وجهة نظر الإسلام في الفهم الاجتماعي والسياسي المشترك

وجهة نظر الإسلام في الفهم الاجتماعي والسياسي المشترك

محمد سعيد رمضان البوطي*

لا بدّ أن ألفت النظر إلى أنني لن أدلي، في كل ما سأقوله، بشيء من اجتهاداتي الشخصية، على نحو ما يفعل اليوم كثير من الباحثين الذين يسمّون بالمفكرين الإسلاميين.

بل سيكون مقالي -بتوفيق الله عز وجل- مرآة لما قد نصّ عليه كتاب الله وسنة رسوله، واجتمعت عليه كلمة أئمة المذاهب الفقهية أو التقت عليه كلمة جماهيرهم. ولن يكون دوري من وراء ذلك إلا تجلية ما يكون غامضاً، أو إزالة ما قد نراه من الغبش الفكري الذي يتراكم اليوم على بعض الحقائق الإسلامية المعروفة، تحت تأثير عصبيات مذهبية أو أحقاد شخصية.

السلم أو الحرب: أيهما أساس العلاقات الإنسانية في الإسلام؟

لعل الإجابة عن هذا السؤال، تمثل المناخ الكلي الذي تتنامى فيه الحقائق والأحكام التي سأوضحها، والتي من شأنها أن تمدّ جسور الفهم المشترك بين المسلمين وغيرهم.

من المتفق عليه عند جماهير علماء المسلمين، استناداً إلى ما تدلّ عليه النصوص الصريحة في كتاب الله وسنة رسوله، أن السّلم هو الأساس الذي يقيمه الإسلام ثم يرعاه لعلاقة ما بين الأسرة الإنسانية جمعاء. ومن أوضح وأشمل ما يدل على ذلك الأدلة الآتية:

أولاً: قوله تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً﴾(1).

ومكان الاستدلال في هذه الآية على ذلك قول الله تعالى: ﴿ولقد كرمنا بني آدم﴾ فقـد نص البيان الإلهي على أن الله -عز وجل- قد ألبس هذه الأسرة الإنسانية جمعاء خِلْقةَ التكريم، دون أي مراعاة لأي من الفوارق وأنواعها، وحسب تعبير الإمام الجصاص: (أطلق ذلك على الجنس وفيهم الكافر)(2) ومعنى ذلك أن كل ما يناقض علاقة السلم بين أفراد هذه الأسرة أو السلالة، فإنما هو من العوارض التي تأتي وتغيب مع أسبابها.

ثانياً: وهو من أوضح الأدلة على ذلك - قول الله تعالى عن أناس بغوا وبادؤوا المسلمين بالعدوان: ﴿وإن جنحوا للسلم فاجنح لها﴾(3).

ومكان الاستدلال في الآية على ذلك أن مناط القتال الذي شرعه الله في مواجهة تلك الفئة أنهم اخترقوا ما أقامه الله وارتضاه من علاقة السلم بينهم وبين المسلمين، واستبدلوا بها المكيدة والعدوان، فكان لا بدّ للمسلمين من اللجوء إلى شرعة الدفاع وصدّ العدوان، والدليل على ذلك ما تقرره الآية من أن هؤلاء البغاة إن رجعوا عن بغيهم وعادوا إلى مظلة السلم الذي شاء الله أن تمتدّ لتشمل الأسرة الإنسانية جمعاء، فإن على المسلمين أن يكفوا أيديهم عنهم، وأن يتلاقوا معهم بصدق تحت مظلّة هذا السلم العالمي الذي شرعه الله ودعا إليه.

ثالثاً: آيات كثيرة تقيد الجهاد القتالي الذي شرعه الله بأن يكون صداً لعدوان لا سعياً إلى عدوان، من مثل قول الله تعالى: ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾(4) ومن مثل قوله تعالى: ﴿وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون﴾(5).

ومن المعلوم أن المشركين الذين يتحدث عنهم البيان الإلهي في هذه الآية، هم الحربيون المعتدون كما يدّل عليه سياق الآيات. ومع ذلك فإن الله يأمر المسلمين أن يكرموا وفادة أي من هؤلاء الحربيين إن دخل أرضهم مسالماً لهدف إنساني مّا، وأن يعرِّفوه على الإسلام ويسمعوه شيئاً من كلام الله عنه، ثم إن عليهم أن يتكفلوا بإعادته مكرماً إلى مأمنه، مسلماً أو مشركاً.

وما أظن أن الباحث يمكن أن يعثر على أوضح من هذا النص في دلالته التطبيقية على أن عـلاقة ما بين المسلمين وغيرهم، من أصحاب الديانات الأخرى أياً كانت، هي السلم والوئام، فضلاً عن علاقة ما بين المسلمين ومن سماهم القرآن أهل الكتاب.

الأسس الاجتماعية للفهم المشترك

تحت سلطان هذا المبدأ الكلي العام، وفي هذا المناخ، يتكون نسيج الأحكام الشرعية التي تمدّ جسور الفهم والتعايش المشترك بين المسلمين وغيرهم، ويترسّخ الجامع المشترك الذي يمثل الرابطة الدينية والإيمانية الجامعة.

ونظراً إلى أن هذه الورقة لا تتسع لاستقراء هذه الأحكام المبثوثة في أماكنها من مصادر الشريعة الإسلامية، فلنكتف بذكر عيّنات ونماذج من هذه الأحكام، بحيث نجد أنفسنا أمام دلالة واضحة على أنها ليست أحكاماً استثنائية شاذة عن قواعدها بل هي نتائج وثمرات للمبدأ الكلي الذي يرسم علاقة التعايش الذي ارتضاه وقرره الإسلام في أي مجتمع إسلامي يتألف من مسلمين وغير مسلمين، لا سيما إن كانوا كتابيين.

من هذه النماذج:

أولاً: يدعو الإسلام أعضاء المجتمع الإسلامي إلى إشادة البنيان الحضاري على الوجه الإنساني الأمثل، مؤلفاً من جوانبه الأساسية المتمثلة في النهضة العلمية والثقافية على اختلافها وتنوعها، وفي النهضة الاقتصادية السلمية المنضبطة بضوابط العدل الذي أرسته الشريعة الإسلامية، وفي النهضة الأخلاقية التي تهدف إلى إنشاء جيل يتحلّى بالإنسانية الصافية عن شوائب العصبيات والأهواء. دلت على ذلك نصوص صريحة في كتاب الله، من مثل قوله تعالى: ﴿هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها﴾(6) أي كلفكم بعمارتها. والمقصود بعمارتها العمران الحضاري الشامل، كما هو معروف ومقرر..، ومن مثل قول الله تعالى: ﴿والسماء رفعها ووضع الميزان، ألّا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان﴾(7) ومن المعلوم أن المقصود بالميزان الشرائع التي ترسي نظام العدالة بين الناس.

وعندما ننظر إلى السبل التي شرعها الله وعرّف بها للنهوض بهذه المهمة الحضارية، لا نجد أنه حصر شيئاً منها في جهود المسلمين دون غيرهم، بل جعل من هذه المهمة جامعاً مشتركاً ينهض بها كل من احتضنتهم تلك الأرض التي تسمى في المصطلح الإسلامي (دار الإسلام) فالنهوض بالأنشطة العلمية والثقافية والأخلاقية والاقتصادية كلها شركة متساوية بين المسلمين وغيرهم. والشيء الرائع هنا أن المبادئ الإسلامية ذاتها هي التي ترى وتحرس مستوى الندّية بين المسلمين وغيرهم في النهوض بهذه الالتزامات، وكتاب الأحكام السلطانية للماوردي يحفل ببيان ذلك بشكل مفصل وموسع. وأوسع منه في بيان ذلك كتاب التراتيب الإدارية في عصر النبوة لعبد الحي الكتاني.

وكل ما ترسمه الشريعة الإسلامية لذلك من قيود وضوابط، لا يعدد التنبيه إلى الكفاءات العلمية والضمانات الخلقية والسلوكية التي لا بدّ منها.

ثانياً: تلح الشريعة الإسلامية، فيما ترسمه من آداب العلاقات الاجتماعية، في المجتمع الإسلامـي على تحطيم ما قد يبرز في المجتمع من آثار الاختلاف الاعتقادي بين المسلمين وغيرهم، لا سيما أهل الكتاب، وعلى إزالة التضاريس النفسية أو الاجتماعية التي قد تترعرع في ظل العصبيات ومشاعر الضغائن والأحقاد، بل قد تغرسها اليوم المؤسسات التخريبية الأجنبية التي تسهر على تفتيت المجتمعات الإسلامية، وتقطيع شبكة التعاون والقربى بين أفرادها.. ولكن الإسلام يحرص على تحطيم هذه الفوارق وتذويب التضاريس التي قد تتنامى في غفلة عن الآداب الإسلامية المقررة.

فمن ذلك ما هو مقرر من استحباب تهنئة المسلم من معارفه وجيرانه وأقاربه لنعمة وفدت إليه من زواج أو شفاء أو ولادة أو انقشاع هم، والشريعة الإسلامية إذ تدعو إلى هذا التواصل تقرر أن وحدة الدين ليس لها أي دور أو أثر في هذا الأدب الإسلامي. بل المسلم مكلف - على سبيل الاستحباب - برعاية هذا التواصل تجاه إخوانه في الإنسانية أياً كانوا. بل ينص الفقهاء على استحباب تهنئة المسلم لجاره أو صديقه الكتابي لفرحة ما وفدت إلى داره(8).

ومن ذلك ما هو مقرر من استحباب تعزية المسلم لجاره أو صديقه الكتابي، بوفاة قريب له أو لمصيبة ألمَّت به، كما تسنّ عيادته عند المرض ومدّ يد العون له عند الشدة، وقد كان هذا من دأب رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وقصة عيادته للشاب اليهودي وقد أقعده مرض عضال معروفة ومشهورة(9).

وبالجملة، فإن ما يأمر به الإسلام المسلمين من التحلي بالأخلاق الفاضلة في علاقاتهم الاجتماعية، ليس محصوراً في دائرة المسلمين بعضهم مع بعض. بل هي شرعة عامة تأمر بها الشريعة الإسلامية في معاملة الأسرة الإنسانية جمعاء. وما كان لاختلاف الدين أثر ما في تخصيص هذه الشرعة وربطها بخصوصية الدين.

وقد روى أبو بكر أحمد بن علي البغدادي في كتابه تاريخ بغداد، في ترجمته المطّولة للإمـام أبي حنيفة، أنه كان له على مقربة من داره جار يهودي، وكان مولعاً بالسهر والشرب. فإذا لعبت الخمرة برأسه رفع عقيرته بالغناء، وربما ردد في غنائه قوله:

أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر

فافتقده الإمام أياماً، لا يسمع صوته ولا يعلم خبره، فسأل عنه، فقيل له إنه ارتكب جنحة استوجبت سجنة، فتوسط له الإمام لدى القاضي حتى عفا عنه وأخرجه. ولما علم الإمام أنه عاد إلى داره آمناً مطمئناً، زاره مهنئاً، وداعبه قائلاً: أتراك ضيعناك؟

ثالثاً: من أهم الأسس التي لا بدّ منها للفهم المشترك، ومن ثم للتعاون المشترك على كل المستويات، واجب التلاقي على حوار يبتغي منه التعاون والمذاكرة، لمعرفة الحق وتيسير السبيل إليه. وإذا كان تلاقي أفراد المجتمع الإنساني على التعاون لبلوغ ما به سعادتهم أفراداً وجماعات، من أهم واجباتهم المقدسة، فإن أهم وأقدس هذه الواجبات كلها، البحث عن الهوية والتساؤل العلمي الجادّ عن المصير، وعن الواجبات المنوطة بكل منا في هذه الحياة الدنيا التي نعيشها. ومن المعلوم أن العدّة التي ينبغي أن تستعين بها الأطراف كلها هي العقل المتحرر عن الآفات آفات الكبر والعصبية، والعلم الذي ينير الطريق في فجاج النظر والبحث.

ومن أهم ما يجب أن يسترعى انتباهنا، في أمر هذه النقطة الثالثة، أن الدافع إلى هذا التلاقي للبحث عن الحقيقة، ينبغي أن يكون في ميزان الرؤية الإسلامية منبثقاً من الأطراف والفئات كلها، على مستوى من النّدية المتكافئة، وذلك بأن يوطن كل من الفئات المعنّية نفسه للقيام بواجب النصح والإرشاد إلى ما قد وقر في نفسه أنه الحق، ولقبول ما غاب عن ذهنه من ذلك، وتنبه إليه الآخرون، لا فرق في ذلك بين مسلم وغيره.

وفي القرآن نماذج إرشادية كثيرة تدعو إلى الالتزام بهذا المبدأ، وتدعو إلى محاورة الآخرين من منطلق المذاكرة التي ينبغي أن يشترك في التلاقي عليها سائر الأطراف، على مستوى واحد، أي مع افتراض كل فريق أن يكون هو المتورط في الباطل وأن يكون الآخر على حق، بمقدار ما يفترض العكس، دون أن يمارس أحد الفريقين امتيازاً على الآخر.

انظروا مثلاً إلى قوله الله -جلَّ جلاله-، وهو يعلّم رسوله كيف يلفت نظر المشركين إلى الصانع المكوِّن الذي لا ندّ ولا شريك له، وكيف يحذره في الوقت ذاته من أن يحملهم على ذلك قسراً، أو أن يتعالى عليهم في الإرشاد والبيان، وكيف يأمره بأن يحاورهم محاورة النّد للنّد، موقناً بأنه في موقع الاستفادة منهم بمقدار ما هو في موقع الإفادة لهم..

انظروا إلى قوله -عز وجل-: ﴿قل من يرزقكم من السماء والأرض. قل الله، وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين﴾(10) بل انظروا كيف يتابع البيان الإلهي رسم هذا المنهاج في هذه الآيات ذاتها، فيأمر المصطفى –صلى الله عليه وسلم-، إن هم أغلظوا له في الإجابة، ونسبوه إلى الإجرام بسبب جحوده لآلهتهم، أن يتقبل منهم هذا الاتهام، وأن يفترض أنهم قد يكونون من دونه على حق، فيقول الله تعالى لرسوله، آمراً له بسلوك هذا المنهج: ﴿قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نُسأل عما تعملون﴾(11).

وانـظروا إلى قوله تعالى وهو يؤكد ضرورة الدعوة إلى التعاون لمعرفة الحق والتلاقي عليه، من منطلق تعاوني، وعلى أساس من الفهم المشترك، لا تابع فيه ولا متبوع: ﴿قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون﴾(12).

الأسس السياسية للفهم المشترك

من المعلوم أننا نتحدث عن أهمية هذه الأسس في مجتمع إسلامي نشأ فوق دار إسلام، ونما متكاملاً في ظل أحكام الشريعة الإسلامية.. ترى ما هو المنهج الذي يشرعه الإسلام لفهم سياسي مشترك بين المسلمين والكتابيين؟

لكي نجيب عن هذا السؤال ينبغي أن نعلم ما هو واضح لكل باحث، أن من شأن الدولة إذا ترسخت جذورها وسرت القوة في كيانها، أن تبعث في نفوس دول البغي تخوفاً منها مع قدر كبير من التربص بها، ولا بدّ أن يحملها ذلك على اتخاذ كل التدابير الممكنة للقضاء عليها واقتناص حقوقها وشلّ قدراتها.

ومن أهم التدابير التي دأب قادة هذه الدول قديماً وحديثاً على اتخاذها، للوصول إلى هذا الغرض، إثارة النوازع الطائفية واختلاق عداءات دينية بين المسلمين وغيرهم من إتباع الديانات الأخرى، إذ يحاولون أن يستعملوا هؤلاء الآخرين أداة مسخرة لضرب الدولة الإسلامية ولبعث عوامل الاضطراب والانهيار من داخلها.

والنتيجة المشاهدة عندما تنجح هذه الخطة، أن هؤلاء المواطنين غير المسلمين سيكونون ضحية، بل وقوداً في هذا الضرام. ومهما اصطنع الوجه الاستعماري مظاهر التحالف معهم والوعود البراقة جزاء انقيادهم لرغباته، فلن يكون لتلك الوعود إلاّ مآل واحد، هو أن يجعل العدو المشترك منهم تجار فتنة، وسماسرة طائفية، وأن يتركهم مادة ثمينة لإثارة القلاقل والاضطرابات داخل الدولة الإسلامية، لمصلحة ذلك العدو المشترك وحده. ولا شك أن دائرة المصائب تجور بذلك عليهم كما تدور على المسلمين شركائهم في الوطن، إذ لا ريب أن الذي يضرب فئة من الناس بأخرى يقضي بذلك على الفئتين معاً.

فإذا كان هذا هو شأن بعض الدول، فإن من مقتضيات المنطق والعدالة أن تحمي الدولة الإسلامية نفسها ومواطنيها من المسلمين وغيرهم من هذا السوء الذي يوشك أن يفد إليها، وذلك بأن تحصّن المنطقة كلها ضدّ نقطة الضعف هذه التي يتخيلها الطامعون منفذاً رائعاً لهم. ألا وهي الحساسية الدينية التي يمكن إن استغلت بمهارة من قبلهم، وأن تنقدح منها طائفية مميتة!..

ولا شك أن خير سبيل لتحصين الدولة الإسلامية ضد هذا الخطر، هو العمل على تطهير العلاقة السارية بين المسلمين والكتابيين، حيثما كانوا، من أي حساسية قد تثير فيما بينهم اضطراباً طائفياً يبعث على تربص أيٍّ من الفئتين بالأخرى.

ولكن فما هو التدبير الذي يضمن الوصول إلى هذا الهدف؟

إنه ليس أكثر ولا أقل من نظام عقد الذمة الذي شرعه الله. والحقيقة أن هذا النظام وإن كان جزءاً من شرائع الإسلام، إلا أنه، فيما يهدف إليه، شرعة حيادية، ترمي إلى تحصين المنطقة كلها، وبمن فيها، ضدّ يد البغي والعدوان، وإلى تحقيق المصالح الإنسانية لكل من المسلمين وغيرهم، على السواء.

وإن في الواقع التاريخي البعيد والقريب ما يدّل على هذه الحقيقة، وعلى أن هذا هو العلاج الوحيد لتحصين المنطقة كلها ضد الأطماع والعدوان.

ولئن كانت هذه الورقة لا تتسع لعرض سلسلة هذه الوقائع التاريخية، بدءاً من الدولة البيزنطية التي تنبت، بدافع سياسي، المسيحية ديناً رسمياً لها، ثم أقدمت على ما أقدمت عليه من المجازر ضدّ اليعاقبة وغيرهم.. فلنعرض لنماذج من الاضطهاد الذي منيت به المسيحية، تحت وطأة السبب الذي ذكرته، في عصر الإسلام وحكمه.

يقول المؤرخون إن الكثرة البالغة من سكان سورية الطبيعية، ظلت من المسيحيين، بدءاً من الفتح الإسلامي إلى الحروب الصليبية، حيث أصبح المسلمون على أعقابها هم الكثرة الغالبة.

وسبب ذلك أن الغزاة الصليبيين أرسلوا إلى المسيحيين العرب يسألونهم عن قرارهم: أهو الوقوف إلى جانب بني قومهم المسلمين، أم الوقوف إلى جانب بني دينهم الوافدين ؟ فكان جـواب أكثرهم اختيار الحلّ الأول. فقد كان هذا الموقف سبباً في أن دائرة السوء دارت عليهم، وغدا الغزو الصليبي وبالاً على المسيحيين العرب، من حيث كان المفروض أنه سيكون لصالحهم(13).

ولأضع بين يديكم نموذجاً آخرَ، ننتقيه من عصر السيطرة الغربية، وهي حقبة بدأت بشكل عملي مع بداية تفجر الثورة الصناعية في أوروبا.

وهنا أجد لزاماً أن نصغي معاً إلى ما يقوله فيكتور سحاب، وأن انقل لكم كلامه نصًا:

يقول: (إذا حاولنا أن نرتب تسلسل الأمور زمنياً، فإننا نلحظ أن التقاتل الغربي للسيطرة على المشرق العـربي جاء قبل بداية المذابح الطائفية في جبل لبنان بأكثر من نصف قرن. وإذن، فلا يمكن أن ننسب إلى الوجود الغربي أنه جاء لحماية المسيحيين العرب من الاضطهاد. بل لعل الوجود الغربي ودواعي ترسيخه في المنطقة وتمكينه منها، اقتضى إشعال فتيـل التقاتل الطائفي الذي رسمته الأهداف الغربية، والذي ارتبطت أحداثه بالامتيازات الأوربية، حتى أمكن لأوروبا أن تدق في جدار هذا البيت العربي (مسمار جحا) حين أوحت أنها إنما جاءت إلى المنطقة وفككت السلطنة العثمانية، وجزأت المنطقة الموروثة، كل ذلك من أجل حماية المسيحيين العرب!!.. وفي الواقع من يحمي من؟ من يدفع الثمن؟ ومن يقطف الثمار؟ المسيحيون العرب أم ساسة الغرب؟)(14).

إذن فالمسيحية الدينية - نموذجاً لغير الديانة الإسلامية - ظلت قديماً وحديثاً في خطر على وجودها من المسيحية السياسية!.. والسبب أن العوامل السياسية في كل مرة كانت تطغى على المشاعر الدينية وأخلاقياتها. ولذلك فقد ظل التاريخ يرينا من مظاهر عدوان المسيحية السياسية على المسيحية الدينية الشيء الكثير.

وهنا تبرز الظاهرة الفريدة الني يتميز بها الإسلام، من حيث إنه يشكل مع المسيحية الجامع المشترك للمشاعر الدينية وأخلاقياتها.

إن عقد الذمة (من حيث هو نظام إسلامي أرسته الشريعة الإسلامية لحماية التعايش، بل التآلف العادل بين المسلمين والمسيحيين) هو الضمانة لتغلب سلطان الدين وأخلاقياته، على سلطان السياسة ورعوناتها اللا أخلاقية.

ودونكم فارجعوا إلى البنود التي تصرح بهذه الضمانة، في الوثيقة التي أملاها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، وكانت أساساً للتعايش التعاوني المتآلف بين المسلمين واليهود الذي كانوا يساكنونهم في المدينة المنورة, من هذه البنود:

(إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، ومواليهم، وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته)(15).

ويلاحظ أن الاستثناء الذي تعبر عنه جملة (إلا من ظلم وأثم...) يشمل المسلمين وغيرهم على السواء.

وإن من الأحكام الفقهية المقررة، أن لا يجوز للمسلمين التعرض لمصالح أهل الكتاب ومعايشهم وإن كان فيها ما هو محرم من وجهة نظر الإسلام، فلا تجوز إراقة خمر أو إتلاف خنزير لأحدهم وعلى الذي أتلف شيئاً من ذلك أن يضمن قيمته، ويعرض المتسبب لذلك للزجر والعقاب(16).

ولنصغ إلى الدكتور أدمون رباط، يحدثنا عن عقد أهل الذمة ونظامه في الإسلام.

يقول: (من الممكن، وبدون مبالغة، القول بأن الفكرة التي أدت إلى إنتاج هذه السياسة الإنسانية (الليبراليّة) إذا جاز استعمال هذا الاصطلاح العصري، إنما كان ابتكاراً عبقرياً. وذلك لأنه للمرآة الأولى في التاريخ، انطلقت دولة، هي دينية في مبدئها، ودينية في سبب وجودها، ودينية في هدفها، ألا وهو نشر الإسلام من الطرق وبالأشكال المختلفة، إلى الإقرار في الوقت ذاته بأن من حق الشعوب الخاضعة لسلطانهم أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وتراث حياتها، وذلك في زمن كان يقضي المبدأ السائد فيه بإكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم)(17).

إذن فالبعد السياسي لعقد الذمة في الإسلام، ينطلق كما رأينا من فهم مشترك لينتهي إلى تعميق هذا الفهم المشترك وترسيخه. إن هدف إنساني مشترك يرعى الحق الإنساني الذي يملكه المجتمع الإسلامي بشرائحه المختلفة من مسلمين وغيرهم، دون أن تكون رعاية هذا الحق ذريعة إلى استغلال شريحة ما في هذا المجتمع لشرائح أخرى، ودون أن يشوبها أي تكتيك سياسي تفوز بثماره طائفة دون أخرى داخل هذا المجتمع.

ولـما كانت هذه الرعاية لا تتحقق إلا بتحصين غير المسلمين، وفي مقدمتهم المسيحيون، ضدّ المكائد والرعونات السياسية التي طالما استغلتهم فاستعملتهم فأدرت بهم، كما أوضحنا وذكرنا نماذج من ذلك، فقد كان عقد الذمة هذا، انطلاقاً من أسسه النّدية المتساوية المشتركة، هو المظلة الواقية التي لا بدّ منها لحماية كل من المسلمين والمسيحيين ضدّ أي عدوان أو استغلال متوقع. وقد تأكد لنا هذا من أحداث الواقع التاريخي الممتد إلى يومنا هذا.

بقي أن نتذكر ما هو معلوم وثابت من أن هذا العقد إنما هو عقد رضائي لا يتم إلا برغبة حقيقية من الأطراف كلها. أي فالدولة الإسلامية لا تملك أن تجبر رعايا أو دولة غير إسلامية مجاورة على ما لا يريدون، ولكن بشرط واحد، هو أن يأمن كل من المجتمعين أو الدولتين جاره، بحيث لا يضمر كيداً لصاحبه ولا يكون سنداً لأي دولة تضمر الكيد له.

كما أن علينا أن لا ننسى أن هذه الأسس التي أجملنا الحديث عنها للفهم المشترك، ليست صادرة من فكر علماني متبرّم بالدين متحرر من مبادئه وقيمه، بل هي صادرة من جوهر التعاليم الإسلامية ذاتها. أي أن معنى الدولة الإسلامية فيما يقرره الإسلام، مجتمع يتمتع بنظام سلطوي قائم على أرض مستقلة، يتألف من شرائح متساوية عدة تتمثل في المسلمين وغير المسلمين.

أخيراً: هل تدخل أصول هذا الفهم المشترك فيما يسمونه (التسامح)؟:

ينعت بعض الناس العلاقة التي يرسمها الإسلام بين المسلمين وغيرهم التسامح.

والحقيقة أن هذه الكلمة لا تنصف الإسلام ولا تكرم غير المسلمين لا سيما الكتابيين.

ذلك لأن كلمة (التسامح) تعني التجاوز عن الحق على سبيل التفضل والصفح.. ومن المعلوم أن الأحكام التي ترسم حقوق العباد وتقيم موازين العدل فيما بينهم، لا معنى لافتراض وجود التسامح فيها إلا اضطراب ميزان العدالة بين الأطراف. ذلك لأنه إذا وجد التسامح (التجاوز) في أحد الجانبين فلا بدّ أن يوجد من جراء ذلك الإجحاف والظلم من الجانب الآخر في حين أن الأحكام التي شرعها الإسلام لعلاقة ما بين المسلمين والكتابيين، إنما جاءت ترسيخاً لضمانات العدل في التعامل بينهم وبين المسلمين في ظل المجتمع الإسلامي.

أي فكل حكم من هذه الأحكام روعي فيه تحقيق العدالة لكل من المسلمين والكتابيين.
فإن أدخلت فيه تسامحاً لصالح المسلمين كان فيه إجحاف بالكتابيين، وإن راعيت فيه تسامحاً لصالح الكتابيين كان فيه إجحاف بالمسلمين.

إذن فمن الخطأ أن توصف هذه الأحكام بالتسامح، لأنها لو كانت كذلك، لكانت قائمة على الظلم في الوقت ذاته، لأن التسامح القسري في حقوق بعض الناس لن يكون إلا عن طريق إهدار حقوق الآخرين.

فهذا هو مصداق قولنا: إن وصف هذه الأحكام بالتسامح لا ينصف الإسلام.

وأمـا أنـه لا يكرّم الكتابيين، فلأن من حقهم أن يشمئزوا من المعاملة التي يعاملون بها - مهما كانت كريمة - إذا ما ألبست ثوب الإحسان وصبغت بصبغة التجاوز والمنة.

إن الإنسان أياً كان مفطور على أن يكون كريماً على نفسه، وقد زاده الله يقيناً بهذه الفطرة عندما قال عنه: ﴿ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً﴾(18).

ومن أهم مستلزمات الكرامة الإنسانية أن يربأ الإنسان بنفسه عن الوقوع تحت مشاعر من الإحسان والتفضل من الآخرين.

ولكم بحثت ونقبت في بطون كتب الفقه والتراث، عن كلمة (التسامح) هذه في نطاق الحديث عن أحكام الإسلام وشرائعه في هذا المجال فلم أجد من استعملها في ذلك قط... نعم يتكرر الحديث الذي يدعو إلى التسامح الطوعي في مجال الحديث عن الأخلاق الشخصية مع الآخرين... غير أن الكلمة لا معنى لها في مجال الحديث الذي يتضمن أحكاماً ترسم نظام العلاقات التي تتبناها الدولة الإسلامية بين المسلمين والكتابيين.

فإن قلنا: فبم نصف هذه الأحكام التي تتجلى فيها شدة اهتمام الشارع بإنسانية الإنسان وعظيم تكريمه له؟ أجبنا: إنها توصف بالعدالة ينبغي أن تشيع ما بين أفراد المجتمع الذي تحتضنه الدولة الإسلامية. فذلك هو الوصف المطابق لحقيقتها وواقعها. والعدالة حق ينـاله الجميع على درجة واحدة، دون أن تسري خلال ذلك منة أو تفضل من طرف على آخر.

وإن وجه العدالة في كل ما قد أوضحناه من أصول الفهم فالتعايش المشترك، يزداد جلاء إذا وضعنا أمام أبصارنا وبصائرنا نموذج الدولة الإسلامية التي قامت في الأندلس قلب العالم الغربي آنذاك.

********************

الهوامش:

*) مفكر وأكاديمي من سورية.

1- سورة الإسراء، آية 70..

2- انظر: أحكام القرآن للجصاص 3/ 253 المطبعة البهية بمصر.

3- سورة الأنفال، آية 61..

4- سورة البقرة، آية 190..

5- سورة التوبة، آية 6..

6- سورة هود، آية 61..

7- سورة الرحمن، آية 7-9..

8- انظر: نهاية المحتاج للرملي: 6/ 365، ومغني المحتاج للشربيني: 3/ 246..

9- انظر: النهاية لولي الدين البصير: 1/ 254، ومغني المحتاج للشربيني: 1/ 355..

10- سورة سبأ، آية 24..

11- سورة سبأ، آية 25..

12- سورة آل عمران، آية 64..

13- انظر: (من يحمي المسيحيين العرب) لفكتيور سحاب، ص13 و 14..

14- المرجع السابق، ص19 و 20..

15- انظر: بنود هذه الوثيقة كاملة في عيون الأثر لابن سيد الناس: 1/ 198، ومسند الإمام أحمد بشرح البنا، 21/10..

16- انظر: مغني المحتاج للشربيني: 2/ 285، والقوانين الفقهية لابن جزي:، ص119، والمغني لابن قدامة: 5/249..

17- من محاضرة للدكتور أدمون رباط. نشرتها مجلة الصباح اللبنانية في العدد 31 بتاريخ 30 آذار 1981..

18- سورة الإسراء، آية 70..

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=401

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك