الآخر والأنا في الوعي العربي المعاصر

الآخر والأنا في الوعي العربي المعاصر

عبدالإله بلقزيز*

1- وعيُ الآخر

غالباً ما كانت الرِّحْلة في الثقافة العربية الوسيطة المناسبة الأهمّ لاكتشاف الآخر والتعرُّف إلى منظومة أفكاره وعوائده وتقاليده ونظرته إلى العالم. والآخرُ -في الأعمّ الأغلب- هو المختلِفُ في المِّلة. ومع أنه كان في وسع المسلمين أن يتعرفوا إليه في ديارهم الزاخرة بالملل والنّحل، وأن يدوّنوا بدقةٍ عالية عقائدَهُ وآراءَهُ، ويَتَمَيَّزُوا فيها الفوارق والفواصل عمَّا اعتقدوهُ هُم وأخذوا به...، إلا أن ذلك ما كان يكفي ليعوِّضهم عن الحاجة إلى اكتشافه بعيداً عن حَوْمَةِ الإسلام، أي حيث يقيم في عُقر داره كصاحب سيادةٍ لا كجماعةٍ مِلّية صغرى داخلةٍ في ذمَّة الإسلام. ولقد كان من الطبيعي أن يَبْدُوَ الآخر أكثر اختلافاً كلّما بَعُدَ عن جغرافيا الإسلام، لأن الآخر الذي يعيش في كنف المجتمع الإسلاميّ يظل -رغم الاختلاف المِلّيّ- جزءاً من منظومة ذلك المجتمع الذي رسَخَتْ فيه مع الزمن تقاليدُ التعدّد والتنوع. ولذلك اكتسبت نصوص الرِّحلة في التاريخ الثقافي العربي طعماً خاصّاً، وكانت مرآةً قرأ فيها المسلمون ملامح مجتمعاتٍ أخرى خارج دار الإسلام، لِتُنْتِجَ في وعيهم مفهوم الآخر.

لم يختلف الأمر كثيراً في الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة: ظلت الرّحلة وسيلةً لاكتشاف الآخر (غير العربيّ أو غير المسلم)، ومادةً يُطِلُّ منها المجتمع والثقافة على العالم المختلِف لذلك الآخر. ومثل الأولى، لم تكن معاينةُ العرب في مجتمعاتهم لعساكر الآخر (الأوروبي) ومستوطنيه، وأنماط سلوكهم، وطرائقهم في التفكير أو في العمل، لتعوِّض عن الحاجة إلى اكتشاف هذا الآخر في موطنه. وليس يغيِّر من الأمر في شيء أن الآخر المقيم في ديار العرب والمسلمين لَمْ يمثِّل جماعة مِلّية صغرى داخل (الجماعة الوطنية) -كما كان حال جماعات الملل والنِّحَل في الماضي- وأن اكتشافه في موطنه أدْعى إلى تمييزه، عن تلك الجماعات الداخلية، ذلك أن قوة الأوروبيين في مجتمعات العرب المحدثين كانت وحدها تكفي لِتَحْمِل الأخيرين على التعرُّف إلى تلك المجتمعات والدول التي أتى منها العساكر والمستوطنون وفرضوا أنفسَهم وشرائعَهم في الحياة على المسلمين.

اختلف الأمر هنا قليلاً في اكتشاف ذلك الآخر ووعيِه. كان الرّحالةُ العرب والمسلمون القُدَامى أقلَّ شعوراً بالدُّونية تجاه الآخر من رحالة القرن التاسع عشر. لم يُخْفوا انبهارهم به -كما نلحظ ذلك عند البيروني(1) مثلاً- لكن هذا الانبهار ما بَلَغَ يوماً حدَّ الشعور بتفوُّق حضارته أو ثقافته على حضارة أو ثقافة المسلمين، ولا قادهم إلى الاعتقاد بوجوب اقتدائه وتقليده. أما رحّالةُ القرن التاسع عشر، ومثقفو هذه الفترة عموماً، فكانوا أكثر شعوراً بالنقص تجاهه، وأكثر انبهاراً بنموذجه الحضاريّ والثقافيّ، وأبعد في التعبير عن الحاجة إلى الأخذ بما أخذ به من مبادئ ووسائل كي ينتهض ويَحْصُل له السَّبْقُ والتفوُّق.

وليس من شك في أن قيمة اكتشاف الآخر من خلال معاينته في موطنه، وتدوين معطيات تلك المعاينة، تتبدَّى على نحوٍ أوضح حين ندرك أن من نتائج تلك المعاينة (أو المشاهدة) تبديد الصُّوَر النمطيّة التي كوَّنها العربيّ عن ذلك الآخر: قديماً وحديثاً. وهو تبديدٌ لا يصحِّح نظرةً فحسب، بل ينْقُل المعرفة العربية بالآخر إلى مستوًى نوعيٍّ يتضاءل فيه ثِقْلُ القبْليات والأحكام المسبقة، ويرتفع فيه معدَّل الانتباه لأدق التفاصيل. وإذا كان مِمَّا يَخْرُج عن دائرة الاستغراب أو الاستفهام أن درجة التحرُّر من أحكام الصُّور النمطية المكوَّنَة عن غير المسلم في العهد الوسيط، وأن مستوى الانتقال بوعيه بعيداً عن ثِقْلِ تلك القبْليات والمسبقات، كَانَا دون ما أصبحا عليه اليوم (= بسبب شعور مثقف ذلك العهد بمركزية الإسلام في العالم وتفوُّقه على سائر الأديان والحضارات)، فإن مستوى تحرُّر المعرفة العربية الحديثة بالآخر من ثقل الصُّوَر النمطية والأحكام الجاهزة المكرورة ليس يعلو كثيراً عن سابقه: ليس لأن المثقف الحديث ما زال مسكوناً بفكرة تفوُّق الإسلام والأنا الحضارية -مثلما كان سَلَفُهُ في الماضي- وإنما لأنه ما بَرِحَ يعتقد بإمكانية استعادة مجد الماضي في المستقبل، وبإمكانية ممارسةِ ممانعةٍ ناجحة ضدّ الاعتراف بالهزيمة الحضارية أمام الآخر.

من تحصيل الحاصل القول إن هذا الاستنتاج لا يَصْدُق على أصناف المثقفين كافة، حيث التفاوُتُ بينهم في التمسك بموارد التاريخ والموروث الحضاريّ كبير؛ لكن القارئ في خطاب أكثرِ المنفتحينَ منهم على الثقافة الأوروبية يَعْثُر على مُشْتَرَكٍ -صريحٍ أو مُضْمَرٍ- بينهم وبين الأصاليين يَجْمَعُهم على رأيٍ واحد: حاجة العرب إلى استئناف دورهم الحضاريّ والخروج من غياهب التأخُّر والانحطاط، وشعورهم بأن هزيمة مجتمعاتهم أمام الآخر ليست مدعاةً إلى التسليم بها، بل دافعةٌ إلى نقْضها. وغنيٌّ عن البيان أن مجرَّد التمسك بفكرة الاستمرارية التاريخية -على اختلافٍ في فهمها- يرفع من درجة الانتباه إلى الأنا في علاقتها بآخرٍ تَعِيهِ بوصفه كذلك: أي من حيث هو آخر.

تبدو فرضية الاستمرارية التاريخية في خطاب الأصاليين أشبه ما تكون بالعقيدة في الحدّ الأقصى من التعبير عنها: لا تُزَحْزِحُ الإيمانَ بها معايَنةُ الفارق الحضاريّ بين أحوال المسلمين وبين ما هي عليه مدنيَّةُ الغربيين(2)، لأن هذا الفارقَ مُدْرَكٌ بوصفه تعبيراً أميناً عن فداحةِ ما يقود إليه انحرافُ المسلمين عن جادَّة العقيدة التي صنعتْ لهم في التاريخ مركزيةً حضارية في الماضي. يتحوَّل تفوُّق الآخر، هنا، إلى مبرِّرٍ إضافي للدعوة إلى استعادة المسلمين نهج التزامهم بخطّ العقيدةِ والتاريخ لاستدراك ما أضاعَهُ عليهم انحرافُهم عن جادَّته واللَّحُوق بذلك الآخر. وما كان مُسْتَغْرباً، إذن، أن يذهب قسمٌ من الآخذين بهذه المقالة إلى حسبان تفوُّق الآخر ممَّا حَصَلَ لهُ وتحقَّق بنهجه سبيل الإسلام من دون أن يكون مسلماً. وكم كان دالاًّ أن يُدْرَك التقدُّم الأوروبي، لدى قسمٍ من دعاةِ الأصالة، بحسبانه تطبيقاً لمبادئ الإسلام التي ذَهَل عنها المسلمون وأخذ بها الأوروبيون!

وقد تبدو الفرضيةُ إياها، في الخطاب (الأصالي) نفسِه، مجرَّد ميكانيزمٍ دفاعيّ يُبديه الحاملون لهذا الخطاب في وجه تفوُّق الآخر. يتحول القول بالاستمرارية التاريخية -هنا- إلى ممانعة (فكرية ونفسية) ضدّ الاعتراف بالهزيمة الحضارية أمام مدنيَّة ذلك الآخر وثقافته. لكن هذه الممانعة نفسها ليست دائماً بعيدة عن أن تكون محضَ مكابرةٍ تنطوي على وعيٍ شقيّ أو موقفٍ جريح يستنزفُه -نفسيّاً- الشعورُ بتفوُّق الآخر وغلبته. وكم هو زاخرٌ تراثُ الفكر العربي الحديث والمعاصر بالمقالات الذاهبة هذا المذهب من الممانعة المنكسرة من الداخل!

أما الفرضيةُ عينُها في خطاب الحداثيين، فكانت أقرب إلى الفكرة الاستنهاضية من أية فكرةٍ أخرى. فالمعظَمُ منهم يدرك أن المدنيَّة الغربية أحدثت قطيعةً في التاريخ مع ما قبلها، وأَنْهَتْ أيةَ فكرةٍ عن استمراريةٍ تاريخية أو حضارية لمجتمعٍ أو ثقافةٍ خارج حظيرة الغرب (= أوروبا آنذاك). لكن مقالتهم في التقدم ما كانت لتبرّر نفسها لجمهور المخاطَبِين بها إلاّ من طريق دغدغة الشعور الجمْعيّ العميق بالسابقة الحضارية للقول من ثمة -وبالاستنتاج المُرتَّب- إنَّ في وسع العرب اليوم أن يستأنفوا ما بدأوه من مغامرةٍ نهضويةٍ في الماضي. ولا تكاد تكشف هذه المقالة الاستنهاضية عن حدود اعتقادها بفكرة الاستمرارية التاريخية، وصدق ذلك الاعتقاد، إلاّ حين ترسُم لمشروع التقدم سبيلاً وحيداً هو عينُه السبيل الذي قطَعَهُ الآخر على طريق النهضة.

في كل حال، أتتِ الصلةُ بالآخر من خلال الرحلة والمعاينة والمقارنة تؤسّس فكرة (هذا) الآخر في الوعي العربيّ، وتُنبِّهُ إلى الفجوة التي تفصل مجتمعات الإسلام عن مدنيَّته وعن منسوب التقدُّم لديه، فتنزِّلُه منزلةَ الميزان الذي يكيلُ به المسلمون ليعرفوا مقدار ما في حوزتهم من أسباب الكينونة التاريخية والحضارية. لكن قراءة الآخر تتحوَّل -في الوقت نفسِه- إلى مناسبةٍ لقراءة النفس والذات في مرآته، أو قُل إلى مناسبةٍ تكتشف فيها الذات نفسَها في غَيْرِيَّةِ -أو مغايرةِ- ذلك الآخر لها.

2- الوعي الذاتي

ليس من كبيرِ مسافةٍ بين مأثورٍ شعريٍّ عربيٍّ يذهب إلى أنه: بضدِّها تتحدَّدُ الأشياء، وبين موضوعةٍ هيغلية تقرِّر أن الآخر هو الذي يحدِّدُ الأنا، أو أن الوعيَ الذاتيَّ (= الوعي بالذات) يَنْجُم عن -ويتحصَّل من- وعي الآخر. تجتمع العبارتان على القول بجدليةٍ تؤسِّس الحَدَّ (= التعريف) والماهية، أو قُلْ بجدليةٍ تتعيَّن بها الأنا. ليس مهمّاً أن يكون التطابق ناجزاً -هنا- بين فطنة أبي الطيب المتنبيّ وبين ديالكتيكية هيغل في تعيين الأشياء والذوات والصلاَّت بينها، بقدر ما يَهُمُّ التشديد على أن تعريف الذات والوعي الذاتي ليس فعلاً بسيطاً يجري بالبداهة، بل فعْلٌ مركَّب وحاصلُ علاقةٍ جدلية بين حدَّيْن متغايريْن. أو قُلْ إن من الطبائع في حركة الواقع والوعي أن الذات لا تنتبه إلى نفسها، أو لا تكاد تعي نفسَها كتغايُرٍ أو مغايرةٍ، إلا متى اصطدمَتْ بغيريتها، أي بآخرٍ يدفعها إلى الشعور بإنِّيَتِهَا أو باختلافها وتمايُزها.

الهوية بهذا المعنى، وخلافاً للمأثور من الاعتقاد في هذا الباب، ليست معطًى قبْليّاً ناجزاً يَحْصُل بمحض التأمُّل الذاتي أو التأمّل في الذات، أو بمحض الاستذكار والاسترجاع. إنها ثمرةُ جدليةٍ تَضَعُهَا في مقابل ما يخالفها، أو قُل تضعها في مقابل ما تَعِي أنه يخالفُها، فيحْصُل من وعيها بمخالفته إياها وعيُها بنفسها كماهية -أو هويةٍ- مختلفة. وهكذا لا يكون الآخر آخراً لأن الأنا تراه كذلك (آخراً)، وإنما تكون الأنا أناً لأنها تعي نفسَها كذلك (أي أنا) من خلال آخرٍ ينبِّهُها إلى نفسها وإلى إِنّيَتِها، أو قُل إن هذا الآخر يبدو لها كذلك (آخراً) لأنه يستثير فيها ماهيةً كانت مُضْمَرَةً، وكانت في حاجةٍ إلى مهمازٍ يوقِظُها كي تنتصب كينونة مقابلةً لكينونة ذلك الآخر.

ما الذي تتعرَّف فيه الأنا عن نفسها في حركة وعيها الآخر؟

تتعرف على جملةِ أبعادٍ يَصِلُ بينها ويَفْصِل أكثرُ من وجْهِ صلةٍ أو علاقة فثمة، على الأقل، أربع كيفيات يَحْصُل بها وعيُ الأنا لنفسها في تلك العلاقة: وعي الاختلاف في الماهية، ووعي صلات التشابه أو الاشتراك مع الآخر، والشعور المُفْرط بالتفوق، ثم الشعور الشّقيّ بالنقص.

قد يدفع الوعيُ بالآخر إلى إدراكه مختلِفاً وبرّانيّاً، أو - للدقة - إلى وعي الذات في اختلافها الماهويّ عنه. يرتفع حسّ المقارنةِ، في هذه الحال، ويرتفع معه معدّل الانتباه إلى الفواصل والتمايزات بين الماهيَّتَيْن. ينصرف الوعيُ عن البحث عن أية صلةٍ أخرى غير تلك التي تَتَظَهَّرُ بها الأنا ككينونةٍ مستقلةٍ ومغايِرة عن آخَرِها الذي لا ترى فيه إلاّ ما يَدُلُّ عليها كذاتيةٍ غيرِ مشابِهة. يُغْرِي هذا النمط من الوعي بالاختلافِ والمغايرةِ بلعبةٍ ايديولوجيةٍ مأثورة في مثل هذه الحالات: الاستدعاءُ الكثيف للقرائن والأسانيد من الماضي، وتنزيلُها منزلةَ الشاهدِ على ذلك الاختلاف. وهكذا لا يصبح اختلاف الأنا عن الآخر حالةً حديثةً أو معاصرةً حَمَلَ عليها وعيُ التبايُنِ بين الحدَّين (= الماهيتين) تحت وطأةِ ميلادِ فكرةِ الآخر في ذلك الوعي، بل يتحوَّل ذلك الاختلاف إلى (قانونٍ) تتكرَّر حقائقُهُ ومفاعيلُه في التاريخ، أو قُلْ يصبح (اختلافاً) له تاريخ! من يقرأ خطاب الأصالة في الفكر العربي، يَقِفُ على ذلك بالبيِّنَات: الغرب المختلِفُ اليوم والمُشْتَبَكُ معه في السياسة والاجتماع والثقافةِ وميادين القتال، هو نفسه (الصليبيّ) الذي نازله العرب والمسلمون في القدس والأندلس والبلقان! هل كان الإصلاحيُّ جمال الدين الأفغاني مثلاً - دون أن نذكرُ علماء الأزهر والزيتونة والقرويين والفقهاء المسلمين في كل مكان - بعيداً عن مثل هذا الاعتقاد؟!

ذلك وجْهٌ أوّل من وجوه الوعي الذاتي يقع فيه إنْقِفَالُ الوعي على نفسه وإقامتُه البيْن مع ما يقوم مقام المقابِل للأنا. لكن وجهاً ثانياً من ذلك الوعي الذاتي -مقابلاً للأول- سرعان ما يظهر في صورةِ مَيْلٍ إلى البحث عن الجوامع والمُشتَرَكات بين الأنا والآخر. ينتبه الوعي العربي في هذه الحال -من إدراك الآخر- إلى ما في هذا الآخر ممّا يشبه ما عندنا. يلحظ، مثلاً، مقدار تشبُّع هذا الآخر بالإيمان بقوة العلم والمعرفة والتنظيم الاجتماعي والعدل...، فيتذكر أن هذه جميعَها من القيم التي تمسكت بها حضارةُ العرب والمسلمين وقامت عليها في ما مضى من زمن صعودها وسيادتها. يزداد الإعجاب -هنا- بالآخر كميكانيزم نفسيّ للتعبير عن الإعجاب بالأنا (الحضارية). وتلك حال مقالة الإصلاحيين الإسلاميين في القرن التاسع عشر(3): التي ذهبت -أحياناً- إلى الاعتقاد بأن أوروبا لا تفعل أكثر من التزام النهج الذي رسمتْهُ تعاليم الإسلام وذَهَلَ عنه المسلمون. ثم لا يلبث هذا الوعي بالمشابَهَةِ والاشتراك أن يعبّر عن نفسه -لدى دعاة الأخذ عن أوروبا من المثقفين والمفكرين العرب- في صورة دفاع عن كونية القيم التي يحْملها الآخر ويحْملها معه قسمٌ من المجتمع العربي لا يحسب ذلك الآخر -لهذا السبب- برَّانياً عنه أو مجافياً لقيم شخصيته. في هذا النمط الثاني من الوعي الذاتي، تتضاءل إنِّيةُ الأنا -أو تَخِفُّ على الأقل- لِتُفْسِحَ المجال أمام إدراكٍ أكثر توازناً للذات وللعالم.

وقد يدفع الوعي بالآخر -ثالثا- إلى تنميةِ شعورٍ لدى الأنا بالتفوق (الحضاري أو الديني أو الثقافي أو الأخلاقي...). يَنْجم ذلك عن فِعْلِ مقارنةٍ يُجريه ذلك الوعي بين الأنا والآخر. لكنها، في الأعمّ الأغلب منها، تأتي في صورة مقارنةٍ انتقائية وايديولوجية. إذ تَسْلُك المقارنة نهجاً ينقِّب عمّا يحسَبُه ذلك الوعي علاماتِ نقيصةٍ أو خَصَاصٍ في الآخر لتظهير ما في حوزة الأنا من عناصر الامتياز أو السَّبق: وفي هذا انتقائيَّةٌ واضحة. في الوقت نفسِه تصمت المقارنة -والوعي المتوسّل بها- عمّا في الأنا من نقصٍ أو فراغ، أو عمَّا لدى الآخر من عناصر تفوُّقٍ وامتياز. وفي هذا مسلك ايديولوجي صريح لا غبار عليه. وإذا كان من النافل القول إن هذه الكيفية من الوعي الذاتي لا تؤسّس مقالةً ذاتَ اعتبار: في ميزان المعرفة وفي مضمار وعي جدلية الأنا والآخر وعياً تاريخيّاً وموضوعيّاً، فإنها لا تعبّر -في الوقت نفسه- سوى عن آلية دفاعية ضد الاعتراف باختلال التوازن في العلاقة بين الأنا والآخر من خلال ممارسة فعل المكابرة وتقمُّص دور المتفوق في هذه (المنازلة) -أو المقارنة- غير المتكافئة.

وأخيراً، قد ينتهي ذلك الوعي الذاتي إلى نمطٍ رابعٍ من إدراك الأنا في علاقتها بآخَرِها يميل إلى التعبير عن نفسه في صورةِ وعيٍ شقيّ (= الشعور بالنقص). في هذا الضَّرْب من الإدراك، لا يبدو الآخر قويّاً فحسب، ومتفوقا فحسب، بل تبدو الأنا على درجةٍ من الهوان والقصور إلى الحدّ الذي يتكوَّن معه شعورٌ بالنقص والدونية تجاهه. يَنْجُمُ هذا الوعي، مثل سابقه، عن فعل المقارنة. لكنها المقارنة التي لا تكاد تنتبه كثيراً إلى ما في الذات من عناصر القوة وأسبابها، بل تنصرف إلى إحصاء مواطن القوة لدى الآخر، وإلى تظهيرها في مقابل أناً تبدو -أكثر فأكثر- مدعاةً إلى التشييع والرثاء. وعلى الرغم من أن هذا النمط من الوعي الذاتي يجانب السقوط في فعل المكابرة الذي ينغمس فيه سابقُه، ويجنح نحو إدراكٍ للذات أكثر تشبُّعا بالنسبية والحَيْدة والموضوعية، إلاّ أن شحنته الايديولوجية المتَّقدة لا تخمد سريعاً حين يميل باطِّراد إلى جَلْد الذات وتقريعها ووضْع ميراثها الثقافي والحضاري بين أصفادِ معيارية تبدو وحيدة هي معيارية الآخر(4)!

* * *

يَتَحَصَّل من تقرير كلِّ بعدٍ من أبعاد التعريف (= تعريف الذات)، ويؤسِّسُهُ في الوقت نفسِه، خطابٌ ثقافيّ وفكريّ: يُنْتِجُ الوعيُ الذاتيُّ بالاختلاف في الماهية، المشدِّدُ على التفوق الحضاري والثقافي للأنا، خطابَ النرجسية والتبجيل الذاتي، المنغلقَ على النفس والمنكفئَ إلى الموروث مستكفياً به عن أيّ انفتاح هو -في حسبانه- في غَنَاءٍ عنه. إنه -بالتعريف- خطاب الأصالة. ويُنْتِجُ الوعيُ الذاتي بالمشابهة والاشتراك، المتراجعُ إلى فكرة القصور الذاتي، خطابَ الاستدراك والتماهي مع الآخر، الجانحَ نحو أوسع أشكال الانفتاح والتثاقف. إنه خطاب التقدم والحداثة.

بعيداً عن معايير القياس المعرفي لوجاهةِ أيٍّ من الخطابين المومأ إليهما، ثمة وجْهٌ ايديولوجي (أو وظيفي لهما) لا يجوز إهمالُه، لأنه صميميٌّ في تكوينهما، بل لعلَّه الأسُّ في ذلك التكوين. يؤدي الأول وظيفة الممانعة والاستنهاض: الممانعة ضدّ الشعور بهزيمة الأنا، واستنهاض قواها لردّ زحف مدنيَّة الآخر وقيمه. أمّا الثاني، فيؤدي وظيفة التنوير إذ يحمل على عاتقه التعريف بقيم المدنيَّة الجديدة وثقافتها سعياً وراء توطينها في نسيج المجتمع والثقافة العربيَّيْن. وفي هذه الوظيفة أيضا مَلْمَحٌ استنهاضي يخاطب فكرة النهضة الثاوية في الوجدان الثقافيّ.

3- من جدليةٍ من الخارج إلى جدليةٍ من الداخل

القارئُ في جدلية الأنا والآخر في الوعي العربي قراءةَ تمحيصٍ ونقدٍ يَلْحَظُ -في جملة ما يمكنه أن يلحظ- أنها جدليةٌ بمعنًى وحيد، أي بمعنى أنها تقدّم نفسَها في صورةِ جدليةٍ تؤسِّسُ العلاقة بين حدَّيْن أو طرفَيْن مستقلَّيْن أو متمايزيْن (هما: الأنا والآخر). إِذِ الوعيُ بطرفٍ منها يحصُل من خلال، وبواسطة، الوعي بالطرف الآخر. وبهذا المعنى، فهي جدليةٌ بسيطة أو غير مركّبة. وهي كذلك، لأن الغائب فيها هو الوعي بتلك الجدلية الداخلية التي تؤسِّس كلَّ حدٍّ من حدَّيْ العلاقة بين الأنا والآخر. إِذِ الواحد من الحَّدين ليس بسيطاً، أي ليس وحدةً متجانسةً مُقْفَلَةً على معنًى وحيدٍ ومطلقة، بل ينطوي في ذاته على تناقضٍ داخليّ يؤسِّسه: هو نفسُ -أو قل هو مثيلُ- ذلك التناقض الذي يؤسِّس العلاقةَ بين الأنا والآخر فيضعها في صورةِ جدليةٍ بين حدّيْن، مع فارق (بسيط) هو أن هذا التناقض (الجديد) ليس بين حدَّيْن منفصلين. وهكذا لا يصبح أيُّ حدٍّ من حدَّيْ العلاقة -بهذا المعنى- وحدةً عضوية تنطوي على دلالةٍ نهائية، بل يتحوَّل -هو نفسُه- إلى علاقةٍ جديدة بين أكثر من معنًى ودلالة، أو -للدقة- بين معنَييْن ودلالتيْن منه تقوم بينهما صِلَةُ تقابُلٍ وتوتُّر.

ليستِ الأنا هنا متجانسةً إذن، أو ليس الوعيُ بها واحداً لدى جميعِ من يدركونها بوصفها كذلك، أي أناً. والأمرُ نفسُه يقال عن الآخر. فالوعيُ بهذا ليس واحداً لدى من يحسبونه كذلك، أي آخراً. ومعنى ذلك أن الذين سلَّموا من المثقفين العرب بوجود إشكاليةٍ فكريةٍ عنوانُها العلاقة بين الأنا والآخر، وخاضوا فيها من هذا الموقع الفكريّ أو ذاك، لم يعيشوها بحسبانها إشكاليةً بين حدَّيْن، بل من حيث هي تنطوي على تناقضٍ داخليّ في النَّظَر إلى كلِّ من الأنا والآخر معاً. لنطالع، إذن، صورة هذه الجدلية الضمنية أو الداخلية التي تؤسِّس كل طرفٍ من طرفيْ علاقة الأنا والآخر.

أ- الآخرُ المتعدد أو جدلية المدنيَّة والسيطرة

لم يكنِ الآخرُ واحداً لدى تيارات الفكر العربي ولحظاته المعرفية كافة، ولا رُسِمَت عنه صورةٌ نمطية متكررةُ الملامح والقسمات في المقالات العربية الحديثة والمعاصرة. كان -بالأحرى- متعدّداً، بل متقابلَ الصور إلى حدِّ التناقض. لكنه لم يكن دارجاً في الوعي العربي أن يُدْرَكَ بوصفه كذلك، أي متعدِّداً. فالغالب على مقالات الفكر العربي أن تميل الواحدةُ منها إلى إدراكه في صُوَرِهِ -أو ماهياته- الواحدية، فتكوِّنَ حوله نظرةً متجانسة: قطْعية ونهائية، تقودها إلى إنتاج أحكامٍ معيارية حوله. ومعنى ذلك أن التعدُّد الذي ينطوي عليه ذلك الآخر في ذاته، أي التعدُّد فيه بوصفه واقعاً موضوعيّاً، لم يترجم نفسَه في الوعي به من قِبَل المثقفين والمفكرين العرب -الذين شغلهم سؤال الآخر- من التيارات كافة بوصفه وعياً متعدّداً أو جدليّاً.

وَقَعَ تعيينُ الآخر بصفاتٍ متعددة ومتضافرة في المعنى والدلالة لدى كل تيار من تيارات الوعي العربي. فهو الغرب الذي يقابل الشرق؛ وهو الصليبيّ الذي يقابل الإسلام؛ وهو الاستعمار الذي يستبيح ديار العرب والمسلمين ويذيق أهلها الهوان؛ وهو عالَمُ الكفر الذي يَتَهَدَّدُ عقيدة المسلمين بالهدم ونظامَ القيم لديهم بالمسخ والفَتْك؛ وهو عنوان السيطرة والهيمنة والبطش والاستعلاء ونزعات التفوُّق والمركزية الذاتية... إلخ. إنه كل هذا وأكثر في خطاب الأصاليين أو دعاة الأصالة، ممَّن أبدوا ممانعة ضدّ الاعتراف به ككينونةٍ متفوقة تُمْلي على المهزوم شروط المنتصر. في المقابل، أطلق عليه الحداثيون، أو دعاة الحداثة والمعاصرة، صفاتٍ نقيضاً. فهو المدنيَّة المتحضرة التي تفضح ما دُونَهَا؛ وهو فكر الأنوار ومبادئ الثورة الفرنسية؛ وهو العقل والعلم والقوة والتنظيم؛ وهو الصناعة والإنتاج؛ وهو الحرية والتسامح؛ وهو الدولة الوطنية الحديثة؛ وهو الفرد المتحرر من الخوف والخرافة والتقليد وثقل القيم البائدة والمواريث؛ وهو كل ما يرمز إلى التفوق والشفوف واقتحام الآفاق. إنه العالم المثال الذي ينبغي أن يُقْتَدى.

من الثابت لدينا أن أنماط التعيين هذه، في تناقضها واختلافها، لم تكن شاملةً أو شموليةً في وعيها ما تُعِيّنُه وتُسَمِّيه. إن الواحد منها يَلْحَظُ جوانب في ذلك الآخر من دون أخرى. وإن حَصَل ووجَدَ نفسَه منساقاً إلى المبالغة في التشديد على جوانبَ بعينها مع حصول وعيه بغيرها أو بنقيضها، مال إلى السكوت عن الثانية وطمْسها، أو -على الأقل- إلى التهوين منها واستصغار شأنها وعدِّها في باب الاستثناء الذي لا تَنْتَقِضُ به قاعدة. وعندي أن ذيْنك النمطين من الإدراك الأحادي للآخر يجافيان حقيقته الموضوعية ويَذْهلان عن إدراكها في تعدُّدها، أو قل في ازدواجها، وتناقضها. ومن النافلِ القولُ إن نقد تَيْنك النظرتيْن المتنابذتين إلى الآخر هو المدخل المعرفي الضروري إلى إعادة بناء وعيٍ موضوعيّ به.

ليس صحيحاً أن الغرب (الآخر) هو -حصراً- الاستعمار، والغزو، والسيطرة، وحبّ امتلاك العالم، والتفوق، والاستعلاء، والعنصرية، والعداء للدين وللإسلام بوجهٍ خاص...؛ كما تَرِدُ أوصافُه في مفردات خطاب الأصالة، بل هو -أيضاً- العلم، والعقل، والحرية، والمدنية، والتنظيم، والإنتاج. في المقابل، ليس الغرب هو -فقط- فلسفة الأنوار، والثورة الصناعية، ومبادئ الثورة الفرنسية، والنظام السياسي الحديث القائم على الدستور والحريات...، على ما يلحظ خطابُ الحداثة ذلك حصراً، وإنما هو -كذلك- تلك الرأسمالية المتوحشة الزاحفة بجيوشها إلى أسواق عالم (ما وراء البحار)؛ وتلك الفكرة العنصرية (المركزية الأوروبية) عن (تفوق) (الرجل الأبيض)؛ وذلك المخيال الجَمْعيّ، الذي جَهَّزَتْهُ روايات الحروب الصليبية والصدام المسيحيّ الإسلاميّ في الأندلس والبلقان، والآتي إلى ديار المسلمين للثأر والقِصَاص؛ وذلك القمع البربريّ لشعوب المستعمرات الذي بَلَغَ حدود الإبادة الجماعية!

وبالجملة، إن الآخر هو هذا وذاك في الآن نفسِه، ولا يَقْبَل التجزئة على إدراكيْن أحاديَّيْن. إن الذين أَغْلَظُوا في السباب والشتم والنَّكير وهُمْ يصفونَه، لم يقولوا إلاّ نصف الحقيقة: لم يقولوا إنه كان كذلك -في الأعمّ الأغلب من سلوكه- في ديارهم فقط، ولم يكن أمرُه كذلك في عُقر داره. والذين أغدقوا عليه آيات المديح وزفُّوهُ في نصوصهم كالعروس العذراء لم يقولوا إلاّ نصف الحقيقة: لم يقولوا إنه كان كذلك في حَوْمَتِه فقط، ولم يكن أمرُهُ على النحوِ نفسِه في المستعمرات: ومنها ديار العرب والمسلمين. ومعنى ذلك في الحاليْن أن الوعيَ به ما كان موضوعيّاً ولا متكاملاً لأنه حَصَل من زاويتيْ رؤيةٍ متقابلتين.

ب- الأنا المنقسمة على نفسها أو جدلية النهضة والتأخر

أنتج الفكر العربي المعاصر نظرتيْن إلى الأنا على مثال تينك النظرتين اللتين عبَّر عنهما حول الآخر. ولقد طبعهما، مثل سابقتيهما، التقاطب والتنابذ فمالت كلٌّ منهما إلى بناء صورة للأنا شديدةِ التباين والاختلاف عن الأخرى. أغرقتِ النظرةُ الأولى في مديح الذات وتظهير خصائصها التي (تَفرَّدت) بها عبر التاريخ، وبيان (جوهرها) المتكرر في كل الأزمنة. فالذاتُ هذه (المسلمة) ذاتٌ حضاريةٌ عظيمةُ الأثر، لأنه اجتمعت لها -يقول أصحاب هذه النظرة- أسبابُ التفوُّق والامتياز عمّا عداها من ذوات حضارية: عقيدة الإسلام وشوكة العرب الفاتحين وثراء ميراثهم الثقافي. والحضارةُ التي أنتجتْها هي الأعلى والأجلّ في تاريخ الحضارات. وهي ليست من الماضي فقط، ولا يجوز الظنّ بأنها اندثرت وزال اسمُها ورسمُها، بل هي مستقبل العرب والمسلمين. وما أصابهم من عادياتِ الدهر مما أصابهم ليس إلاّ لأنهم ضلّوا عن سبيلها وعن سبيل العقيدة التي أنجبَتْها. وإن نحن تأمَّلنا في معطيات خطاب الأصالة باحثين عن تعيينٍ دقيقٍ لهذه الأنا، سنجد أنها ترادف في معناها معنى الإسلام: عقيدةً وثقافةً وحضارةً.

في مقابل هذا الخطاب النرجسيّ الأصالي حول الأنا، ينتصب خطاب الحداثة الذاهب في نقد الأنا الإسلامية إلى الحدود القصوى. لكن خطاب الحداثة في هذا النقد يمارس اللعبةَ عينَها التي يمارسها خطاب الأصالة: يختزل الأنا في عصره (القرن التاسع عشر)، فتبدو له في غاية التأخر والانحطاط ليسْهُل نقدُها، تماماً كما يختزلها خطاب الأصالة في (العهد الذهبي) للعصر الوسيط ليسهُل مديحُها. هكذا تصبح الأنا عند الحداثيين مرادفاً للهزيمة والاندثار والضياع حين توضع في ميزان المقايسة مع الآخر المتفوق الزاحف. من الحداثيين من عَزَا تأخُّرها وانحطاطها وهَوَانَهَا إلى الاستبداد (وذلك أيضاً كان موقف الإصلاحية الإسلامية من الطهطاوي إلى الكواكبي). ولكن منهم مَنْ أشار بإصبع الاتهام إلى الدين (وذلك حال حداثيين من شبلي الشميّل إلى سلامة موسى). وفي الأحوال جميعاً، اجتمع قول الحداثيين في أن الأنا الإسلامية لا تنطوي في ذاتها إلا على ما يدعو إلى نقدها من أجل إعادة صوغها على مثال الآخر.

بين النرجسية الأصالية والعَدَمِيَّة الحداثية ضاعت فرصة إعادة تمثُّل الأنا في تعدُّدها وتناقضها الذاتي ومفارقاتها، بينما سيق حديثُ الفريقين إلى النظر بعينٍ واحدةٍ إلى زاوية واحدة من زوايا الأنا. فلم يكن صحيحاً أن الأنا هي الحضارة، والنهضة، والعلم، والفلسفة، والآداب والصنائع؛ وهي بيت الحكمة، والتدوين، وإشعاع بغداد والأندلس، وجيوش عمر ومعاوية والموحّدين... فقط، بل هي -أيضا-بطش (الخلفاء) وغِلْظَةُ جنودهم في الأمصار المفتوحة؛ وهي سبْي النساء والذَّرَاري وشدّة سلطان العُمال والولاة على الأقاليم؛ وهي تجارةُ الرقيق والتَّسَرّي بالحريم؛ وهي وَأْدُ العقل وملاحقة المتصوفة ونصب المشانق لكل ذي رأيٍ مخالف. ذلك وجهٌ من وجوهها في الماضي. أما في حاضرها، فهي خارج التاريخ: ذاتٌ مهزومةٌ متأخرة أمام زحف المدنيَّة الغربية لا تملك لنفسها نفعاً إن لم تملك ضرَّا. وبالجملة، إنها -أيضا- ما طمسه خطاب الأصالة وهو يدبّج مقالاته في تقريظ الأنا حتى لا يفتضح أمرُها... وأمرُه! كما لم يكن صحيحاً أنها التأخر والانحطاط فحسب، فلقد كانت مساهمتُها في التاريخ الإنسانيِّ رائدةً وإن توقفتْ وأصابها الوهن في العصر الحديث. وكانت حضارتُها في لحظةٍ من التاريخ كونيةً، وعلى ألواح علومها تتلمذ آخرون من غير بني جلدتها، فتوسَّلوا بها لنهضتهم. وليس طمس هذه الحقائق إلا رديفاً ايديولوجيّاً حداثيّاً لطمس الأصاليين لِهَنَات أَنَاهُم.

وبالجملة، تنطوي الأنا على ذينك البُعْدَين الموصوفين فيها في الآن نفسه. وهي -مثل الآخر- لا تَقْبَل التجزئة على إدراكين أحاديَّيْن. ولا سبيل إلى وعيها وعياً صحيحاً إلاّ من خلال وعي ذلك التناقض التكوينيّ فيها الذي يؤسّسها كأناً متعددة أو مزدوجة. وهو ما ذَهَلَ عنه خطاب الأصالة وخطاب الحداثة في الفكر العربي.

على سبيل الاستنتاج

يقدم التفكير في إشكالة العلاقة بين الأنا والآخر في الفكر العربي المعاصر فرصةً لوعي الحدود المعرفية المتواضعة لتلك الإشكالية, ولصيغ مقاربتها لدى تيارات ذلك الفكر، بل ولمعاينة الأوْجُهِ المختلفة للتعبير الايديولوجي عنها. لِنَعْرِض في هذا السياق ثلاثة من الاستنتاجات التي يكوّنها القارئُ في النصوص المشدودة إلى هذه الإشكالية:

أولها أن العلاقة بين الأنا والآخر ليست، كما تمثَّلها خطاب الأصالة وخطاب الحداثة على السواء، علاقةً بسيطة بين حدَّيْن متباعديْن ومنفصليْن، أو بين وحدتين عضويتين مغلقتيْن، وإنما هي علاقة مركَّبة تقوم الجدلية بين حدّيْها على جدليةٍ تأسيسيّة داخل كلِّ حدٍّ منهما إلى حيث لا يكون ثمة من سبيلٍ إلى فهم الجدلية الخارجية إلا من خلال وعي تلك الجدلية الداخلية التأسيسية أو المؤسِّسة. ذلك أن في كل أناً آخراً، وفي كل آخرٍ أنا أو صدًى للأنا.

وثانيها أن العلاقة بين الحَدَّين أُدْرِكت إدراكاً ايديولوجيّاً صريحاً من موقع الخطابين معاً. انصرف خطاب النرجسية الأصالية إلى طمس وجهيْن من وجوه الأنا والآخر: ما في الأنا من علاماتِ عِلّةٍ وضَعْفٍ في الماضي والحاضر، وما في الآخر من علاماتٍ تفوُّقٍ ومن أسباب قوة، مشدِّداً فقط -وفقط- على ما يُسْنِدُ دعواه حول أناً لديه منظورٍ إليها كمبعث إعجابٍ وموطنِ فرادة! وما فَعَلَ خطاب الحداثة غيرَ الشيء نفسِه: انصرف إلى طمس كل وجهٍ من وجوه البشاعة في ثقافة الآخر وقيمه، وكل شكلٍ من أشكال العافية والحيوية في الأنا، مدفوعاً إلى تلميع صورة الآخر. وهكذا تحالفَ الخطابان في إهدار الرؤية الموضوعية إلى الموضوع لينصرفان إلى مضاربةٍ لفظية حول الموضوع وإلى إنتاج أحكامٍ معيارية ذات أغراض أخرى خارج نطاق المعرفة والتحليل.

وثالثها أن التوتُّر الإشكاليَّ الحادّ الذي يبدو على الوعي العربي في مقاربته لمسألة الأنا والآخر إذ يقوم على تناقضٍ تكوينيٍّ صارخٍ يؤسِّس الأنا والآخر على السواء، أي يكشف عن اتصاله الشديد بتناقضٍ ذاتيٍّ في الأنا والآخر يترجمه في صورة انقسامٍ معرفي بين خطابين وقراءتيْن، يمتنع عن الفهم (أي التوتُّر الإشكاليّ) بمعزلٍ عن الشروط التاريخية والفكرية التي أتى يعبّر عن نفسه في سياق معطياتها. والشروطُ تلك ليست شيئاً آخر غير الصدمة الحادة التي خلَّفَها في الوعي العربي اكتشاف الغرب، واكتشاف الفجوة التي تفصلنا عنه ثقافيّاً وحضاريّاً.

*****************************

الهوامش:

*) مفكر من تونس.

1- البيروني: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة.

2- راجع: حول فكرة الاستمرارية التاريخية عند الإصلاحيين الإسلاميين المحدثين, سهيل القش، في البدء كانت الممانعة، بيروت، دار الحداثة.

3- محمد عبده: أكبر الممثلين لهذه القراءة, وإن سبقه إليها خير الدين التونسي.

4- راجع مثلا: في هذا سلامة موسى، التثقيف الذاتي أو كيف نرى أنفسنا، القاهرة، مطبعة التقدم، (د. ت).

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=406

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك