التسامح : الفضيلة النادرة

التسامح : الفضيلة النادرة

توماس مارتنز*

1- الزمان مختلف ولكن المشاكل تتشابه

في النصف الثاني من القرن السابع عشر كتب الفيلسوف الهولندي الكبير سبينوزا إلى بني قومه مدافعا عن مبدأ الحرية الكاملة في التفكير والمعتقدات الدينية فقال: (بما حيث إنه لا يمكن لأحد أن يصادر حق أحد في حرية المشاعر وإصدار الأحكام، وحيث إنه حق طبعي لكل إنسان أن يكون سيد نفسه فيما يتعلق بأفكاره - فإن هذا يستلزم أنه لا يمكن إجبار الناس الذين يتكلمون بطرق وأساليب مختلفة وأحيانا متناقضة - دون حدوث عواقب وخيمة - على ألاّ يتحدثوا إلا ومن ما تمليه عليهم السلطة العليا).

باختصار كان سبينوزا يتحدث عن أهمية التسامح كوسيلة للتعايش بسلام مع الآخرين الذين يحملون معتقدات وأفكار مخالفة لنا. ولقد تطورت قضية التسامح في الفكر السياسي الفلسفي الغربي في حقبة من التاريخ الأوروبي حين كان الصراع على أشدِّه بين البروتستانت والكاثوليك لإحكام السيطرة على قلوب الشعوب الأوروبية, ومن ثم إحكام السيطرة السياسية على هذه الشعوب لتعزيز السيطرة على القلوب والأفكار. لقد كانت الحروب الدينية في أوروبا -حتى بمقاييس الدموية الأوروبية- وحشية ومدمرة للاقتصاد والمجتمع الأوروبي، إلى جانب ذلك فقد كان لهذه الحروب آثارها المدمرة على الناس العاديين الذين وجدوا أنفسهم ضحية هذه الوحشية. ولقد كان من نتائج روح التعطش للدماء التي سادت خلال حرب الثلاثين عاما التي شملت كافة أراضي الإمبراطورية الرومانية المقدسة - أَنْ قتل أكثر من ثلث السكان المدنيين، وما كان لهذه الحرب أن تنتهي إلا باتفاق أمراء أوروبا على أن يقوم كل واحد منهم باختيار الديانة الخاصة بشعبه. إلا أن سبينوزا كان يدعو إلى أن الحق في اختيار الدين والمعتقد ليس حقا مشروعا للأمراء فقط، وإنما هو حق لكل الناس. وعليه فإن فكرة التسامح قد نشأت أول ما نشأت على أساس هذه الملاحظة الدقيقة والمقنعة. وحيث إنه ليس لأي من وجهات النظر الدينية المتنافسة القدرة على إثبات الحق المطلق لما تعتقده والفساد المطلق لغيرها من وجهات النظر - فإن أفضل ما يمكن أن يقوم به أهل هذه المعتقدات المختلفة هو أن يتخلقوا بخلق التسامح، وهذه الخلة هي في حد ذاتها تذكَّي فضيلة الاعتراف بحتمية الاختلاف بين المعتقدات. ويمكن أن نضيف إلى هذه الملاحظة الأبستمولوجية ملاحظة أخرى مستلهمة من وحي الخبرة الدينية. ففي حين أنه يمكن اعتبار القضية الأولى في صالح مبدأ التسامح مبنية على أسس عقلية، فإن القضية الثانية تقوم على أسس أخلاقية. حيث إن القضية هنا تتمحور في أنه - فيما يتعلق بالأمور الدينية - لا يمكن ولا ينبغي لأحد أن يجبر أحدا على أن يعتقد دينا بعينه، لأن المعتقدات الدينية في الأساس يجب أن تقوم على القناعة والرضا، وهذا ما أكده الفيلسوف جون لوك حينما كتب يقول: (لا يمكن لأحد أن يكيف معتقداته بما يتوافق مع ما يمليه عليه شخص آخر؛ لأن قوة المعتقد وحيويته تقوم على أساس الاقتناع العقلي الداخلي). ومن ثم فإنه لا يمكن لأحد أن يجبر أحدا على اعتقاد دين معين؛ وذلك لأن الاعتقاد والإجبار مفهومان يناقض كل منهما الآخر وبذلك فهما يترافعان لا يجتمعان. وهذا ما قاد لوك وسبينوزا بشكل مباشر إلى الوصول إلى استنتاج مهم فيما يتعلق بمسؤوليات وواجبات الحكومة المدنية. وفيما يتصل بالأمور الدينية فإن استخدام سلطة الحكومة غير مناسب ولا مبرر له. إن مهمة الحكومة المدنية تتحدد في وضع النظام العام وحماية حياة الناس وحرياتهم وممتلكاتهم، وبذلك فإن مواقفها تجاه الاختلافات الدينية يجب أن تتسم بالتسامح.

إن مبدأ التسامح يتطلب من الناس أن يتعايشوا في سلام مع من يحملون معتقدات وقيم مغايرة. إن التسامح فضيلة تعني في الأساس الاستعداد لأن نسامح؛ لأن تحمل ما لا نرغب عن سماعه وما ننزعج منه - ليس بالأمر السهل وإنما يحتاج إلى الكثير من الصبر والمران. ولعل أول رد فعل طبعي يمكن أن نلمسه هو عندما نقوم بمحاولة إقناع الآخرين بخطأ ما يفعلونه أو تغيير وجهات نظرهم حسبما نعتقده. إن رفض الاقتناع بوجهة نظرنا يجعلنا نحاول أن نتخلص من هذه المشكلة كلما تمكنا من ذلك.

وحيث أن التسامح فضيلة فإنها بطبيعة الحال صعبة المنال خصوصا في عالمنا المعاصر إذ لا أحد يبدو مؤهلا للتحدث عن هذه الفضيلة. حيث شاع مؤخرا الاتجاه نحو النظر إلى الآخرين وإلى أساليب حياتهم وقيمهم الأساسية من وجهة نظر شخصية ضيقة ومحدودة. إن أحد الأسباب التي تقف وراء غياب التسامح في حياتنا المعاصرة هو أنه يتطلب -بدرجة أساسية- اعترافا ما بعدم اليقينية الأخلاقية واتخاذ موقف الشك نحو قيمنا ووجهات نظرنا. يجب علينا أن نعتقد بإمكانية خطأ ما نؤمن به إذا كنا نريد فعلا أن نتسامح مع آراء الآخرين التي تتناقض مع وجهة نظرنا أو تؤذينا. يجب علينا أن نتقبل فكرة أن كل فرد منا له كيانه المستقل؛ وبذلك نعطيهم الفرصة لكي يرفضوا قيمنا.

ولا يخفى صعوبة أن يقوم أحدنا بتطبيق مبدأ الشك على أخص معتقداته، والسماح للآخرين بتحديها حيث يمثل هذا العمل خطرا محدقا على هوية الشخص منا. وعندما يحدث أن يُهَدِّدَ الآخرون هويتي، فإن الحل يكمن في إخضاع قيم الآخرين لتتماشى مع قيمي. وعندما يحدث صراع حاد بين القيم فلا بد أن تكون النتيجة هي تغلُّب إحدى هذه القيم على الأخرى على كل حال. وعندما يرفض كل واحد من الطرفين أو التنازل عن رأيه فإن الحل البديل هو فتح الباب أمام القوة لكي تحدد نهاية للصراع. وفي هذه الحالة لا تبقى إلا قيمة واحدة هي الصحيحة أو على الأقل هكذا تبدو؛ لأنه عندما يكون لطرف بعينه القوة فهو بذلك لديه الحق أيضا، وعليه فمن ذا يريد التسامح عندما يكون في متناول هذا الطرف أو ذاك القوة العسكرية أو سلطة الدولة؟!

إن للتسامح من وجه آخر ضرورة ملحة والتي من الضروري أن نفهمها لكي يتسنى لنا أن نستوضح سبب غياب التسامح في عالمنا. لقد تم اختيار فضيلة التسامح -في سياق تاريخها الأوروبي- في إطار ما كان يعرف (بتفوق القيم المحايدة) للاستقلال والعقلانيـة الإنسانيـة كما تشكلتا في عصـر التنـوير الأوروبي. حيث يتطلب التسامح - كما يرى سبينوزا ولوك - مناخا عاما محايدا لكي تحقق فيه حرية التفكير والاعتقاد، إلا أن فكرة التسامح اختفت عندما تم استبدال القيم الدينية بعقيدة العقلانية. لقد كان التنوير بكل تأكيد حركة فكرية مهمة في تطور الفكر الأوروبي، كان رأس التنوير بمثابة حركة هدفت إلى تحرير الإنسان من تحيزاته الدينية والسياسية لكي يتسنى له اتخاذ قراراته بنفسه فيما يتعلق بِقِيَمِهِ السامية بدلا من التسليم بمجموعة من القيم الجامدة والتي درج عليها العرف بأنها قيم صالحة ومسلَّم، بها. إلا أن حركة التنوير في أوروبا ارتبطت تاريخيا بفكرة تفوق القيم اللادينية، بل كانت مرادفا لها في كثير من الأحيان، حيث ساد الاعتقاد بأن النزاع بين المقولات الدينية يمكن الآن حلها بالنظر في الحقيقة الموضوعية لعصر التنوير الذي اتسم بالنظرة المحايدة للأشياء. ويرى الفلاسفة من أمثال روسو أن الإنسان يمكن أن يرغم على أن يكون حرا، وهذه المقولة قد طبقها بالفعل بقوة الحديد والنار - بعد ذلك - الفصيل الراديكالي اليعقوبي خلال سنوات الرعب الجمهوري في الثورة الفرنسية. وبحسب هذه القراءة للتنوير فإن الأقليات الوطنية والدينية يجب أن تتكيف مع الثقافة المحايدة للغالبية في المجتمعات الغربية وتكيف أساليب حياتها بما يتوافق مع القيم العالمية المفترضة للتنوير. ولأن المجتمعات الغربية تضمِّن هذه القيم العالمية في نظمها السياسية والقانونية، أي في حكم القانون وفي نظم الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام الأقليات، فإن أولئك الذين لا يتفقون مع هذه القيم هم ببساطة ليسوا متنورين، وينبغي عليهم أن يسمحوا ويرحبوا بالجهود التي تعمل على تمدينهم وتثقيفهم. وهذا - كما يراه هؤلاء - لن يسبب أي خسارة في جانبهم لأنه من البدهي أن يتم فرض هذه القيم على الذين لم يتحرروا بعد إلى أن يصبحوا أحرارا ويصيروا متمدنين حيث إن هذا يصب في صالحهم في النهاية.

على أن التنوير يمكن أن ينظر إليه على أنه عملية تقدر أهمية الأديان كطرق للحياة والتربية القيمية. وهذا التأويل الثاني والأكثر اعتدالا لتراث التنوير - يعد أكثر إقناعا ويتفق مع الرسالة الأساسية التي خرج بها المؤلفون وهو ما أسميه أنا الآن بـ(عصر التسامح). لقد عرف الفيلسوف (كانت) التنوير بأنه تحدٍّ أبدي عندما قال: إننا (لا نعيش في عصر متنور، وإنما في عصر التنوير). وعليه فإن التنوير ينبغي أن ينظر إليه على أنه غاية مهمة يجب أن نوليِّ وجوهنا شطرها جميعا. ولن يتم الوصول إلى التنوير إلا إذا تعايش الناس جميعا في دول جمهورية على أساس الكرامة والاحترام المتبادل، وعندما تكون هذه المجتمعات السياسية قد أقامت بينها وبين بعضها روابط تضمن (السلام الدائم). وحسبما يراه (كانت) فإنه من العبث أن يزعم أحد لنفسه قيم التنوير دون تجسد مبدأ العدالة الكونية كواقع مَعِيش.

وتحرير ما ذكرنا سابقا هو أنه في إطار القراءة الأولى، فإن التنوير ينظر إليه على أنه مجموعة من القضايا الصادقة في ضوئها يكون التسامح -مع وجهات النظر غير الصادقة- غير ضروري. إلا أن القراءة الثانية تجعل من التنوير حركة تشجع العمل نحو العدالة على المستوى المحلي والمستوى العالمي كذلك، والتي يكون فيها التسامح عنصرا أساسيا لا غنى عنه. وإذا كان التسامح يتطلب كما هائلاً من التحلي بالسلوك الأخلاقي - فإننا بذلك لا يمكننا أن نتعامل معه كبدهية مسلَّمة، حيث إنه ليس سمة ثابتة لأي مجتمع سواء كان هذا المجتمع محليا أو إقليميا أو دوليا. ويجب على التسامح أن يدافع عن نفسه في مواجهة نزعة اللاتسامح، وهو بهذا في تحد دائم. حيث إننا في أمس الحاجة اليوم إلى التسامح، تماما كما كان الأوروبيون بحاجة إليه في القرن السابع عشر.

2- التسامح في السياسة الدولية

رغم حاجتنا إلى التسامح على الصعيد الدولي إلا أنه قد غاب من عالمنا اليوم بشكل واضح للعيان. ولكي نعرف سبب هذا التغييب فإنه يتوجب علينا أن نتمعن في التفسيرين الغربيين المهيمنين على العالم اليوم. هاتان النظرتان تشكلتا في مطلع التسعينات من القرن الماضي، مباشرة بعد نهاية الحرب الباردة. واحدة من هاتين النظرتين تعكس وتجسد روح التفاؤل لتلك السنين، بينما تتخذ الأخرى موقفا أكثر تشاؤمًا وتنبأ بالأخطار المحدقة. وتعكس القراءة الأولى الفهم النضالي للتنوير وتفوق وحيادية القيم التحررية، بينما تَدْفَع الأخرى بأن الأديان المختلفة والمنظورات الثقافية المختلفة للناس وتنم عن بون شاسع وصدع سحيق لا يمكن رأبه. ورغم أن هذه النظرة الأخيرة تبدو مشابهة لعصر الحروب الدينية في أوروبا، غير أنها هنا على نطاق أوسع؛ هو النطاق العالمي. إلا أن القيود السياسية والأخلاقية التي تَحَدَّثَ عنها كل من اسبينوزا ولوك غائبة في التفسير المعاصر.

وجهة النظر الأولى هي التي يدعو إليها فرانسيس فوكوياما في مقال له تحت عنوان (نهاية التاريخ)، وفيه يحاجّ المؤلف بأسلوب المنتصر وبأسلوب المزهو بنفسه بأن الصراع الأيدولوجي للحرب الباردة قد انتهى بانتصار الديموقراطية الليبرالية كصيغة وحيدة ونهائية من أشكال الحكم. وهذا النوع من الحكم، حسب رأي فوكوياما، هو الحل النهائي للسؤال الذي حير البشرية لمدة طويلة، وهذا السؤال هو: (ما هي أفضل طريقة للعيش المشترك؟) ولقد كان البحث عن إجابة لهذا السؤال هو الدافع وراء تطور التاريخ السياسي للبشرية, ولكنه الآن قد وصل إلى النهاية وهذه النهاية الإجابة عن السؤال المحير؟ وقد شهدنا بانتهاء الحرب الباردة نهاية التاريخ وانتصار الديمقراطية الليبرالية، وهذا لا يعني أن السياسة ستختفي من الوجود، ولكنه يعني أننا وصلنا إلى نهاية التطور الأيديولوجي للجنس البشري. إن الصيغة النهائية للحكم هي تلك التي تقوم على تقبل عدد من الحريات الأساسية يتمتع بها الجميع، وهذه تقوم على أساس علاقة الاتفاق الجماعي بين الحاكمين والمحكومين. هذه هي الديمقراطية الليبرالية ولا بديل لهذه المثل السياسية؛ لأن الشيوعية والفاشية قد أثبتت عدم تقبلها كبدائل. وعلى الصعيد نفسه فإن المجتمعات السياسية التي لا تقوم على أساس ديمقراطي أو على أساس الحريات المدنية، وإنما تقوم على الانتماء الديني أو الوطني ولا يمكن أن تكون بديلا أيضا. فكل هذه البدائل قد انهزمت أمام الديمقراطية الليبرالية، وبهذا فإن الديمقراطية الليبرالية هي الصيغة النهائية والعادلة للحكم، وكل دولة من دول العالم سوف تتطور بشكل تدريجي وبشكل محتوم نحو هذا الاتجاه الحضاري. إن أسلوب المنتصر الذي كتب فيه هذا المقال والأطروحة القوية التي يتضمنها هذا المقال لم يتركا فرصة لمنهج الشك الأخلاقي. إن في قراءة فوكوياما الهيجيلية للتاريخ البشري، يتضح أن الفاعلية تتحدد بحتمية قوانين التاريخ وليس هناك حاجة بأي حال من الأحول إلى التسامح. والقراءة الثانية لمعنى انتهاء الحرب الباردة لن تكون أكثر صعوبة. إنها تلك المقولة التفسيرية للأحداث الدولية، فعندما رفضت أطروحة فوكوياما بخصوص نهاية التاريخ فقد تم استبدالها بتنبؤ ما بات يعرف بنشوء صراع الحضارات، وأنا هنا أشير إلى كتاب صموئيل هنتنجتون الذائع الصيت (صراع الحضارات). فحسبما يذهب إليه هنتنجتون فإن نهاية الحرب الباردة ليس نهاية التطور الأيديولوجي للجنس البشري، وإنما هي مرحلة انتقال من نوع معين من الصراع بين الأيديولوجيات الفاشية والشيوعية والليبرالية... إلخ، إلى نوع آخر من الصراع يتمثل فيما يسميه هنتنجتون بالصراع بين الحضارات. وبمعنى آخر فإن نهاية المعركة الأيديولوجية بين الديمقراطية الليبرالية والشيوعية سوف يفسح الطريق أمام نوع مختلف تماما من الصراع. وهذه الأطروحة المتعلقة بالصراع القادم بين الحضارات قد ذاع صيتها حتى إنه لا يزال الواحد منا يرى نسخاً من الكتاب في كثير من محلات بيع الكتب في المطارات، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن شهرة أي كتاب لا تعني بالضرورة حسن ذوق قراء ذلك الكتاب ولا تعني أيضا صدق أطروحة ما فيه.

يعرف هنتنجتون الحضارات بأنها عناصر تقوم بالجمع بين أنواع كثيرة من التجمعات مثل القرى والأقاليم والمجموعات العرقية والوطنية والدينية وذلك عن طريق الثقافة. وعليه فإن الثقافة هي الجامع الأسمى للبشر، وهي كذلك المستوى الأوسع للهوية الثقافية للناس والتي تميز البشر عن غيرهم من الأنواع الأخرى. إن الحضارات توجد دائما على هيئة جمعية والناس يتمايزون من شخص لآخر ليس بالدولة السياسية التي ينتمون إليها، وإنما بالحضارة التي يصدرون عنها. والحضارات الرئيسة التي يذكرها هنتنجتون هي: الغربية والكونفوشسية واليابانية والإسلامية والهندوسية والسلافية الأرثوذكسية والأمريكية اللاتينية وربما الأفريقية. وهذه الحضارات تتصارع مع بعضها بعضا بدرجة أساسية، وهذه الخلافات كما يتنبأ هنتنجتون ستسيطر على السياسة الدولية وعلى الصراعات العالمية في الأعوام القادمة.

إن هذه الأطروحة التي تقول بأهمية الحضارات قد انتقدت من زوايا عدة. وهنا يكفي أن نشير إلى أن هنتنجتون يرى الحضارات كمكونات أحادية ومتجانسة ولا يلقي بالا للاختلافات الحاصلة بين هذه الحضارات. عندما اتحدت الحضارة المسيحية الغربية في القرن السابع عشر عندما كان هناك اتجاه لهذه الحضارة أن تتصدع من الداخل إبان الحروب الدينية والتي دمرت السكان في وسط أوروبا - فإنه من السخف الاعتقاد بأن الأطراف المتحاربة كانتا تنظر إلى انتمائها إلى الحضارة المسيحية الغربية كأحد أهم محددات الهوية. وفي تاريخ أوروبة الحديث يمكن لنا أن نشير إلى الحرب العالمية الأولى كمثال تجسد فيه دعوة كل طرف فيها إلى أنه هو الذي يحمي الحضارة من الهجمة البربرية، وعلى هذا الأساس فإن مفهوم (الحضارة) الذي استخدمه هنتنجتون يعتبر محل شك وتساؤل كبيرين.
ومن وجهة نظرنا للتسامح كفضيلة نادرة، فإن أطروحة هنتنجتون تؤكد ما نذهب إليه وخصوصا إذا نظرنا أنه وبالرغم من أن هذه الأطروحة تختلف في جوانب عديدة عن أطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما، إلا أن مفهوم صراع الحضارات لا يفسح مجالا للتسامح أيضا. وبينما تعلن أطروحة نهاية التاريخ صدق نظرية سياسة بعينها ألا وهي الديمقراطية الليبرالية وبذلك تجعل التسامح غير ذي جدوى، فإن صراع الحضارات يؤمن باستحالة التسامح، وفي كلا التفسيرين لواقع عالمنا لا يوجد أي مجال لفضيلة التسامح. فإنه إذا كان الناس في النهاية منغلقين في إطار حضاراتهم التي تعتبر المحدد الأساسي لهويتهم - فلن يكون هؤلاء الناس قادرين على التسامي فوق هوياتهم الحضارية.

في مطلع القرن العشرين -أي في عصر القومية- تحدث (دو ميستر) حول القضية نفسها حين كتب أنه لم ير إنسانا مطلقا، وأنه خلال حياته لم ير إلا فرنسيين وألمانا ورُوسًا... إلخ، ولكنه لم ير إنسانا ألبتة. والقضية التي كان يطرحها دو ميستر هي أن كوننا بشرا على هذا النحو لا يعني الكثير في ظل هوية الانتماء؛ لأن البشر تكون هويتهم الحقيقية عندما ينتمون إلى مجتمع سياسي قومي. وبالمثل فإن هنتنجتون يجيب على السؤال (من أنا) بالكشف عما يميزنا نحن عن الآخرين، ألا وهو الحضارة. وبذلك فهو يحرمنا القدرة على تفهم واحترام الناس الذين ينتمون إلى حضارة مختلفة. إن القيم التي تمثلها هذه الحضارات مختلفة كثيرا، حسب رأي هنتنجتون، وهي كذلك مهمة وأساسية لدرجة أنه لا يمكن لها إلا أن تتصارع ولا يمكن لها أن تتجانس أو تتصالح. إنه ببساطة لا وجود للإنسانية المشتركة، وأن التسامح كفضيلة اعترف بموجبها بنسبية القيم الثقافية ومن ثم يصبح على كل حال فضيلة مستحيلة. بل إن الدفاع عن قيمة التسامح يصبح بلا معنى لأنه يعني عدم التزامي بقيم ومبادئ حضارتي نفسها.

وعلى هذا الأساس فإنه ليس بمستغرب ألاّ يقوم هنتنجتون بإسناد أي دور جوهري للقانون الدولي أو أي من مؤسساته في الصراع القادم بين الحضارات؛ لأنه ليس ثمة وسيط بين القيم المتناقضة بالكلية سوى القوة لحسم الصراع. وبذلك يكون من السهل علينا أن نتفهم سبب ذيوع أطروحة هنتنجتون في دوائر سياسية معينة؛ فلا حاجة للتفاوض ولا حاجة للتنازل، ولا حاجة لكل هذا ألبتة. إذا كنا نريد أن يكتب لحضارتنا البقاء والازدهار فإنه يتوجب علينا إما أن نفرضها على الآخرين بالقوة أو أن نُبْقِيَ الآخرين بعيدين عنا. ومما تجدر الإشارة إليه -في سياق قراءة هنتنجتون- هو أنه حيث لا يرى إلا الغربيين والمسلمين والهندوس واليابانيين، فإن قُرَّاءَ أطروحته في يومنا هذا يميلون -وبشكل متزايد- إلى رؤية الصراع بين جانبين متقابلين هما (الغرب والآخرون) ودون وجود أي بودار تلوح في الأفق عن هدنة ممكنة.

3- التسامح في النظام الدولي

رغم شهرة فوكوياما وهنتنجتن، إلا أن التسامح له تاريخ طويل في سياق القانون الدولي، حتى ولو لم يكن قد ذكر بهذا الاسم. وإن لم يكن القانوني الهولندي المعروف جريتيوس قد أشار إلى التسامح بهذا اللفظ فإنه قد أشار إلى ما أسماه شهية الإنسان الطبيعية للمجتمع، وهذا أيضا يتضمن حياة الأمم. فبينما تشكل النظام الدولي بهدف تعزيز السيطرة الأوروبية وتبرير الاستعمار، فقد كان الباعث وراء هذا النظام مصادر فوق -قومية، وفوق- حضارية. وفي عالم اليوم ليس ثمة عرف في القانون الدولي أكثر أهمية وسموا من السلام. فالأمم المتحدة أُنْشِئَتْ من أجل حفظ السلام والأمن للعالم بعد أن دخلت القوى الأوروبية أتون صراع من أجل السيطرة إبان الحرب العالمية الثانية، وعليه فإن الهدف الأول والأخير من إنشاء هيئة الأمم المتحدة هو حفظ السلام والأمن الدوليين.

منذ نشأة القانون الدولي في القرن السادس عشر تم إدراك حقيقة أنه من أن أجل أن يعم السلام، ومن أجل أن تزدهر التجارة - فإن الخلافات الداخلية بين الدول يجب ألاّ تُتَّخَذَ كذريعة للتدخل في شؤون دولة أخرى. إن حجاب السيادة قد أسدل على النظم السياسية التي تحكم الشعوب واعتبرت كل هذه الكيانات متساوية في كرامتها وحقوقها على المستوى الدولي. وهذا المبدأ الآن متضمن في المادة الثانية (البند السابع) من ميثاق الأمم المتحدة والذي ينص على ما يلي:

(ليس مما ورد في هذا الميثاق ما يُخَوِّلُ للأمم المتحدة التدخل في شؤون تقع ضمن القضاء المحلي لأي دولة أو الطلب من الأعضاء تقديم هذه القضايا لتسويتها تحت سلطة هذا الميثاق)

إن هذا التسامح في الاختلاف على المستوى الدولي تؤكده كذلك المادة الثانية البند الرابع من الميثاق والتي تحرم استخدام القوة في كل الأحوال فيما عدا تلك التي تستلزمها دواعي الدفاع عن النفس. والسؤال هنا هو إذا ما كان هذا التفسير الشامل للتسامح سيحترم كأساس لقانون الأمم وإلى أي مدى يمكن ذلك؟ إلى أي مدى يمكن أن يستمر واجب التسامح لدولة بعينها في إطار المجتمع الدولي ليشمل دولا أخرى؟ وما هي حدود واجبات الدول للتسامح وقبول مبدأ وحدة الأرض والسيادة السياسية للدول الأخرى؟ هل يجب على الدول احترام سيادة دولة بعينها في كافة الظروف؟ حتى وإن كانت حكومة هذه الدولة متورطة في أعمال الإبادة الجماعية في تلك الدولة الأخرى؟ وعندما تطلب الدول التعاون مع دول أخرى في إطار العلاقات الدولية ما هي الأمور التي يمكن أن تطلبها هذه الدولة أو تلك من الأطراف المتعاونة فيما يخص النظام الداخلي والقيم المحلية؟ وبشكل عام فإن السؤال الذي غالبا ما يطرح في هذه الأيام هو ما إذا كان بإمكاننا فعلا أن نسمو فوق التعددية الحاصلة في الدول واختلاف منظوماتها القيمية بغية الوصول إلى إجماع أكثر موضوعية أو هل يجب على هذه الاختلافات أن تنحني أمام القيم العليا للمنهج السياسي الحق والأوحد ألا وهو منهج الديمقراطية الليبرالية؟

يرى راولز في مقترحه الذي قدمه مؤخرا بعنوان (قانون الشعوب) أنه لا يمكن (للمجتمع الدولي للمجتمعات المحلية) أن يكون مجتمعا بالمعنى الحقيقي للكلمة إلا إذا لم يكن مكونا من خليط عشوائي من الكيانات السياسية التي تحكمها قيم مختلفة تماما. إن رابطة الشعوب -وهي نسخة من الأمم المتحدة- التي يقترحها يجب أن تؤسس على مبادئ مشتركة ومتفق عليها، وكذلك على التزام مشترك بالقيم التي تجسدها هذه المبادئ. وبهذا يحاول راولز أن يرسم المبادئ الرئيسة لمجتمع التسامح بين الشعوب والذي هو -علاوة على ذلك- قائم على أرضية مشتركة وعلى إجماع مشترك أيضا. إن المطلب الأساسي لقبول المجتمعات المحلية في رابطة الشعوب التي يقترحها راولز هو استعداد هذه المجتمعات للالتزام بمجموعة من القواعد الدولية التي وافقت عليها تلك الشعوب. ويتألف مقترح راولز من ثمانية مبادئ تتضمن الاحترام المتبادل والمساواة بين الشعوب ولكن أيضا يجب احترام قائمة محددة من حقوق الإنسان ويجب مساعدة الشعوب الأخرى التي تعيش تحت ظروف غير جيدة. والاستعداد المقصود هنا يعكس بدوره استعداد الشعوب المشاركة لاحترام القانون على المستوى المحلي. واستعداد هذه الشعوب لاحترام قوانينها الداخلية يجعلهم شعوبا محترمة. وعليه فإن رابطة راولز مكونة من مجتمعات محترمة سواء كان ذلك من حيث الطبيعة الليبرالية أو من حيث الطبيعة التنظيمية كما يسميها راولز. وبذلك فإنه من قبيل العبث أن نحاول حسب رأي راولز أن نؤسس لعلاقات قانونية مع مجتمعات لا تحترم القانون بالكلية.

كثير من المعلقين المتحررين من الأحقاد القومية لا يوافقون على ما اقترحه راولز من (رابطة الشعوب) ويعتبرون هذا المقترح مفرطا في التسامح والاحتوائية. إن فضيلة التسامح تكون غير عملية عندما يتضمن الأمر مجتمعات غير متجانسة. والتنظيم الفعال للشعوب لا يمكن إلا أن يحتوي على شعوب متشابهة في العقلية وتتشارك في الالتزام بهذه القيم المتشابهة. إن فضيلة التسامح ليست قوية بما فيه الكفاية لكي تقيم مجتمعا ذا قيم مختلفة إلى حد كبير. وإن رابطة حقيقية قائمة على التعاون لا يمكن لها أن توجد حسب رأي المواطنين العالميين إلا على أساس التزام قوي بقيم ليبرالية عالمية مصوغة بقائمة شاملة لحقوق الإنسان، وعلى هذا الأساس يمكن للمجتمع الدولي أن يتكون من دول تلتزم بهذه القيم. والسبب وراء هذا الموقف الإقصائي بسيط للغاية، فالدول الليبرالية لا يمكنها أن تقبل بالمجتمعات المحترمة والتنظيمية كأعضاء لهم قيمة في هذه الرابطة دون أن يتنازلوا هم عن التزامهم بالقيم الليبرالية.

وفي هذه المناظرة نجد ثلاث رؤى متنافسة حول عضوية جمعية دولية للمجتمعات، حيث تشمل هذه الجمعية رؤية واحدة احتوائية تعكس اتفاقاً حول المبادئ التاريخية للقانون الدولي كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة، والأخرى إقصائية تتفق مع وجهة نظر المواطنين العالميين الليبراليين، والأخيرة هي رؤية راولز التي تسعى لتكون الأرضية الوسيطة. وأعتقد أن هناك أسباباً وجيهة تدعونا إلى إتباع رؤية راولز.

أَوَّلاً: فالمنظمة الاحتوائية التي لا تقوم على حد أدنى من الإجماع بين شعوب الدول والحضارات التي تمثلها لا تبدو أنها ذات جدوى؛ لأن أي مجتمع -بما في ذلك المجتمع الدولي- يجب أن يكون قائما على أساس مجموعة من القواعد المشتركة، وإلا كان ببساطة تجمعا عشوائيا للشعوب وليس مجتمعا. وحسبما يراه راولز فإن هيئة أمم متحدة ذات طابع احتوائي يعد خيارا غير مرغوب فيه كذلك بسبب أن عدم التجانس المحض يعني أن المنظمة تصبح غير مختلفة كثيرا عن منبر يجمع الدول والحضارات معا دون خلق أرضية مشتركة. وعلى هذا الأساس فإن هذه الرابطة سينقصها الاستقرار لأنها تقوم على أساس التسوية المؤقتة، وبهذا يغيب عنها ما نصبو إليه ألا وهو الإجماع التوافقي. وفي المقابل فإن النظام المفرط في الإقصاء سيكون مدخلا للنظام الدولي بشرط ارتضاء مجموعة معينة من القيم وبذلك لن يأخذ بعين الاعتبار وبشكل جدي التعددية الموجودة، بل إنه سيعتبر منظومة القيم الخاصة به هي قيم الحق. وإذا قصرنا العضوية على هذا الأساس فإن هذا سيجعل عدد الأعضاء محدودا جدا. ولنا أن نسأل أنفسنا كم من أعضاء هيئة الأمم المتحدة الآن يحققون المعايير الآتية في مقابل تلك التي يذكرها راولز للدول الليبرالية:

1- الالتزام بقائمة محددة من الحقوق الأساسية والحريات والفرص.

2- إعطاء أولوية وأهمية قصوى لهذه الحريات الأساسية وخصوصا ما يتعلق منها بدعاوى المصلحة العامة.

3- تطبيق الإجراءات التي تكفل حصول كافة المواطنين على الوسائل التي تمكنهم من الاستخدام الفعال لحرياتهم.

سنجد أن عددا محدودا جدا من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة اليوم تنطبق عليها هذه المعايير، وربما لا يوجد من تنطبق عليه هذه المعايير على الإطلاق.

ثانيا: هناك أسباب وجيهة وعملية أخرى تجعل مقترح راولز يبدو حلا توفيقيا ملائما، لأنه لو سمح لكل الدول للانخراط في منظمة الشعوب فإن هذه المنظمة لن تستطيع منع أي صراع حقيقي، ولكنها ستقوم بدور الملتقى كما ذكر آنفا بل على العكس من ذلك فسيكون هذا الملتقى بمثابة منبر يتجسد فيه هذا الصراع. وبذلك لن يكون بمقدور هذه المنظمة أن تمارس وظيفتها كمنظمة فاعلة وقادرة على بناء الجسور بين الحضارات. وإذا كان العدد الذي يمكنه المشاركة محدودا على أساس الحضارة المشتركة فإن هذه الرابطة للشعوب الليبرالية لن تكون أداة ذات جدوى في تنظيم الشؤون الدولية أو بناء الإجماع والاتفاق بين الحضارات. إن النموذج الاحتوائي لن يكون إلا انعكاسا لنموذج صراع الحضارات الذي تحدث عنه هنتنجتون، وفي المقابل فإن النموذج الإقصائي سيكون قائما على أساس فرضية فوكوياما التي تقول بأن مجموعة من القيم هي أسمى من بقية القيم. ولأن الأمور ذات الأهمية الملحة لكل المجتمعات السياسية على هذا الكوكب -بغض النظر عن قيمها- تحتاج إلى أن يتم مراعاتها ومعالجتها في ملتقى دولي، كما هو الحال في قضايا التجارة والسياحة وقانون البحار وقانون الفضاء والثورة الجينية الوراثية والتلوث على سبيل المثال لا الحصر، فإن الحاجة لمثل هذا الملتقى أو المنبر الدولي تكون ملحة بحيث يتم مناقشة الأمور المطروحة بحكم أننا نتشارك كلنا في العيش على كوكب واحد. إن الأسباب التي تدعونا إلى التنسيق والتعاون أسباب قوية تجعل من شروط القبول في هذا المنبر غير مقصورة فقط على الاشتراك في القيم نفسها فحسب. إن فكرة الرابطة المحدودة للشعوب الليبرالية سوف تحرم بشكل أو بآخر للشعوب القائمة على أساس منظومة قيم أخرى من المساواة في الاعتراف بها، إذ لن تسعى تلك الدول إلى الاتفاق والإجماع إلا على أساس من الاحترام المتبادل.

أما الاعتراض الثالث على رابطة محدودة للغاية للشعوب كما تراه وجهة النظر الكوزموبوليتية - فهو الاعتراض الذي يمكن ربطه مباشرة بمبدأ التسامح، حيث إن هذا المبدأ نشأ كما رأينا في القرن السابع عشر نتيجة لإدراك أن الإجماع الديني لا يمكن فرضه بالقوة وأن المعتقدات الدينية الحقيقية هي في الأساس قائمة على القناعة الاختيارية، وعليه فإن التسامح من حيث المبدأ هو الترفع عن استخدام القهر أو العنف إذ تكون هذه الوسائل غير ذات جدوى لأنه لا يمكن لأحد أن يجبر على اعتقاد ما لأن سلطان الدولة وببساطة ليس مشروعا في هذه الحالة حيث إنه لن يؤدي في النهاية إلا إلى استخدام العنف كما حدث في القرن السابع عشر عندما ساد مناخ اللاتسامح.

إن السبب الرئيس وراء إنشاء منظمة الأمم المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية هو حفظ السلم العالمي. كما أن هدفها الأساسي هو تحرير العلاقات الدولية من خطر استخدام القوة العسكرية ولذلك جرمت الحروب العدوانية ولم يسمح باستخدام العنف دون الرجوع إلى مجلس الأمن إلا في حالة الدفاع عن النفس. ولكن ستار السيادة الذي يعمل كجدار واق ضد أي تدخل - لم يخدم هدف السلم والأمن كما ينبغي. لنفترض مع فوكوياما أن قيم الديمقراطية الليبرالية قيم سامية، فهل سيكون أداء رابطة الشعوب الليبرالية القائمة على أساس هذا الاعتقاد أفضل؟ ولنفترض وجود مثل هذه المنظمة الدولية وأنها محاطة بعالم من الدول غير الليبرالية، فكيف ستتصرف الرابطة الليبرالية هذه تجاه هذه الدول؟ ستصمها - بالطبع - بأنها غير شرعية وتحرمها من العضوية، لأن الشرعية، كما تراها هذه المنظمة، لا يمكن لها أن تكتسب إلا على أساس الإجراءات الديمقراطية الليبرالية. وهذا الموقف سيكون غير متسامح ولا يمكن الدفاع عنه لأسباب عدة. أولا أنه ليس صحيحا أن صيغ الديمقراطية الغربية تعتبر شرطا مطلقا للشرعية؛ لأننا رأينا أنظمة عدة شرعية في نظر مواطنيها ولكنها غير شرعية في نظر المعايير الليبرالية، ومن الأمثلة على ذلك نذكر نظام هتلر في ألمانيا النازية في عام (1938م) أو حكومة كازانستان، وهو المثال الافتراضي الشهير الذي أورده راولز عن مجتمع محترم بشكل كبير.

ثانيا: من الناحية الفلسفية فإن المعادلة بين الديمقراطية الشكلية من جانب والشرعية من جانب آخر تعتبر مشكوكاً فيها أيضا؛ لأنه من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- إثبات مصداقية مجموعة من القيم سواء كانت هذه القيم دينية أم سياسية. وليس ثمة تبرير ميتافيزيقي لأي مجموعة من هذه القيم، كما أن نشوة فوكوياما حول نهاية التاريخ ليست دليلا على مصداقية المقولة نفسها. ولقد أشار راولز إلى هذا عندما دافع، في كتابات لاحقة، عن الصيغة الشكلية والمتواضعة لليبرالية السياسية بدلا من الليبرالية الشمولية لنظرية العدالة. إن أهمية الديمقراطية لا يمكن أن نرسخها إلا إذا اتبعنا منهج الانتقال من القاعدة إلى القمة، وليس العكس.

أما السبب الثالث -وهو الأمر الأكثر أهمية- فيتعلق بحقيقة أن رابطة ليبرالية محدودة سوف تتقبل وجود مجتمعات غير ليبرالية وغير شرعية فقط لاعتبار أنه ينقصها السبل المناسبة لتحريك إصلاح داخلي في هذه المجتمعات غير الليبرالية. حيث إنه لن يطول الوقت قبل أن تقوم هذه الرابطة بفرض قيمها الخاصة على هذه المجتمعات ولن يمنعها من استخدام القوة باتجاه المجتمعات الأخرى إلا لأسباب منطقية وليس السبب المبدئي الذي يقول: إن وحدة التراب والسيادة السياسية لمجتمع آخر والقيم التي يمثلها هذا المجتمع هي في حد ذاتها قيمة أساسية قائمة بنفسها. وهذا بدوره يقود في النهاية إلى أن: ترفض رابطة الشعوب الليبرالية فكرة التسامح كأهم قيمة عند التعامل مع تنوع كبير من القيم، وهذا من جهته قد يؤدي إلى النقيض وهو التدخل، ولكن حبذا أن يكون هذا التدخل بالوسائل السلمية لفرض القيم الليبرالية. إن الفصيل الأقوى في تيار المواطنين العالميين أو الكوزموبوليتانتيين يميل إلى إنكار أن هذا هو لعلها الحلّ، ويحاججون بأن التدخل لدعم الليبرالية قد يكون غير فعال أو له آثار سلبية ولكن الأسباب وراء ترددهم هذا هي أسباب منطقية ليس إلا. وحسب تراث الحرب العادلة فإن التدخل (العسكري) يكون مبررا فقط إذا كان لتصحيح خطأ ما، والدعاية لقيم معينة لا ينظر إليه (كقضية عادلة). وحقيقة أن بعضنا مقتنع بمصداقية قيمهم الدينية والسياسية لا يعطي غطاء شرعيا لاستخدام العنف، فالطرق السلمية هي دائما المفضلة واللجوء إلى العنف يجب أن يكون هو آخر العلاج. وبرغم ما تراه هذه النظرة المحدودة جدا لرابطة الشعوب، فإن فكرة التسامح تغيب ضرورة وذلك نظرا لأن مفهوم العالم الكوني حتما يضم تعددية في القيم، وأن هذه التعددية يجب أن يتم تقبلها. وإذا ما فقدت فكرة التسامح وسمة الفضيلة التي تتطلبها جاذبيتها - فإن الفكرة النقيضة التي تقول: إن الاختلافات تحتاج إلى استخدام أسلوب القوة لحلها تصبح أكثر استحسانا وتصبح الرغبة للجوء إليها أكثر قوة. ولو اقتنع الناس أن قيمهم الدينية والسياسية هي أكثر تفوقا من قيم الآخرين، وفقدوا تبعا لذلك الاستعداد للعيش مع الاختلافات، فإنهم ولا شك سيتقبلون إمكانية أن يتم فرض قيمهم على الآخرين بالقوة، حيث إن مشكلة البحث عن مخرج (القضية العادلة) للجوء إلى القوة تكون قد حلت، وبهذا فإن بداية الحرب التي تهدف إلى فرض (الحقيقة) على الآخرين المبتدعة والزنادقة والذين يرفضون الإذعان لها باقتناع منهم لن يكون بعيدا.

ومن المفيد أن نعرف أن المواطنين العالميين أو الكوزموبوليتانتيين لا ينظرون إلى قيمهم الليبرالية على أنها متفوقة على القيم الأخرى فحسب، وإنما يعتقدون كذلك أن هذه القيم يمكن أن تفرض على ألآخرين. وبهذا يكون التسامح مرتبطا بعدم اليقينية الأخلاقية وبالقيود الأخلاقية بحيث يكون لدينا الشك بأن قيمنا بما في ذلك أقوى معتقداتنا قد تكون خاطئة. وإذا ما التفتنا قليلا إلى الوراء لنرى فظاعة الوضع الذي خلفته الحروب الدينية والتي كانت تعتبر فكرة التسامح الحل الناجع لها فإن تذكر ذلك الوضع قد يكون درسا مفيدا لنا جميعا.

لقد كانت الطوائف الدينية في تلك الأيام تؤمن بتفوق وسمو عقائدها الدينية حتى إنهم لم يتخيلوا أن أصحاب العقائد الأخرى لن يستفيدوا من حيث المبدأ إذا ما تم تحويلهم عن عقائدهم حتى ولو الحاجة إلى استخدام القوة لتحقيق ذلك.

وإذا ما أخذنا في الاعتبار الحروب الدينية، فإنه يصبح جليا أن التيار المتشدد من وجهة نظر الكوزموبوليتانتيين أو المواطنين العالميين للعلاقات الدولية أو أي وجهة نظر أخرى ذات معتقدات قوية فإن هذا يشكل خطرا كبيرا. وأن النظرة المعتدلة التي يدافع عنها راولز في مقترحه (قانون الشعوب) لا تتفق فقط مع فكرة التسامح التي طورها لوك وسبينوزا ولكنها كذلك تتفق أكثر مع السبب الجوهري الذي كان وراء إنشاء المنظمة الاحتوائية المسماة بهيئة الأمم المتحدة عام (1945م)، ألا وهو منع الحروب. وبينما تعاني الأمم المتحدة في الوقت الراهن من هذه الاحتوائية والشمولية والتي تشكل عائقا أمام الوصول إلى إجماع - فإن رابطة الشعوب الليبرالية كما يقترحها بعض الكوزموبوليتانتيين بكل تأكيد منظمة إقصائية إلى حد بعيد. وكونهم إقصائيين إلى هذا الحد فهم يقومون بتزييف قيمة التسامح. لقد قام الفيلسوف (كانت) بتطوير مفهومه للتسامح على خُطاً متقاربة من مفهوم حق الاعتراض الذي تملكه العقلية الأخلاقية في وجه الحرب. (لا مكان للحرب)، حتى وإن كان الليبراليون مقتنعين تمام الاقتناع أن الشعوب الأخرى ومجتمعاتها لها وجهات نظر مختلفة بدرجة كبيرة حول ما تتطلبه الشرعية وما هي صفات المجتمع الصالح؟ وإذا كان الناس يريدون أن يعيشوا في سلام فإن التسامح هو ما نحن في أمس الحاجة إليه. لقد استوعب راولز أكثر من أيِّ أحد من أتباعه الكوزموبولتانتيين هذه الرسالة الكانتية المهمة جدا.

*********************

*) بروفسور من هولندا.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=413

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك