السلام وموقف الإسلام منه
إسحاق السعدي
تعد قضية السلام من القضايا الكبرى في التاريخ. وعلى الرغم من سلاستها وعذوبة لفظها وجنوح الفطر السليمة إليها، وكونها خيار العقلاء والحكماء -قديمًا وحديثًا- في تأسيس علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وفي العلاقات الخاصة والعامة التي تربط بين الأفراد والجماعات والدول والشعوب، إلا أن وقائع التاريخ ومجريات أحداثه، أغفلتها في كثير من الأحوال، أو تلاعبت بدلالاتها ومفهومها وأدخلتها حلبة المزايدات السياسية والتفسيرات الدينية المؤدلجة؛ كذلك تقاذفتها المطامع والمصالح وصراع القوى، مما يحدو بالباحث في هذه القضية الكبرى للنظر لخلفيتها التاريخية، إما كوسيلة للإمبراطورية، وإما كطريق للحضارة على حد تعبير المفكر الكبير مالك بن نبي رحمه الله.
وفي دراسة لـ”سعاد الحكيم” بعنوان “نحو فلسفة للسلام الإنساني”، شخصت الكاتبة أسباب إخفاق مفاهيم السلام؛ كالمحبة والتسامح والحوار وقبول الآخر كجزء لا يتجزأ من الذات في ثلاثة أسباب:
السبب الأول: إن مفاهيم السلام بقيت عند الممارسة في إطار فردي نخبوي ولم تمس حياة الجماعة عامة. لا شك في أننا نجد أشخاصًا هنا وهناك وعلى امتداد العالم، يريدون السلام حقيقة، ويتحلون بالتسامح والمحبة، والقدرة على رؤية الآخر في الذات. ولكن هؤلاء الأشخاص لم يستطيعوا -للأسف- أن يشكلوا تيارًا أهليًّا قويًّا، وظل نشاطهم محصورًا في نخبة طائفية أو قلة فكرية.
السبب الثاني: إن مفاهيم السلام كما هي مطروحة اليوم، لا ترتكز على أسس سليمة، لأنها -كما يبدو- تسوَّق كسلع استهلاكية تهدف إلى الحصول على السلام من طرف واحد، تدعوه إلى التسامح اللامشروط المرتكز على المحبة فقط، والتي يبدو أنها مفقودة عند قطاع كبير في الطرف الثاني. إن السلام الحقيقي يفترض وجود طرفين يتبادلان الاعتراف بحق الكينونة، ويثق واحدهما بالآخر؛ بأن السلام من طرفه لن يعني انمحاء واستلابًا وازْدواجة معايير… إن لم توجد هذه الإرادة الصادقة من الطرفين، يظل السلام في إطار أقليات خيّرة وواعية، ولا يخرج إلى بدن الجماعات البشرية.
السبب الثالث: إن مفاهيم السلام هذه (المحبة والتسامح وقبول الآخر) تعاني من التوقف عند مرحلة تنظيرية تتسم بالفردانية التي لا يربطها رابط خارجي، ولا نسق داخلي يجمعها… لكأنها تجمع على هيئة “باقة زهر” يقدمها إنسان خيّر محبّ إلى الإنسانية. لذلك نحن أحوج ما نكون إلى توظيف هذه المفاهيم المفردة في منظومة فكرية تساعد كافة الناس -وليس النخبة فقط- على الرؤية والاقتناع وبالتالي الممارسة؛ أي نحن نحتاج لأن نخرج من مرحلة تنظيرية خطابية تبريرية عاطفية، إلى مرحلة أشد اتساقًا تجمع هذه المفاهيم المفردة، لتكوّن منها كلا متسقًا منتظمًا، لتؤسس منها فلسفة يقتنع بها عامة الناس، ولا تظل في حدود فردية عالية الروحانية.
وإذا كانت الكاتبة قد لامست إشكالية مفهوم السلام وأبرزت تلك الأسباب الثلاثة، فإن مفهوم السلام غني بدلالاته التي جرى الحديث عنها، كي يحقق البعد الحضاري الإنساني، بالعودة إلى الدين والأخلاق في إطار ثقافي يوازن بين الـ”أنا” والآخر، والفطري والمكتسب، والذاتي والموضوعي، والفردي والجماعي، والمحلي والإقليمي والعالمي.
وتتفق الكاتبة “سعاد الحكيم” مع كبار مفكري السلام العالمي، في أهمية ارتكاز مفهوم السلام على الدين؛ فتحت عنوان “بناء إنسان الإنسانية”، قالت: “من أجل إنشاء فلسفة للسلام، لابد -بالإضافة إلى كل ما تقدم- من التفكر حول هوية الإنسان الذي يحقق السلام الكوني. وجوابًا على الطروحات الداعية إلى بناء إنسان مدني، أقول إن القوانين المدنية تجعل الرّادع خارج الإنسان، وبالتالي ما إن تغيب سلطة الرادع الخارجي حتى يظهر توحّش الإنسان وهمجيته، على حين أن القوانين المصاغة -انطلاقًا من الأديان- يستجيب لها رادع داخلي، وتحقق النظام -إلى حد ما- في الداخل والخارج… إذن فمن مصلحة البشرية أن تدافع عن تكوين كائن مؤمن متقٍ أخلاقي… وهذا مشروع عملاق لا يقوم به طرف واحد أو أبناء دين واحد منفردين، بل لابد من تكاتف عالمي في هذا الإطار بين الشعوب وقيادتها الروحية. وفي هذا السياق تتفق الكاتبة مع المصلح الديني الألماني “هانس كينغ”، حين أطلق شعار “لا سلام بين الشعوب من دون سلام بين الأديان”.
وتستمر الكاتبة في حديثها قائلة: “حتى لا يكون كلامنا على”الرادع الداخلي” جزءًا من “مدينة فاضلة” لا نرى مقدمات تحققها في أفق تاريخنا المنظور… نحصر الحديث فيما هو مباح ونقول إن كينونة الإنسان وحدة لا تتجزأ، وتعبر هذه الوحدة عن نفسها في جميع تجلياتها… فلو استطعنا -مثلاً- أن نصلح أداء الإنسان على مستوى تجل من تجليات ذاته، لربما ينعكس هذا الإصلاح على الكينونة نفسها؛ واستنادًا إلى قاعدة الوحدة الذاتية للإنسان، أي إذا استطعنا أن نعدل من الأداء العائلي للإنسان، لربما استقام في الوقت نفسه أداؤه الاجتماعي وكذا أداؤه على صعيد الإنسانية عامة.
ونضع بين يدي آفاق الحوار، ما نرصد من تجليات للكينونة الإنسانية في الجهات الأربع، مقتنعين أنه لا سلام بين الناس ما لم يتحقق السلام على المستويات الأربعة لتجلي كينونة الإنسان وهي: السلام الداخلي، السلام الاجتماعي، السلام الأممي الكوني.
فالإنسان وحدة لا تتجزأ، والكون أيضًا يترابط بوحدة وجودية تجعل له هيئة تتلاحم لأولي البصائر في كافة المجتمعات”.
موقف الإسلام من السلام
لم يكن موقف الإسلام من السلام بدعًا، بل جاء مصدقًا لما بين يديه من الأديان التي سبقته. فقد أثبتت الدراسات أن الأديان قاطبة، وخاصة الديانات الشرقية القديمة (الهندية والبرهمية والبوذية والكنفوشيوسية، والطاوية) والديانات السماوية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) دعت جميعها للسلام، وجعلته الأصل في العلاقات، وعظّمت من شأنه، وأنها جميعًا “تأمر بالعدل والإحسان وتنهى عن الظلم والعدوان، وكلها تسوي في المعاملة الدنيوية بين أتباعها وبين أعدائها”. فلم يقع -على سبيل المثال- من الديانة الهندية (البرهمية) في تاريخها أيّ اضطهاد، كذلك البوذية التي لم تعتد قط على أحد من مخالفيها، فقد كانت مبادؤها تحملها دومًا على سعة الصدر لأي خلاف، وأنه لا مشكلة لديها مع السلام البتة. وكذلك الديانة المسيحية ذات الطابع المتسامح الذي حملها على التواضع والسلام، بل الخضوع والاستسلام، فقد كان من شعاراتها “أحب جارك كما تحب نفسك”، و”من ضربك على الخد الأيمن فامدد له الخد الأيسر”، كذلك أوجبت على من يسفك دم أحد الطرد من حظيرة الدين.
كما أثبتت الدراسات كون السلام، من المبادئ الأساسية في الديانتين اليهودية والإسلام، وأنه لا يوجد مثال واحد أباح البدء بالاعتداء على الطوائف الأخرى، سواء كان ذلك لمقاصد دينية أم لأغراض سياسية، بل الواقع على العكس من ذلك، أنهما احتملا الاضطهاد أمدًا طويلاً قبل الإذن لأتباعهما باتخاذ القوة للدفاع عن حياتهم وعن حريتهم في اعتناق الحق والدعاء إليه.
أما الإسلام فقد تميز في موقفه من السلام، بكون اسم السلام نفسه واسم الإسلام نفسه، يرجعان لأصل واحد ويشتركان في كثير من الدلالات والاشتقاقات اللغوية بما فيها من سعة وامتداد وعمق. ثم إن الإسلام اتخذ من التدابير ما يكفل أن يكون السلام جوهر الإسلام، وظلَّه وأساسَ معتقده، وأهم مبادئه، وركائزه العقدية، وقيمه الأخلاقية والتشريعية الكبرى، واختاره أن يكون تحيتَه.. فبالسلام البدء والنهاية والتواصل في مختلف دوائره على صعيد النفس والكون والحياة. ولإيضاح تلك التدابير، يجري الحديث عنها في الآتي:
1- التدابير التربوية الثقافية التي تعتمد على السلوك والأخلاق.
2- التدابير التشريعية المقننة.
3- التدابير الملائمة لسنن الكون والنفس والحياة.
فأما التدابير التربوية الثقافية، فقد استطاع الإسلام أن يغرس السلام في داخل نفس الفرد المسلم بالتربية والثقافة والسلوك والأخلاق. فقرر أولاً أن الناس من أصل واحد، وأنهم جميعًا أبناء رجل واحد هو آدم عليه السلام الذي جعله الله سبحانه وتعالى خليفة له في الأرض، وسخّرها له، وكرّمه وفضّله على كثير ممن خلق، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء كلها، ثم أورث تعالى بني آدم تلك الخلافة، وتحمّلوا الأمانة، واضطلعوا بالمسؤولية… وهذا يوجب عليهم أن يستشعروا الكرامة والعزة، وأن تكون علاقاتهم سليمة، وضمائرهم نقية، وأن يتوجهوا لمن كرمهم واستخلفهم بالعبادة وإفراده بالتوحيد، وبخاصة أنه جل جلاله قد حدد الغاية من خلقهم وعلة وجودهم فقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56).
ولكون الأب واحدًا، والرب واحدًا، فإن “مقتضى اتحاد الأصول وتوحيد المعبود، تآلف الفروع وأخوة العابدين وتعاونهم جميعًا على القيام بواجب الرحم وبحق المعبود الذي يغضبه أن يبغي بعضهم على بعض.
ثم جاء النداء مكررًا في القرآن الكريم في آيات كثيرة بوصف البنوة لآدم، وبالنداء بوصف الإنسانية، وأنها موضع التكريم. كذلك حثت الآيات والأحاديث على مكارم الأخلاق، وأن تكون أساسًا للمعاملة: ﴿وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾(فصلت:34).
وفي الحديث: “خالِقِ الناس بخُلُق حَسَن” (رواه الترمذي)، وورد: “الدين المعاملة”. وجاء كذلك الأمر بالعفو والمخاطبة بالسلام، وقال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾(الأعراف:199-200)، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا﴾(الفرقان:63).
كما جعل الإسلام السلام تحية الصالحين، وبه يحيون أنفسهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ﴾(يونس:10)، وقال: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾(الأحزاب:56)، وقال: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾(النور:61).
ونهى عن دخول بيوت الآخرين، إلا بعد الاستئذان والاستئناس والسلام على أهلها: ﴿لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾(النور:27).
والآيات في ذلك من الكثرة بمكان، كذلك ورد السلام في القرآن الكريم تحية لجميع الرسل: ﴿سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾(الصافات:79)، ﴿سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ﴾(الصافات:120)، ﴿سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾(الصافات:109)، ﴿وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ﴾(الصافات:181). وكان السلام دعوة عيسى عليه السلام: ﴿وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا﴾(مريم:33)، وناهيك عن كون السلام اسمًا من أسماء الله تعالى: ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ﴾(الحشر:23)، وسميت الجنة التي هي موعود الله لعباده المؤمنين “دار السلام”: ﴿لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾(الأنعام:127)، وأنه تعالى يدعو إلى دار السلام: ﴿وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(يونس:25).
وبهذا يتضح ترسيخ الإسلام لمبدأ السلام و”أن إشاعته تعالى للسلام في هدايته لعباده على هذا النحو، ما كان إلا ليغرس في سويداء قلوبهم حب السلام والعمل للسلام، وأن يعملوا جهدهم في التحلي بالسلام والدعوة إليه وإفشائه بين العباد.
فإذا عُلِم أن هذه الآيات وما تحمله من هدي وتوجيهات تطرق سمع المسلم في صلواته ودعواته، وأنها تصبغ علاقتها الخاصة والعامة الحاضرة والمستقبلة في الدنيا والآخرة، وأنها تدخل في معظم تفاصيل حياته وفي صميمها اتضحت مقاصد الإسلام من ذلك، وتبين أنه حوّلها إلى ممارسة بالسلوك والتهذيب والتربية والتعليم والتعود والمران، حتى غدت ثقافة ذات بُعد إنساني حضاري متجذر.
أما التدابير التشريعية المقننة، فقد جعل الإسلام الأصل في العلاقات هو السلم، فالسلم أمر الله، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ﴾(البقرة:208). وقد تضمن الأمر به التعريض بما يقابل السلام وهي الحرب، وأنها اتباع لخطوات الشيطان على أن الحرب إن نشبت في ظروف وملابسات استثنائية -لا يوجدها الإسلام قطعًا وإنما يفرضها أعداؤه عليه- فإنها حينئذ تقدر بقدرها وتُحَدّ بحدود وتحاصر بضوابط وآداب شرعية، ومع ذلك فإن الإسلام يأمر بأن يكون السلم هو الخيار، وأن يُجنحَ إليه إذا جنح إليه الطرف الآخر: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾(الأنفال:61).
كذلك جاء النهي عن القتال بعد نشوبه إذا ألقى العدو إلى المسلمين السلم، قال تعالى: ﴿فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً﴾(النساء:90).
كتبت الدكتورة أميمة بنت أحمد الجلاهمة تحت عنوان: “السلام في علاقات المسلمين بغيرهم”، بعد توضيحها لطابع الإسلام السلمي في علاقاته مع الآخرين، بأن ذلك: “لا يعني تهاون المسلمين في ردّ أي عدوان وُجِّه للمقدسات والأوطان، ولثروات الأمة البشرية منها والمادية على السواء. فالرد في هذه الحالات يكون واجبًا شرعيًّا كما هو واجب وطني. وحال المسلم في هذا الردّ كحال كل الأمم التي تقف صفًّا واحدًا في وجه أي اعتداء يَطال مقدساتها وأرضها وعرضها. ولكن المسلم في كل أحواله، ومهما استفظعت الأسباب الموجبة للحرب والمقاومة المسلحة، لا يمكن أن يكون ذلك توجيهًا نابعًا من اجتهاد شخصي ينبري للقيام به من تلقاء نفسه. فللحرب في الإسلام نظم وأصول ملزمة لا يجوز للمسلم الخروج من خلالها عن طاعة ولي الأمر وإجماع الأمة. فالحرب في الإسلام قرار دولة لا قرار فرد مهما علا شأن هذا الفرد في أمته”.
أما التدابير الملائمة لسنن الكون والحياة والنفس الإنسانية، فإنها ذات نسق وسياق يؤكد إعجاز الإسلام، وتؤيده الاكتشافات العلمية والدراسات المتعمقة في فقه التاريخ والحضارة والدراسات الإنسانية… والحديث عن ذلك لا يمكن اختصاره في هذا المقال، إنما أكتفي بالإشارة إلى كون السلام في الإسلام، ينداح في دوائر بدءًا من سلام الفرد مع نفسه، إلى سلامه مع أسرته ومحيطه القريب، إلى سلامه مع محيطه وبيئته بموجوداتها وتنوعاتها الثرية من الكائنات الحية والنباتات المختلفة في البر والبحر والجو. وما تمارسه المنظمات الحديثة التي تصدت لهذا الجانب تحت مسمى “السلام الأخضر”، تتفق مع ما سبق إليه الإسلام من العناية بهذا الجانب واشتماله بتشريعاته وحمايته للحياة الفطرية وإنمائها، وأن مفهوم السلام وفلسفته في الإسلام، شكلت دائرة واسعة تحيط به وتحافظ على التوازن البيئي بوعي وإدراك حضاريين.
فالسلام في الإسلام مفهوم أصيل وفلسفة عميقة يفي بمتطلبات البشرية قاطبة، كي تعيش حياة كريمة وتنعم بالأمن والاستقرار، في ظل أخلاقيات تطبع النفوس بروح التسامح وحسن التعامل مع المخالفين في المعتقد من غير تعصب لمعتقد ولا حقد ديني يحمل على الحيف والظلم ومن غير تطرف ولا عنف، وإنما تقوم العلاقات بين المسلمين وغيرهم، على البر والعدل والإحسان والتوسط في المواقف والتوازن بين التجاذبات. وبذلك حقق الإسلام في موقفه من السلام البُعد الإنساني الحضاري الإستراتيجي. ولضمان أن تكون السيادة للسلام حاضرًا ومستقبلاً، فإنه ينبغي اعتماد الإصلاح السياسي بدعم الديمقراطية وفسح المجال للنقد والشفافية واحترام التشريعات الإليهة، وتقييد التقنينات التي تميلها متطلبات الواقع بالأخلاق الحميدة، وأن تصبغ بالمبادئ الإنسانية من خلال علماء الدين وفلاسفة الإنسانية وحكمائها والنخب الثقافية. وإذا كانت الأديان -وآخرها الإسلام- هي المؤسسة للسلام على النحو الذي جرى الحديث عنه، فإن على قادة الفكر والسياسة ورواد السلام، أن يفسحوا المجال للتثقيف والتهذيب الديني، وبخاصة للثقافة الإسلامية بما تنظوي عليه من خصائص وسمات إنسانية وأطر عالمية من حقها أن تتفاعل مع الثقافات الأخرى في أجواء من السلم والمسالمة بعيدًا عن روح العداء، وأن يُعْلَم -كما قرَّر علماء الدين ومفكرو العصر- “أن الأديان كلها، بدلا من أن تكون سبب نزاع وخصام في شؤون هذه الحياة، -وهي على ضد من ذلك- تنادي بالائتلاف والوئام، وأن السبب الحقيقي في الخصومات هو بالعكس من ذلك، إنما يحدث بتعمد الانحراف عن الدين، وأن كل طائفة تثير نار الحرب باسم الدين، فهي كاذبة في دعواها الانتساب إلى دينها، وأن العلاج الناجع لآلام الإنسانية الحاضرة، هو أن يُعنى رجال كل دين عناية خاصة بالجانب الخُلقي العام منه، فينمّوا في أتباعهم عاطفة الأخوة الإنسانية باسم الدين نفسه.
كما ينبغي العمل باسم السلام ومن أجل السلام على معالجة ما آل إليه السلام في النظم البشرية الحديثة، حيث اتخذته الأمم المتقدمة والمتخلفة شعارًا لمضامين أخرى؛ فأما الأمم المتقدمة فترفعه في بعض الأحوال شعارًا لتعايش الثقافات، بهدف تثبيط همم الأمم الأخرى وتخديرها تمهيدًا لغزوها، وأما الأمم المتخلفة فترفعه بسبب الروح الانهزامية والضعف.
كما بدأ الحديث بمقولة مالك بن نبي، ينتهي وبالمطالبة التي طالب بها يُطالب؛ إذ يقول: “فالثقافة الحضارية ينبغي أن تُعطِي لفكرة السلام شخصيتَها الحقيقية بأن تضعها منذ الآن تحت ضمان المبادئ”.