الدين في مواجهة التطرف الديني: في مرامي المأساة الإنسانية لمسجد نيوزيلندا
يقف العالم اليوم بخشوع وخوف ورهبة أمام الجريمة النكراء التي ارتكبت ضد المصلّين المسلمين الآمنين في مساجد نيوزيلندا، وهي جريمة لم يسبق لها في تاريخ الإنسانية مثيلا. لقد ارتسمت هذه الجريمة ضمن أخطر رمزيات الحقد التاريخي ضد المسلمين والإسلام في العالم المعاصر. وكان المشهد مروعا مخيفا رهيبا تم تصويره وكـأنه فيلم سينمائي يفيض بالإثارة والتشويق الإعلامي. ونعتقد أنه لا يمكن لأي وصف أدبي أن يرقى إلى وصف هذه الجريمة التاريخية التي يندى لها جبين الإنسانية خجلا وعارا. إنها أكثر صور الحقد التاريخي تجلّيا وحضورا في العصر الحديث. ومهما يكن، فإن هذه الجريمة ليست سوى فصل عابر من فصول الحقد والكراهية الدينية والطائفية التي تشهدها الإنسانية المعاصرة. وكما أنها لم تكن الأولى، فإنها لن تكون الأخيرة. وهذه الصورة لن تنسينا أبدا الجرائم التي قام بها قتلة سفاحون يحسبون على المسلمين ضد المجتمع الإنساني. فحرب التعصب والكراهية سجال ولها أبطالها ومتطرفوها الذين يعبثون بكل ما هو نبيل وجميل في مسيرة التعايش المشترك بين الشعوب والأمم. ومهما يكن الأمر، فإن معالجة هذه الظاهرة المخيفة لا تكون بالانتقام أو بالحقد ورفع الرايات الحمراء، فعلينا أن نتفهم العوامل الثقافية والتاريخية التي تؤسس لمثل هذا التطرف الدموي، وأن نوظف الوعي والثقافة والتربية في مواجهة هذا الصعود المرعب والمخيف للعنف الدموي إزاء الأديان والمذاهب.
يعود التطرف الديني في جوهره إلى عوامل تاريخية وثقافية متنوعة في مختلف المجتمعات الإنسانية في الغرب وفي الشرق
إن تأثير هذا الحدث المرعب لا يكمن في ذاته فحسب، بل في تأثيراته الثقافية، حيث سيؤثر في زيادة جرعة التطرف والكراهية بين الطوائف والشعوب والأديان. وقد تكون هذه الجريمة كما كان غيرها حركة في دورة لا تتوقف من العنف الذي يقوم به متطرفون من كافة الأديان ضد الآخر. وهذا الحدث ككل، حدث آخر يجب أو يوقظ فينا اليوم التفكير في كيفية إيقاظ السلام والمحبة وبناء جسور التواصل الإنساني بين الشعوب والأمم والأديان عبر ثقافة التسامح والسلام التي يبدو لنا أنها ضرورية أكثر من أي وقت مضى في تاريخ الإنسانية.
فالتطرف داء خطير ألمّ بالمجتمعات الإنسانية ويكاد لا يفارقها، ويعود هذا التطرف في جوهره إلى عوامل تاريخية وثقافية متنوعة في مختلف المجتمعات الإنسانية في الغرب وفي الشرق. وما نعيشه اليوم من تطرف وتعصب في مجتمعاتنا الإسلامية يعود في جوهره إلى نشأة الحركات الإسلامية المتطرفة التي رفعت شعار التطرف السياسي والمذهبي في بداية تشكل الدولة الإسلامية، كما يعود إلى انتشار التيارات المذهبية المتصلبة والمتشددة في ربوع الثقافة الإسلامية السمحاء. ومما لا شك فيه، أن الانقسامات الطائفية كانت وما زالت صورة من صور التعبير السياسي الذي فرضته معطيات تاريخية اجتماعية واقتصادية وسياسية متنوعة في التاريخ العربي الإسلامي.
ويبدو واضحا أن المنطقة تواجه نعرات طائفية مذهبية كبيرة انطلقت في أرض العراق ولبنان وسورية وفي كثير من الدول الأخرى؛ وذلك في أتون الصراع السياسي على النفوذ والسلطة. وهذا الداء ما زال يأكل في جسد الأمة ويهدد كيانها، حيث نجد نوعا من الشحن الطائفي والخطاب الطائفي الأرعن بين الحين والآخر في حنايا مجتمعاتنا عبر الصحف والمقولات والخطابات والممارسات السياسية والإدارية.
ومما لا شك فيه أن التطرف الديني الطائفي يشكل تهديدا كبيرا للأوطان والأمم. ومن هنا كان لزاما العمل على مواجهة كل أشكال التطرف الطائفي والبحث عن الدواء لهذا الداء المستفحل في جسد أمتنا العربية. ومن أجل مواجهة هذا الداء الخطر، لا بد من بناء استراتيجيات وطنية سياسية اجتماعية ثقافية شاملة للوقاية من هذا الداء وعلاج المصابين به وحماية المجتمع من الخطر الدائم في مختلف المستويات التربوية والاجتماعية والثقافية والسياسية والإعلامية. وتتمثل هذه الاستراتيجية في عدة مناحي واتجاهات تربويا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا وإعلاميا.
فالدين الصحيح (أي دين) يتضمن في ذاته عناصر العلاج الحقيقية للتعصب الطائفي والمذهبي. وهناك اتفاق شامل بين مختلف العلماء والمفكرين في الوطن العربي، ويشاركهم في هذا أهل الضمائر الحية من المفكرين في جميع أنحاء العالم، على أن الإسلام دين محبة وتسامح وعطاء، وأن حقوق الإنسان وقيم التسامح هي غيض من فيض القيم التي يمور بها هذا الدين الحنيف. فالقيم الدينية الإسلامية ضرورية لتخصيب الوعي وتأصيل السلوك التسامحي والإنساني في المجتمعات العربية. ولكن ومن أجل توظيف النص الإسلامي بقيمه السمحاء في محاربة التطرف المذهبي يجب القيام بعدد من الإجراءات الحيوية أهمها:
1- إعداد رجال الدين فكريا وثقافيا ودينيا لمواجهة التطرف:
بعض القائمين على العملية التربوية في المؤسسات التربوية الدينية يعانون من نقص كبير في إعدادهم العلمي، وفي إمكانياتهم الثقافية والتربوية. فالمربّون الذين يعانون من تقصير في هذا الجانب غالبا ما يعانون من أسر الرؤى الضيقة وحصارها، وغالبا ما يقعون فريسة الجمود في التفكير، والانغلاق في دوائر التعصب والتشدد الذي يتعارض مع قيم التسامح والوسطية في الثقافة الإسلامية السمحاء.
ولا يستطيع أحد أن ينكر اليوم أن كثيرا من الدجالين ودعاة المعرفة الدينية استطاعوا أن يتوغلوا في صفوف العلماء، وأن يحتلوا مراب ومراكز مهمة في نسق الحياة اليومية للناس والمسلمين في بقاع مختلفة من العالم الإسلامي. وغني عن البيان أن حصاد هؤلاء الدعاة هو فيض من الخرافات والطلاسم وأعمال الشعوذة والتعصب ونشر الكراهية. وليس غريبا أن نقول بأن مثل هذه الطائفة المزيفة من الدعاة تشكل خطرا على الدين والقيم في الثقافة العربية الإسلامية. وهذا الخطر الكبير يوجب على الثقات والمعنيين بالأمر من أهل العلم والمعرفة أن يبدؤوا العمل الجاد والدؤوب لتطهير الحياة الدينية من طغمة الدعاة الجهلة الموتورين الذين يشكلون الخطر الأكبر على العقل والقيم والأجيال والسلام في العالم.
يقول أحد المفكرين العرب في هذا السياق: "ولكم تمنينا لو يقتصر إعطاء الدروس الدينية على العلماء العارفين بنفسيات الشباب ونفسيات الجماهير، وكم تمنينا لو يقتصر الزي الديني، ولقب العالم، على من حصل على درجة جامعية في علوم الدين تستند على خلفية ومنهجية علمية قوامها معايير المنطق والعقل والموضوعية".
لقد وضع علماء المسلمين في عصورهم الزاهرة منهجا علميا للتحصيل الديني، فجعلوه يبدأ بالعلوم الكونية، وفي صدارتها الطب والفلك والرياضيات. فإذا فرغ المتعلم منها شرع في الدراسات الدينية، وهو عالم بالكون الذي حوله، فإذا تخرج كان شيخا فقيها ملمًّا بتيارات الفكر العالمي واتجاهاته مواكبا لعصره. فإذا اجتهد أو أشار أو أفتى أو قضى أو بحث أو اجتهد استند إلى علم حصيف، ونظر شامل ومنطق قطباه الدين والإيمان وهدفه الصالح العام ولا شيء سواه.
وتأسيسا على هذه الوقائع، يتوجب على الدول الإسلامية اليوم العمل على تأهيل رجال الدين إلى مستوى العلماء، وألا يسمح بممارسة الطقوس الدينية لغير المؤهلين على هداية الناشئة والعناية بأمور دينهم. وهذا يعني أنه يجب على رجال الدين أن يحملوا شهادات علمية عالية في مجال الشريعة والعلوم الطبيعة والإنسانية، وأن يشهد لهم بقدراتهم وكفاءاتهم من قبل هيئات دينية عليا، وبالتالي لابد من إخضاع هؤلاء لرقابة هذه الهيئات أثناء قيامهم على ممارسة الشعائر الدينية كالوعظ والخطابة الدينية.
ومن أجل بناء جيل من العلماء والمربين، في مجال الحياة الدينية الإسلامية يترتب بناء معاهد وكليات دينية، تعتمد العقل والموضوعية كسائر المعاهد والكليات الأكاديمية (...) التي يلتحق بها حملة الشهادات الجامعية في الفروع المعرفية المختلفة، لتخرج علماء دين قانونيين ومشرعين واقتصاديين واجتماعيين وأطباء وبيولوجيين، علماء ينفعلون بالفكر المعاصر، ويتفاعلون معه على صعيد عربي وعلى صعيد إسلامي، وعلى صعيد عالمي. (...) وفي داخل هذه الكليات العلمية نضمن أن يتخرج شيوخ يكونون قدوة يقدمون الإسلام في صورته الحيوية يفعلون ما يقولون، ويقولون ما يفعلون، ويمتلكون استقلالهم الفكري، ورأيا حرّا، لا ينافقون ولا يراؤون. ومن هذه الكليات يمكن أن يتخرج علماء يتناولون مشاكل العصر الحديث، وتحدياته المحلية والعالمية، بعقل منفتح، وفكر حصيف، وعلم غزير، ومنطق رصين، يقوم على مبادئ إسلامية، وينجلي عن نظرة شاملة واعية، ورأي سديد، واجتهاد وتجديد، ونظرات وحلول ذات صدى عالمي.
يقول الشيخ محمد الغزالي مؤكدا على أهمية الكفاءة العالية لرجال الدين: "إن دين الله لا يقدر على حمله ولا حمايته الفاشلون في مجالات الحضارة الإنسانية الذكية، الثرثارون في عالم الغيب، الخرسى في عالم الشهادة. إن العزلة عن الكون وعلومه جريمة في حق الإسلام وأهله. إن من المستحيل إقامة مجتمع ناجح الرسالة إذا كان أصحابه جهالا بالدنيا، عجزة في الحياة"[1].
2- توظيف الفتاوى الدينية وتوجيهها ضد التطرف:
فالمتطرفون يمارسون فعالياتهم الإرهابية تحت تأثير عقائد وأفكار مسمومة وفاسدة سواء أكانت عقائد علمانية أو دينية. وبعض الجماعات الإرهابية التي تنسب (باطلا وبهتانا) إلى المجتمع الإسلامي تتبنى أفكارا متحجرة عن الإسلام، والإسلام السمح منها براء، وهم بالتالي يعتقدون بأن أفكارهم هي وحدها المشروعة والصحيحة، وبناء على ذلك يصدرون فتاوى جاهلة متطرفة تجعلهم يتصورون أنهم على حق، وأن غيرهم من سائر المسلمين على باطل، بل كفرة وملحدون يجب قتلهم والفتك بهم وتطهير الأرض من دنسهم.
لقد تعرض من يحمل مثل هذه الأفكار المتصلبة والمتطرفة والعنصرية التي يشرعون فيها لأنفسهم حرية قتل الناس من خصومهم، وسفك دمائهم باسم الدين والإسلام (الجماعات الإرهابية في مصر والجزائر) تعرضوا لعملية استلاب تربوية وثقافية، لفترات زمنية طويلة، وقد زينت لهم هذه العملية مشروعية القتل والفتك والتدمير وسفك الدماء. وتأسيسا على ذلك، يمكن القول بأن هذه الجماعات هي جماعات قد تم التغرير بها تربويا فدفعت إلى مواقع الجريمة والإرهاب. ولذا، فإن التربية السائدة تتحمل جزءا كبيرا من مسؤولية انحراف بعض المجموعات المتطرفة من أفراد المجتمع، وعليها أن تبحث عن سبل جديدة ومتطورة لحماية الشباب والمراهقين والمؤمنين أيضا من مغبة الانحراف، والوقوع في براثن المحترفين، من دعاة الدين ومزوريه، هؤلاء الذين يحرفون التعاليم الدينية لأغراض سياسية، بعيدة عن الدين الإسلامي، وتعاليمه السمحة.
المتطرفون يمارسون فعالياتهم الإرهابية تحت تأثير عقائد وأفكار مسمومة وفاسدة سواء أكانت عقائد علمانية أو دينية
3- توظيف الخطابة والإعلام الديني ضد التطرف
ومن هذا المنطلق يجب على الإعلام الديني، ولا سيما خطب الجمعة، أن تتصدى لمثل هذه القضايا، وأن تحول مسار توجهاته من قضايا ثانوية، إلى قضايا أكثر أهمية وخطورة على مسار الحياة في المجتمعات الإنسانية المعاصرة. وهذا يعني أنه يجب على الوعاظ، وعلماء الدين، ترك المواقع التقليدية المتمثلة في قضايا: اللباس، والحجاب، والمظهر واللحية، والنقاب، وعطر المرأة ولباسها، وخروج المرأة من البيت وعذاب القبر، والتركيز على قضايا أكثر أهمية وجوهرية مثل: حب الوطن، ورفض العنف، ومهاجمة الإرهاب، وقضايا معاصرة مثل: الضرائب والانتخابات العامة، وأهمية المشاركة السياسية، والتأكيد على حقوق الإنسان وأهمية المشكلات السكانية وتنظيم الأسرة... إلخ.
4- محاربة الأمية الدينية:
فالأمية الدينية من أخطر المشكلات التي تواجه الحياة الاجتماعية والدينية في المجتمعات الإسلامية. ونعني بالأمية الدينية الجهل بأمور الدين الذي يأخذ أشكالا متعددة، ودرجات متباينة تبدأ من الجهل المطلق بأمور الدين، والتي تصل إلى حد التشبع بمفاهيم وقيم دينية مشوهه، تتناقض مع الأصول والمقاصد الدينية الحقة، وتشكل هذه القيم المشوهة نموذجا من الفيروسات الثقافية المسمومة، التي يروج لها في الأصل، من أجل تدمير الحس الديني الصحيح، والقضاء على مظاهر الحياة الدينية الإسلامية السّمحاء.
ويكمن الخطر الأكبر والمرّ، أن البسطاء يعتقدون أن كل ما ينسب إلى الدين صحيح، هؤلاء البسطاء لا توجد لديها ثقافة دينية عميقة، أو قدرة نقدية للتمييز بين روح الدين وما ينسب إليه، ولذلك فإنهم يقعون بسهولة فريسة للبدع والخرافات، ويقومون تحت تأثير هذا الخدر الديني المشوه بتصرفات مشبوهة تتنافى مع روح الإسلام والإسلام منها براء. ومما يؤسف له، أن بعض المحطات التلفزيونية العربية، تروج لمثل هذه البدع، حيث تعرض برامج وتتم استضافة بعض دعاة العلم في الدين الإسلامي، الذين يقدمون صورة مشوهة عن الدين الإسلامي الحنيف. وتبين واقع الحركة الإعلامية أن محطة الجزيرة استضافت بعضا من هؤلاء الدعاة الذين قدموا الدين الإسلامي، وأظهروه على أنه دين يدعو إلى الإرهاب.
وهنا يترتب على المعنيين وعلماء الدين، ألا يسمحوا إلا للضالعين في العلم والمتبحرين في الشريعة، أن يتحدثوا باسم الإسلام، لكي لا تروج قيما ومفاهيم ورؤى الإسلام منها براء، وهي مفاهيم وقيم وتصورات معادية للفكر الإسلامي ولقيم التسامح والحب التي عرف بها. وهذا كله يعني أنه لا بد للمجتمعات الإسلامية المعاصرة، من أن تعمل على تثقيف الأجيال ثقافة دينية علمية نقدية، تضع هذه الأجيال في منطق الرؤية الصحيحة الصادقة للحياة الإسلامية ولروح الشريعة الإسلامية، بما تنطوي عليه هذه الشريعة من قيم الحب والخير والعطاء.
5- التربية الدينية ضد التطرف:
ومن أجل تحقيق الغايات التسامحية الكبرى في الحياة الثقافية الإسلامية، يجب العناية بالقائمين على تدريس مقررات التربية الدينية، وأن يتم اختيارهم على أساس الكفاءة والجدارة، وأن يكونوا دائما من المشهود لهم بالقدرة العلمية والخبرة والصدق والأصالة. ويضاف إلى ذلك كله، أن مقررات التربية الدينية يجب أن توجه لخدمة القضايا الاجتماعية المعاصرة، وأن تتناول هذه القضايا بروح الدين الإسلامي السّمحاء وليس من خلال النزعة إلى التعصب والانغلاق ورفض قيم الانفتاح والحوار. وهذا يعني أنه يجب على التربية الدينية، أن تركز اليوم على قضايا السلام، وحقوق الإنسان، وقيم التسامح، وتنظيم الأسرة، وحماية البيئة، وأن تخرج من هذه التربية من إسارها التقليدي المتمثل كما بينا سابقا في قضايا وضعيات المرأة ولباسها والزينة وعذاب القبر وغير ذلك من الموضوعات التي استهلكت في مستويات الحياة الدينية على مر العصور والسنين.
6- فصل الديني عن السياسي:
لقد بقي الخطاب الديني صامتا حول بعض الممارسات الثقافية والتربوية التي تنهض في داخل الممارسات الدينية والتي تخل (عن غير قصد ربما) بحقوق الإنسان، وتدعو بصورة سافرة إلى قيم التعصب والعنف التي تتنافى مع أبسط القيم الإنسانية في الإسلام. وهذا يعني غياب القدرة النقدية الذاتية، التي يمكنها أن تشكل صمام أمن، يمنع كل الممارسات الدخيلة لمثقفين متدينين، ذهبوا ضحية اختراق ثقافي، وتزييف وعي، أملى عليهم إيمانا ساذجا بقيم تعصب، أقل ما فيها أنها بغيضة ومكروهة في العرف الإسلامي ومتنافية مع القيم الإسلامية.
لقد حرص الاستبداد السياسي القديم والمعاصر، على تشكيل طائفة من الفقهاء والعلماء، ليودعهم في خدمته، فيبررون تصرفاته، ويجدون لها المخارج الشرعية، ويضفون عليها الصفة الشرعية. فالخطاب الإسلامي المعاصر، في مجال حقوق الإنسان، لا يسعى إلى بناء منهجية تربوية دينية، تسعى لتكريس وعي رصين وشامل بقيم التسامح وحقوق الإنسان، وليس هناك جهود تسعى إلى وضع أولويات جديدة تروي تعطش المسلمين إلى القيم الإيجابية في تراثهم الإسلامي، وهي قيم الحب والسلام والحرية والأمن وحقوق الإنسان. ونعود للتأكيد من جديد بأن الخطاب المعاصر لم يمتلك الجرأة النقدية التي تمكنه من إجراء رؤية نقدية ذاتية تجعل الخطاب الإسلامي المعاصر في مستوى القدرة على تكريس القيم التاريخية للشريعة الإسلامية التي يمكن أن تدفع هذه الأمة إلى النهوض وإلى الخروج من دوائر العطالة والجمود، إلى مدارات العطاء الحضاري.
ومن أجل المقاصد التاريخية السمحاء التي يعلنها الإسلام، يترتب على المجتمع الإسلامي أن يوظف العملية التربوية والإعلامية من أجل بناء وعي ديني صحيح ينطلق من التعاليم الإسلامية الحقة التي تحول دون التعصب وممارسة الإرهاب والتطرف الديني.
7- تحقيق التوازن بين الخطاب الديني ومعطيات العصر وفق مقتضيات الاعتدال:
وفي النهاية، يمكن القول إن لغة العصر قد تطورت إلى حد كبير، وإن لهجة الخطاب المعرفي بدأت تعرف أنغاما جديدة وأساليب متقدمة، ومناهج عقلية جديدة، وذلك في داخل مجتمعاتنا الإسلامية وفي خارجها. وأنه يجب علينا أن نطور أنفسنا وإمكانياتنا ولهجة خطابنا لتنسجم مع معطيات العصر الجديد، وذلك ينسجم إلى حد كبير مع الحكمة الإسلامية التي تقول: علموا أولادكم على غير ما تعلمتم، فإنهم ولدوا لعصر غير عصركم ولزمن غير زمانكم، وهذا يعني أن لهجة الخطاب التي تستخدم يجب أن تراعى هذه التطور المذهل في عقول الشباب وفي روح الحياة الإنسانية المعاصرة. وهذا يتطلب، أن نستخدم لغة دينية معاصرة، تستطيع أن تترجم الروح الإسلامية السمحاء، وفقا لمعطيات تطورات جديدة، علينا أن نوظف لغة الخطاب المعاصر في خلق الإيمان العميق عند الأجيال المتلاحقة، بالقيمة التاريخية والروحية لتجربة الإسلام ونظريته في مجال قيم التسامح والاعتدال والوسطية.
يترتب على المجتمع من أجل محاربة التعصب أن يعتمد سياسات ديمقراطية حقيقية قائمة على رفض التمييز الطائفي والعرقي والمذهبي
8- التربية الدينية على التسامح والمواطنة
تتضافر التربية مع الدين في كسر جمود التطرف الطائفي والديني. ونعني بالتربية نسق الفعاليات التربوية في الأسرة والمدرسة التي يمكنها أن تشكل منطلق أية فعالية مضادة للتطرف. وهنا يجب على التربية أن تحارب التطرف كمرض وداء يجب أن يستأصل قبل أن يهدد النظام الاجتماعي، وقبل أن يدمر النسيج الوطني. ومن الإجراءات التي يمكن اعتمادها:
- إعداد المناهج التربوية على مبدأ التسامح ورفض التعصب والتطرف بكل أشكاله.
- إعداد المعلمين على نحو يستطيعون فيه تكريس ثقافة التسامح ضد التعصب والتطرف.
- توجيه التربية الأسرية توجيها تسامحيا رفضا للتعصب والكراهية والتطرف.
- إعداد دورات تدريبية للمعلمين حول الكيفيات التربوية الممكنة في مواجهة التطرف الطائفي.
- إدماج مقررات جديدة مثل التربية على التسامح والتربية على المواطنة والتربية المدنية في مختلف المراحل التعليمية وهدف هذه المقررات تصفية الفكر الطائفي المتطرف بين صفوف الأطفال والناشئة.
- تضمين المقررات المدرسية ما أمكن من القيم التسامحية في العقيدة الإسلامية: أي إعطاء الأولوية للنصوص الإسلامية ذات المضمون التسامحي والتعددي والوسطي.
9- توظيف الإعلام الديني في مواجهة التعصب:
مما لا شك فيه، أن الإعلام يلعب دورا خطيرا في إحياء نزعة التطرف الطائفي، حيث نشأت محطات تلفزيونية ومواقع إلكترونية تقوم بالبث الطائفي المتطرف، وهذا يشكل خطرا كبيرا على عقول الأطفال والناشئة. وهذه الوضعية تتطلب اتخاذ إجراءات سريعة أهمها:
1- إصدار تشريعات سياسية تمنع تواجد أي من المواقع الإلكترونية والصحف والمحطات التي تحمل طابعا ذهبيا طائفيا.
2- إصدار تشريعات تحاسب وسائل الإعلام على أي مضامين طائفية تطرفية
3- تأسيس وسائل إعلام (تلفزيون - صحف - مواقع شبكية) مهمتها تقديم برامج ومضامين تسامحية تعددية وتوظف في اتجاه تجفيف المنابع الفكرية للتطرف بكل أنواعها.
4- تكثيف الإعلام التربوي والسياسي في اتجاه القضاء على التطرف والتأسيس لفكر إنساني إسلامي بمضامين تسامحية وأخلاقية تؤكد على أهمية التكامل والوحدة لا التفرقة والتطرف.
10- الدور السياسي في مواجهة التطرف.
ينتشر التعصب في المجتمعات التي تغيب فيها العدالة السياسية والقيم الديمقراطية. ومن أجل محاربة التعصب يترتب على المجتمع أن يعتمد سياسات ديمقراطية حقيقية قائمة على رفض التمييز الطائفي والعرقي والمذهبي.
ومن هنا يجب على الدولة أن تقدم تشريعات يمنع المحاباة المذهبية والطائفية، وتقوم على سياسية المساواة بين الجميع إزاء القانون والمناصب والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ويمكن اتباع الخطوات التالية:
- تعميق المسار الديمقراطي في الدولة والمجتمع.
- اتباع سياسة التعيين في الوظائف والمراكز على الخبرة والمؤهل والكفاءة والابتعاد عن المحاباة المذهبية والطائفية.
- رفض جميع التحيزات الطائفية في العمل السياسي والإداري بقرارات سياسية.
- محاسبة جميع الإداريين والسياسيين الذي يتصرفون بوحي من الانتماء المذهبي والطائفي.
- رفض جميع الفعاليات والمظاهر السياسية التي تأخذ طابعا طائفيا في المجتمع والدولة.
خاتمة: عود على بدء
ونحن نقف اليوم في خضم المأساة الإنسانية الإسلامية للمذابح التي تدور ضد المسلمين، يجب علينا ألا ننسى أن هذا العمل الدموي الشيطاني الذي لم يكن مجرد نزوة فردية عابرة، بل هي مخطط إجرامي توجهه قوى عنصرية خطيرة جدا في التاريخ تروج للدم والكراهية. ويجب ألا ننسى أن هذا الحدث يريد ترسيخ ثقافة دموية للتحريض على دورة العنف الطائفي والمذهبي. وهنا يجب أن نأخذ بأهمية الدور الثقافي في مواجهة هذه الأزمات والتحديات الخطيرة. فالعنف يؤدي إلى العنف والتطرف إلى التطرف، وهذا ما يريده أصحاب التيارات الفكرية التعصبية، فتغذية العنف والتطرف تشكل هدفا استراتيجيا للتيارات الصهيونية التي توظف كل طاقاتها الفكرية والإعلامية والاستخبارية لتأجيج العنف بين الأديان بين المسلمين والمسحيين والبوذيين وغيرهم من الأديان. وهنا يجب القول بأن هذه الأديان التسامحية يجب عليها أن توظف الدين نفسه في منع التطرف ودحر العنف ودفن الأحقاد وتسييد المحبة والسلام والقيم الحرة بين الناس جميعا.
وأخيرا ومن أجل استئصال ظاهرة التطرف المذهبي والطائفي، يجب العمل على تحقيق التكامل بين مختلف هذه المستويات السياسية والدينية والتربوية والإعلامية من أجل حماية المجتمع من آثار التطرف وتجفيف الينابيع الحقيقة له عبر استراتيجية حقيقية تأخذ بمختلف المستويات السياسية والتربوية والاجتماعية لمواجهة هذا الداء الخطير العضال.
[1] أسامة أمين الخولي: القيم الأخلاقية في الممارسات العملية، ضمن: الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية: الأطفال والتعصب والتربية: احتمالات الانهيار الداخلي للثقافة العربية المعاصرة، الكتاب السنوي السادس، 1989، ص234