العودة إلى الخطاب الأخلاقي: الدّواعِي والمآلات قراءة في فلسفة أندريه كونت سبونفيل

يوسف هريمة

 

لا بدّ من الاعتراف أنّنا بلغنا من الإفلاس حدّاً لم نعد نستطيع معه النّظر في وجوه الآخرين تباهيا، أو تماهيا، أو حتى محاكاة لوقائع ليس لنا منها غير فكرة الاستنساخ. ولا ضير ما دمنا نعبّر عن فشلنا وجروحنا وآلامنا في انتظار لحظة قد تأتي أو لا تأتي نتخلّص من خلالها من هذا العبء الجاثم على صدورنا، وحالة الشّروذ الثّقافي الملازم لأزمتنا. يخلق كلّ هذا الحِمل وذاك العبء صورة نمطية عن الإنسان المنهزم والمهدور، ويدفع بردود الأفعال إلى أقصاها لتعبّر عن هذا الواقع تارة بالانطواء تعويضا عن صعوبة الاندماج، وتارة بالإقصاء خوفاً من فكرة الاختلاف، وتارة بالإرهاب لصناعة مجدٍ واستعادة ذاكرة جريحة. وبدل أنْ تستوقف هذه الصّورة كلّ واحد منّا، ليعيد تشكيل صورته بعيدا عن تزييف الوقائع، أو التمسّك بأوهام الهوية والخصوصية، نختفي من جديد وراء أحلامنا وأوهامنا ونختار خطاب المظلومية، لنتوارى خلف جرحنا النّرجسي، ونقرأ صورتنا في سياقات المؤامرة، ونضيّع على ذواتنا فرصة اللقاء.

من هنا، عاد الخطاب الأخلاقي في شكله المعاصر إلى الحضور والظّهور والتميّز. ولا نقصد هنا بعودة الخطاب الأخلاقي كما سنرى عودة الأخلاق في حدّ ذاتها. فالعقل الدّيني دوماً يحتاج إلى سواتر، أو لنقل مبرّرات لتصدير أزماته أو مآزق تفكيره، وهي استراتيجية نابعة من عقل يرى في المظلومية وسيلته الأقوى من أجل الحشد والتّعبئة والاستقطاب، وتلك وظائف الإيديولوجيا. من هنا تأتي مقاربة الفيلسوف الفرنسي أندريه كونت سبونفيل، لتلقي بظلالها على الواقع الفرنسي، لأنّها تنطلق منه لتفسير عودة الخطاب الأخلاقي بين جيلين متمايزين. كما تكشف بالنّسبة إلينا بعضاً من ملامح أزمة خطاب العودة التي تنتهجها بعض الأصوليات الدّينية، والإيديولوجيات الشّعبوية التي تركب على موجة الأخلاق لتفسير التخلّف، والضّعف والبنية المهترئة لمجتمعاتنا. ولا بدّ لنا من الإشارة إلى أنّ عودة الخطاب الأخلاقي في عالمنا ليست عودة مرتبطة بيقظة أخلاقية، شعر معها هذا الإنسان أنّ أزمته الرّاهنة وليدة هذا الغياب، ولا أنّ النّاس تخلّصوا من عُقدهم المكبوتة، وغرائزهم السّلبية لصالح ما هو إيجابي، بقدْر ما تكشف هذه العودة عن واقعٍ جديد له حيثيات ظهوره، وسياقات تشكُّله سيكشف عنها سبونفيل بالتّحليل والنّقاش، حينما يؤكّد: "أنّ العودة إلى الأخلاق تتمُّ جوهرياً من خلال الأخلاق ليس لأنّ النّاس هم حقّا أكثر صلاحا، بل لأنّ الأخلاق غدتْ أكثر مادّة لحديثهم، حيث يسعنا في الأقلّ الافتراض أنّهم يتحدّثون عنها بمقدار ما هي غائبة عن سلوكهم"[1].

لفهم هذا الحضور في الواقع الخطابي، وغيابه في الواقع الفعلي للمروّجين له والمستهلكين، لا بدّ لنا من الإقرار أنّ الخطاب حجاب، ففي كلامنا وخطاباتنا نمارس الكثير من الحجب والمواراة والإخفاء. فما نستبعده أو ننفيه قد يحضر بشكلٍ أو بآخر. فقد نفاجأ بالاستبداد من وراء عشق الحرية، أو ندعو إلى المساواة فيما لا نقدر إلاّ على إنتاج التّفاضل والتمايز، أو نتوجّه نحو المستقبل لكي نصطدم بالماضي أمامنا. فنتشه الذي أعلن موت الله، قد أخرجه من الباب، ليعود من النّافذة. حين لبس عباءة الألوهية والنّبوة، بإعلانه أنّه يكتب للبشرية إنجيلها الجديد، ممارسا بذلك لاهوتا مضاعفا[2]. وباستثناء الرّؤية الكلاسيكية ذات الطابع الماورائي أو ما يسمّيه علي حرب بالاستلاب اللاّهوتي، حيث كان الإنسان هو مركز الكون، وذاته هي مصدر الرّغبة والفعل. نجد في المقابل الرّؤية التفكيكية، حيث الذّات ليست بريئة في تمثّلاتها للعالم والأشياء، كما أنّ الخطاب دوماً ليس شفّافا في تمثيله لعالم المعنى. فلا الذّات تقطف المعاني، ولا الكلام هو مجرّد آلة للفكر[3].

لِمَ العودة للأخلاق؟:

يقارب سبونفيل سؤال عودة الأخلاق من خلال ثلاثة تفسيرات:

1- جيلان متمايزان:

يرى سبونفيل بأنّه ينتمي إلى جيل الثمانية والستّين، ويفتخر بأنّه ينتمي إلى هذا الجيل. لكن المثير ليس فقط الانتماء إلى فترة تاريخية معينة، فهذا الأمر لا يعني شيئاً بالنسبة إلى المتتبّع أو القارئ. وإنّما المثير هو ما يميّز هذه الحقبة التّاريخية في فرنسا، وانعكاساتها أيضا على باقي العالم، ونحن جزءٌ منه. فالطّابع المميّز لهذه الفترة هو عدم الاهتمام بالأخلاق، أو لِنقُل لم تكن الأخلاق هي الجزء الأصيل من تفكير الشّباب العالمي في تلك الحقبة، حيث كان الشّعار الملازم لهم هو: "المنع ممنوع" و"لنعش دونما إبطاء لنستمتع دونما هوادة". هذا الابتعاد أو لنقُل النّفور من كلّ ما هو أخلاقي كان نتيجة طبيعية لإيديولوجية سياسية سادت العالم حينذاك مفادها أنّ الكلّ سياسيٌّ؛ بمعنى أنّ كلّ تفكير الشّباب وقتذاك كان منصبّاً على التّفكير السّياسي، فهو المبتدأ وهو المنتهى، حتى أنّ البعض كان يرى في التّفكير السّياسي ضرورة أخلاقية، وربّما هي الأخلاق الوحيدة المعترف بها حينذاك.

العقل الدّيني دوماً يحتاج إلى مبرّرات لتصدير أزماته أو مآزق تفكيره، وهي استراتيجية نابعة من عقل يرى في المظلومية وسيلته الأقوى من أجل الحشد والتّعبئة والاستقطاب

لم ينشأ هذا النّمط من التّفكير لجيل بأكمله من فراغ، بل كانت جذوره ممتدّة إلى فلسفة المطرقة التي اعتمدها نتشه في تفكيكه للميتافزيقا، حيث: "يمكن قراءة المشروع النتشوي في الفلسفة باعتباره محاولة لاجتثاث الميتافيزيقا من الفلسفة، علماً أنّ الميتافيزيقا في الاستعمال النتشوي هي العنوان الكبير للانحطاط la décadence أو الرّوح الانتقامية بما هو علة المرض الحديث للغرب الذي يسمّى العدمية nihlisme le"[4]. كذلك فعَل ماركس في نقده لفلسفة الحقّ عند هيجل، حيث اعتبر الدّين: "زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنّه روح الظّروف الاجتماعية التي طرد منها الرّوح. إنّه أفيون الشّعوب"[5]؛ أي إنّ الدّين والأخلاق هما التّحقيق الوهمي للكائن الإنساني، لأنّ هذا الأخير لا يملك واقعا حقيقيا.

هذا عن جيل 1968 كما يسمّيه سبونفيل، والّذي كان يعتبر أنّ السّياسة هي كلّ شيء. لكنّ الانقلاب عن هذا النّمط في التّفكير بدأ بعد مضيّ ثلاثين سنة، حيث تلاشى التّفكير السّياسي، ولم تعد السّياسة مغرية بما فيه الكفاية لاستقطاب الشّباب. فتمّ استبدال الخطاب السّياسي بالخطاب الأخلاقي بعناوين أخرى أكثر جاذبية، وقبولاً في الأوساط الشّبابية، حيث الحديث عن حقوق الإنسان، والعمل الخيري والإنساني، والتّضامن والتّكافل... ولكي يوضّح سبونفيل أخلاقية جيل ما بعد 1968، احتاج لضرب بعض الأمثلة. فلو أجرينا مثلا استطلاعا للرّأي في جيل 1968 حول الشخصية الأكثر جاذبية بالنّسبة إلى الشّباب حينذاك، فسيختارون بلا تردّد تشي غيفارا بما يحمله من رمزية سياسية ثورية، أو بين الجنرال دوغول، مما يوحي بأنّ اللاّشعور الذي كان يحرّك هذا الجيل لا يتجاوز ما هو سياسي. أمّا إذا أجريناه في الجيل الحالي أو جيل ما بعد 1968، فسيكون الاختيار منصبّاً حول شخصية الأب بيار ليس بوصفه شخصية دينية أو كونه راهبا كاثوليكيا. لكن بوصفه مدافعاً عن قيم الخير والمستضعفين. وكذلك الأمر نفسه ينسحب بهذا التّفكير على عالمنا العربي والإسلامي، حيث الانتقال من كاريزيمية السّياسيين جمال عبد الناصر، وحافظ الأسد، وياسر عرفات، إلى كاريزمية الأصوليين ورجال الدين، القرضاوي، وسيد قطب، وابن لادن، والبغدادي.

المثال الثّاني عن أخلاقية هذا الجيل المعاصر هو في جوابهم عن سؤال كيف الخروج من حالة البؤس؟. قبل ثلاثين سنة أو أربعين كان الجواب مختزلا في قضايا بعينها: التّنمية، أو التقدّم، أو المشاركة؛ بمعنى أنّ الإيديولوجيات السّائدة حينذاك كانت تنحو نحو الأجوبة التي تقترحها السّرديات الكبرى بما يخوّل لها أنْ تقوم مقام الأديان. فكلّ المقوّمات موجودة في التّشابه بين الأديان والإيديولوجيات السّائدة حينذاك: آباء مؤسّسون، أسطورة مقدّسة، قضايا يحارب من أجلها، آمال مرجوة، خيبات أمل، تأويلات مختلفة، خصوم، تعديلات، بدع وصراعات داخلية، وأساطير مؤسسة. ولكن لماذا هذا الجيل المؤدلج بسرديات كبرى يحوّل الأفكار إلى إيديولوجيات؟. هنا يحيلنا السّؤال إلى ما أشار إليه دورتييه من كون أنّ في: "السّياسة كلّ شيء يبدأ بمشاكل (توتّرات/إحباطات/صراعات/تهديدات). ويتم الحلّ بالبحث عن حلول جماعية. لا شيء أكثر منطقية من هذا. ولكنْ على عكس الطّب أو الهندسة في بحثهما عن حلول ملائمة لكلّ مشكلة محدّدة. فإنّ الإيديولوجيا تنزع إلى إدماج جميع المشاكل في مشكلة واحدة بطريقة تختزل جميع الحلول في صيغة واحدة. مشكلة فريدة من نوعها وحلّ شامل. هذه هي نواة كلّ إيديولوجيا."[6].

اليوم نحن أمام جيل آخر يستعيض عن فكرة السّياسة بفكرة الأخلاق؛ بمعنى أنّ مواجهة بؤس هذا العالم رهين بعودة الصّيغ الأخلاقية المعاصرة المتمثّلة في ما ذكرناه سابقا؛ أي المطاعم الخيرية والمنظّمات الإحسانية. لهذا أكّد سبونفيل على استحالة رفع هذا البؤس بهذا التّبسيط، أو بالأحرى هذا الوهم، لأنّ الأخلاق والسّياسة هما أمران مختلفان، وإنْ كانا ضروريين، أو كما عبّر عنه سبونفيل: "نحن نحتاج إليهما معاً، كما نحتاج إلى الفرق بينهما"[7].

مشكلة الجيل الأخلاقي اليوم هو أنّه بلغ ذروته، وبدأ خطابه نفسه بالأفول، لأنّ طبيعة الأشياء توحي بأنّ لكلّ بداية نهاية، وأنّ جيل الأخلاق أو جيل الخطاب الأخلاقي موشكٌ على بلوغ نهاية السّباق. ليس هذا من قبيل التّشاؤم، أو العدمية، أو القفز على المعطيات الواقعية. ولكن النظر اليوم إلى شخصية مثل الأب بيار أو المنظّمات ذا الطابع الخيري، فبالرّغم من أنّ وجودها الفعلي ما زال يسمح لها بالممارسة والتّواجد، غير أنّ بريقها والهالة المنزّهة التي كانت عليها بدأت تقلُّ نوعا ما. والشّخصيات التي كانت تستطيع الحشد والتّجميع لم تعد لها تلك الطّاقة على فعل ذلك، والأمثلة كثيرة على تأكيد هذا الأمر. وهذا ما ينبئ بما أشار إليه سبونفيل بتشكُّل نمطِ تفكير جديد هو ما يدعوه "جيل روحي"، أو لنقُل إنه جيل يجدّد المسألة الروحية. بمعنى أنّ جيل 1968 كان يرى في المسألة السّياسية مسألة صواب أو خطأ، وأنّ جيل "الخطاب الأخلاقي" كان يرى فيها مسألة شر وخير. أمّا الجيل الحالي أو الذي هو على أبواب التشكل، فإنه يرى فيها مسألة المعنى واللامعنى. فمثلاً من الذي يستطيع تعويض شخصية مثل الأب بيار. لا شك أنّ هذا الجيل الروحي معجب بشخصية الدالاي لاما بوصفه مدافعا عن حقوق التيبت، حيث سيكون الانتقال من السّؤال الأخلاقي إلى السؤال الرّوحي على الشّكل التّالي: بدل أنْ نسأل ما الذي تفعله من أجل الأشدّ فقرا؟ سنسأل السّؤال الروحي: ما معنى الحياة؟.

لكن ما يجب الانتباه إليه هنا هو أنّ السؤال الرّوحي اليوم ليس هو فلسفة الخلاص للعالم المعاصر، ويجب أنْ نكون متيقنين وحذرين من هذه المغالطة؛ فلا شكّ أنّ لكلّ فلسفة أبعاداً ثلاثة: فهْم ما هو قائم (نظرية)، التعطّش للعدالة (أخلاق)، والبحث عن الخلاص (حكمة). لهذا قال لوك فيري بأنّ: "تاريخ الفلسفة يشبِه تاريخ الفنّ أكثر مما يشبه تاريخ العلوم. ففي المجال الإستتيقي يمكن أنْ نحبّ رؤى للعالم مختلفة تماما. يمكن أنْ نحبّ الكلاسيكيين كما الرومانسيين. الفنّ القديم والفنّ الحديث على سبيل المثال"[8]. فكما أنّ من العبث حلّ المسألة السّياسية بالسّياسة وحدها، فلن نحلّها بالخطاب الأخلاقي وحده، ولا كذلك بالخطاب الرّوحي. لماذا؟ لأنّ الخطاب الرّوحي، وكذلك الخطاب الأخلاقي الذي تشتغل عليه كلّ الإيديولوجيات يفترض مسألة جوهرية، وهي أنّ تغيير المجتمع رهين بتغيير الأنفس، وهي عبارة تبدو للنّاظر منطقية تنمّ عن حسٍّ سليم، لكنّها بالمقابل تنمّ عن خبثٍ غير مقصود. فإذا انتظرنا الأفراد كي ينظِّفوا ما علق بأرواحهم، أو شاب أخلاقهم كي يناضلوا من أجل العدالة، فلن تقوم عدالة على الإطلاق، وإذا انتظرناهم من أجل إحلال السّلام، فلن نواجه غير كثرة الحروب. وهلم جرا. هكذا كان يرى سبونفيل.

2- الرّأسمالية وعودة الخطاب الأخلاقي:

التّفسير الثاني لعودة الخطاب الأخلاقي تمثّل في انتصار الرّأسمالية. هذا الانتصار بدأ بانهيار المعسكر الشّرقي أو الكتلة السوفياتية؛ معنى ذلك أنّ هذا الانهيار إذا جاز لنا أنْ نسمّيه انهيارا كان يوفّر للغرب مبّرر وجوده الأخلاقي، حيث الصّراع من أجل قيم الحرية والعدالة والإخاء، في مقابل إيديولوجية شيوعية ثورية رجعية ديكتاتورية. وبالرّغم من أنّ الغرب أو الرأسمالية استعاض عن الخطر الأحمر أو الشّيوعي بالخطر الأخضر أو الإسلامي، فإنّ خصومها اليوم لم يعودوا يوفّرون لها المبرّر الأخلاقي لوجودها، لسبب بسيط هو عدم توفّرهم على بديل يمكن أنْ يقوم مقامها على الأقلّ في المدى المنظور. فبالرغم من أنّ للرأسمالية عيوبٌ لا تحصى غير أنّها تتمتّع بما يشبه الاحتكار الإيديولوجي؛ أيْ في الوقت الذي تفقِد عدوّها اللّدود المتمثل في الشّيوعية، فإنها تفقد أيضا المبرّر السلبي الذي كان يوفره لها عدوها. ومع ذلك، فإنّها لا تحتاج إلى معنى كيف تضمن استمرارها. أمّا الإنسان، فيحتاج ذلك.

3- موت الآلهة:

هي عبارة منسوبة لينتشه ينعى فيها الإله أو يقتله؛ لكنْ ما معنى هذه العبارة؟. يخبرنا جيل دولوز أنّ لهذه الفكرة ما بعدها، فبعد الموت تصبح الصّيرورة لا هدف لها؛ بمعنى أنّ هذا العالم عالم وهمي، ولا بدّ من اختراع عالم قائم ما وراءه يكون هو العالم الحقيقي. لكن ما أنْ يكتشف الإنسان أنّ هذا العالم ليس مبنيا إلا على حاجاته النفسية، وأنّه ليس مؤسَّسا إطلاقا على الإيمان به، حتى تبرز العدمية بوصفها شكلا أخيرا يستتبع نفي العالم الماورائي. ما الذي حدث بالضبط حسب دولوز؟"لقد وصل المرء إلى الشّعور بانعدام قيمة الوجود حين فهِم أنّه لا يمكن تفسيره في مجمله لا بواسطة مفهوم (الغاية)، ولا بواسطة مفهوم (الوحدة)، ولا عبر مفهوم (الحقيقة)"[9].

ماذا يعني ما سبق حسب سبونفيل؟. إنّه لا يأخذ العبارة التي كتبها نتشه مأخذاً ظاهريا. فنتشه لا يجهل أنّ الله إذا وجد فهو خالد تعريفا، بل حتى إذا لم يوجد هو خالد بسبب عدم وجوده. لكن ما يميز إيمان النّاس اليوم عن إيمان سابقيهم بالله، هو أنّهم جعلوا الإيمان بالله شأناً خاصاً، وليس شأناً جماعيا. فقد يكون المدرِّس مؤمنا، لكن ما عاد بوسعه أنْ يتوسّل بهذا الإيمان كضمانة لسلطته المعرفية. وقد يكون مدير الشّركة مؤمنا، ولكن ما عاد بمقدوره التوسّل بإيمانه في بسط سلطته على مرؤوسيه. وقد يكون السياسي مؤمنا، لكنّه لا يستطيع أنْ يتوسّل بإيمانه من أجل إضفاء الشّرعية على برنامجه السّياسي والانتخابي.

إن مشكلة موت الله اجتماعيا حسب سبونفيل تخلُق إشكالاً من نوع آخر هو انتصار النّزعة الفردية أو التشرنق cocooning. فالنّزعة الفردية، وهي أحد تجليات خطورة الرأسمالية تخلق مستهلكين جيّدين. لهذا كان يرى برنار نويل بأنّ الاقتصاد ويقصد الرّأسمالية يجمع ين الحيوية والزيادة في السّرعة؛ أي أنّ المعنى بالنّسبة إلى الاقتصاد غير محتمل، ما دام أنّ المعنى قد لا يعرف كيف يقدِّم نفسه إليه بطريقة أخرى من أجل وضع الاقتصاد موضع التّساؤل. وعند الحاجة إلى المعنى، فإنّ حركة الاقتصاد الذّاتية هي التي يعرضها الاقتصاد بصفتها هي المعنى. أي: "أن الاختراع العبقري للسّلطة الاقتصادية هي أنْ تغمرنا بالثقب الذي تحفره فينا وتقيم هناك فرجة، أنْ تدفعنا لأنْ نستهلك موتنا الشّخصي ونحن مغتبطون"[10]، إذ الخطر كما يؤكّد سبونفيل هو أنّ بعد خلوّ الكنائس وموت الله اجتماعيا، لا نملك إلا أنْ نحتشد صباح كلّ أحد في أروقة المخازن الكبرى.

إن مشكلة موت الله اجتماعيا حسب سبونفيل تخلُق إشكالاً من نوع آخر هو انتصار النّزعة الفردية أو التشرنق

ما وجه الصلة بين موت الإله وعودة الأخلاق؟

العلاقة هي أنّه بالرّجوع إلى سؤال ماذا يجب أنْ نفعل؟ وبالعودة إلى السّياقات الدينية كلّها، كانت الإجابة بديهية متمثلة في الامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه، إمّا بشكل مباشر، أو عبر وسطائه باختلاف مسمّياتهم. أما بعد أنْ مات الله اجتماعيا خاصّة في المجتمعات المعلمنة. فالإجابات الدّينية لم تعد نهائية، أو قادرة على ملء هذا الفراغ القاتل. هنا تفسر العودة إلى الأخلاق، إذ الإلحاد ليس قتلاً للأخلاق، بل هو إحياء لها حسب سبونفيل، فحاجتنا للأخلاق تزداد كلّما قلَّ تديّننا وليس العكس.

4- الاقتصاد وعودة الخطاب الأخلاقي:

في العالم الغربي كما في عالمنا الإسلامي هناك ربطٌ وثيق بين الاقتصاد وبين الأخلاق، متمثّلا في هذا الحضور لمفاهيم الربا، الاستغلال، الاستلاب، وغيرها مما يفرزه الحقل الأخلاقي الدّيني. وهنا يثير سبونفيل سؤاله حول: هل الرأسمالية أخلاقية؟ أو بتعبير أدقّ هل الاقتصاد يقوم على الأخلاق؟. المشكلة هنا أنّ النّاس تقرّ بأنّ كلّ العلوم لا أخلاق لها، إلا الاقتصاد. فهل يمكن أن يكون هذا الأخير كذلك. لمعرفة ذلك نحتاج ضرب بعض الأمثلة:

- أحد المحاسبين يذكّر صاحبه أن 2+2=4 تخيّلوا حيرة المحاسب لو أجاب الزبون أجل أجل، وهل هذا كلّه أخلاقي؟. لا شك أن لا أخلاق في الحساب.

- عالم فيزياء يريد أن يشرح معادلة إينشتاين: E = mc2؛ ماذا لو تم الاعتراض عليه بأن هذا الأمر يؤدي إلى صنع القنبلة الذرية؟. أكيد سيكون الجواب هو أن لا أخلاق في الفيزياء.

- أحد المذيعين يقدّم نشرة جوية بعد أسابيع من المطر. وإذا بالمذيع ينبئ المشاهدين بأنه: غدا سيكون الجو صافيا، فبعد تلك الأمطار التي هطلت طوال ستة أسابيع يصبح هطول المطر غدا أمرا لا أخلاقيا. فلا بد أن هذا الجواب سيكون غير منطقي ومجانبا للصواب.

لكن إذا كان الأمر كذلك لا أخلاق في الحساب وفي الفيزياء، ولا في الأحوال الجوية، فلم الإصرار على الأخلاق في الاقتصاد؟. لنتخيّل مدير منشأة يعمل في صناعة الحلوى، ويبحث عن استثمار لمنشأته، لكنّه يحتاج لخبير يدرس له السّوق لسنوات قادمة، وتقلّبات الكاكاو. فيجيب الخبير: لا يمكن لأسعار الكاكاو أنْ ترتفع على نحو ملموس، لأنّ الأسعار متدنية جدا منذ مدة طويلة، حيث إنّ ثباتها على السّعر المتدنّي ليكون أمراً لا أخلاقيا. لا شك أنّ هذا الجواب يستدعي التخلّي عن الخبير على الفور. وهنا يرى بأنّ الاقتصاد علم كباقي العلوم ينسحب عليه ما ينسحب عليها. فإذا كان المطر مثلا خاضعاً لتقلبات جوية، فالاقتصاد أيضا غير خاضع لمنطق الأخلاق. فالذي يحدد السّعر ليس الأخلاق، بل قانون العرض والطّلب. وليست الفضيلة هي من يوجد القيمة بل العمل. وليس الواجب هو من ينظّم الاقتصاد، بل السّوق. لهذا يمكن أنْ نقول إنّ الاقتصاد أو الرأسمالية ليست أخلاقية، كما أنّها ليست غير أخلاقية. وهنا كان خطأ ماركس الذي كان يضفي على الاقتصاد طابع الأخلاق من خلال مفهومي الاستلاب والاستغلال. لكن مشكلة ماركس هنا أنّه لا يملك الأدوات الإناسية لسياسته؛ فهو يقرُّ بأنّ البشر تحرِّكهم مصالحهم الشّخصية في المقام الأول. لكن إذا كان الأمر صحيحا، فكيف يرضخون للمصلحة المشتركة أو العامة، وهذا هو منشأ ضعف النظرية الماركسية. فلكي يتحقق ذلك، وجب على البشر أنْ يخلّصوا أنفسهم من نوازع الضعف والحقد والحسد؛ وهذه هي اليوتوبيا بعينها.

[1]- سبونفيل، أندريه كونت. هل الرأسمالية أخلاقية؟. ترجمة بسام حجار. بيروت، دار الساقي، ط1، 2005. ص 19

[2]- علي، حرب. هكذا أقرأ ما بعد التفكيك. بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2005. ص 31

[3]- انظر ما كتبه حول موضوع الخطاب: علي، حرب. نقد النص. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط4، 2005. ص 17

[4]- أندلسي، محمد. نتشه وسياسة الفلسفة. الدار البيضاء. دار توبقال، دون طبعة أو تاريخ نشر. ص 26

[5]- ماركس، كارل. نقد فلسفة الحق عند هيجل. ملف pdf. ص 11

[6]- دورتيي، جان فرانسوا. لماذا لا تموت الإيديولوجيات؟. ترجمة محمد الحاج سالم. ص 4. على الرابط التالي:

https://www.mominoun.com/articles/لماذا-لا-تموت-الإيديولوجيات-أبدا-4626

[7]- سبونفيل، أندريه كونت. المرجع السابق. 25

[8]- فيري، لوك. أجمل قصة في تاريخ الفلسفة. بالتعاون مع كلود كبلياي. ترجمة محمود بن جماعة. دار التنوير، ط1، 2015. ص 22

[9]- دولوز، جيل. نتشه. ترجمة أسامة الحاج. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر. ط1، 1998. ص 101

[10]- انظر ما كتبه حول الموضوع برنار، نويل. الموجز في الإهانة. ترجمة محمد بنيس. دار توبقال، 2017، ط1. ص 17

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A2%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A3%D9%86%D8%AF%D8%B1%D9%8A%D9%87-%D9%83%D9%88%D9%86%D8%AA-%D8%B3%D8%A8%D9%88%D9%86%D9%81%D9%8A%D9%84-6461

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك