل المنافع التي تصل إلى الناس، إذ كان الجائعون يقصدون بيت الله ليشبعوا والخائفون يقصدونه ليأتمنوا، رغم أنه يقع بواد غير ذي زرع، لكنه تجبى إليه ثمرات كل شيء. وكان الأغنياء يأخذون إليه عُشور أموالهم وزكاة ممتلكاتهم ونذورهم وهداياهم وكفّاراتهم، ويشكروا الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، ويطعموا منها البائس الفقير، والقانع والمعتر، ويُغنوا بها المحتاج والمسكين، ويأتمن فيها الهارب والخائف والمستضعف، ويُعالج المريض ويُعلّم الجاهل، ويستغفر المذنب ويتوب إلى الله، ويشهد عموم الناس منافع لهم ، فتعم البركة البلاد والعباد. ولذلك كانت تلك الأرض مباركة للعالمين، وكانت رسالة إبراهيم هي أساس البركة فيها.

غير أن الاتجاه الذي سار فيه رجال الدين اليهود لم يسمح بكل هذا الانفتاح، حيث أقصيت كل الشعوب الأخرى، بدءا من بكر إبراهيم إسماعيل، وانتهاء بآخر شعب يوجد في الزمن الإسرائيلي؛ وأصبحت البركة خاصة بالشعب المختار لها، وهي تورث كما تورث باقي الممتلكات، ولا يرثها ابن الجارية(15)، ولا من طرد هو وأمه إلى الصحراء ولو كان هو البكر(16)؛ وقد يخسرها صاحبها بسبب حيلة يدبرها له أخوه، فلا يستطيع أن ينال بعد الحيلة بركة أخرى(17)، وقد يشتري منه أخوه بكوريته بإناء من العدس الأحمر(18)، ولن يكون بعد تلك الصفقة مباركا أبدا لا هو ولا ذريته من بعده، وإنما تعطى هذه البركة للأخ المحتال وذريته من بعده دون باقي العالمين. وتصير البركة كهنوتا، يبارك به الكاهن الناس بدعوات ومقولات، يأخذ مقابلها كل ما كان يقدم لبيت الله من عشور وتقدمات ونذور(19)، ويصير له بسببها حق تلاوة النص المقدس وتفسيره وتأويله وتوجيه الناس من خلاله والحكم والقضاء بينهم وفقا لأحكامه، دون غيره ممن حُرموا تلك البركات(20).

لم يكن هذا التوجه الذي سار فيه الكهنوت اليهودي يرضي أنبياء بني إسرائيل، ولذلك حفلت نصوص العهد القديم بالتنبيه على البعد الاجتماعي الأصلي للدين، باعتباره الأساس والمقصد، بدءا من الوصايا العشر، وإلى آخر وصية يقدمها نبي أو رسول، ومن ذلك ما جاء في سفر إشعياء في توبيخ القضاة المخالفين للشريعة(21):

ومثله ما جاء في سفر إرميا في اعتبار الذبائح والمحرقات الفاقدة للبعد الاجتماعي والأخلاقي غير مطلوبة و لا مقبولة(22)، وغيرها من نصوص العهد القديم التي توجه إلى الاهتمام بعمق الدين ومقاصده، لا بشكله ومظاهره؛ ومن ذلك إكرام الوالدين، والأقارب، والغرباء، والفقراء والمهمّشين، والأرامل واليتامى، والمحرومين والمدينين؛ وغير ذلك من العينات الاجتماعية التي تحتاج إلى رعاية وعناية خاصة.

أما المسيحية فقد كانت انقلابا جذريا على الكهنوت اليهودي، وكان المسيح -عليه السلام- ومعه يوحنا المعمدان يريدان تصحيح وضع الدين، وردّه إلى صراطه المستقيم، وتغيير أهم مفاهيمه، وعلى رأسها القول بالخصوصية اليهودية، والبنوة لإبراهيم؛ حتى كان يوحنا المعمدان ينعت الفريسيين والصدوقيين الذين كانوا يأتون إلى معموديته: بـ(أَوْلاَدَ الأَفَاعِي الذين لن يفلتوا مِنَ الْغَضَبِ الآتِي)، ويطالبهم بصناعة الأَثْمَار التي تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ، ويبين لهم خطأ الادعاء بأن: (لَنَا إِبْراهِيمُ أَباً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هَذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَداً لِإِبْراهِيمَ. وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَراً جَيِّداً تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ)(23).

وكذلك كان يقول المسيح، وهو يؤكد على هذا البعد الاجتماعي والإنساني في الشريعة(24):

(قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ: لاَ تَقْتُلْ وَمَنْ قَتَلَ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ.

وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ.

فَإِنْ قَدَّمْتَ قُرْبَانَكَ إِلَى الْمَذْبَحِ وَهُنَاكَ تَذَكَّرْتَ أَنَّ لأَخِيكَ شَيْئاً عَلَيْكَ.

فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ وَاذْهَبْ أَوَّلاً اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ.

كُنْ مُرَاضِياً لِخَصْمِكَ سَرِيعاً مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ لِئَلَّا يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ.

اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: لاَ تَخْرُجُ مِنْ هُنَاكَ حَتَّى تُوفِيَ الْفَلْسَ الأَخِيرَ!)

كانت المسيحية كما يدل عليها اسم كتابها بشارة وخبرا سارا للمستضعفين في الأرض، للمساكين والحزانى، والودعاء والجياع والعطاش، وللرحماء وأنقياء القلب وصانعي السلام، والمطرودين من أجل البر، بأن الفرج والنصر قد جاء، وأن لهم عند الله مغانم كثيرة، وأن هذه هي سنة الأنبياء من قبلهم، استضعفوا وطردوا لكن أجرهم عند الله عظيم، وبذلك فليفرحوا(25).

ولم تكن هذه الدعوة -كما يتبادر إلى الذهن من خلال بعض النصوص- دعوة أخروية فقط، وإنما كانت الدنيا والمجتمع حاضرين فيها بقوة؛ ولم تكن دعوة إلى السلبية، بل على العكس من ذلك تماما، فقد أعادت الاعتبار إلى الإنسان، وأعادت ثقته في نفسه، وقوّت عزيمته ليدافع عن القيم الإنسانية والاجتماعية العادلة، ولو أدى الأمر إلى طرده وموته، فإن له عند الله أجر عظيم، وهكذا كان الأمر بالنسبة للأنبياء من قبل.

وكانت التوبة هي الأساس الأول في هذا الإصلاح الديني الاجتماعي، وهي وإن كانت أمرا شخصيا، لكن لا يمكن الوصول إلى المسألة الاجتماعية إلا عن طريقها: (توبوا فقد اقترب الملكوت)، وتصحيح المفاهيم هو الأساس الثاني في هذا الإصلاح، وبدونه لا يمكن تغيير الفكر ولا الواقع؛ ومن المفاهيم التي ركز المسيح على إسقاطها مفهوم النسب، إذ لم يعد ينفع أب ولا أصل ولا انتماء، وأحلّ محلّها الأعمال والثمار: (لقد وضعت الفأس على أصل الشجر، وأيّما شجرة لا تثمر ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار، فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة)؛ وهكذا أصبح الشأن العام هو القضية الكبرى في المسألة الدينية، وأصبح الفقر والجوع والمرض والموت والجهل والضلال والظلم والتمييز، هي أهم القضايا التي قرر المسيح محاربتها؛ فكان يعطي الفقراء والمساكين ويطعم الجياع، ويداوي المرضى، ويحيي الموتى، ويعلم الجاهلين، ويهدي الحيارى، ويساوي بين الناس، ويُخرج المقهورين والمستضعفين من الظلم الواقعين فيه، ويعلّم أتباعه أن يعملوا مثل عمله.

لم تكن دعوة المسيح إلا رجوعا بالدين إلى مفهومه الإبراهيمي الاجتماعي الإنساني الأول، بعيدا عن سلطة الكهنة ورجال الدين التي تبلورت في التاريخ الإسرائيلي، وكان للثقافة الكهنوتية الفرعونية دور مهم في تبلورها؛ ولذلك فالمسيحية ليست تخليا عن البر والتقوى -كما قد يفهمه البعض- ولا تراجعا عن الناموس -كما قد يُخيل إلى البعض الآخر-، ولذلك كان السيد المسيح يخطئ من يرى أنه جاء لينْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. ويقول: (مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لِأُكَمِّلَ.

فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ.

فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هَذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هَكَذَا يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ فَهَذَا يُدْعَى عَظِيماً فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.

فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ).

باب الدخول إذن إلى ملكوت السماوات لا يكون إلا بتنفيذ الوصايا، ومن لم يزد بره على بر رجال الدين فلا يسمح له بالدخول، وأعظم الوصايا كما يعلمنا السيد المسيح، لها شق يتعلق بالإيمان وحب الله، وشق له علاقة بأعمال البر والتقوى وحب الناس، وهو الجانب الاجتماعي الذي ركز على التذكير به كل أنبياء بني إسرائيل من قبل؛ وبهذين الجانبين تتعلق كل الوصايا الواردة في الكتب المقدسة، وتسقط كل الادعاءات العنصرية، التي تجعل شعبا أو طائفة أزكى وأفضل من بقية الشعوب الأخرى؛ ولذلك اعتبر المسيح قائد المائة الذي لم يكن من بني إسرائيل واحدا من الذين يأتون ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، لأنه كان مؤمنا تقيا(26)، بينما سيُطرح كثير من بني إسرائيل في الظلمة الخارجية لأنهم من فاعلي الإثم(27)، وهناك يكون البكاء وصرير الأسنان.

نفس الأمر تحدث عنه القرآن الكريم مبينا من هم أولى الناس بإبراهيم، قال –تعالى-: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾(28).

الطقوس الدينية لم تكن، سواء في الكتب المقدسة أو القرآن الكريم، إلا وسيلة لتحقيق الأبعاد الاجتماعية الإنسانية المتفق عليها، والتي يسعد بها الناس، وتحقق مصالحهم في المعاش والمعاد، وتُذهب الأذى والضرر عنهم سواء كان ظاهرا أو باطنا، عاجلا أم آجلا.

لقد كانت ولادة يوحنا معجزة، كما كانت ولادة المسيح معجزة أكبر؛ فقد ولد الأول من امرأة عجوز وشيخ كبير، وولد الثاني من أم عذراء ومن غير أب، لتكون ولادتهما آية للعالمين، وليكونا رسولين مبشرين ونذيرين لبني إسرائيل، وليصنعا بولادتهما حججا وبراهين على قدرة الله العظيمة، في فعل ما يريد؛ وليحدث بولادتهما انقلابات كبيرة في الكهنوت اليهودي، الذي لم يكن ليقبل في الكهانة إلا من كان أبوه من سلالة الكهان، فكيف بمن لا أب له؟ ولم يكن ليقبل مسيحا لا تتوفر فيه شروط المسيح المنتظر، التي وضعوها، وأهمها أن يكون ملكا من السلالة الملكية، ليجلس على كرسي أبيه داود، و يعيد ملك أبيه سليمان الضائع، فكيف بمن لا أب له؟ ولم يكن ليقبل امرأة يحق لها أن تدخل إلى قدس الأقداس، وتقوم بمهام الكهنوت الخاصة بالرجال دون النساء.

كانت هذه الأحداث العجيبة إيذانا بميلاد عهد جديد في الدين والاجتماع والشأن العام، حيث يسترجع الدين بعده الإنساني، وتسترجع الأنثى مكانتها الدينية المغتصبة، ويعود للشأن العام والجانب المدني خصوصا، أهميتهما المفقودة في التاريخ الديني الاجتماعي الإسرائيلي.

1- المرأة

لم يكن الكهنة من بني إسرائيل ليقبلوا امرأة تؤم الناس في أماكن العبادة، لكن امرأة من بني هارون نذرت ما في بطنها محررا لله، وعندما وضعت مولودها كان أنثى، وسمتها مريم بمعنى العابدة، وقررت أن توفي بنذرها وتخصها ببيت الله، وإن كانت تعلم مسبقا أن موضوع إمامة الأنثى أو تكليفها بأمور العبادة أمر مرفوض، باعتبار المرأة نجسة وغير طاهرة؛ وكأني بأم مريم كانت تريد أن تعيد للمرأة طهارتها الطبيعية، وتخرجها من نجاستها المفروضة عليها تاريخيا وثقافيا؛ وفي هذا السياق حدثتنا نصوص مسيحية وقرآنية عن صلاة أم مريم ودعائها، وعن وفائها بنذرها، حتى خلد المسيحيون ذكراها، في رسوم وصور وأغاني وأعياد متعددة، لا زالت ماثلة إلى اليوم، منها ما يتعلق بدخولها إلى المعبد في سن الثالثة، وكلام الملائكة معها، ومناجاتها لله والملائكة تحيط بها، وخصت سورة آل عمران حديثا رائعا عن قصة نذرها وولادتها ونشأتها وكفالة زكريا لها، وكراماتها وعبادتها ومناجاة الملائكة لها، إلى أن جاءها الروح القدس، متمثلا لها في صورة بشر، وخَوفِها منه، وإخباره لها بأنه رسول من الله، ليهب لها غلاما، من غير أن يكون لها زوج، وتكون هي وابنها آية للعالمين، وهو ما فصّل فيه القول إنجيل لوقا بعد أن ذكر لنا قصة ولادة يحيى، الذي كان هو بدوره آية من الله، ودليلا على قدرة الله، الذي لا يعجزه شيء؛ وتضافرت جميع هذه الحجج لتؤكد على المعجزة الخالدة، وترفع ذكر المرأة العذراء البتول، وتجعلها طاهرة صديقة عظيمة نبية تكلمها الملائكة: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾(29)، ويخلد في الأجيال ذكرها:

فَقَالَتْ مَرْيَمُ: (تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللَّهِ مُخَلِّصِي لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى اتِّضَاعِ أَمَتِهِ. فَهُوَذَا مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي)(30).

وقد أشار القرآن الكريم إشارة مهمة في الردّ على الافتراءات على لسان المسيح -عليه السلام- في قوله وهو يصف علاقته بأمه: ﴿وبرّا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا﴾(31). والعلاقة بالوالدين هو البعد الاجتماعي الأول الذي ركزت عليه الأديان الكبرى، فقد جاء في الوصايا العشر أكرم أباك وأمك، وجاء في وصايا المسيح: (أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ).

وقد ذكر إنجيل متى، وهو يسرد علينا سلسلة نسب المسيح، مجموعة من النساء(32)، وإن كان من العادة أن لا تُذكر النساء في النسب، لأنه يكون بالذكر لا بالأنثى.

وقد رد القرآن الكريم على ذلك بقوله:

﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(33). ثم بدأ في سرد قصة آل عمران ليؤكد على الاصطفاء للذرية الطاهرة، التي بعضها من بعض، وليس فيها الزناة والخونة والغادرون، كما توحي بذلك هذه النصوص. وإننا بتأملنا لنماذج نسائية أخرى مذكورة في نصوص مسيحية أبوكريفية، مثل امرأة إبراهيم وامرأة زكريا اللتين ولدتا بعد العقم أو الشيخوخة، ليبين المقصد غير السليم لذكر النماذج السيئة بدل النماذج الحسنة.

وكيفما كان الحال، فإن المرأة قد استردت بعض مكانتها المغتصبة في الفكر الديني والاجتماعي المسيحي، وإن وجد هذا الاسترجاع مقاومة طبيعية من طرف الكهنوت اليهودي أولا، ثم الكهنوت المسيحي فيما بعد، ولا زال موضوع استرجاع المرأة لكامل حقوقها وعلى رأسها الحقوق الدينية، موضوع أخذ ورد في العالم الإسلامي كذلك، نموذج (إمامة المرأة) المثار أخيرا بالولايات المتحدة الأمريكية.

2- الإنسان

لم يكن للكهنوت اليهودي أن يقبل بالمساواة الإنسانية التي نادى بها المسيح، ولم يكن له أن يقبل أن تسقط خصوصيات دينية وتاريخية واجتماعية، طالما تمسكوا بها، وحصلوا من خلالها على أفضلية عالمية، جعلتهم أولياء الله في الدنيا والآخرة، وجعلت غيرهم من الناس حميرا أو عبيدا أو غير ذلك، مما لا يصح ولا يليق؛ ولم يكن للكهنوت اليهودي أن يقبل بدعوة تهدم النظام الاجتماعي اليهودي، الذي جعل لكل واحد من الأسباط مهمة خاصة في المجتمع، فمنهم سبط السياسة والملك، ومنهم سبط العبادة والكهنوت، ومنهم سبط السماع والغناء، ومنهم سبط حرفة أو مهنة بعينها حسب العرف والتاريخ والعادة...ولذلك قررت طائفة من اليهود الكفر به، ومحاربته ومحاربة دعوته وأتباعه، و القبض عليه وقتله والتمثيل به، حتى يكون عبرة لمن يعتبر، وكان رؤساء المجمع اليهودي على رأس هذه الطائفة.

وقررت مجموعة أخرى من اليهود ومن غيرهم الإيمان به، وإتباعه والتتلمذ على يديه؛ وحدث بين أتباع الطائفتين جدل طويل عريض عن طبيعة المسيح وخصائصه.

وأما المجموعة التي آمنت به، فانقسمت بدورها عبر الزمن إلى فريقين، فريق صار على خطى التعليم المسيحي الأول، والذي كان جانب الأعمال هو مرتكزه الأساسي، وكان منفتحا على كل الناس، ويمثله ما ذكره يعقوب في رسالته(34) من أن (اَلدِّيَانَة الطَّاهِرَة النَّقِيَّة عِنْدَ اللَّهِ الآبِ هِيَ هَذِهِ: افْتِقَادُ الْيَتَامَى وَالأَرَامِلِ فِي ضِيقَتِهِمْ، وَحِفْظُ الإِنْسَانِ نَفْسَهُ بِلاَ دَنَسٍ مِنَ الْعَالَمِ).

وأما الفريق الثاني فهو الذي أسس كهنوتا جديدا، مرتبطا بشخص المسيح باعتباره أقنوما من أقانيم ثلاثة، لا يدخل أحد باب الله إلا عن طريق الإيمان به أنه المخلص، الذي خلص المؤمنين به من خطاياهم بموته على الصليب، وحمل بذلك خطاياهم؛ ولذلك يكفيهم الإيمان دون أعمال الناموس، الإيمان وفق التعليم الثاني الذي أسسه بولس وصارت عليه الكنيسة فيما بعد(35).

لقد تأسست في المسيحية نظرية الإيمان بناء على العديد من الرسائل التي أرسلها بولس إلى الكنائس المختلفة يشرح فيها نظريته؛ ولم تكن هذه النظرية متوافقا عليها من طرف كل التلاميذ والأتباع في المسيحية، ومنهم يعقوب الذي تتضمن أسفار العهد الجديد إحدى رسائله، والتي جاء فيها رد مباشر على النظرية البولسية(36)؛ وبالرغم من الاعتراضات التي جهر بها أنصار التعليم الأول، ومنهم برنابا ويعقوب، إلا أن كنيسة بولس وبطرس كانت قد تأسست في مختلف أرجاء المعمور، وكان من مهام كهنتها محاربة أنصار التعليم الأول؛ وبذلك برز كهنوت جديد، ارتبط بأحبار ورهبان من نوع جديد، يفرضون على الناس فلسفة للدين جديدة، لا تعترف بأولوية العمل، وتتهم كل من يخالفها بالهرطقة والتجديف والخروج عن الدين، وأصبح لها طقوسها الخاصة وذبيحتها المعنوية حيث يؤكل جسد المسيح ويشرب دمه، ليتحقق الخلاص الإنساني، عندما يتحد جسد الآكل لخبز الطقس وخمره بجسد المسيح المصلوب؛ وأصبح للكهنة الجدد سلطة دينية في مغفرة الخطايا وتقبل الهدايا، والتكلم باسم الأب والابن والروح القدس.

وحدث بين الفريقين خلافات وصراعات دامية، انتصرت فيها الكنيسة الجديدة في آخر الأمر، وغلبت على مخالفيها، وطاردتهم لأنهم لم يعترفوا بنظرية التثليث التي أقرتها المجامع الكنسية فيما بعد، وخصوصا مجمع نيقيا سنة (325م).

3- الشأن العام

وعرفت المسيحية -بعد ذلك- في أزمنتها المختلفة تيارات دينية مختلفة، حاولت إسقاط تلك السلطة والدفع بالدين -مرة أخرى- نحو أبعاده الإنسانية الاجتماعية، وإعادة الاعتبار لمفهوم العمل، وكان المسيح بمعجزاته وأعماله المختلفة رمزا لتلكم التيارات، بما فيها التيارات المتهمة بالتجديف والهرطقة والإلحاد، ومن أهمها الثورة البروتستانتية وتؤازرها الحركة الإنسية؛ وكان المجال الطبي والتعليمي والاجتماعي بمختلف جوانبه، هو مجال الاشتغال؛ وكانت تلكم الحركات تنتزع هذه المجالات من رجال الدين والسياسة، وتدفع بها لتكون شأنا مدنيا عاما يعتني به كل الناس، ويؤسسون له مؤسساته المدنية الخاصة، ولا ينبغي لسلطة ما أن تحتكره وتستغله، وحصل بسبب ذلك تطور مهم في هذه المجالات، ونجحت تلكم التيارات في تحقيق كثير من الأبعاد الدينية والإنسانية الأساسية، وساهمت في النهوض بالمجتمع المسيحي، وتغيير أوضاعه على كل المستويات في العصور الحديثة.

وجاء الإسلام مع محمد -صلى الله عليه وسلم-، ليؤكد على تلكم الأبعاد الإنسانية والاجتماعية التي جاء بها إبراهيم -عليه السلام-، وجاهد من أجلها الأنبياء من بعده بما فيهم موسى وعيسى وكل أنبياء بني إسرائيل: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)؛ ولذلك أمكن تلخيص دعوته في قوله -عليه الصلاة والسلام-: (إنما جئت لأتمم مكارم الأخلاق)، وأمكن تعريف ملته بأنها الملة الإبراهيمية؛ و الرد على من يدّعون أنهم أبناء إبراهيم بقوله: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾(37).

لم يكن محمد -عليه الصلاة والسلام- إلا واحدا من الرسل، ينذر الناس، ويصحح مفاهيمهم عن الدين ومنهم اليهود والنصارى:

﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾(38).

ويؤكد على الأبعاد العالمية الرحيمة للدين، وعلى وحدته في مصدره ومقاصده، فالدين واحد والوحي متماثل إلى جميع الأنبياء والمرسلين، سواء الذين عرفناهم أم لم نعرفهم، وقد جاء القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتب والرسل، معترفا بأن ما جاءوا به من دين هو الحق من الله، و ما جاءوا به من كتب فيها هدى ونور وبينات للناس، واعتبر التهم المتبادلة بين اليهود والنصارى وغيرهم في الدين باطلة(39)، فدعوى بطلان ما عند الآخرين لا تقوم على أساس، بل هي أقوال الذين لا يعلمون، بغض النظر عن انتماءاتهم؛ والله لا ينظر إلى انتماءات الناس، وإنما إلى إيمانهم وأعمالهم، فليس اليهود والنصارى على شيء، حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم، وليس أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- على شيء كذلك حتى يقيموا ما أنزل إليهم من ربهم؛ وما اختلفوا فيه فحكمه إلى الله، والذين آمنوا وعملوا الصالحات من كل الطوائف فأجرهم على الله، وما كان الله ليظلمهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون(40).

ولم يكن موقف القرآن الكريم سلبيا من تلكم الكتب، بل إنها لم تذكر فيه إلا بصيغة إيجابية؛ والحديث عن التحريف الذي يثار في الجدل القائم بين المسلمين وغيرهم من أهل الكتاب فيه كثير من الأخطاء، إذ لا ينسب القرآن التحريف للكتاب الذي جاء به الأنبياء، وإنما إلى بعض أهل الكتاب في تعاملهم مع كتاب ربهم؛ فهم ليسوا سواء منهم الصالحون، قال –تعالى-: ﴿لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾.

لم يكن مفهوم الإسلام في القرآن، كما أصبح فيما بعد، مرتبطا بشعب أو مجموعة من الشعوب والأقوام والقبائل، يشكل هوية اجتماعية وثقافية خاصة، وإنما كان صفة للإنسان مثل أي صفة أو قيمة أخرى، كالإيمان والهدى والعدل والخير والإحسان، لا ترتبط بأناس دون أناس آخرين؛ وهي الصفة التي أطلقت على الدين منذ كان، إسلاما لله دون غيره من المخلوقين، يدل عليه كل سلوك يقوم به المسلم، وهذا ما تحدث عنه القرآن، وهو يناقش مفهوم الهداية عند اليهود والنصارى لما قَالُوا: ﴿كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا، قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(41)، فالهداية تبعا لهذا التوجيه ليست في الانتماء إلى اليهودية أو المسيحية إذا تحولت إلى هوية قومية تاريخية، وكذلك الشأن بالنسبة لمفهوم الإسلام، عندما يتحول إلى هوية قومية تاريخية أو غيرها؛ وإنما هو إيمان بالدين الواحد الذي جاء به الرسل جميعا، ونزلت به الكتب كلها؛ وعملٌ بمقتضياته، وإسلامُ الوجه لله رب العالمين دون غيره؛ ولذلك يرفض القرآن الكريم كل الادعاءات التي تعتبر أن المنتمين إلى مذهب ما من المذاهب الدينية التاريخية ، والتي منها اليهودية والمسيحية والإسلام بمفهومه التاريخي، هم الذين يدخلون الجنة دون غيرهم من أصحاب المذاهب الأخرى، معتبرا ذلك من باب الأماني التي لا تتحقق، إلا إذا أسلم أصحاب المذهب وجوههم لله، وقاموا بما عليهم القيام به من الخير والعدل والصلاح، واجتناب الظلم والشر والفساد؛ وهنا نرجع إلى محورية العمل الاجتماعي في الدين؛ وهو ما يسميه القرآن البرّ، معتبرا أن مظاهر العبادة ليست هي مضمون البر، وإنما مقاصدها التي تتجلى في العلاقة مع الناس في المجتمع، وفي الاهتمام بالشأن العام الإنساني، بغض الطرف عن الانتماءات الدينية أو العرقية أو غيرها: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾(42) فبعد الإيمان الذي يعتبر الوازع الأساسي للإنسان، تأتي الأعمال الاجتماعية: الاهتمام بالأقارب واليتامى والمساكين والسائلين والمستعبدين، والوفاء بالعهود والدفاع عن المظلومين والمستضعفين والمرضى والمحتاجين، وهذا هو دليل صدق الإيمان والتقوى، وإلا كان التدين لا قيمة له في ميزان الله؛ وهذه الأعمال الاجتماعية هي عينها الشأن العام الذي نجد كل الكتب المقدسة قد اعتنت به، ووجهت أنظار المؤمنين إلى الاعتناء به.

وإن نظرة سريعة على موضوع العبادات في القرآن، تكشف أن العبادات ما هي إلا سبيل للوصول بالإنسان إلى أن يكون له دور اجتماعي فاعل، في المحيط الذي يعيش فيه، والبيئة التي ينتمي إليها بكل مكوناتها؛ فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، والزكاة تطهرهم بها وتزكيهم، والصيام لعلكم تتقون، والحج للتزود بالتقوى، والذبائح لا ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم، والعبادة ينبغي أن تكون خالصة لوجه الله، وبذلك تتوجه كل العبادات إلى تقوية الوازع الفطري الاجتماعي للخير والإحسان والفضل والاهتمام بالشأن العام، والحد من غلواء الشح النفسي والأنانية الفردية وما يرتبط بها من بخل وكبر وظلم وإفساد وفحشاء ومنكر.

إن هذا المفهوم الإنساني الاجتماعي للدين لا زال غائبا عن أغلب المنتمين للجماعات الدينية في العصر الحديث، ويقابله المفهوم الضيق للدين، الذي يجعل طائفة من الناس يعتقدون أنهم شعب الله المختار أو الأمة المباركة أو خير أمة أخرجت للناس؛ ولذلك كان الإقصاء هو مصير المخالفين، في المذهب والتصور والاعتقاد؛ وبناء على هذا المفهوم الضيق تجاهل أهل الكتاب (بيت الله) المنصوص عليه في كتابهم المقدس في أغلب أسفار العهد القديم، وتجاهلوا حقيقة كونه الأرض المباركة للعالمين، والتي منها انطلق نور الوحي ليملأ الأرض عدلا، بعد أن ملئت ظلما، ومنها ينطلق النبي الآتي الذي تنتظر مجيئه الجزائر (أي الجزر)، والذي يكمل ما بدأه المرسلون، ويخبر بكل شيء(43)، وقد كانوا لا يحتملون آنذاك، وهو الذي يقول عنه يوحنا: (الذي لست أهلا أن أحمل حذائه)(44)، ويقول عنه المسيح: (هو يشهد لي)(45)، ويقول عنه: (من آمن به(46)، فقد آمن بي أيضا، ومن لم يؤمن به فخير له أن يربط برحى ويلقى في البحر)، وغيرها من البشارات التي أخبر بها الأنبياء عن النبي المنتظر الذي يظهر في الأرض المباركة، وفيها يكمل التبريك الذي بدأه إبراهيم.

*********************

الحواشي

*) باحث وأكاديمي من المغرب.

1- سفر التكوين، إصحاح 12، عدد 1-3.

2- سفر التكوين، إصحاح 13، عدد 14-16.

3- سفر التكوين، إصحاح 17، عدد 5.

4- سفر يشوع، إصحاح 24، عدد 2.

5- انظر مخطوطات قمران، التوراة المنحول الجزء الأول والثاني والثالث، نشر وتوزيع دار الطليعة الجديدة سوريا.

6- سفر القضاة، إصحاح 6.

7- سورة البقرة، آية 124.

8- سفر الخروج، إصحاح 23، عدد 28.

9- سفر الخروج، إصحاح 23، عدد 23.

10- سفر التكوين، إصحاح 12، عدد 3.

11- جاء في سفر نحميا: " "9:7-8

12- سفر التكوين، إصحاح 17، عدد 6.

13- سفر التكوين، إصحاح 12، عدد 6-8.

14- سفر التكوين، إصحاح 28، عدد 16- 19.

15- سفر التكوين، إصحاح 21، عدد 10 - 20.

16- سفر التكوين، إصحاح 21، عدد 10.

17- سفر التكوين، إصحاح 27.

18- سفر التكوين، إصحاح 25- 33.

19- سفر حزقيال، إصحاح 44، عدد 29-30.

20- سفر حزقيال، إصحاح 44، عدد 23-24.

21- سفر أشعياء، إصحاح 1، عدد 10-17.

22- وسفر إرميا، إصحاح 7، عدد 21- 24.

23- إنجيل متى، إصحاح 3، عدد 7-10.

24- إنجيل متى، إصحاح 5، عدد 21-26.

25- انظر الموعظة على الجبل في الأناجيل الأربعة.

26- إنجيل متى، إصحاح *، عدد 10- 12.

27- إنجيل لوقا، إصحاح 13، عدد 27-29.

28- سورة آل عمران، آية 68.

29- سورة آل عمران، آية 42.

30- إنجيل لوقا، إصحاح 1، عدد 46-48.

31- سورة مريم، آية 32.

32- إنجيل متى، إصحاح 1، عدد 1- 16.

33- سورة آل عمران، آية 33-34.

34- انظر رسالة يعقوب، إصحاح 1، عدد 23-27.

35- رسالة بولس إلى أهل رومية، إصحاح 3، عدد 21-26.

36- رسالة يعقوب، إصحاح 2، عدد 14-24.

37- سورة آل عمران، آية 68.

38- سورة المائدة، آية 18.

39- سورة البقرة، آية 113.

40- سورة المائدة، آية 68-69.

41- سورة البقرة، آية 135-137.

42- سورة البقرة، آية 177.

43- إنجيل يوحنا، إصحاح 14، عدد 26.

44- إنجيل متى، إصحاح 3، عدد 11.

45- إنجيل يوحنا، إصحاح 15، عدد 26.

46- إنجيل يوحنا، إصحاح 14، عدد 29.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=434

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك