المنظور الغربي لحركات الإسلام السياسي

المنظور الغربي لحركات الإسلام السياسي

رضوان زيادة*

وضعت أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001م الإسلام كقضية غربية داخلية، إذ لأول مرة ينظر هذا (الغرب) إلى الإسلام بوصفه يحمل تهديداً سياسيًّا وعسكريًّا بعد أن كان ينظر إليه بوصفه مجرد عامل تحريض ديني خارجي.

فقد أظهر استطلاعٌ للرأي أجراه معهد (بيو) الدولي للأبحاث في تموز/يوليو 2005م أن غالبية الأمريكيين والأوربيين قلقون إزاء تزايد التطرف الإسلامي حول العالم، وقد شمل الاستطلاع 17 دولة، إذ أبدى ثلاثة أرباع المواطنين في الولايات المتحدة والدول الأوربية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وإسبانيا وروسيا قلقهم إزاء التطرف الإسلامي حول العالم.

ووصف معظم المستطلع آراؤهم -في أمريكا والدول الأوروبية والهند- الإسلام بأنه أكثر الأديان عنفاً، وذلك عندما طُلب إليهم الاختيار بين الإسلام والمسيحية واليهودية والهندوسية. واعتبر 87 في المائة من الفرنسيين، و88 في المائة من الهولنديين أن الإسلام هو الدين الأعنف بين باقي الأديان.

وأشار 22 في المائة من المستطلعين في الولايات المتحدة إلى أن لديهم نظرة سلبية إلى الإسلام، مقارنة بـ 57 في المائة يملكون نظرة إيجابية. وقال 34 في المائة في فرنسا أن لديهم نظرة سلبية مقارنة بـ64 في المائة إيجابية. وأشارت غالبية المستطلعين في الدول الأوربية إلى أنهم يشعرون بتصاعد الهوية الإسلامية في بلادهم، ويعتبرون هذا الأمر سيئاً لبلدانهم(1).

يمكن القول بأن صورة الإسلام -وكما عكسها استطلاع الرأي- في غاية السلبية، وربما يعود الأمر إلى أسباب تاريخية وسياسية أبعد بكثير من أحداث 11 أيلول/سبتمبر بيد أن تعميق السلبية بهذا الإطار ربما يرسم سياسات معينة تحاول الاستجابة لنمط التصورات السلبية تلك مما ينعكس بشكلٍ غير مباشر على السياسات كما وجدنا ذلك في تعامل الحكومة الدانماركية مع أزمة الرسوم الدانماركية التي كانت بمثابة رد فعل عفويا على التصورات الذهنية المسبقة عن الإسلام.

إن بناء هذه الصورة نابعٌ بشكل رئيس من الأحكام التلقائية التي تطلقها وسائل الإعلام الغربية ومن ورائها النخب السياسية والفكرية والثقافية الغربية، فمالميس رونفن على سبيل المثال يعزو الفشل الإسلامي إلى وجود نوع من التمزق الداخلي داخل المجتمعات الإسلامية، هذا الفشل يتجسد في التمزق بين ماضٍ تقليدي وتعليم عال مضمونه غربي ومدني، ومع تأجج الهوية داخل هذه المجتمعات فإنها تلعب دوراً محوريّاً في استدعاء أنماط من الصدام أو الصراع التقليدي بين الإسلام والغرب(2)، أما بالنسبة لهاليداي فإنه يعتبر أن الحركات الأصولية في مجملها، لا الإسلامية منها فحسب، معادية للحداثة والديمقراطية معاً، فالآخر عندها مرفوض مبدئيّاً، وحيث تتشابك الهويتان الدينية والإثنية في أحداها، يتكامل العداء للآخر حتى يصير أقرب إلى العنصري(3)، وهو يتقاطع مع روثفن في تأكيده أن الحركات الأصولية لا تكترث بالتنمية أو العولمة، إنما تصب جام غضبها على حكامها، وعلى الفساد الأخلاقي وعلى الغرب وإسرائيل.

ورؤيتها للغرب إنما تتحدد بناءً على رؤيتها لذاتها وللعالم، أو بالأصح انطلاقاً من تصورها لهويتها التي تصبح محض دينية حين تمفصلها مع الغرب، بيد أن بعضهم يذهب إلى أبعد من ذلك في تحليلاته ليقرأ الخلفية الاجتماعية والسياسية التي مكّنت لصعود الإسلام السياسي متمثلةَ في انهيار مشروع التحديث العربي الذي قادته الأنظمة العربية ما بعد الاستقلال منذ الخمسينات وفشلها في تحرير فلسطين ثم تصاعد هذه المسألة في الوعي العربي والإسلامي، ثم فشل التنمية الاقتصادية الاجتماعية الأمر الذي انعكس بشكلٍ كبير على ازدياد الفقر وتدهور المستوى المعيشي للمواطنين ،وقد ترافق ذلك مع نمو شكل من أشكال التسلطية السياسية المطلقة التي اختلفت بين دولة عربية وأخرى إلا أنها تشابهت في انعدام تبلور أفق لإنجاز الديمقراطية السياسية، وقد ترافق ذلك كما قلنا بصعود إسرائيل كقوة إقليمية وعسكرية واقتصادية وتكنولوجية وفشل العرب في تحقيق أيٍّ من الشعارات التي وضعوها في مواجهة إسرائيل، كلّ ذلك خلق بيئة خصبة لنمو التدين واكتساحه الأرياف المتوسطة والفقيرة، وهو يشكل بدوره مرتعاً سهلاً لنمو التيارات المتطرفة داخل هذه القرى والأحياء المعدمة(4).

وإذا كان بن لادن قد قدم نموذجاً مختلفاً لذلك متمثلاً في صعود الإسلام المتطرف داخل إطار الوفرة وليس ضمن اقتصاد الندرة فإن ذلك يصح نخبويًّا أو طليعيًّا، لكنه لا يصح بالتأكيد فيما يتعلق بالجمهور أو الأتباع الذين يكون معظمهم قد نما في مدن الصفيح حيث انعدام كل شيء من مياه وفرص عمل ورعاية صحية إلى غير ذلك.

وهذا بدوره ينقلنا إلى تقسيمات الإسلام السياسي التي تطرح تحديات جدية فيما يتعلق بالمعيار أو المنهج الذي يعتمد عليه التقسيم، إذ نلحظ اختلافات في التوجهات الفكرية والأيديولوجية وخلافات تنبع من النشأة الجغرافية المختلفة، واختلافات أخرى تعود إلى المواقف السياسية وتعدد وجهات النظر تجاهها، بيد أننا نلحظ أن غالبية التقسيمات المعتمدة أو المعايير التي يفرز على أساسها الباحثون حركات الإسلام السياسي إنما تستند إلى موقف هذه الحركات من العنف أو التطرف، إنه معيار يرتكز على التأثير السياسي لهذه الحركات وقدرتها على التغيير بالأساليب السلمية أو تبنيها لأشكال مختلفة من العنف كان آخر تجلياتها العنف العابر للقارات متمثلاً في هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001م.

إن الرهان على اختلافات جذرية أو شكلية داخل حركات الإسلام السياسي ينبع من غير شك من وعي سياسي يشترط التعامل المختلف مع كل حركة على حدة، بناءً على جماهيرية هذه الحركة وفاعليتها وتأثيرها في الشارع مما يجعل تجاوزها أو حتى خيار إهمالها أو مصادمتها خياراً عبثيًّا لأنه لا يعالج الجذور الحقيقية لنمو هذه الحركات، ويفسر حصولها على نمط من الشعبية (الحقيقية) في مخالفة لبعض الأنظمة العربية التي تفرض شكلاً من أشكال التعبئة الشعبية على مجتمعاتها، لكنها تخفي حقيقة أن هذه الشعبية لا تعدو أن تكون (كاذبة)، يتم توظيفها في سبيل تأكيد إخضاع المجتمع وإجباره على تصديق (الحقائق) التي يقدمها النظام.

عموماً ترتكز معظم هذه الدراسات التصنيفية لحركات الإسلام السياسي إلى أن هناك تياراً أعظم أو ما يسمى في العلوم السياسية (Main Stream) يتصف بالتصالحية والاعتدال، إنه ما يُطلق عليه في الفقه التقليدي (إسلام الأكثرية) الذي تؤخذ الحجية منه في الكثير من الاجتهادات الفقهية عندما يجري الإرجاع إلى ما عليه جمهور المسلمين. فالإسلام السني هو الطريق الوسط، والآخرون فرق وانقسامات يُقاس صدق إسلامها بمدى قربها أو بعدها عن الإسلام الأكثري في الاعتقادات والممارسات(5).

ولذلك نجد الكثير من الساسة الغربيين بما فيهم الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير يصفون تنظيم القاعدة بأنه قد اختطف الإسلام من أصحابه الرئيسيين عندما خرج هؤلاء عن قواعده العامة التي تدعو إلى الاعتدال والتسامح ونبذ العنف.

أما بالنسبة للغرب عموماً –خلا بعض أحزابه وشخصياته اليمينية– فإنه لا يحمل إشكالاً مع الإسلام كدين وكأناس يدينون به، لكنه يعاني سيما بعد التفجيرات التي حدثت في نيويورك و لندن ومدريد من أولئك الذين يحملون فهماً خاصّاً عن الإسلام يخوّلهم التخلص من أعدائهم لاختلافهم معهم في توجهاتهم العقدية والدينية والفكرية والسياسية ،ويتم تضخيم هؤلاء في الإعلام خاصةً أنهم نمَوا بين ظهراني القيم الغربية الليبرالية وفي أحضان مدنها الرئيسة لندن وباريس ومدريد مما خلق ارتكاساً أو خوفاً تقليديّاً ينبع من الإسلام ومن معتنقيه، ويختلف ذلك باختلاف الخبرة التعددية والمفهوم الثقافي للاختلاف وفهم الأمة القومي لذاتها، وهو ما وجدناه مثلاً في الفرق الكبير بين مسلمي بريطانيا ومسلمي فرنسا على سبيل المثال ودور كلٍّ منهم في المجتمع وتأثيراته.

لقد كان تركيز الغرب فيما سبق وخلال العقود الثلاثة السابقة منصبّاً على الإسلامية الشيعية بوصفها الظاهرة الأكثر تهديداً وإزعاجاً. أما في الوقت الحاضر فإن التركيز الغربي منصبٌّ على النشاط السني، حيث تدور معظم المخاوف حوله، ويتم النظر إلى الإسلامية السنية بشكلٍ واسع على أنها أصولية متزمتة(6).

وعلى الرغم من أن تقرير (مجموعة الأزمات الدولية) يقرُّ أن مصطلح (الإسلام السياسي) هو أمريكي المنشأ وقد أصبح متداولاً بعد الثورة الإيرانية، ويفترض أنه كان هناك إسلام ولكن غير سياسي حتى جاء الخميني وقلب الأشياء وأصبح للإسلام بعدها ثقل في الحياة السياسية للشرق الأوسط(7).

على الرغم من ذلك فإن التقرير يحاول تصنيف التيارات الرئيسة في النشاط الإسلامي السياسي السني وفق فرزٍ يتعدى التصنيف التفريقي والتبسيطي بين (التشدد) و (الاعتدال) وإنما يحاول أن يميز الفروقات وفقاً لقناعات أتباع هذه الحركات، والتي تشمل تشخيصات مختلفة للمشاكل التي تواجهها المجتمعات الإسلامية، ووجهات النظر المختلفة حول التشريع الإسلامي والمفاهيم المتغايرة للمواضيع المطروحة (السياسية والدينية والعسكرية) التي تتطلب العمل والتفاعل، وتتضمن أيضاً تحديد نوع العمل الذي يجب أن يكون مشروعاً وملائماً، أي الذي يحمل عنصر الخلاف وفي أحيانٍ كثيرة تكون أهدافه متناقضة، وهذا فرق جوهري عن ذلك الفرق المعروف تقليديًّا بين السنة والشيعة، وهو اختلاف بين أشكال النشاط الإسلامي المعاصر أكثر من كونه اختلافاً بين التقاليد الإسلامية التاريخية، ووجود هذا الاختلاف خاصةً بين صفوف الإسلام السني السياسي هو تطور جديد نسبيًّا لم يكتمل بعد، بل يبدو كأنه عملية مستمرة كما يذكر التقرير(8).

ويقسم هذا التقرير تيارات الإسلام السياسي السني إلى ثلاثة تيارات رئيسة، أولها يطلق عليه تسمية التوجه الإسلامي السياسي، بمعنى أنه يشتمل على حركات تعطي الأولوية للعمل السياسي على الخطاب الديني والسعي للسلطة بواسطة وسائل سياسية وليس بالعنف، وبشكل خاص تنظيم أنفسهم كأحزاب سياسية، والمثال الرئيس هو الإخوان المسلمون في مصر, وفروعهم المختلفة وخاصةً في الأردن والجزائر.

أما التيار الثاني فهو يشتمل على النشاط التبشيري المتجدد والأصولي في آن واحد، وتتجنب الحركات من هذه الفئة النشاط السياسي المباشر، وهي لا تسعى إلى السلطة ولا تصنف نفسها كأحزاب سياسية، بل تركز على النشاط التبشيري كالدعوة لتثبيت أو إحياء الإيمان كالحركة السلفية المنتشرة في العالم العربي وجماعة التبليغ التي ولدت في الهند عام 1926م وانتشرت في العالم.

أما التيار الثالث فهو تيار (الجهاديين) وهم نشطاء ملتزمون بالعنف لأنهم معنيون بما يعتبرونه دفاعاً عن الإسلام أو في بعض الأحيان لتوسيع دار الإسلام، ويضم هذا التيار فئتين رئيستين هما:

1- السلفية الجهادية المؤلفة من أناس ذوي نظرة سلفية وتمت تعبئتهم كمتطرفين تَخَلَّوْا عن النشاط المسالم الذي تتبعه الدعوة لينضموا إلى صفوف الجهاد المسلح.

2- القطبيون وهم نشطاء تأثروا بالفكر المتطرف لسيد قطب وكانوا في البداية مهيَّئين لشن الجهاد ضد (أقرب عدو), وهو الأنظمة المحلية والتي وصفوها بالكفر وخاصةً في مصر، وذلك قبل التوجه إلى الجهاد في العالم الخارجي ضد (العدو البعيد) وخاصة إسرائيل والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة(9).

أما تقرير مؤسسة راند الأمريكية والذي صدر عام 2003م تحت عنوان (الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات) فإنه يصنف التيارات الإسلامية المعاصرة إلى أربعة أصناف هي: العلمانيون والأصوليون والتقليديون والحداثيون، ثم يحدد مواقف هذه التيارات إزاء عدد من الموضوعات الرئيسة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتعدد الزوجات، والعقوبات الجنائية والعدالة الإسلامية، وموضوع الأقليات، والموقف من المرأة، محاولاً في النهاية بلورة (استراتيجية مقترحة) للولايات المتحدة تقوم على العثور على شركاء من أجل تطوير وتنمية الإسلام الديمقراطي، الذي يرى أنه أقرب ما يكون إلى قبول القيم الأمريكية وخصوصاً القيم الديمقراطية(10).

أما معهد كارنيجي فإنه يتبنى التفريق بين الحركات الإسلامية بناءً على لجوئها إلى العنف، ويعتبر أن الحركات الإسلامية المعتدلة، وليس الراديكالية، هي التي سيكون لها أعظم الأثر على التطور السياسي المستقبلي في الشرق الأوسط، ويعرفها بأنها تلك الجماعات التي تخلت عن العنف أو نبذته رسميّاً وتسعى إلى تحقيق أهدافها من خلال نشاطات سياسية سلمية، ومن أهمها حركة الإخوان المسلمين بفروعها المختلفة وحزب العدالة والتنمية المغربي، وجبهة العمل الإسلامي في الأردن، وحزب الإصلاح في اليمن وغيرها(11).

يقرّ هذا التعريف بمحدوديته، إذ لا يفترض مسبقاً أن هذه الحركات ملتزمة تماماً بالديمقراطية، أو أنها تخلت عن هدف جعل الشريعة أساساً لجميع القوانين، أو أنها تقبل حقوق المرأة في المساواة الكاملة، هذه المفاهيم هي ما يطلق عليه التقرير (المناطق الرمادية) في فكر الحركات الإسلامية، التي هي نتيجة للازدواجية المتمثلة في الرفض المتعمد من جانب الحركات الإسلامية المعتدلة إعلان مواقفها الفعلية بشأن القضايا الأساسية الشائكة، وذلك كي لا تزعج الغرب وكي لا تفقد سمعتها بكونها حركات معتدلة، لكن التقرير يقرُّ أيضاً بحدوث تطور نوعي داخل فكر هذه الحركات وفي استراتيجياتها السياسية(12).

أما المعهد الأمريكي للسلام الذي قدّم أكثر من تقرير فيما يتعلق بالاجتهاد في الإسلام والتعامل مع الإسلاميين، فهو يعتبر أن أحد الأسباب الرئيسة التي تبرر فشل المسلمين في المصالحة بين الإسلام والحداثة - إنما تعود إلى أن عملية الاجتهاد داخل حلقة الإسلام السني قد أغلقت منذ قرون، ومع ذلك كانت هناك مبادرات لمحاولة تفسير نصوص الإسلام المنزلة على ضوء حقائق العصر والمعرفة الحديثة، ولكي ينجح الاجتهاد في مجتمع ما، فيجب أن تسود الديمقراطية وحرية الرأي(13)، وعلى ذلك فإن تقريراً آخر يوجّه الولايات المتحدة في سياستها الخارجية نحو دعم (التجديد الإسلامي) أو أولئك الذين يتصفون بالاعتدال الإسلامي ويتبنون برامج تقوم على أساس الإصلاح الديني والتجديد من داخل الحقل الإسلامي(14) كما كان تقرير مؤسسة راند قد انتهى إليه، يُضاف إلى ذلك ضرورة تشجيع الدبلوماسية العامة تجاه العالم الإسلامي، وهو ما تبناه تقرير آخر أصدرته مؤسسة (هيئة علوم الدفاع) التابعة لوزارة الدفاع (البنتاغون) الذي حذر من أي خطة للعلاقات العامة يجب أن تُبنى على أساس استراتيجي، وتحاول أن تشرح ديبلوماسيتها للعالم الإسلامي عن طريق التأكيد المستمر لهم أن اقترابهم نحو الوسطية والاعتدال لا يعني الرضوخ للطريقة الأمريكية، ودعا إلى فصل الغالبية العظمى من المسلمين الذين لا يستخدمون العنف عن المسلمين المتشددين الذين يعتنقون فكر الجهاد(15).

وهو ما تجلى في دعم الولايات المتحدة لنشر الديمقراطية في الشرق الأوسط بالرغم من اكتساح الإسلاميين في الفترة الأخيرة لنتائجها كما حدث في مصر والعراق وفلسطين، مما دفع الظواهري أحد زعماء تنظيم القاعدة إلى إدانة الإخوان المسلمين في مصر لمشاركتهم في الانتخابات، وهو الشرخ الذي حاولت الولايات المتحدة استثماره وتوظيفه لتعميق الفرق بين الحركات المعتدلة من جهة، وتنظيم القاعدة ومن يدعمه من الحركات المتشددة من جهة أخرى للاستفادة من ذلك في (الحرب على الإرهاب) وتبرير شرعيتها(16).

إن الانتصار الديمقراطي الذي حققته الحركات الإسلامية في الفترة الأخيرة دفعت الولايات المتحدة إلى بلورة (رؤية استراتيجية) تقوم على نهج تشجيع الإصلاح السياسي في المنطقة العربية بصرف النظر عن ترجيح تزايد نفوذ القوى المعادية لأمريكا والغرب، وقد أكّدت وزيرة الخارجية الأمريكية رايس أن هذا الواقع يعكس (مرحلة انتقالية ضرورية) قبل بلورة أنظمة سياسية أكثر استقراراً وانفتاحاً على الغرب في ظل حكومات ستواجه استحقاقات من أهمها تقديم خيارات أفضل لشعوبها وإقامة علاقات بناءة مع العالم(17).

ولذلك تعهد الرئيس الأمريكي بوش بمواصلة دعم الإصلاح السياسي في الشرق الأوسط حتى لو جاءت النتائج مغايرة لما تريده واشنطن، وقال: (إن الطريقة الوحيدة لدحر الإرهابيين ورؤيتهم السوداء المستندة إلى الكراهية والترهيب، هو بتقديم بديل يمنح أملاً بالحرية السياسية والتغيير السلمي (لكنه اعترف بأن) خيارات أهل المنطقة لن تنسجم دائماً مع ما نراه نحن، فالديمقراطيات في الشرق الأوسط لن تشبه ديمقراطيتنا، لأنها ستعكس تقاليد مواطنيها)(18).

وهو الموقف الذي كان الاتحاد الأوربي قد بلوره بعد ممانعة كبيرة، إذ أكد ضرورة الدخول في حوار مع منظمات معارضة إسلامية في الشرق الأوسط للتشجيع على حدوث التحول نحو الديمقراطية، وقد جرى تأكيد ذلك في (وثيقة أوروبية) أقرّها وزراء خارجية الاتحاد الأوربي في لوكسمبورغ أشارت في بدايتها إلى أن الاتحاد الأوروبي كان في الماضي يفضّل التعامل مع الطبقة العلمانية المثقفة في المجتمع المدني في الدول العربية على حساب منظمات إسلامية أكثر تمثيلاً) ولذلك دعا الاتحاد الاوربي إلى ضرورة فتح حوار مع (المجتمع المدني الإسلامي في الدول العربية)(19).

عموماً هذا التوافق الأوروبي- الأمريكي حول حتمية التعامل مع الحركات الإسلامية يُعد بمثابة (نقلة استراتيجية) خاصة إذا ما اطّلعنا على الفوارق التي حكمت النظرة الأمريكية والأوروبية في تعاملها مع الإسلام السياسي.

فهناك اختلاف جوهري وحقيقي في التعامل أو التعاطي الأميركي عن الأوروبي فيما يتعلق بالحركات السياسية الإسلامية؟ والمفارقة لا تكمن في وجود هذا الاختلاف المتوقع بالنظر إلى تغاير الرؤيتين الفكرية والسياسية والقيمية بين الولايات المتحدة وأوروبا، لكنها تكمن في رجحان الكفة لمصلحة الأميركيين على حساب الأوروبيين في احترامهم لهذه الحركات وتعاملهم معها، فإذا نظرنا إلى العلاقة التاريخية الممتدة منذ نشأة الحركات الإسلامية وحتى الوقت الحالي. فقد كانت الولايات المتحدة ترى في الحركات الاسلامية في الخمسينات والستينات من القرن الفائت حليفاً مكتوماً يزعزع سطوة الخطاب القومي الذي راج بشدة في زمن عبد الناصر، ولذلك لم تتردد الولايات المتحدة في دعم بن لادن مستفيدة منه في محاربة الشيوعية التي قادها الاتحاد السوفياتي (السابق)، دولة الشر كما وصفها الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان.

لكن إذا كانت هذه المواقف تنبع من محض المواقف السياسية والاستخباراتية والمصلحية لكل من الطرفين - فإن الموقف الأميركي الأبرز جاء من اختلافه التام عن الأوروبي فيما يتعلق بإلغاء الجيش لنتائج الانتخابات الجزائرية في عام 1991م والتي كان من الأكيد فيها فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ بغالبية المقاعد. فقد كانت فرنسا ومن خلفها أوروبا مؤيدة للإجراء الذي قام به الجيش الجزائري بحجة الخوف على الديمقراطية من أن يخطفها أعداء الديمقراطية، أما الولايات المتحدة فقد نظرت بعين الاطمئنان إلى تولي الإسلاميين المنتمين إلى الجبهة الإسلامية للإنقاذ السلطة في الجزائر، بل إن غراهام فولر نائب مدير العمليات الأسبق في الاستخبارات المركزية الأميركية بسط في بحث له عام 1995م الأسباب السياسية التي جعلت الإدارة الأميركية تقتنع بأن قيام دولة إسلامية في الجزائر من شأنه أن يخدم المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الأميركية.

كما أن روبرت بلليترو مساعد نائب وزير الخارجية الأميركي الذي جمع أطراف المعارضة الجزائرية في عام 1995م كان مقتنعاً بأن ليس في الإمكان الإتيان بأي حل عسكري للأزمة الجزائرية، وأن لا بد من التعامل بإيجابية مع أطروحات الحركة الإسلامية الجزائرية(20)، كما أن الإدارة الأميركية رحبت بوصول حركة طالبان إلى السلطة، إذ اعتبر بريجنسكي المستشار السابق للأمن القومي أن في ذلك عاملاً إيجابيّاً من شأنه أن يعيد الاستقرار إلى المنطقة، علاوة على أن كثيراً من كبريات شركات النفط والغاز قد أوكلت إلى حركة طالبان حماية استثماراتها.

أما الفرنسيون فقد اتخذوا موقفاً محذراً من وصول الإسلاميين إلى السلطة في الجزائر ثم تحولوا فيما بعد إلى شريك حقيقي للسلطة الجزائرية في دعمها لمحاربة (الإرهاب الإسلامي)، وجاءت حادثة الاختطاف التي تعرضت لها طائرة إيرباص الفرنسية المقبلة من الجزائر فوق أرضية مطار مارسيليا لتنقل الإرهاب ذاته إلى الأرض الفرنسية ومن خلفها الأوروبية، فقد نجحت السلطات الفرنسية حينها في إفشال عملية الاختطاف مما دفع الجماعة الإسلامية المسلحة التي تبنت العملية إلى التوعد بعمليات مقبلة فوق التراب الفرنسي والبريطاني وهو ما حرض الأوروبيين على إجراء تحقيق فريد من نوعه حول الشبكات النشيطة للجماعة الإسلامية المسلحة وغيرها من الحركات الإسلامية في أوروبا.

ثم جاء الافتراق الأكبر بين الرؤيتين الأميركية والأوروبية في نظرتهما للحركات الإسلامية بعد حدث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر2001م، إذ تبادل الطرفان الموقفين السابقين وَإِنْ ضمن مواقع مختلفة. فالأوروبيون أصبحوا يحاجّون الأميركيين أن الدول الديموقراطية تمتلك وسائل متطورة بما فيه الكفاية ووفق القواعد القانونية لمحاصرة الجريمة ضمن حدودها، إذ دار جدل كبير بين الأميركيين والأوروبيين حول المنزلة القانونية التي تحتلها أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، فإذا كانت (جريمة إرهابية) كما يصرّ الأوروبيون على توصيفها فإنها ستجد معالجة لها عبر الوسائل القانونية المحلية والدولية وتشديد دور الاستخبارات وأجهزة الأمن لتفكيك الخلايا المسؤولة عن مثل هذه الأعمال، أما الأميركيون فإنهم يرون في حدث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر بمثابة إعلان الحرب الموجهة ضدهم، وهم بذلك يمتلكون كل الشرعية والأحقية القانونية في الرد على الحرب المعلنة عليهم(21).

ثم تعزز الافتراق الأميركي عن الآخرين مع تعزيز الرؤية الأحادية الأميركية وترسيخ العزلة الخاصة بها من طريق الانسحاب من الاتفاق المضادة للصواريخ البالستية، وسعيها في الوقت نفسه إلى بناء الدرع الصاروخية وخروجها من (اتفاق كيوتو) المتعلق بارتفاع درجات حرارة المناخ العالمي، ويضاف إلى هذه القائمة معارضة واشنطن لحظر استخدام الألغام الأرضية واعتراضها على اتفاق حظر الحرب البيولوجية، ثم معارضتها للمحكمة الجنائية الدولية. كل ذلك عزز التفكير لدى الأوروبيين في البحث عن ثقافتهم وقيمهم الخاصة بهم متجاوزين الخلاف حول الإسلام السياسي إلى رؤية كونية أوسع، وراحوا ينظرون إلى رؤيتهم تلك عبر التمايز والمفارقة، فالأميركيون على سبيل المثال ميالون لأن يروا لأي شرعية ديموقراطية وجوداً يفوق ما تتمتع به الدولة القومية من شرعية، أما الأوروبيون فعلى العكس تماماً، إذ يرون أن الشرعية الديموقراطية إنما تنبع من إرادة المجتمع الدولي أكثر من كونها مستمدة من أي دولة قومية منفردة على الأرض. ويعود الخلاف في الرؤى حول الشرعية الديموقراطية إلى الخلاف حول دور القانون الدولي وأولها انعدام توازن القوى بين الولايات المتحدة الأميركية وأي دولة أخرى سواها. مما يدفع الدولة العظمى الوحيدة في العالم للانفلات من القيود وإلى تحرير قدرتها على الفعل(22).

كما أن الأوروبيين يعتبرون أن سلوكهم في مواجهة المشكلات أكثر براعة وتنوعاً بحكم خبرتهم التاريخية وخبرتهم تلك هي التي دفعتهم إلى اتخاذ موقف سلمي من الحرب على العراق مما شكل تناقضاً جذريّاً مع الثقافة الاستراتيجية التي سادت في أوروبا طوال أربعة قرون، وهكذا فقد تبادل الأميركيون والأوروبيون مواقفهم ووجهات نظرهم، فالانكفاء الأميركي عن التدخل أصبح جموحاً بعد قرن من الزمان, أما الحماسة الأوروبية للصراع والتدخل فقد قلمت أظافرها وأصبحت تنشد السلام أكثر من رغبتها في الحرب.

لكننا نلحظ اليوم تقارباً جديداً أوروبيًّا أميركيًّا فيما يتعلق بالرغبة المشتركة في مكافحة (الإرهاب الإسلامي)، الأكيد أن هذا التقارب إنما أتى بعد أن نجحت الحركات الإسلامية المسلحة وخصوصاً القاعدة في الانتقال إلى مستوى من العنف غير مسبوق مما جعلها تظهر في شكل تهديد حقيقي ليس للولايات المتحدة أو أوروبا فحسب وإنما للغرب بكليته، وهو ما يعزز مقولة سائدة عن الإسلاميين بأنهم ناجحون في كسب الأعداء أكثر من نجاحهم في كسب الأصدقاء.

وزاد هذا التقارب مع اكتساح الإسلاميين للانتخابات في المنطقة، مما جعل الطرفين يتبنون وجهات نظر متقاربة حول ضرورة فتح حوار حقيقي وجدي مع الحركات الإسلامية المعتدلة بغية عزلها عن تلك المتطرفة مما يجعل محاولة كسبها أكثر تأثيراً نحو القيم الديمقراطية.

********************

الهوامش:

*)كاتب وباحث من سورية.

1- انظر: السفير، (بيروت)، 15/7/2005م.
2- Malise Ruthven, A Fury for god: the Islamist Ahackon Americal (London: Granta Books, 2002).
3- Fred Halliday, two ours that hook the world (London: Sayi Books, 2002) وبالعربية: فريد هاليدي، ساعتان هزتا العالم (لندن : دار الساقي ، 2002م).
4- انظر: Francois Burgat, face to face with political Islam, (London I.B.Tauris, 2003)
5- رضوان السيد، الإسلام المعاصر: تياراته الفكرية والسياسية والتحولات الثقافية في العالم، الحياة، (لندن)، 9/4/2005م.
6- Understanding Islamism, International crisis group, Report N°37, 2 March ,2005.
7- المرجع نفسه.
8- المرجع نفسه.
9- المرجع نفسه.
10- Cheryl Benard , Civil Democratic Islam: Partners, Resources, and Strategies , Rand Foundation , National Security Research Division ,2003
وانظر: السيد ياسين، الأصول الأمريكية لنظرية الإسلام الليبرالي، النهار، (بيروت)، 25/7/2004م.
11- Islamist Movements and the Democratic Process in the Arab world: Eploring the Gray Zones, Carnegie Endowment for International Peace, Gornegie Papers, Middle East Series, No.67, March 2006.
12- المرجع نفسه.
13- الاجتهاد: إعادة تفسير مبادئ الإسلام للقرن الحادي والعشرين (واشنطن. د.ي: معهد السلام الأمريكي، آب/ أغسطس 2004م) تقرير رقم 125 ، ص7.
14- Abdeslam M. Maghraoui, American Foreign Ploicy and Islamic Renwal, Unted States Institute of Peace, Special Report, No.146, June 2006.
15- المستقبل، (بيروت)، 26/11/2004م.
16- انظر خطاب وزيرة الخارجية الأمريكية رايس في المؤسسة الأمريكية للسلام، إذ وصفت قصة أمريكا والعالم الإسلامي بأنها (علاقة إنقاذ) ، حيث خاضت الولايات المتحدة (خمسة حروب تحرير وحرية من أجل المسلمين منذ نهاية الحرب الباردة)، السفير ،(بيروت) ، 20/8/2004م.
17- الحياة، (لندن)، 19/2/2006م.
18- الحياة، (لندن)، 19/2/2006م.
19- المستقبل، (بيروت)، 17/4/2005م.
20- ريشار لابيفيير، الجماعات الإسلامية المسلحة، ترجمة عبد الرحيم حُزل (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2003م).
21- Francis Fukuyama, Washington Post , 11/9/2002. وانظر أيضاً: فرانسيس فوكوياما، انشقاق في المنظور الغربي للشرعية الديمقراطية، الحياة، (لندن)، 7/9/2002م.
22- Francis Fukuyama, International Herald Trebiun , 10/8

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=418

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك