قبَّة السلام في هيروشيما
أشرف فقيه
“كان الانفجار مُريعاً لدرجة أن كل فرد في هيروشيما قد أحسَّ وكأنه قد تلقَّى قنبلته في صدره”. هذه واحدة من الشهادات الحيّة المعروضة في “متحف السلام التذكاري”، قريباً من القبّة المتداعية في قلب هيروشيما اليابانية، والقائمة كمعلم مهيب يذكِّرنا بالحدث التاريخي المُريع، كما عاينتها “القافلة” وصوّرتها الصيف الماضي.
ففي صباح السادس من أغسطس 1945، تم استخدام السلاح الذري لأول مرة من قِبل الولايات المتحدة فوق هيروشيما أولاً.. ثم فوق ناغازاكي بعدها بأيام. القنبلة التي أعطيت الاسم الحركي (الولد الصغير – Little Boy) في كاريكاتورية سوداء تختزل مأساة المرحلة، كما أنها دشَّنت مرحلة جديدة في التاريخ الإنساني. والمأساة والأمل اللذان يمثلهما العهدان يعبِّر عنهما بعبقرية مشهد قضبان الصلب العارية في جثمان تلك القبّة. إنه مشهد سيرجع بك عبر الزمن لا محالة.
قبّة مركز هيروشيما للمعارض، التي صارت رمزاً لـ “السلام” على الرغم من ملامحها الناطقة بالشؤم، وإدراج اليونيسكو لها على قائمة معالم التراث الإنساني في عام 1996م، كانت تقع على مسافة 600 متر تحت مركز الانفجار النووي الذي حصل في السماء. والحرارة الناجمة عن الانشطار الذري لكيلوغرام اليورانيوم الوحيد الذي تفاعل -من أصل 64 كيلوغراماً حملتها القنبلة- بلغت 4 آلاف درجة مئوية، فيما تجاوزت سرعة الرياح الناجمة عنه متراً في الثانية. فانصهر البشر والموجودات في دائرة نصف قطرها كيلومتران، ومات 70 ألفاً لحظة الانفجار، فيما يُقدَّر عدد الذين ماتوا بين أغسطس وديسمبر من التبعات الإشعاعية للقنبلة بين 60 و 80 ألفاً من سكان هيروشيما المنكوبة.
يقولون إن (الولد الصغير) ما هو إلا لعبة مقارنة بأسلحة اليوم النووية. وهذه المعلومة كفيلة بمضاعفة خوفنا من هاجس الحرب النووية الذي يبدو أنه خفت كثيراً عما كان عليه قبل خمسين سنة. لكن “قبّة غِنباكو – القنبلة”، التي تعرف الآن بـ “قبة السلام”، كفيلة باستحضار دروس الماضي ومحاذير المستقبل.
لحظة جمدّها الزمن
لوهلة، يبدو المنظر لمن يقف عليه كإطار صورة فوتوغرافية جامداً. الصمت المطبق والمحيط بالمكان يكاد يستولي حتى على مياه نهر “أوتا” الذي يعبر تحت القبة في شاعرية مخاتلة. وفي صيف هيروشيما الحار دوماً، يكاد الزائر يستحضر نفحات من لحظة الحقيقة التي حلّت هنا قبل ستين عاماً. ويكاد – مع شيء من الوسوسة- أن يسمع بأذن خياله طقطقات عدّاد “جايغر” تخيلي يقيس الإشعاع الذري العالق في الأجواء بعد عقود من الكارثة.
حتى مع أفواج السياح والزوار الذين يتوافدون بلا انقطاع على المساحة التي كانت مركز المدينة، ويتوزع عليها الآن أكثر من مَعْلَمٍ ومبنى تاريخي وتذكاري تتوّجها بقايا القبة، يخيّم جو من الكآبة على المكان الذي تجاوز المأساة منذ عقود، وفق التعريف العمراني. لكن المطّلع على التاريخ والمنقب في الذاكرة الجمعية، لا يسعه إلا أن يستحضر أصوات وروائح الفجيعة، والأرواح التي لم تُمنح الفرصة لتستوعب ما أصابها، وكيف احترقت مع الأرض والهواء من حولها.
قبل ذلك اليوم المشهود، كان مبنى المعارض بقبته الشامخة مفخرة هيروشيما. المبنى الذي صممه المعماري التشيكي جان ليتزل افتُتح للجمهور عام 1921 مركزاً للمعارض الفنية والتعليمية. لكن الحظ جعله مسقطاً -افتراضياً- للقنبلة النووية الأولى، ما يفسر بقاء هيكل المبنى، والقبة المعدنية التي تعلوه إلى اليوم، لكونهما لم يعترضا مسار الريح الكاسحة التي سوت الأرض حول مركز الانفجار وأحالتها قاعاً صفصفاً، كما حفظت لنا الصور والأفلام.
حين لملمت هيروشيما أشلاءها ببطء، كان التوجه قائماً نحو هدم المبني أسوة بكل الأنقاض ضمن عملية إعادة البناء، لكن جدلاً شعبياً قام حول الموضوع. وفي النهاية فاز الرأي القائل بالإبقاء على المبنى كتذكار مرير ليس لذل الهزيمة، وإنما لإرادة المقاومة، وللقدرة على الانبعاث من تحت الركام إلى الحياة بعناد لا ينكسر. وتم حشد حملة وطنية لجمع التبرعات لأجل ترميم ما بقي من المبنى وإبقائه قائماً. وتدريجاً قامت بين عامي 1946 و1964م معالم وبنايات عدة في مركز هيروشيما، جميعها مكرسة للذكرى البائسة والمعاناة التي تبعتها. لكن ظلت قبّة مركز المعارض أبرز تلك المعالم وعين الاهتمام الشعبي والرسمي بتخليد قصة القنبلة النووية الأولى.
حديقة ومتاحف ونصُب تذكارية
المتجه إلى موقع القبة سيسلك غالباً الطريق الذي يمر بـ “حديقة السلام التذكارية” التي تبلغ مساحتها 120 ألف متر مربع، و تنتشر في أرجائها عدة معالم منها مبنى المتحف وقاعة المؤتمرات الخاصة به، لكننا سنقف حتماً عند قوس خرساني مميز ينحني فوق شعلة دائمة التوهج. هذا النصب الذي صممه المعماري الياباني كنزو تانغي عام 1953، أريد له أن يحيي ذكرى الضحايا الذين قتلتهم القنبلة. والموقع بأسره كان مركزاً تجارياً مكتظاً قبل أن تمحو القنبلة معالمه فيكرّس كساحة تذكارية يفد إليها قرابة المليون زائر سنوياً.
إذا كنت ستخترق الحديقة قادماً من الغرب، فستمر حتماً “بمتحف هيروشيما التذكاري للسلام” الذي أقيم لإحياء الذكرى ولتوعية العامة بمخاطر -وميزات- الطاقة النووية. وفي جزء من المعرض، ستجد مصغراً للمدينة كما كانت وقت سقطت عليها القنبلة، ومساحة الدمار الذي حاق بها. وستعاين عشرات الأدلة والمحفوظات والوثائقيات التي ستقربك أكثر من الهول الذي عاشه الناس. وثمة نماذج تحاكي الحقيقة للبيوت المدمرة ودمى شمعية تجسِّد حال الضحايا الأول الذين أحرقت القنبلة جلودهم وسيّلت أعضاءهم، فهاموا على وجوههم في الشوارع كالموتى الأحياء، فيما استمرت جهود الإنقاذ اليائسة لأسابيع في مواجهة طامة لم يسبق للبشرية أن تعاملت معها من قبل. لا شك بأن الأسى هو ثيمة أساسية للمعرض، لكن الزائر سيلاحظ كذلك أن المعروض، في نمطه وفي طرازه، بما في ذلك طراز المبنى نفسه، منتمٍ بشدة للستينيات والخمسينيات، وهي الفترة التي كان الرعب النووي فيها في أوجه. هذه الملاحظة مقلقة لأنها تعطي الانطباع بأن العالم إما بات متصالحاً أكثر مع القنبلة النووية، أو أنه تناساها بالتقادم. وكلا الافتراضين غير مقبول ولا مريح. ويتعارض بشدة مع الاجتماع السنوي الذي يحضره زعماء العالم عند قبّة السلام في ذكرى القنبلة ليحيّوا أرواح الضحايا ويبدوا الندم على ما فات! ولعل في هذا الانطباع ما يبرر الإسراف في نسبة المعالم هنا للسلام العالمي، والاهتمام بتشييد مزيد منها كل عدة سنوات لإبقـاء الوعي حياً.
خارج المتحف، وبالعودة إلى الحديقة، يقوم على مرمى حجر من شعلة هيروشيما نصب آخر لا تخطئه عين الزائر بالنظر للمعلّقات الملونة التي تحيطه. ذلك هو نصب “أطفال السلام” الذي أنشئ على حسّ معاناة الطفلة اليابانية ساداكو ساساكي التي لم تقتلها القنبلة مباشرة، وإنما توفيت بعد عشر سنوات بسبب السرطـــان الذي حل كالوباء بالآلاف ممن تعرضوا للإشعــاع المميــت. كانــت ساداكو طفلة واحدة، لكنها جُعلت رمزاً لمعاناة صغار هيروشــيما الذين لم تفرق القنبلة بينهم وبين أشكال الحياة الأخرى. وتقــول القصة الملهمة إنَّ ساداكو أمضت أيامها الأخيرة تصنع مطويـــات (الأوريغامي) اليابانية التقليدية، على هيئة طائر الكركي، عملاً بالأثر الياباني القائل بأن طيّ ألف مجسم أوريغامي كفيل بأن يحقـــق لصاحبه أمنية وحيدة. لم تتحقق أمنية ساداكو في الشفاء. لكـن إلى اليوم، يرسل الناس مطوياتهم الزاهية إلى موقع النصب. وتباع وريقات الأوريغامي المجسَّمة على هيئة الطير في محال التذكارات وتشاهد في الشوارع رمزاً للأمل في وجه المأساة. بل إن هناك جرساً معدنياً على شكل أوريغامي الكركي معلقاً في قمة النصب. الذي لايزال، بتماثيل الصبية الصغار التي تكلله والتذكارات الورقية الزاهية المعلَّقة به، معبراً بمرارة عن نزعة الحياة وغريزة البقاء التي نودعها في فلذات أكبادنا، الذين هم غير مسؤولين مباشرين عن جنون الكبار، لكنهم شركاء في الثمن، ومؤتمنون على مستقبل يؤمّل ألَّا تتكرَّر فيه أخطاء الماضي.
لم يكونوا كلهم يابانيين!
السائر في الحديقة متجهاً شرقاً إلى قبة السلام سيصادف مزيداً ومزيداً من المعالم المرتبطة بمأساة هيروشيما، بعضها قديم كـ “جرس السلام” المستوحى من الثقافة البوذية والمصبوب على الطراز الياباني. هذا الجرس الأقرب لنصب الأطفال هو أحد ثلاثة أجراس في المنطقة المحيطة بالقبّة. الأقدم منها قائم منذ 1964، ويمكن لأي كان أن يسحب حبله ليقرعه في دوي يزيد من وقع الذكرى ويرسخ الدرس في الحواس. وبعض المعالم حديثة العهد مثل البوابات العشر التي نصبت عام 2005 بارتفاع تسعة أمتار لكل منها، وكتبت على جدرانها كلمة “السلام” بتسع وأربعين لغة.
غير أنك لكي تصل إلى مبنى قبة غِنباكو، وخلال عبورك للجسر الصغير فوق النهر، ستجد نصباً خرسانياً آخر على طراز الستينيات هو الآخر، لكنه متعلِّق بوجه آخر للمأساة. فكارثة أغسطس 1945 لم يكن كل ضحاياها يابانيين. بل كانت كذلك مأوى لجنود صينيين وكوريين بل وأمريكيين من عمال السخرة وأسرى الحرب الذين أوقعهم الحظ العاثر في معتقلات هيروشيما تحديداً. أولئك أيضاً قتلتهم القنبلة. ومعهم نحو 7000 تلميذ متعددي الجنسيات كانوا مقيمين في هيروشيما إما برضاهم أو غصباً عنهم، في إطار إمبراطورية اليابان التي شملت وقتها دولاً كثيرة ضمن جنوب المحيط الهادئ.
هذا النصب الآخر مكوَّن من 5 طوابق مميزة تعلوها ثماني حمائم. وهو كذلك مكرَّس لرمز “السلام” الذي نلاحظ الآن تداوله المبالغ فيه لكن بلا مفرّ، لا سيما وكل نصب يستحضر فاجعة من نوع مختلف. التلاميذ الذين قتلهم القصف في هيروشيما وسواها، الأطفال الذين قتلهم الإشعاع المسرطن، مئات الألوف من الجنود والأطباء والفلاحين والجدّات الذين لم يُعثر لجثثهم على أثر بفعل التفجير الرهيب الذي أحالهم إلى عدم. كل أولئك تواجهك قصصهم مراراً وتكراراً عند أكثر من محطة عبر حديقة هيروشيما للسلام، إلى أن تقف قبال قبّة مركز المعارض القديم، أو قبة القنبلة -غنباكو بحسب الاسم المحلّي الأصدق، فتتطلع إلى السماء وتحاول -عبثاً- أن تتخيَّل النار التي اندلعت بين السحب ونزلت لتلتهم كل شيء على الأرض. كل شيء من ذلك اليوم اختفى أو أزيل عنوة ليعاد بناؤه، إلا هذه القبة الواقفة كالجثمان المصلوب. عظة وعبرة من قصة لا يمكن فصل الطيبين فيها عن الأشرار. ففريق يرى فيها كفارة عن ماضٍ عسكري عنيف لم تندمل كل جراحاته. وفريق يرى فيها تذكاراً لنصر دامٍ يجادل كثيرون بأنه كان سيأتي لا محالة لو بُذل مزيد من الصبر، مقابل ضحايا أقل، وإرث أخف فداحة.