أمة الكتب الأولى
أمة الكتب الأولى
عبدالله إبراهيم*
1- مخاريق محشوة
في سياق حديثه عن الهياكل المقدسة عند الأمم المختلفة نقل ابن فضل الله العمري (749هـ=1348م) في كتابه (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) عن أبي عبيد البكري (487=1094م) خبراً قصيراً عن (الصابئة) وهو الخبر الذي أورده المسعودي (346=975) من قبل في (مروج الذهب)، وذكره آخرون، وبذلك جرى تداول الخبر طوال أكثر من أربعة قرون، وتعرض لتخريب كبير، فقد حُذف منه وأضيف إليه، لكنه حافظ على تماسكه البنيوي والدلالي، آخذين في الحسبان أن المسعودي، فيما نعلم، أول من دوّن روايته الشفوية التي تعود إلى زمن أسبق بكثير من ذلك، وبخاصة الجزء الأخير منه، وهو عن مخزن الكتب الأولى في العالم. وسنُدرج الخبر بعد تهذيبه من شروحات جانبية لا تؤثر في بنيته السردية ولا في بنيته الدلالية، لنتمكن من تحليله بصورة وافية.
(وأما ما كان للصابئة، فكان لهم هياكل تسمى بأسماء، وهي: هيكل العلة الأولى، وهيكل العقل، وهيكل الصورة، وهيكل النفس. مستديرات الأشكال. وهياكل الكواكب والنيرين على أشكال مختلفة من التسديس والتثليث والتربيع. وكانت لهم فيها دُخَن وقرابين..والذي بقي من هياكلهم، بيت بحرّان، في باب الرقّة، يُعرف بمعلميشا (=مغليتيا، عند المسعودي) وهو هيكل آزر أبي إبراهيم (=الخليل)..ولهم في هياكلهم مخاريق قد وصلت: تقف السَّدَنَة من وراء الجُدُر، وتتكلّم بأنواع الكلام، فتجري الأصوات في تلك المنافخ والمخاريق إلى تلك الصور المجوّفة، فيظهر لها نُطق على حسب ما دُبِّر على هيئة هندسية..والصابئة حشويّة اليونان، وإنما يضافون إلى الفلسفة، إضافة نسب لا إضافة كلمة، لأنهم يونانيون، وليس كلّ يونانيّ بحكيم..والصابئة تُقرّب في بعض الأوقات ثورا أسود، تُشَدُّ عيناه، ويُضرب وجهه بالملح، ثم يُذبح ويُنظر في أعضائه، وما يظهر منه في الجراحات والاختلاج، فيُستدلّ به على أحوال السَنة. ولهم في قرابينهم أسرارٌ ومُخبّآت، وهيكل في أقاصي الصين، وهو بيت مدوّر له ستورٌ وأبواب. في داخله قبةٌ مسبَّعةٌ عظيمة البنيان. وبه بئر مسبّعة الرأس، متى أكبّ إنسانٌ على رأسها تهوَّر على رأسه فيها، وعلى رأس البئر شبه الطوق مكتوب عليه بقلم قديم، قلم السند هند (=قلم المسند، عند المسعودي) (هذه البئر تؤدّي إلى مخزن الكتب الأولى، وتاريخ الدنيا، وعلوم السماء لِما كان ويكون، وتؤدّي إلى خزائن رغائب هذا العالم، لا يصل إلى الدخول إليها والاقتباس مما فيها إلا مَنْ وازتْ قدرته قدرتنا، وعلمه علمنا)(1).
تكشف بنية خبر (الصابئة) مجملَ عيوب التأليف الإخباري الشفوي القديم، إذ تتضارب المعلومات عن (الآخر) المختلف في معتقداته، وعباداته، وطقوسه، ثم يجري النقل دونما تثبّت، فيقع التغيير، والتكرار، والتصحيف، وعدم مراعاة التناسب، وتسريب أحكام انتقاصية، فلكي نتعرّف إلى الصابئة ينبغي لنا تذكر (مخاريقهم) ونتهمهم بأنهم من (حشوية اليونان)، ثم نبعدهم عن أي احتمال تتسرّب منه رائحة الحكمة (فليس كل يوناني بحكيم) لئلا يتوهم أحد بأن فيهم حكماء، وأن نذهب بهم إلى أقصى مشارق الأرض لنجد لهم هيكلا كتب عليه بلغة هندية مجهولة بالنسبة لنا، ثم نلوذ بالتاريخ البعيد لنعرف أن لهم هيكلا آخر في حرّان خصّ بآزر أبي النبي إبراهيم، وننتقل إلى أضاحيهم العجيبة، إذ ينحرون الثيران السود يستدلون بخلجات أشلائها على صروف الدهر، وتقلبات الأحوال، ناهيك عن المخبآت والأسرار التي ترافق ذلك. فماذا يرتسم في مخيلتنا ونحن ننتقل من الصين إلى اليونان؟ ومن الكتب إلى الثيران؟ ومن الهياكل إلى المخاريق؟
يتوهم كثيرون أن هذا التمزيق الدلالي، والمكاني، والزماني، لمحمول الخبر وصيغته السردية سيفضي إلى تصدّع الفكرة القابعة تحته، فيتناثر كل ما له صلة بالصابئة، ويُدرج طيّ النسيان، فيما نرى أن تلك النبذ المتناثرة تمثل القيمة الدلالية لمحمول الخبر؛ إذا جرى ترميمه في ضوء المظان الأصلية التي حملت إلينا أخبار الصابئة، فخلف الرغبة المضمرة لطمس المحمول الدلالي تلوح قضية متماسكة ينقصها السياق الحاضن الذي يمنحها المعنى الخاص بها. فما يعدّ تشتيتاً نجده تأكيداً على عالمية عقيدة الصابئة، فلابد أن تكون الصابئية ديانة كونية شملت العالم قبل اليهودية والنصرانية والإسلام لتغطي هذه المساحة من الأرض، فقد أخذت عن اليونان حكمتها، وخلّدتْ في الشرق الأدنى هياكلها، ثم استعارت لغة الهند، وانتهت بأن عبّرت عن نفسها في أقاصي الصين باعتبارها ضامنة للمعرفة الأولى. وبدل الانتقاص والذم يفضل الحديث عن عقيدة فُنيتْ في العقائد الأخرى، وتلاشت فيها، وكانت جذورا لها ومنابع، وذابت كثير من عناصرها في تلك العقائد التي ورثتها، كما ترث الأديان بعضها بعضا في كل زمان ومكان. لم تكن الصابئية عقيدة مغلقة تنتهي صلاحيتها بانقضاء عصرها، إنما أعادت تشكيل نفسها في قلب العقائد الكبرى التي ظهرت في إثرها، ووجدت لها تجليات في سائر تلك العقائد التي تسعى جاهدة للتخلص من أصول مزعجة. واستنطاق النص سيظهر التنوعات الخفية للصابئية التي أراد العمري أن يدفع بها إلى هوّة النسيان. يضع خبر الصابئة بين أيدينا الطريقة المشوبة بالاحتقار للعقائد القديمة، فكل ما لا نرغب فيه يجب طمره إلى الأبد. فما وصلنا إنما جاء بـ(مخاريق). وطبقا للعمري فذمّ الحامل يُقصد منه إبطال قيمة المحمول.
يلزمنا الوقوف على الوسيلة التي بلغتنا بها المعتقدات الصابئية، لنقف على قيمتها وأهميتها، لقد وصلت بـ(المخاريق). تقطر كلمة (المخاريق) بدلالات الانتقاص، ففي المعجم العربي تقترن غالبا بالكذب، والاختلاق، والتزييف، فالمُمخرق هو المُموّه، والخرق هو الكذب، والحمق، والجهل، والتخريق هو المبالغة في الكذب، والتخرّق خلق الكذب واشتقاقه. والمخاريق خِرقٌ مفتولة يلهو الصبيان بها، ولا قيمة لها. وإذا غادرنا المعاجم إلى المصادر وجدنا دعما مباشرا للمعنى المذكور، فالمرزوقي يرى أن المخراق خشبة في رأسها سنان عريض كان القوم إذا انصرفوا من حرب ظافرين قدموا بشيرا معه مخراق ليعلم الحال، فيلوح به لاجتماع ولدان الحي(2). وفي (الأغاني) ترد مرادفة للريبة والشك (إن مخاريق الأمور تُريب)(3). لكن الجاحظ في إحدى رسائله يدفع بالمعنى إلى مستوى أكثر دقة، وله صلة مباشرة بموضوعنا، فالمخاريق هي أكاذيب العرافين، وهي أشبه بتزاويق الكهّان، وتهويلات الحواة(4). ويربط الثعالبي التخريق بالشعوذة، فهو تصوير الباطل في صورة الحق5. ولكل هذا سنفهم، بصورة لا تقبل اللبس، لماذا ذهب القاضي التنوخي إلى وصف الحلاج، بأنه (صاحب مخاريق يظهرها كالمعجزات، ويستغوي بها جهلة الناس)(6). ينتهي بنا الأمر إلى أن العمري - ومن قبله البكري والمسعودي وطبقة كاملة من المؤرخين والجغرافيين - يريدوننا أن نأخذ بالحسبان أن كل ما للصابئة محمول بمخاريق، وأن طقوسهم الدينية في هياكلهم المقدسة هي سلوك أخرق فيه من الطيش، واستغواء الجهلة، والحمق، والخداع، الشيء الكثير.
لا يُكتفى بالمخاريق، إنما الصابئة من (حشوية اليونان). تتهم بالحشوية كل الفرق المخالفة التي عدّت ضالة، وتسبّبت في إحداث بدع غريبة في الإسلام، وترتبط في أصلها بفكرة (الحشو). فحشوة الإنسان: أمعاؤه. وكل ما في البطن فهو حشوة. وحشو الكلام هو الفضل الذي لا يعتمد عليه، وحشوة الناس هم رذّالهم، فما تؤمن به الحشوية يتّصل بالأحشاء وما تحتويه، وبعيدة كلية عن الأفكار السامية التي منبتها الأذهان والعقول. تقبع أفكار الحشوية في الأسافل العفنة. إنها حشو كروش، وكل الأفكار العليا براءٌ منهم، فلا تحصيل لهم غير ما يكون من فساد الأحشاء، وليس من صفاء العقول. وحينما يعقد ابن النديم عن الصابئة فصلا في (الفهرست) يصمهم بـ(الجهالة)(7). أما صاحب (طبقات الشافعية الكبرى) فيلحقهم بالمشبّهة، أي من القائلين بالتشبيه، والتجسيم، وعدّهم أصحاب عقيدة سرية لا يُجهر بها، بل تُدس إلى جهلة العوام، وانتهى إلى أنه (من أنكر المنكرات التجسيم والتشبيه، ومن أفضل المعروف التوحيد والتنزيه)(8). وبالإجمال فصورة الحشوية سيئة جدا في التاريخ الإسلامي، فهم مشبّهة، ومجسّمة، ومن ذوي الاعتقادات الفاسدة التي تلحق ضررا بالعقيدة الصحيحة، إنهم من أخطر أصحاب البدع!!.
لننظر الآن في عقيدة دينية تحملها لنا (مخاريق محشوّة). فإذا كان العمري وسواه من الجغرافيين، والمؤرخين، ومؤلفي كتب (الملل والنحل) يريدون تعريفنا بالفِرق المختلفة، فإنما يضعون بيننا وبينها كدسا من (المخاريق المحشوة) التي ستحول دون أن نطمئن إلى أهميتها، وذلك لا يلزمنا بمعرفتها، بل التخلّص منها كما تتخلص الأجساد السليمة من حشوها الفاسد. ولا يقتصر الأمر على العمري، فمهما أجَلنا النظر في المرويات والمدونات القديمة التي انتدبت نفسها للتعريف بالجماعات والعقائد غير الإسلامية، خارج دار الإسلام وفي داخلها، قبل ظهور الإسلام وبعده، فنواجه بستار سميك من التجهيل يحول دون ملامستنا المباشرة لحقيقة تلك الجماعات والأديان، فقد تراكم تراث من الانتقاص والدونية لكل ما يغايرنا، ولا يمتثل لنظام القيم السائد لدينا، ولا يستقيم الأمر بدون نظرة نقدية تفكك ركائز ثقافة الكراهية ليقع قبول الآخر.
يوضح المسعودي طبيعة (مخاريق الصابئة) التي تستخدم لإصدار أصوات توهم بأنها خاصة بالآلهة، وذلك في سياق تلخيصه قصيدة لمعاصره القاضي الحرّاني (ابن عيشون) ذكر فيها مذاهب الصابئة، وتطرّق إلى بيت عبادتهم في حرّان، وما فيه (من السراديب الأربعة المختلفة لأنواع صور الأصنام التي جعلت مثالاً للأجسام السماوية، وما ارتفع من ذلك من الأشخاص العلوية، وأسرار هذه الأصنام، وكيفية إيرادهم لأطفالهم إلى هذه السراديب، وعرضهم لهم على هذه الأصنام، وما يُحْدِث ذلك في ألوان صبيانهم من الاستحالة إلى الصُّفْرة وغيرها؛ لما يسمعون من ظهور أنواع الأصوات، وفنون اللغات، من تلك الأصنام والأشخاص، بِحِيل قد اتُخذتْ، ومنافيخ قد عُملتْ: تقف السدَنة من وراء جُمُرٍ فتتكلم بأنواع من الكلام، فتجري الأصوات في تلك المنافيخ والمخاريق والمنافذ إلى تلك الصور المجوفة والأصنام المشخصة، فيظهر منها نُطق على حسب ما قد عُمل في قديم الزمان، فيصطادون به العقول، وتسترقُّ بها الرقاب، ويقام بها الملك والممالك)(9).
يخلص المسعودي إلى أن ذلك سلوك مروّع ينتهك الطفولة البريئة، ويخدع به الجميع، فتقام بذلك الممالك على أسس باطلة. ويقرر الشهرستاني بأن ذلك مما يختص به الصابئة دون سواهم، فقد (استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضي منهم العجب. وهذه الطلسمات المذكورة في الكتب، والسحر، والكهانة، والتنجيم، والتعزيم، والخواتيم، والصور..كلها من علومهم)(10). وتتواتر أخبار متزاحمة في المصادر القديمة تربط الطقوس الدينية للصابئة بأعمال الشعوذة، وكل ذلك لا يستند إلى دليل؛ فالكتاب المقدس للصابئة (الكنزا ربّا) يحذّر صراحة من كل ما ذُكر (لا تستشيروا العرافين، والمنجمين، والساحرين، والكاذبين، في أموركم؛ مخافة أن يرمى بكم أسوة بهؤلاء إلى الظلمات). ولو خيّل لرواة الأخبار المذكورة أن ذلك ربما يكون من عمل الشيطان، فكتاب الصابئة يحذّر من إبليس كما تحذر منه سائر الكتب السماوية (احذروا أن يستحوذ على قلوبكم الشيطان المملوء بأحابيل السحر والخداع والغواية).
ربطت اللغة العربية الصابئة بالفعل (صبأ) على نحو يُراد به نوعا من الذم، فدلالة الفعل تذهب إلى معنى الظهور والطلوع والخروج، واختص في سياق التداول بكل مَنْ (خرج من دين إلى دين). وكانت العرب تسمّي الرسول بـ(الصابيء) لأنه (خرج من دين قريش إلى الإسلام) فالمعنى -في هذا السياق- يحيل على الاهتداء إلى الحق، ونبذ الباطل، ولكن حينما يتصل الأمر بـ(الصابئة) فينبغي تحريف المعنى ليوافق المواقف المسبقة تجاههم، فيفهم أنهم خرجوا على دين، وانحاشوا عنه، وارتدوا، وزعموا أنهم على دين نوح كذبا. وإسقاط دلالة فعل عربي مستحدث للتعبير عن عقيدة قديمة جدا، يؤدي، لا محالة، إلى تزييف القصد، فالصابئة لاعلاقة لها بمعنى الفعل العربي، إنما التسمية مستوحاة من فعل بالآرامية يدل على التعميد والغطس بالماء الحيّ، والانغمار فيه، فالصابئة في سياق الثقافة الآرامية هم (المتعمّدون) بالماء. والتطهر بالجاري منه أمر ملزم في طقوسهم الدينية، ولهذا سكنوا ضفاف الأنهار، والبطائح. وتبوّأ كثير منهم وظائف النسخ والكتابة والترجمة في العهدين الساساني والإسلامي، وكانوا الوسطاء الحقيقيون بين اللغات اليونانية، والفارسية، والآرامية، والعربية. ينبغي تجنّب هذه العثرات التي تُرمى أمامنا كيلا نصل إلى الصابئة بسلام، وإذ امتثلنا لذلك فسوف نُحجز وراء رغبة العمري والمسعودي والشهرستاني وسواهم، ولا نبلغ هدفنا أبدا. ولكي نقترب إلى محمول الخبر، ونلمّ شتات عناصره، ونكتشف حبكته السردية الخاصة بخزائن الكتب الأولى في العالم، فلا بد أن نزيح هذه الشِباك، لنرى تدفق الحقائق بطريقة مختلفة تماما.
2 - إشكالية موقع الصابئة
تقبع تحت خبر (الصابئة) إحدى أكثر القضايا إثارة في علاقة المسلمين بغيرهم من أصحاب العقائد، وكما أن النص يذكر كتب العالم الأولى ولا يعرّف بها، فالثقافة الإسلامية أقرّت بوجود الصابئة ولم تعترف بهم، فقضية الصابئة لم تزل معلّقة في الفضاء اللاهوتي الإسلامي، بطريقة لا تبتعد كثيرا عمّا يستبطنه نص العمري. لنتمعّن، بادئ ذي بدء، في المفارقة الآتية: المسلمون لم يقرّوا تماما بعقيدة الصابئة على أنها من عقائد أهل الكتاب، بدلالة عدم فرض الجزية عليهم كما فُرضت على أولئك، وفي الوقت نفسه لم يفتكوا بهم إن لم ينخرطوا في الإسلام إذ ظلوا على عقائدهم القديمة. وهذا أمر يثير العجب والدهشة والحيرة، وحينما نطوف في المظان القديمة نجد تضاربا منقطع النظير حولهم، لكن آية (الجزية) خصّتْ أهل الكتاب دونهم، أي أولئك الذين اعترف بأن لهم كتبا سماوية ﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون﴾. وغير أهل الكتاب من الكفار الذين ينبغي سفك دمائهم إن لم يدخلوا الإسلام، أو يدفعوا الجزية، فينطبق عليهم حكم الآيتين ﴿إذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب﴾ و ﴿فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم﴾.
تتنزل قضية الصائبة بين حكمين واضحين، فمن جهة أولى لم تؤخذ الجزية منهم، وهذا ما قُرّر على أهل الكتاب القيام به في دار الإسلام، وقد خصّ بذلك اليهود والنصارى، ومن جهة ثانية لم يقع الاعتراف بدين سماوي لهم، فينطبق عليهم حكم ضرب الرقاب، ولكن لم يفتك بهم بسبب ذلك. ومع كل مظاهر النبذ والاقصاء التي تعرضوا إليها، فقد كان الموقف الديني غامضا تجاههم، ولم يتفق بشأنهم، إذ لم يشملوا بأحكام غير المسلمين، ولم يقبلهم المسلمون كجزء منهم، فعاشوا عالقين، وغير منتمين، لا لأهل الكتاب، ولا لأهل الإسلام. كيف وقع التعارض بين الوجود الفعلي للصابئة في دار الإسلام دون أن يدفعوا جزية، ودون أن يُعترف لهم بدين؟ أي كيف مرّوا بين حكم ديني قال بقتلهم، وحكم دنيوي قرر حمايتهم؟ عند هذه النقطة يجب القول إن القرآن أشار إلى الصابئة في ثلاث سور: (المائدة-69)، (والبقرة-62)، (والحج-17). قال تعالى: ﴿إن الذينَ آمنوا، وَالذينَ هادوا وَالنصَارَى وَالصابئين مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيوم الآخِرِ وَعَملَ صالحاً، فَلهمْ أجْرُهم عنْدَ رَبهِمْ ولاَ خوَف عَليهمْ وَلاَ همْ يَحزْنونَ﴾. لقد أدرجتهم الآية مع أهل الكتاب ممَنْ آمنوا بالله واليوم والآخر. ثم جاء قوله ﴿إن اْلذين آمَنواَ، وَالذينَ هادُوا وَالصابئينَ وَالنصَارَى وَالْمجوسَ، وَالذينَ أشْرَكُوا، إنَ الله يَفْصِل بينهُمْ يَوْمَ الْقيامَةَ، إن الله عَلى كُل شيءٍ شهَيد﴾. وفي هذه الآية إقرار بان الله سيفصل يوم القيامة بين ثلاث مِلل: المسلمون، ثم اليهود والصابئة والنصارى والمجوس، ثم المشركون الذين يعبدون الأصنام.
وفي هذا التقسيم جاء الصابئة ضمن (أهل الكتاب) دون إشارة إلى أمر الإيمان بالله واليوم الآخر، ويستدعي ذلك اعترافا بأن لهم كتابا سماويا يحثّهم على الإيمان بالآخرة، مما يوجب أن عقائدم إيمانية. فإذا كان جرى اعتراف صريح باليهود والنصارى كأهل كتاب، فلم لم ينسحب ذلك على الصابئة؟ ثم إن إدراجهم في فئة أهل الكتاب يوجب عليهم الجزية تبعا لما وقع على أقرانهم من اليهود والنصارى والمجوس، ولم يثبت أنها فُرضت عليهم، أو أنهم دفعوها بمقتضى حكم الجزية، ولا تذكر إلا حالة افتداء بالمال في عهد الخليفة العباسي القاهر بالله. ولكن في أثناء الفتح الإسلامي للعراق، وفد زعيمهم الديني (آنوش بن دنقا) إلى الفاتحين، يحمل معه كتاب (الكنزا ربّا) وأخبرهم أنهم من أتباع يحيى بن زكريا، فلم يتعرّض الفاتحون لهم بشيء. ويغلب أن هذه السابقة رفعت عنهم بعض التكاليف التي استقامت في الفقه الإسلامي تجاه الملل الأخرى.
جمعَ المفسرون حشدا من الآراء حول الصابئة في سياق تفسيرهم للآية التي ذكرتهم في سورة (البقرة) مع المؤمنين من اليهود والنصارى بالله واليوم الآخر، فقد أورد الطبري اختلاف المتأولين في الملل التي تقع تحت تسمية (الصابئة) وعرض لكل المرويات الشائعة عنهم، وفيها نجد ضروبا من الاتفاق والاختلاف، فالصابىء هو (مَنْ خرج من دين إلى دين). وينصرف اللفظ إلى (قوم لا دين لهم) وهم (ليسوا بيهود ولا نصارى ولا دين لهم) إنما (بين المجوس واليهود، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم) وليس لهم (لا كتاب ولا نبى إلا قول لا إله إلا الله). وقيل إنهم (يعبدون الملائكة، و يصلّون إلى القبلة، ويقرأون الزبور). وطبقا لابن عباس فإن الله وعد مَنْ عمل صالحا من اليهود والنصارى والصابئين بالجنة، ثم نسخ ذلك بقوله: ﴿ومَن يتّبع غير الاسلام دينا فلن يقبل منه﴾. وإلى هذا يضيف ابن كثير أنهم قوم (يؤمنون بالنبيين كلهم) وهم (موحدون) وباقون على فطرتهم (ولا دين مقرر لهم يتبعونه، ويقتفونه. وقد ذهب وهب بن منبّه إلى أن"الصابىء"هو الذي سيعرف الله وحده، و ليست له شريعة يعمل بها، ولم يُحدث كفرا.
وأورد القرطبي أنهم (فرقة خرجوا من دين أهل الكتاب) ثم عاد ووافق بعض المفسرين على أنهم (من أهل الكتاب). وانتهى إلى القول إنهم (موحدون معتقدون بتأثير النجوم، وإنّها فعّالة). ويلاحظ أن ثلاثة من كبار المفسرين اكتفوا بعرض المواقف الشائعة عن الصابئة. وبالنظر لعدم الاتفاق في التعريف، فمن الصعب ادعاء الاعتراف بالصابئة. وحالة عدم الاعتراف الشرعي بهم أفضت إلى الحديث عن موقعهم في دار الإسلام، وكيفية التعامل معهم.
عقد ابن قيم الجوزية في كتابه (أحكام أهل الذمة) فصلا بعنوان (حكم الصابئة بالنسبة إلى الجزية) قال فيه (اختلف الناس فيهم اختلافاً كثيراً، وأشكل أمرهم على الأئمة لعدم الإحاطة بمذهبهم ودينهم، فقال الشافعي: هم صنف من النصارى. وقال في موضع: يُنظر في أمرهم، فإن كانوا يوافقون النصارى في أصل الدين، ولكنهم يخالفونهم في الفروع، فتؤخذ منهم الجزية، وإن كانوا يخالفونهم في أصل الدين لم يُقرّوا على دينهم ببذل الجزية. واختلف أصحابه، فقال أبو سعيد الإصطخري: ليسوا من النصارى، ولا يجوز إقرارهم على دينهم. قال: لأنهم يقولون: إن الفلك حيٌ ناطق، وإن الكواكب السبعة آلهة، فهم في حكم عَبَدة الأوثان. واستفتى القاهر باللّه العباسي الفقهاء فيهم، فأفتاه أبو سعيد أنهم لا يُقرون، فأمر بقتلهم، فبذلوا مالاً عظيماً فتركهم..وعن مجاهد، قال: هم قوم بين اليهود والمجوس ليس لهم دين..وعن قتادة، قال: الصابئة قوم يعبدون الملائكة..وقال ابن زيد: الصابئون أهل دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي إلا قول: لا إله إلا اللّه. قال: ولم يؤمنوا برسولٍ لله -عز وجل-. وعن قتادة: هم يعبدون الملائكة، ويصلّون ناحية القبلة، ويقرؤون الزبور..وعن السدّي: هم طائفة من أهل الكتاب. وقال ابن جرير: الصابئ المستَحدثُ سوى دينه ديناً، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه، وكل خارج من دين كان عليه إلىَ آخر غيره تسميه العرب صابئاً..).
ثم يتقدّم ابن القيم الجوزية برأيه من أجل زحزحة هذا الالتباس (الصابئة أمة كبيرة، فيهم السعيد والشقي، وهي إحدى الأمم المنقسمة إلى مؤمن وكافر، فإن الأمم قبل مبعث النبي نوعان: نوع كفار أشقياء كلهم، ليس فيهم سعيد، كعبدة الأوثان والمجوس، ونوع منقسمون إلى سعيد وشقي، وهم اليهود والنصارى والصابئة)، ثم يستطرد مفصلا أمر الصابئة (هذه أمة قديمة قبل اليهود والنصارى، وهم أنواع: صابئة حنفاء، وصابئة مشركون. قالوا: وطريقنا في التوسّل إلى حضرة القدس ظاهر، وشرعنا معقول، فإن قُدمانا مِن الزمان الأول لمّا أرادوا الوسيلة عملوا أشخاصاً في مقابلة الهياكل العلوية على نسب وإضافات وأحوال وأوقات مخصوصة، وأوجبوا على من يتقرّب بها إلى ما يقابلهَا من العلويات لباساً وبخوراً وأدعية مخصوصة، وعزائم يقرَبونها إلى رب الأرباب ومسبّب الأسباب..فهذا بعض ما نقله أرباب المقالات عن دين الصابئة، وهو بحسب ما وصل إليهم، وإلا فهذه الأمة فيهم المؤمن باللّه وأسمائه وصفاته وملائكته ورسله واليوم الآخر، وفيهم الكافر؛ وفيهم الآخذ من دين الرسل بما وافق عقولهم واستحسنوه فدانوا به لما رضوه لأنفسهم. وعقد أمرهم أنهم يأخذون بمحاسن ما عند أهل الشرائع بزعمهم، ولا يُوالونَ أهل ملّة ويعادون أخرى، ولا يتعصّبون لملّة على ملّة. والملَلُ عندهم نواميس لمصالح العالم، فلا معنى لمحاربة بعضها بعضاً، بل يؤخذ بمحاسنها وَما تكمل به النفوس وتتهذب به الأخلاق، ولذلك سموا صابئين، كأنهم صبؤوا عن التعبّد بكل ملّة من الملَل والانتساب إليها. وبالجملة: فالصابئة أحسن حالاً من المجوس، فأخذ الجزية من المجوس تنبيه على أخذها من الصابئة بطريق الأوْلى، فإن المجوس من أخبث الأمم ديناً ومذهباً، ولا يتمسّكون بكتاب، ولا ينتمون إلى ملّة، ولا يثبت لهم كتاب، ولا شبهة كتاب أصلاً...وكل ما عليه المجوس من الشرك، فشرك الصابئة إن لم يكن أخف منه فليس بأعظم منه).
وبعد هذه التوطئة عن الصائبة انتهي ابن القيم الجوزية إلى القول (فإن قيل: فهل للإمام أن يستسلف منهم الجزية؟ قلنا: ليس له ذلك إلا برضاهم كما ليس له أن يستسلف الزكاة إلا برضا رب المال؛ بل الجزية أولى بالمنع، فإنها تسقط بالإسلام وبالموت)(11). وهذه المساجلة وجدت لها في الممارسة اليومية لحياة الصابئة في دار الإسلام وضعا خاصا. قال ابن الفوطي (الصابئة قوم من عبدة الكواكب يسكنون في البلاد الواسطية (= منطقة واسط، في العراق) لا ذمة لهم، وكان في قديم الزمان لهم ذمة، فاستفتى القاهر بالله أبا سعيد الاصطخري، من أصحاب الشافعي، في حقهم، فأفتاه بإراقة دمائهم، وأن لا تقبل منهم الجزية، فلما سمعوا بذلوا له خمسين ألف دينار، فأمسك عنهم)(12).
إشارة ابن القيم الجوزية إلى أن الصابئة أفضل من المجوس تعيد نقاشنا إلى الوراء، فإذا كانوا أفضل منهم فلِمَ لم تؤخذ الجزية منهم؟ ولِمَ لم ينطبق عليهم ما وقع على المجوس؟. تفتح قضية المجوس أفقا آخر للاحتمالات، فقد حسب عامة المسلمين المجوس أصحاب ديانات ثنوية مشركة، ومع ذلك فُرضتْ عليهم الجزية، وعوملوا معاملة أهل الكتاب استنادا إلى حديث منسوب للرسول يقع تضعيفه، جاء فيه: إن الرسول كتب الى مشركي مكة (أسلموا وإلا نابذتكم بحرب) فكتبوا إليه، وهو في المدينة (أنْ خُذْ منا الجزية، ودعنا على عبادة الأوثان). فكان ردّه (إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب). فكتبوا اليه (زعمتَ أنك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، ثم أخذت الجزية من مجوس هجر). فردّ (إن المجوس كان لهم نبي فقتلوه، وكتاب أحرقوه، أتاهم نبيهم بكتابهم في إثني عشر ألف جلد ثور). وبذلك شُمل المجوس، فيما يخص الجزية، بحكم أهل الكتاب، فقد كان لهم كتاب أتلف، ورسول لا يعرف عنه شيء، إذ طمست النوائبُ الرسولَ وكتابَه الكبير الذي جاء بإثني عشر ألف جلد ثور. وعرف الرسول لاحقا بأنه (زرادشت). ولكن لم يرد نص بخصوص الصابئة في أحاديث الرسول، وهم أقدم من المجوس، وربما يعود إلى أنه توفي وهم بعد خارج دار الإسلام، فلم يحدّث في أمرهم.
3- يا يحيى، خذ الكتاب بقوة
تضع سورة الحج الصابئة ضمن أصحاب الديانات، وتأويلها على أنهم أصحاب كتاب سيدرجهم ضمن أهل الجزية، والابقاء عليهم أحياء بدون دخول الإسلام يُفسَّر على أنهم مشركون، وهذا يعني عدم الأخذ بحكم ضرب الرقاب في الآية القائلة بقتل المشركين ممن ضلوا السبيل، وأبوا دخول الإسلام. ومع ذلك فلا بد أن نمضي في التأويل بناء على تغليب الظن بقرائن تضعها الآية المذكورة بين أيدينا. فقد رأينا كيف أنها فَصَلتْ بين فئات ثلاث، وجاء الصابئون ضمن فئة أهل الكتاب، وعدم الاقرار بوجود كتاب لهم ليس دليلا على عدم وجوده بإطلاق، فربما كان لديهم كتاب يجهله المسلمون، وربما كان شأنهم شأن المجوس في ذلك، فلمَ لم يعاملوا معاملة (مَنْ له شبهة كتاب)؟ (وقد نفى ذلك عنهم ابن القيّم الجوزية). ولكن آية أخرى في سورة (مريم) ربما تضيء لنا جانبا من هذه العتمة، فقد ورد قوله ﴿يا يحيى، خذ الكتاب بقوة، وآتيناه الحكم صبيا﴾.
فما الكتاب الذي أمر اللهُ النبيَّ يحيى بن زكريا أن يأخذه بقوة؟ (=هو يوحنا المعمدان الذي قام بتعميد المسيح في نهر الأردن). في تفاسير القرآن يشار إلى أن ذلك الكتاب هو التوراة، ولكن من المعروف أن التوراة، والإنجيل، قد خُصّا بنبيين آخرين، أفلا يُرجّح أن يكون المقصود كتابا خصّ به الله يحيى كما خص أنبياءه الآخرين؟ ورد ذكر يحيى خمس مرات في أربع سور, ففي سورة (آل عمران) اعتُرف بأنه جاء (مُصدَّقا بكلمة من الله) وكان (نبيّاً من الصالحين). وطبقا لتفسير الطبري، فالمقصود أنه كان (رسولاً لربه إلى قومه، يُنبئهم عنه بأمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ويُبلِّغهم عنه ما أرسله به إليهم). وفي سورة (الأنبياء) عُدّ يحيى (هبة الله) وأُدرج في (الأنعام) ضمن (الأنبياء الصالحين). وعُرف بأنه (نبي متألّه). وهو عند الصابئة الرباني الأكبر بين جميع الأنبياء والرسل، ولهم كتاب مقدس بعنوان (تراتيل يحيى). وذكرته الأناجيل في سياق التعظيم والتبجيل، ففي (مرقس) جاء أنه (نبي أو كأحد الأنبياء) وفي (متّى) أنه كان (مثل نبي) وفي (لوقا) تختلط صورته بصورة المسيح (كان الشعبُ ينتظرُ، والجميعُ يفكِّرون في قلوبهم عن يوحنّا لعله المسيحُ). وفي (يوحنا) يُشدّد على أنه ليس المسيح، إنما نبي آخر مرسل. فقال لتلاميذه (لستُ أنا المسيحَ بل إني مٌرسَلٌ).
لم يُحدّد السياق القرآني كتابَ يحيى إلا على سبيل الترجيح الذي يمكن استخلاصه من تفسير الآية، إذ لم يُسمّ الكتاب بنص صريح كما وقع للتوراة، والإنجيل، والزبور، ومعلوم أنه باستثناءات نادرة تُنكر العقائد وجود كتب لغيرها، وإنْ اعترفتْ بها فتلحّ على تحريفها، أو عدّها نوعا من الهرطقة. فكل عقيدة تعرض خلاصا مقيّدا بها يقوم على أنقاض خلاص سابق جرى تخطّيه وإهماله.
وتنسب بعضُ فرق الصابئة الكتابَ لـ(شيت) (=شيتل) أو (إدريس) (=هرمس) بل يُنسب أحيانا إلى (آدم) ويسمى (سدرا - آدم) أي (سِفر آدم). وحتى لو نُسب الكتاب لإدريس، فالأخبار تورد أنه أول من بُعث من بني آدم، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة. سُمّي كتاب الصابئة المقدس (بـ الكنز العظيم) أو (الكنز الكبير) أو (كنز الله) أو (كتاب آدم) وتعدّد التسميات جاء نتيجة لتضارب الترجمة من الآرامية، والاختلاف بين رواية وأخرى نجد له نظيراً في تسمية الأناجيل المتعددة، والاختلافات فيما بينها؛ فالروايات الشفوية المختلفة للأصول تفرض اختلافا في المتون، ومعلوم أن جمع القرآن وتدوينه في مصحف موحّد قد حال دون تعدد رواياته في الأمصار.
كتاب (الكنزا ربّا) يماثل الكتب السماوية المعروفة، ففيه الرواية الكونية عن الخلق منذ آدم، حيث توالى نزول الصحف على الأنبياء من ذريته بعده، وتتخلل تلك الرواية شذرات من مواعظ اعتبارية، وتضرّعات، وتشفّعات، وأدعية، ووعود، وترغيب، وترهيب. ويتألف الكتاب من قسمين الأول ينحو منحى تاريخيا يتعّقب مسار الأحداث منذ المبتدأ، والثاني عن ارتقاء النفس وخلودها، وكيفية تدبّر أمر سعادتها في الختام. ويزعم مذهب الصابئة أن (الكنزا ربّا) هو أول كتاب سماوي عرفته الخليقة، ففيه صحف آدم، ولا سابق لها في التاريخ، وهذا يتوافق مع مذهب بعض الباحثين في نسب الديانات، إذ يرون الصابئية أول عقيدة توحيد عرفتها البشرية. وللصابئة، فضلا عن (الكنزا ربّا) كتب أخرى، منها (تراتيل يحيى) (=دراشة أد يهيا) وهو مواعظ تنسب ليحيى بن زكريا، ثم كتاب (الديوان)، وكتاب (سفر البروج) وهو في الفلك والتنجيم، وهم يعظّمون الكواكب ويرونها مواطن الملائكة، وفي هذا يجارون بعض الأديان السماوية. وعند مؤرخي الملل لا تقترن الصابئية بعدم وجود كتاب سماوي إنما بتعدّد الآلهة، الأمر الذي يفسر انتشارها بين مشارق الأرض ومغاربها، مع الأخذ بالحسبان أن أولئك المؤرخين يخلطون المعلومات في سياق وصفهم للفِرق الضالة، فلا يدخروا وسعا في انتقاصها، وذلك تسبب في تشويش المعلومات عن كل تلك الفرق، بما فيها الصابئية.
تعرّض الصابئة للقدح والذم. قال المسعودي بأنهم من (عوّام اليونانيين، وحَشْوِية الفلاسفة المتقدمين)(13). وفرّق ابن القيم الجوزية بين مؤمني الصابئة وكفارهم، فقال عن الأخيرين بأنهم زنادقة، وملاحدة، ومارقون، وبأنهم (لا يؤمنون بالله، ولا ملائكته، ولا كتبه، ولا رسله، ولا لقائه، ولا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، وليس للعالم عندهم ربّ فعاّل بالاختيار لما يريد، قادر على كل شيء، عالم بكل شيء، آمرٌ، ناهٍ، مرسل الرسل، ومنزل الكتب، ومثيب المحسن، ومعاقب المسيء)(14). وقال المقريزي بأنهم (القائلون بالهياكل، والأرباب السماوية، والأصنام الأرضية، وإنكار النبوّات)(15) ومعظمهم ينضّد صفات الانتقاص بحقهم منطلقين من الرؤية الإسلامية للعقائد السالفة، وهي رؤية تجبّ ما قبلها لدى الفقهاء وعلماء الكلام، لكنها متمّمة لسواها في متن القرآن.
ويرى ابن حزم الأندلسي، في سياق ذكره للأمم المؤمنة، الأمر من منظار مختلف، إذ قال إن اليهود والنصارى أقرّوا بالتوحيد، ثم بالنبوّة، وبآيات الأنبياء، وكذلك أقر (الصابئة والمجوس..ببعض الأنبياء)(16). وقدّم الشهرستاني التفصيل الآتي (وكانت الفرق في زمان إبراهيم الخليل راجعة إلى صنفين إثنين أحدهما: الصابئة، والثاني:الحنفاء. فالصابئة كانت تقول: إنّا نحتاج -في معرفة اللهتعالى، ومعرفة طاعته، وأوامره، وأحكامه - إلى متوسّط؛ لكن ذلك المتوسّط يجب أن يكون روحانياً لا جسمانياً؛ وذلك لذكاء الروحانيات، وطهارتها، وقربها من رب الأرباب، والجسماني بشر مثلنا، يأكل مما نأكل، ويشرب مما نشرب. يماثلنا في المادة والصورة..وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين، كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين. والصابئة تدّعي أن مذهبها هو الاكتساب، والحنفاء تدّعي أن مذهبها هو الفطرة، فدعوة الصابئة إلى الاكتساب، ودعوة الحنفاء إلى الفطرة)(17).
ينتهي بنا الشهرستاني إلى قضية غاية في الأهمية، وهي: أن الحنفية والصابئية ديانة واحدة، تختلف رموزها، وطبائع رُسلها، ويتماثل محتواها، وقد أقر الإسلام رموز الاحناف، ولم يقر برموز الصابئة، ويفهم من ذلك ضمنا أنه أقرّ بالمحتوى الواحد لهما، ومعلوم بأن الحنفية تمثل المشترك الأعلى للديانات السماوية الكبرى قاطبة.
أما ابن تيمية، فيقدم مسردا بالأمم الكافرة غير المنكرة لله (فالكفار المشركون مقرّون بأن الله خالق السموات والأرض، وليس في جميع الكفار مَنْ جعل لله شريكاً مساوياً له في ذاته وصفاته وأفعاله. هذا لم يقله أحدٌ قط، لا مِن المجوس الثنوية، ولا مِن أهل التثليث، ولا مِن الصابئة المشركين الذين يعبدون الكواكب والملائكة، ولا مِن عبّاد الأنبياء والصالحين، ولا مِن عُبّاد التماثيل والقبور، وغيرهم، فإنّ جميع هؤلاء، وإنْ كانوا كفاراً مشركين متنوعين في الشرك، فهم يقرّون بالربّ الحق الذي ليس له مَثَلٌ في ذاته، وصفاته، وجميع أفعاله، ولكنهم مع هذا مشركون به في ألوهيته، بأن يعبدوا معه آلهة أخرى يتّخذونها شركاء أو شفعاء، أو في ربوبيته، بأن يجعلوا غيره رب الكائنات دونه مع اعترافهم بأنه ربُ ذلك الرب، وخالق ذلك الخالق)(18). ويضيف بأن الصابئة (يقرّون بواجب الوجود الذي صدرت عنه العقول، والنفوس، والأفلاك، والأرض)(19).
أما صاحب (أبجد العلوم) فقرّر أنهم (يقولون بحدود وأحكام عقلية، ربما أخذوا أصولها وقوانينها مِن مؤيَّد بالوحي)(20). وفي (التعاريف) أن الصابئة (قوم يزعمون أنهم على دين نوح)(21). وإلى ذلك تذهب معظم المعاجم العربية. ومنهم مَنْ يزعم أنه من اتباع إبراهيم الخليل الذي ظهر في بلاد سومر، جنوب العراق، في نحو منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، وقد احتذى خطاه في هجرته من (أور) إلى (حرّان). وهذا التضارب مفهوم في سياق ثقافة شفوية تقوم على تجميع نبذ الأخبار دون التحقّق الكامل من أمرها. وكما رأينا في خبر العمري، فسياقه الشفوي يجمع أخبارا وأقاويل، وليس من شأنه التدقيق، وتكاد المؤلفات القديمة تتشارك في هذه الصفات.
دعونا نعود إلى نقطة البدء، بدء العقائد، فالحديث عن الصابئية يقودنا إلى أقدم الديانات، أي إلى أصلها جميعا. يؤكد القلقشندي قدم الصابئية (والسريان أقدم الأمم في الخليقة، وكانوا يدينون بدين الصابئة، وينتسبون إلى صابيء بن إدريس..قال ابن حزم: ودينهم أقدم الأديان على وجه الأرض..وكانت منازلهم أرض بابل من العراق. وقال المسعودي: وهم أول ملوك الأرض بعد الطوفان)(22).
ويؤكد السيوطي أمر القدم التاريخي للصابئية، ولكنه يجعل مصر القديمة موطنها قبل أن تعمّ الأرض بأجمعها (تنبأ إدريس وهو ابن أربعين سنة، وأراده الملك محويل بن أخنوخ بن قابيل بسوءٍ، فعصمه الله، وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، ودفع إليه أبوه وصية جدّه، والعلوم التي عنده، ووِلده بمصر، وخرج منها، وطاف الأرض كلها، وكانت ملّته الصابئة، وهي توحيد الله، والطهارة، والصلاة، والصوم، وغير ذلك من رسوم التعبّدات. وكان في رحلته إلى المشرق أطاعه جميع ملوكها، وابتنى مائة وأربعين مدينة أصغرها الرها، ثم عاد إلى مصر فأطاعه ملكها، وآمن به، فنظر في تدبير أمرها، وكان النيل يأتيهم سيحاً، فينحازون من مَسالهِ إلى أعلى الجبل والأرض العالية حتى ينقص، فينزلون فيزرعون حيثما وجدوا الأرض ندية، وكان يأتي في وقت الزراعة، وفي غير وقتها، فلما عاد إدريس جمع أهل مصر، وصعد بهم إلى أول مسيل النيل، ودبّر وزن الأرض، ووزن الماء على الأرض، وأمرهم بإصلاح ما أرادوا من خفض المرتفع ورفع المنخفض وغير ذلك مما رآه في علم النجوم والهندسة والهيئة)(23).
طاف إدريس أطراف الأرض، وأطاعته ممالك الشرق، ووصل إلى عمق إفريقيا حيث منابع النيل، وعُرف عنه شغفه بالتعليم والتدريس، ومن ذلك اشتق اسمه، وله صحف مرسلة أسوة بالأنبياء. وقرر ابن العماد الحنبلي ما يأتي (مات إدريس بمصر، والصابئة تزعم أن هرمي مصر أحدهما قبر شيث، والآخر قبر إدريس)(24). وذكر ياقوت الحموي، بخصوص الهرمين، أنه (إليهما تحجّ الصابئة، وكانا أولاً مكسوين بالديباج وعليهما مكتوب) وقد كسوناهما بالديباج فمن استطاع بعدنا فليكسهما بالحصير)(25). وحسب المقريزي، فـ(قد كان يُحجّ اليهما، ويُهدى إليهما من أقطار البلاد). وكانت الصابئة تعظّم أبي الهول الرابض أمامهما كأنه يحرسهما(26).
4- ترميم النص
عرضنا جانبا من ذخيرة المعلومات التي أمكن الوصول إليها، وترميمها، وانتهت بنا إلى أن الصابئية ديانة قديمة، بل أول الديانات، وهي تقول بتوحيد الله، والطهارة، والصلاة، والصوم، وغيرها من ضروب العبادات، وذلك يتعارض مع شتات المعلومات التي نثرها العمري المتأخر، المنزعج من التجسيم، والمتبرم بالتشبيه، مثله في ذلك مثل كثير من المؤرخين والجغرافيين والفقهاء المتأخرين في العصور الوسطى الإسلامية، ففي هذه الفترة هيمنت الثقافة المتعالمة القائلة بأن غالبية المسلمين لا يقولون بوجود وسيط بين الإنسان والله، فالعلاقة مباشرة، وشفافة، وتجريدية، وسندها الإيمان الصادق، وكل محاولة للعثور على وسيط تعني الهروب من الارتباط المباشر بالخالق، والانشغال بسواه، فالله حالة أثيرية متعالية على التجسيد، وتشخيصها يدفع إلى الشرك، وذلك يخالف الحقائق التاريخية لكل العقائد، وبما أن الصابئة يجعلون لله هيكلا يتعبدون فيه، فينبغي إدراجهم في خانة المشركين.
هذا أول ما نلاحظه في نص العمري، وأول ما نواجهه، فهم يبنون هياكل لأشياء مختلفة في المكانة والقداسة، فالهياكل الدينية، والعقل، الصورة، والنفس، جاءت مستديرات الأشكال. أما هياكل الكواكب والنيرين فجاءت على أشكال مختلفة من التسديس، والتثليث، والتربيع. فكرة الدائرة وفكرة الأشكال الأخرى المختلفة عنها مهمة، فالدائرة تضعنا في مسار غير نهائي، فيما الأشكال الأخرى تحجزنا في نطاق حركة محدودة ومنتهية، بعبارة أخرى فإن الله وتجلياته المترشحة عنه تقودنا إلى الحركة المطلقة، أي إلى التجريد، أما الكواكب فتنتهي بنا إلى طريق مغلق. فإذا ما أخذنا بهياكل الله وتجلياته، وقد اتخذت شكلا مستديرا، فهذا سيفضي بنا إلى ما يقرّه الإسلام حيث الدوران حول الكعبة (=المكعبة). ولكن العمري لا يريد ذلك، فيدفع بنا إلى الأشكال المغلقة، ويربطها بالكواكب التي يراها موضوع عبادة الصابئة. وهم لا يقدسونها إنما يجلّونها اعتقاداً منهم بأنها مساكن الملائكة، وقد حذرت الصابئية من عبادة الكواكب. جاء في (الكنزا ربّا) ما نصه (لا تسبّحوا للشمس والقمر).
ومعروف بأن للكواكب والنجوم والأفلاك مكانة كبرى في الأديان السماوية، وتقسم كثير من الديانات بالكواكب، وهذا ليس دليل عبادة، إنما دليل توقير، يتصل بالتصور (الكسمولوجي) للكون. وللمؤمنين بكل ديانة طقوس في التعبير عن ديانتهم. ويدرج العمري قضية (المخاريق) في سياق القدح، وهو يعلم بأن عامة المؤمنين في كل العقائد تقريبا يريدون تجسيداً يقرّب إليهم فكرة الله، ويكتفي خاصتهم بالتجريد، كما فعل الصابئة في زمن إبراهيم بين قائلين بالتجسيم وقائلين بالتنزيه، ففكرة الله رفيعة لمن يدركها عقليا، وليس من اللائق تجسيدها، ولهذا يلجأ سدنة الصابئة إلى دغدغة العامة بأصوات بشرية تمرّ عبر (مخاريق) يتوهم العامة بأنها صوت الله، فيخيل لمن يصغي بأن الآلهة هي التي تتكلم، وبما أن العامة يرونها مجسّدة لحقيقية المعاني المعبّرة عنها، فيتوهمون أن الله أو سائر القوى الأخرى، هي التي تخاطبهم. فينغمر العامة في مزيد من العبادة. وتلك الطقوس الكرنفالية شائعة في أديان العامة دون استثناء، وهذا عند العمري أسلوب شنيع في الشرك والخداع.
ينبغي الآن معرفة ما يحتويه مخزن (الكتب الأولى، وتاريخ الدنيا، وعلوم السماء لما كان ويكون) فقد أهمل العمري ذكرها. هذه الكتب، طبقا للصابئة، هي الكتب الأولى، كنوز الله، ففيها تاريخ الدنيا، وكيفية تكوينها، وفيها علوم السماء من فلك وتنجيم، وقد طمرت كلها في بئر تبتلع من ينكبّ عليها، فيندق رأسه هاويا في قعرها؛ لأنها تتضمن علوما سرية يُضن بها على غير أهلها، ومَنْ يفكّ شفراتها له أن يبلغ (خزائن رغائب هذا العالم) وعليه (لا يصل إلى الدخول إليها، والاقتباس مما فيها إلا من وازت قدرته قدرتنا، وعلمه علمنا). إنها معرفة محظورة، جرى التكتّم عليها، وحجبها عن غير أهلها، والصابئية ليست عقيدة تبشير، وتكتفي بأتباعها الذين تناقصوا عبر العصور، وليس من أهدافها الدعوة والانتشار، وطقوسها شبه سرية ومقتصرة على أهلها.
يتحدث العمري وأسلافه باسم الجماعة الاسلامية عن عقيدة مجهولة بالنسبة لهم، يلفونها بالمخاريق المحشوة، ويطمرونها في قعر بئر في أقصى شرق الصين. ومن يتجرأ على كشف مستور تلك الكتب فسيدقّ عنقه في القعر العميق للبئر المسبّعة. وقبل أن يجازف عليه أن يقرأ التحذير المكتوب بقلم السند هند (=أو المسند). وينبغي تصور السبب الذي يدعو فضوليا لأن يرتحل إلى أقصى مشارق الأرض بحثا عن كتب مكتوبة بلغة الهند، وقد طمرت في بئر، وهو يعرف أنه سيتهور على رأسه إن انكبّ في محاولته للنزول إليها. وقلم (السند هند) يحيلنا أيضا على أول كتاب في التاريخ حسب اعتقاد الهنود القدامى. فقد ذكر اليعقوبي في سياق حديثه عن ملوك الهند، بأن كتاب (السند هند) عرف في زمن الملك (برهمن) الذي ينسب إليه البراهمة، وهو أول ملوك الأرض، وفي (زمانه كان البدء الأول) وتفسير الكتاب هو (دهر الدهور)(27) وفيه حكمة الهند الأولى ولغتهم. ويعدّ أم الكتب الكبرى التي توارثتها الأمم بعد ذلك حسب اعتقادهم، وهو اعتقاد مناظر لما يذهب إليه الصابئة، فقد تداخلت الصابئية والبرهمية في الشرق أيضا منذ القدم.
ولنختم بما ختم به المسعودي الموضوع قبل العمري بقرون، وفي ذلك نجد تفصيلا أشمل مما يعرضه العمري الذي أهمل كثيرا من ذلك (وقد ذكر جماعة -ممن له تأمل بشأن أمور هذا العالم والبحث عن أخباره- أن بأقصى بلاد الصين هيكلاً مدوراً له سبعة أبواب، في داخله قبة مسبعة عظيمة الشأن عالية السمك، في أعالي القبة شبه الجوهرة يزيد على رأس العجل تضيء منه جميع أقطار ذلك الهيكل، وأن جماعة من الملوك حاولوا أخذ تلك الجوهرة فلم يَدْنُ أحد منها على مقدار عشرة أذرع إلا خَرَّ ميتاً، وإن حاول أحد منهم أخذ هذه الجوهرة بشيء من الآلات الطوال كالرماح وغيرها، وانتهتَ إلى هذا المقدار من الذَّرْع انعكست وعطلت، وإن رُميت بشيء كان كذلك، فليس شيء من الحيل يؤدي إلى تناولها بوجه ولا بسبب، وإن تعرض لشيء من هَدْم هذا الهيكل مات مَنْ يروم ذلك. وهذا عند جماعة من أهل الخبرة لقوةٍ دافعةٍ منفردةٍ قد عُملت من أنواع الأحجار المغناطيسية. وفي هذا الهيكل بئر مسبعة الرأس متى أكَبَّ الإنسان على رأس البئر إكباباً متمكناً تهوّر في البئر فصار في أسفلها على أمّ رأسه، وعلى رأس هذه البئر شبه الطوق مكتوب عليه بقلم قديم، أراه بقلم المسند (هذه بئر تؤدّي إلى مخزن الكتب، وتاريخ الدنيا، وعلوم السماء، وما كان فيما مضى من الدهر، وما يكون فيما يأتي منه، وتؤدّي هذه البئر أيضاً إلى خزائن رغائب هذا العالم، لا يعمل إلى الوصول إليها والاقتباس منها إلا من وازت قدرته قدرتنا، واتصل علمه بعلمنا، وصارت حكمته كحكمتنا، فمن قدر على الوصول إلى هذا المخزن فليعلم أنه قد وازانا، ومن عجز عن الوصول إلى ما وصفنا فليعلم أنّا أشد منه بأساً، وأقوى حكمة، وأكثر علماً، وأثقب راية، وأتم عناية). والأرض التي عليها هذا الهيكل والقبة وفيها البئر أرض حجرية صلبة عالية من الأرض كالجبل الشامخ لا تُرَام قلعته، ولا يتأتى نقب ما تحته، فإذا أدرك البصر ذلك الهيكل والقبة والبئر وقع للرائي عند رؤيته ذلك جَزَع وحزن واجتذاب للقلب إليه، وحنين على إفساده، وتأسف على إفساد شيء منه، أو هدمه)(28).
فالهيكل الصابئي يمتنع عن الطمس، ويمتنع عن الاكتشاف، فهو يربض في سامق من الأرض، في أقصى شرق العالم، بسبعة أبواب، وعليه منار تعلوها جوهرة مشعة تنير جوانبه، تمتنع عن أن تسرق، مهما احتيل لذلك. وكل من رام تخريب الهيكل مات وهلك، وهنالك بئر عميقة تفضي فتحتها إلى مخزن الكتب الأولى، كتب آدم، وإدريس، ويحيى. ولا سبيل للهبوط إليها إذ يندق رأس كل من يحاول ذلك، والتحذير الذي وضع على فوهتها كفيل بمنع أية محاولة، وهنالك لا توجد كتب الحقائق الأولى فحسب إنما (خزائن رغائب العالم) فلبلوغ ذلك المقام المهيب ينبغي الصعود إلى أعلى والهبوط إلى أسفل في حركة متعارضة، فالهيكل على قمة جبل لا ترام قلعته، وكل من يراه يخالجه أغرب شعور (جَزَع وحزن واجتذاب للقلب إليه، وحنين على إفساده، وتأسف على إفساد شيء منه أو هدمه).
******************
الهوامش:
*) باحث من العراق.
1- ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، ص71.
2- المرزوقي، الأزمنة والأمكنة، ص905.
3- أبو الفرج الأصفهاني،الأغاني، ص1377.
4- الجاحظ، رسائل الجاحظ، ص304.
5- الثعالبي، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، ص517.
6- أبو المحسن التنوخي، نشورا المحاضرة وأخبار المذاكرة، ص190.
7- ابن النديم، الفهرست.
8- ابن قاضي شهبة، طبقات الشافعية 8: 227و 223.
9- المسعودي، مروج الذهب، ص267.
10- الشهرستاني، الملل والنحل، ص104.
11- ابن القيم الجوزية، أحكام أهل الذمة، ص32-33.
12- ابن الفوطي، الحوادث الجامعة والتجارب النافعة، ص19.
13- مروج الذهب ص35.
14- ابن القيم الجوزية، هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى، ص6.
15- المقريزي، المواعظ والاعتبار، ص1085.
16- ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ص59.
17- الملل والنحل، ص72و85.
18- ابن تيميه، جامع الرسائل، ص17.
19- م. ن، ص248.
20- صديق بن حسن القنوجي، أبجد العلوم، 1: 66.
21- محمد عبد الرحيم المناوي، التعاريف، 1: 445.
22- القلشندي، صبح الأعشى، ص920.
23- السيوطي، حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، ص9.
24- ابن العماد الحنبلي، شذرات الذهب 2: 108.
25- ياقوت الحموي، معجم البلدان، ص1815.
26- المواعظ والاعتبار، ص154.
27- اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ص49.
28- مروج الذهب، ص267.
المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=417