الشعب: دلالات ومفارقات

 عادل حدجامي

 

"حيث ينتهي التوحّد، يبدأ هرج الساحة، وحيث يبدأ هرج الساحة، يبدأ ضجيج المهرّجين المهرة وأزيز الذباب السام. أفضل أشياء العالم لن تساوي شيئاً ما لم تتمثل في شخص فرد: والشعب يُسمّي هؤلاء الذين يمثلون تلك الأشياء الرّجال العظام.

الشعب لا يفهم ما هو عظيم فعلاً، أي ما يكون خلّاقاً مبتكَراً، بيد أنَّه ميَّال إلى المجسّدين والمهرّجين ممَّن يزعمون تجسيد الأشياء العظيمة.

العالم يدور حول مبتكري القيم الجديدة، وإليهم يستند وعليهم يتوقّف، وإن بشكل غير مرئيّ، أمَّا الشعب والمجد، فيلفون حول المهرّجين: وهذا ما نسمّيه "سير العالم المعتاد".

الممثل المهرّج رجل حاذق وذكيّ، لكنَّه ينقصه الوعي بحذقه وذكائه، إذ هو، ودائماً، لا يؤمن إلّا بما يدفع الآخرين للإيمان والثقة به هو.

غداً سنراه يتحوَّل نحو اعتقاد آخر، وآخر ثالث بعد غد. إذ هو كذلك، وكما الشعب تماماً، متقلّب المزاج متغيّره، شديد يقظة الحواس.

سنده الإبهار، وسبيله في الإقناع التشويش، وأمَّا أفضل حججه، فهي الدّم".

فريديريك نيتشه

"هكذا تعتقدين أنت أيَّتها الشعوب الجديدة أنَّك لا تملكين عبيداً، بيد أنَّك أنت هي المستعبدة بحق.... وأنا هنا لا أدافع عن نظام الرقيق، ولا أنَّه ينبغي أن نمتلك عبيداً... بل أنا أبيّن فقط الأسباب التي تجعل هذه الشعوب التي تعتبر نفسها حرَّة تمتلك "نوَّاباً" عنها، ولماذا لم تكن الشعوب القديمة تمتلك نوَّاباً أو ممثلين؟ مهما يكن من أمر، فإنَّ أيَّ شعب كان، وفي اللّحظة التي سيسلّم فيها لنوَّاب ينوبون عنه أمره، سيفقد حرّيته، إنَّه لن يبقى بعدُ حرَّاً".

جان جاك روسو

عتبة:

يكشف التفكير في مسألة الشعبويَّة، أو النزوع الشعبيّ، عن مفارقة من شقّين: الأوَّل منهما نظريّ متعلّق بالدلالة والمعنى، والثاني عمليّ متعلّق بالممارسة والفعل، أمَّا فيما يتعلّق بالشقّ الأوَّل، فهو ظاهر في التسمية عينها، إذ أنَّ الشعبويَّة تعني حرفيَّاً "الانحياز للشعب" أو الاستناد إلى قناعاته، بل والالتحام به "مباشرة"، ضدّاً على كلّ "الموانع" التي "تستلبه" وتمنع تحققه، والتي قد تصير أحياناً هي مؤسَّسات الدولة عينها، كلُّ هذا بمبرّر واحد، عند القائلين به، وهو "أسبقيَّة" الشعب في الوجود على "غيره" من المؤسَّسات، إذ أنَّ الشعب غاية والمؤسَّسات وسائل، هكذا وجب الانتصار للشعب دائماً، خصوصاً حين تتغوّل الدولة حتى تصير وحشاً يعود في "أصوله" فيأكلها، وحش وصفه أحدهم في تشبيهه المشهور، بأنَّه الأكثر برودة من بين كلّ الوحوش. على هذا الاعتبار تصير الشعبويَّة شيئاً متعلّقاً بالديمقراطيَّة، بل لعلّها تكون هي الديمقراطيَّة عينها، من جهة ما أنَّ الديمقراطيَّة تعني، هي كذلك، "قوَّة الشعب" وهيمنته وأولويَّته، بل قد نزيد ونقول إنَّها (الشعبويَّة) "أفقها" الأقصى (الديمقراطيَّة) وأناها الأعلى، أليس معنى الديمقراطي، الحرفي كذلك، هو "سيادة الشعب" في كلّ الأحوال؟

بيد أنَّ الشعبويَّة إن كانت نظريَّاً تعني الانتصار للشعب مطلقاً، فإنَّها عمليَّاً، تنتهي بنا، وهذا هو الوجه الثاني للمفارقة، إلى نقيضها، أي إلى "نفي الشعب" في مقابل إثبات حزب أو شخص، وهو ما تشهد به كلّ التجارب على مرّ التاريخ. هكذا يؤول الانتصار النظري للديمقراطيَّة، والانحياز الخطابي للجماهير، إلى إنتاج نقيضها عمليَّاً، أي إلى إنتاج الطغاة، وهذا ما وعاه الفلاسفة منذ البدء، وهو ما يبرّر حديث كثير منهم، في نظرنا، عن كون ميولات "الجماهير" المرسلة، لا يمكن أن تحقّق عمليَّاً إلّا في الفوضى (أفلاطون)، أو في استبداد "طاغية قادر على جبر نفوس الحشود الكسيرة" (سبينوزا).

هل يصير الدفاع عن سياسة يسود فيها الشعب إذن شيئاً "مستحيلاً"؟ وهل تصير الديمقراطيَّة "الحقيقيَّة" أمراً غير ممكن؟ وهل تصير السياسة، في حدود قصوى، مجرَّد تمكين لـ"تواطؤات- حدود" متساوية كلّها أخلاقيَّاً، بما أنَّها مجرَّد تدبير لقوى بنظم، وليس اختياراً يفاضل بين نماذج بقيم؛ تدبير يحدّد كلّ عصر أفق إمكانه ومعايير تحققه، وفق ضربات حظٍّ لا تفتأ تعيد نفسها في كلّ لحظة؟

لن نتعلّق ببسط هذا الأمر في هذه الورقة، أو على الأقلّ لن نتعلّق بالنظر فيه الآن، لأنَّ من شأن ذلك أن يذهل بنا عن القصد وينحو بنا إلى أنحاء بعيدة الغور تكاد تلامس أسئلة الأسس والإمكان، وهو ما يتجاوز طموح هذا المقال "العملي" المحدود؛ لهذا فإنَّنا سنقصر نظرنا على المفارقة الأولى، وعلى محاولة إيجاد "حلّ" أو تسويغ عملي لها، بأن نحاول التفكير في "إمكان" ديمقراطي لا يكون "شعبويَّاً" بالضرورة؛ إمكان يحرّر الديمقراطيَّة، فلسفيَّاً من هذا التناقض الذي ينخرها، وهذا يبدو لنا ممكناً، إن نحن توجَّهنا إلى المفاهيم، وحاولنا أن نستشكل، على الأخصّ، هذا المفهوم الذي ما فتئ يتكرَّر معنا أعلاه، وإن ضِمْناً، دون أن نسائله، نقصد مفهوم الشعب.

يصرّح روسو، ومنذ نصوصه السياسيَّة الأولى، بأنَّ همّه هو محاولة التفكير في إمكان عقد مدني يبيّن مبادئ الحقّ السياسي الضروريَّة للاجتماع الإنساني

نحو شعب "لم يوجد بعد":

لا يجد الباحث، في المستوى المعرفي الخالص، مفهوماً مستقرَّاً لتسمية الشعب، صحيح أنَّنا قد نجد "استعمالات"، من مثل استعمال الأنثروبولوجيين له في سياق ما هو ثقافي قيمي، أو الجغرافيين فيما هو بشري إحصائي، بل حتى "بعض" الفلاسفة فيما هو ماهوي أو أصلي من مثل "المصير والدم"، ولكنَّنا في المحصّلة، ومهما دققنا، لا نجد غير "استعمالات"[2]. على أنَّ هذا الأمر لا يظهر بأوضح ممَّا يظهر به في الاستعمال "السياسي" لهذه العبارة، إلى الحدّ الذي قد نقول معه: إنَّ الفكر السياسي، في مجمله، لم يكن، وفي كلّ تاريخه الطويل إلّا محاولة لتحديد معنى الشعب هذا، حتى وإن جاء هذا التحديد ثاوياً في أسئلة أخرى، لعلَّ أهمَّها محاولة تفسير علاقة الحاكم بالمحكوم، والسيّد بالمسود، والقائد بالشعب، أو على الأصحّ تبرير هذه العلاقة، من جهة ما أن كلَّ هذا الفكر تعلّق، في الحقيقة، بسؤال واحد وحدس وحيد، وهو: كيف أنَّ الأقوى نظريَّاً (الشعب) يخضع عمليَّاً، وبشكل يكاد يكون "طبيعيَّاً"، للأقلّ والأضعف منه؟ أو كيف يحصل، بصيغة أخرى مختلفة قليلاً، أنَّ الناس، كما عبَّر سبينوزا، يجتهدون في الدفاع عن عبوديَّتهم، وكأنَّهم يدافعون عن حرّيّتهم عينها؟" وما هذا السرُّ الذي يجعلهم يدافعون ابتداءً، وهم الكثرة المتكثّرة عدديَّاً؟ والقوَّة المتغلبة فيزيائيَّاً؟[3]

مهما كان من أمر الجواب، ومهما يكن من أمر التبرير، سلباً وإيجاباً، فالأهمُّ في نظرنا هو أنَّ كلَّ حديث عن السياسة هو في النهاية حديث عن الشعب، أو عن "العلاقة" مع الشعب (جماعة المدينة بالتسمية القديمة) وعلى هذا الأساس يمكن، في نظرنا، أن نميّز ونفاضل بين النظريَّات السياسيَّة، أي على أساس "التفسير" الذي تقدّمه لهذه العلاقة، وبالتالي القيمة والدلالة التي تعطيها للشعب فيها، هكذا نجد نظريَّات السيادة التي تحطُّ من هذا الشعب، بمبرّر الضرورة، لأنَّ قوامه جمهور وغوغاء من الأضداد؛ للانقياد بـ"الطبع"، وأخرى ترفع من شأنه (النظريَّات "التعاقديَّة") على اعتبار أنَّ هذا الشعب قادر، من جهة ما هو مجموع المواطنين الأحرار، على "قيادة نفسه"، حتى وإن توسَّل بموظّفين -لا قادة- ينوبون عنه في تدبير أموره، وفق مبادئ معلومة.

بيد أنَّ هذه التحديدات كلّها، في نظرنا، لا تفيد في حلّ المفارقة التي أتينا على بسطها ابتداءً، أي لا تسعف بشيء في تجاوز الإحراج الأصلي الذي بدأنا به، وهو إمكان "ديمقراطيَّة ضدّ الشعبويَّة"، بل لعلّها تزكّيها، والعلّة في ذلك عندنا أنَّ تجاوز هذا الحرج، وحلَّ هذه المفارقة، هو أمر غير مستطاع، في تقديرنا، ما دمنا نحفظ الأمور في سكونها، وما لم نسلك سبيلاً "جذريَّاً" كلّيَّة، وهو مراجعة هذا المفهوم (الشعب) كلّيَّة، إلى حدّ الذهاب إلى القول: إنَّ الشعب هو كيان، في الحقيقة، غير موجود، أو على الأقلّ لا يوجد دائماً، أو إنَّ الشعب، في أفضل الأحوال، "لحظات". على أنَّ هذه الرؤية ليست شيئاً نفترضه من عندنا افتراضاً، أو نتقوَّل به بغير ما سند، بل هي أمر مسبوق فلسفيَّاً، وبمكنتنا أن نؤصّل له بمراجع، بل ومن قلب التصوُّر التعاقدي "الديمقراطي"[4] نفسه، أمر يمكن أن نرجع فيه إلى هذا الفيلسوف الذي "يتحدَّث عنه الجميع، دون أن يعرفه أحد"، كما قال برغسون، نقصد صاحب العقد الاجتماعي، جان جاك روسو.

روسو المعلوم، روسو المجهول:

يؤثر عن كانط قول شهير مفاده أنَّ روسو هو من نقل الثورة الكوبرنيكيَّة إلى مجال العلوم الأخلاقيَّة والقيم، والعلّة في هذا الحكم عند كانط، في نظرنا، قائمة في كون روسو الفيلسوف الذي بيّن بأوضح ما يكون أمراً مهمَّاً، وهو كيف أنَّ السياسة صارت، بعد انصرام الكوسمولوجيا القديمة وما كان يتأسَّس عليها من قيم، هي المرجع الموضوعي الوحيد الذي يمكن أن نبني على أساسه ممكنات العيش المشترك في العالم الحديث؛ ممكنات لا تتحقّق إلّا وفق منطق توافقي بين أطراف متساوية "أنطولوجيَّاً" هي المواطنون الأحرار، إذ حين تنهار الضمانات المتعالية، ما يبقى من سند ممكن للناس إلّا متح إمكانيَّات عيشهم منهم هم أنفسهم. لهذه الاعتبارات، أي لهذا البُعد المرجعي القيمي الذي يعطيه روسو للسياسة [5]، لا يحضر روسو، عند كانط، باعتباره فيلسوفاً حديثاً بين آخرين فحسب، بل يصير المدخل القيمي الأهمّ للعصر الحديث.

والحقيقة، إنَّ الناظر في كتب روسو، على تنوّعها، لن يجد في مثل هذا الحكم كبير مبالغة، إذ أنَّ روسو هو واحد من أعمق الفلاسفة، وهو ما وعاه عنه الألمان دون الفرنسيين، ولهذا الأمر أسباب ليس هنا مجال بسطها[6]، على أنَّ هذا العمق لا يظهر في شقٍّ من فلسفته بأكثر ممَّا يظهر في فلسفته السياسيَّة التي تظلُّ، في تصوُّرنا، وعلى عكس ما يعتقد، واحدة من أعقد الفلسفات، والعلّة في هذه الصعوبة عندنا هي أنَّ الرجل ليس فيلسوفاً "تقريريَّاً" ولا مفكّراً "دعويَّاً"، بل هو فيلسوف ذو طموح "جينيالوجي" يأخذ بجدٍّ أسئلة الأسس، لهذا تأتي كتاباته مسكونة بتوتّر ميتافيزيقي يجعلها أقرب إلى "النصوص" منها إلى الأبحاث، وهذا لا يكاد يستثنى منه عنده نصّ، بما في ذلك كتابه الرئيس في باب السياسة الذي هو "في العقد الاجتماعي"، إذ أنَّ هذا الكتاب، وعلى عكس ما تقدّمه القراءات السياسيَّة المدرسيَّة، لا يشتمل على أيّ "تعاليم" قطعيَّة أو وصايا نهائيَّة، حتى أنَّه يكاد يكون كتاباً في "موانع" السياسة أكثر منه كتاباً في ممكناتها، إذ ما يفتأ الرجل يراجع نفسه، وينسّب ويتساءل، وما يفتأ يفزع للتاريخ، ويستدلّ بالأيام والرجال، دليلاً على "صعوبة الحديث في هذه الأمور"، وهذا ما يعطي في نظرنا لهذا النصّ، نفَسَه التراجيدي القوي الذي ذكرنا[7].

على أنَّه، إن كان من الصعب أن نقدّم تلخيصاً جامعاً لفلسفة روسو السياسيَّة، أو لتصوُّر كلّيّ عن نصّه الرئيس المذكور، فإنَّه يمكننا مع ذلك أن نستشكل بعض "المبادئ النظريَّة" التي يعرضها الرجل، ونحن ننعت هذه المبادئ بـ"النظريَّة" لأنَّ كلَّ شيء عند روسو يتقدَّم باعتباره مجرَّد "نظر"، وأمَّا الفعل والعمل، فهو ما يفتأ يشير في كلّ مرَّة، إلى أنَّه أمر محكوم بعناصر تتجاوز كلَّ "فلسفة".

المدينة كشرط، الحريَّة كغاية.

يصرّح روسو، ومنذ نصوصه السياسيَّة الأولى، بأنَّ همّه هو محاولة التفكير في إمكان عقد مدني يبيّن "مبادئ "الحقّ السياسي" الضروريَّة للاجتماع الإنساني". والحقيقة أنَّ هذا الهمّ لم يفارق الرجل، إذ نجده يحضر في كلّ نصوصه، بما فيها "العقد"، كما هو مثبت في عنوان النصّ الفرعي نفسه[8]. على أنَّ تسمية "المبادئ" ووسم "الضروريَّة" هنا هي غاية في الأهميَّة، لأنَّها تبيّن أنَّ طموح روسو ليس شيئاً متعلّقاً بأمر تدبيري خاص، بل هو متعلّق بما "يجعل الإنسان إنساناً"، وهذا، كما تقدَّم، ليس إلّا "السياسة"، إذ أنَّ روسو، مثل أرسطو - ولو في سياق مختلف تماماً - لا يعتقد في إمكان إنسانيَّة دون شرط المدينة.

ما هي هذه "المبادئ"؟ وكيف تتحقّق؟

مهما تعدّدت المبادئ وتنوَّعت، فإنَّها تؤدّي بنا إلى واحد أوَّل رئيس، هو الحريَّة، فالإنسان لا يترقّى في إنسانيّته، عند روسو، إلَّا بقدر ما يحفظ من حرّيته، لهذا، فإنَّ الرهان، في مستوى ثانٍ، سيصير هو كيف يمكن أن نفكّر في "عقد"، أي في نظام سياسي، تكون الغاية فيه هي حفظ الحريَّة؟ على أنَّ هذا الشغف بالحريَّة والانهمام بها عند روسو، لا يردّ لاعتبار قيمي يخصُّ قناعات الرجل "الفلسفيَّة" الخاصَّة فقط، كونه كان مثلاً، وكما يصرّح من بداية الكتاب، منشغلاً دائماً بسؤال: "لمَ يولد الإنسان حرَّاً، ثمَّ يصير كما نراه، وفي كلّ مكان، في القيود...بعد ذلك"؟[9] ولا حتى لاعتبارات أخرى نجد بعضها مبثوثاً في آخر سيرته الذاتيَّة، أو في الصفحات الأولى من مذكّرات رؤى يقظته، بل العلّة في هذا الأمر موضوعيَّة خالصة، في نظرنا، وهي كون الرجل وعى، وكما ذكرنا في تفسير قول كانط، أنَّ الحريَّة ستفرض، في العالم الجديد، نفسها، طوعاً أو كرهاً، باعتبارها "مطلباً"، وهذا ما وجب "الوعي" به سياسيَّاً، و"ترجمته" في تصوُّر يكون متوافقاً مع هذه الحقيقة، إذ سيكون من غير الممكن، بعد التحوُّل الهائل الذي لحق بمعنى الإنسان والوجود، أن نتصوَّر إمكان رابط اجتماعي لا يستحضر "حريَّة الإنسان"، ففي عالم صار كلّه متواطئاً، كما تقدَّم، لن يبقى هناك من قانون ولا كيان مشروع إلّا باعتبار التواطؤ، أي باعتبار الإنسان، جنساً وأفراداً، من حيث هم كائنات حرَّة، الأصل والقيمة المرجعيَّة التي تنشئ العقد (الإرادة العامَّة)، وتحدّد ضوابطه (القوانين).

يمكن طبعاً أن نستشكل "فلسفيَّاً" هذه "القيمة العليا" عند روسو، بأن نرى الأولويَّة في عنصر آخر غير الحريَّة، وهذا ما حصل مع فيلسوف لا يقلُّ تراجيديَّة عن روسو، وهو توكفيل[10]، في نصوصه مثلاً عن الديمقراطيَّة الحديثة، وعن قيمة "المساواة" باعتبارها واسطة عقد هذا النظام، بل يمكن أن نرفع النقاش إلى مستوى التساؤل: هل حصّل روسو فعليَّاً ذلك الوعي بالتحوُّل الأنطولوجي الكبير الذي حقّقه عصره؟ أم أنَّه عكسه فقط دون أن يعيه، وأنَّ هذا الوعي لن يتحقّق بوضوح إلّا بعد مدَّة، مع هيغل مثلاً؟ كلّ هذا ممكن، لكن مهما يكن من أمر، فالأهمّ عندنا هو أنَّ تصوُّر روسو السياسي يقرّر هذه "القناعة"، كون كلّ تجمُّع سياسي لا يحفظ الحريَّة، غير ممكن بعد الآن عمليَّاً، هذا فضلاً عن كونه لا يحقّق غاية الاجتماع والوجود الإنسانيين أصلاً.

على أنَّ قولاً مثل هذا، وعلى ما قد يبدو عليه من بساطة، يكشف لنا، عند التدقيق في متضمّناته، عن أمور هامَّة، فيما يتعلّق بقضيّتنا الأم التي بدأنا بها، أي مسألة الشعب والنزعة الشعبيَّة، ذلك أنَّ روسو، إن كان ينظر إلى العقد باعتباره أمراً إنسانيَّاً محضاً يتأسَّس على الحريَّة، فإنَّه ينتهي إلى إقرار نتيجة تلزم ضرورة عن هذا، وهي أنَّ العقد يصير شيئاً "صناعيَّاً"، فالمدينة هي كيان "ثقافي" لا أصل له في الطبيعة، هذا حتى لو كان روسو يسلّم بأسبقيَّة الحقّ الطبيعي في كلّ إرادة تحقق سياسيَّة[11]. وإن كان ذلك كذلك، فهذا تنشأ عنه نتيجتان فرعيّتان: أولاهما أنَّ الشعوب التي تنشئ هذه التعاقدات وتصنعها، لا يكون لها من "وجود" قبل هذا الذي تصنعه، ثانية النتائج هي أنَّ الإرادة العامَّة التي تنشئ هذا العقد لن تكون المحصّلة الفيزيائيَّة الكميَّة لأفراد ما قد نسمّيه الشعب، بل ستصير التركيب الكيفي لتوافقاته "الموضوعيَّة"، وهكذا يصبح الشعب كياناً "مُؤجَّلاً" في وجوده، عند روسو، في مستويين متوازيين؛ في مستوى نشأته، ثمَّ في مستوى بنيته؛ وهو ما يعني بالتالي أنَّ كلَّ حديث "باسم" "الشعب"، مباشرة وابتداء وتلقائيَّاً، هو حديث ممتنع. على أنَّ تبيُّن هذه الأمور بوضوح قد يحتاج لبعض التفصيل.

من الأصل إلى التأسيس:

يفتتح روسو حديثه عن العقد الاجتماعي بذكر مسألة شغلت فقهاء الحقّ الطبيعي والفلاسفة الكلاسيكيين، والإنجليز منهم خصوصاً، وهي قضيَّة "أصل الملك والعبوديَّة"، أو بلغة معاصرة، أصل انقسام الناس إلى حكَّام ومحكومين. في هذا السياق ينتحي روسو نحواً خاصَّاً يكاد يعارض به كلَّ التصوُّرات المشهورة، إذ هو يذهب إلى أنَّ العلَّة في هذه القسمة ليست أيَّ عنصر "أصلي"، ليست الحرب مثلاً، كما يعتبر هؤلاء الفقهاء؛ الحرب التي تنتهي بالمنهزمين إلى "مقايضة" حرّيتهم بالإبقاء عليهم أحياء، فتصير "شرعيَّة" الأمير متولّدة من "العفو" الذي يمنحه، ويصير "مبرّر" عبوديَّة الرعيَّة الحياة التي ما يزالون متمتّعين بها، والتي يظلُّ الأمير متمتّعاً بحقّ سحبها في كلّ حين (ما يتأسَّس عليه "الإبدال" القديم في جملته). الأصل عند روسو ليس هو هذا، بل هو شيء آخر مختلف تماماً، إنَّه، وببساطة، المصلحة[12]. على أنَّ روسو لا يعرض هذا الموقف تحكّماً، بل هو يقدّم لإثباته حجَّتين اثنتين: الأولى منهما فلسفيَّة؛ ومفادها اعتقاده أنَّ "المدينة" والمجتمع لا يمكن أن يتأسَّسا وينجحا، فعليَّاً، على أساس هو الخضوع والخوف، وإلّا لخرجنا إلى تناقضات، إذ أنَّ المبرّر الذي كان للناس في الخروج من "حالة الطبيعة" المفترضة الأولى، ابتداء، كانت هي التحرُّر من هذا الخوف والخضوع نفسه؛ ثاني الحجج هي إلى الطبيعة التاريخيَّة أقرب، إذ يعود الرجل إلى الماضي، فيستشهد بأشياء منها تاريخ الرومان وحروبهم مع "البرابرة"، ليبيّن أنَّ هؤلاء لم يجنحوا للسلم إلّا باعتبار "توافقات"، وليس أبداً على أساس حروب تنتهي إلى خاضعين قطعاً ومنتصرين قطعاً، إذ من طبيعة الحرب ألّا تنتهي إلى منتصر ومنهزم بالمطلق؛ صحيح أنَّ رهانات القوَّة وشبح الخوف كانا دائماً حاضرَين، وهما يزدادان بقدر ما نتوغل، لكن لولا أنَّ الناس قرَّروا الخروج وفق مصالح، لما تحقّق شيء[13]. على أنَّ روسو يزكي هذا الاستدلال الفلسفي- التاريخي، بدليل ثالث مثير، دليل يبدو أقرب ما يكون إلى الوضعيَّة القانونيَّة، وهو تقريره أنَّه لن يكون من الصواب أن "نقيس" دون معيار قياسٍ يسبق المقيس، من جهة ما أنَّ المعيار سابق دائماً على مادَّته، هكذا، فكما أنَّه من العبث الحديث عن عدالة سابقة على القانون، وعن خير وشر سابقين على محدّداتهما، فمن العبث الحديث عن اجتماع إنساني سابق على توافقات تنظّمه. لهذه الاعتبارات كلّها، ولأخرى غيرها، فإنَّ الأصحَّ والأسلم والأكثر قرباً من الحسّ السليم في النظر عند روسو، هو أن نقرَّ بأنَّ الأصل في نشأة التجمُّعات هو دائماً تعاقد ما، مهما كان بسيطاً. هكذا، وكما أسلفنا، لن يكون هناك من معنى للحديث عن "شعب" قبل "صنعه"[14].

لا وجود لشعب "أصلي" أو "بالطبع" عند روسو إذن، كما لا وجود لحاكم أصلي أو بالطبع، فكلّ هذا مسألة عقد، والعقود لا أصل لها في الطبيعة، إذ هي دائماً توافقات، والعقد ينجح بقدر ما يحفظ من عناصر الحريَّة الأصليَّة، أي بقدر ما ينجح في تحويلها إلى حريَّة شرعيَّة وأخلاقيَّة، بل هو قد يبزّ هذه الحريَّة الأصليَّة إذا ما نجح في أن يصير عنصراً مسدّداً لأشكال عدم التساوي في القوى والمواهب الطبيعيَّة، باصطناع مبادئ وقواعد أخلاقيَّة تقرّب بين الناس[15].

من الإرادة الكلية إلى الإرادة العامَّة:

تقدَّم معنا أنَّ العنصر الذي يضمن توافق الحريَّات الفرديَّة مع قوَّة المجتمع هو أنَّ الفرد، من حيث هو مواطن، لا يخضع لقوَّة تتجاوزه، بل يخضع لقوَّة هو جزء منها، وهي ما سمَّاه روسو بالإرادة العامَّة. على أنَّ مفهوم الإرادة العامَّة عند روسو هو مفهوم غاية في الدقة، لهذا فمن شأن عدم تبيّن معناه أن يذهل بنا عن المقاصد الغميسة التي في فكر الرجل، إذ أنَّ هذه الإرادة، وعلى العكس ممَّا تذهب إليه كثير من التأويلات، لا تعني "الإرادة الكليَّة"، أي لا تعني "الجمع العددي" لإرادات الأفراد المتعاقدين "إحصائيَّاً"، ولا هي تعني قوَّة جهة من الجهات المتعاقدة وتغلّبها كميَّاً على منافسين مفترضين لها (وهو ما يحصل في الديمقراطيَّة التمثيليَّة)، بل هي تعني "التركيب الكيفي"، أو لنقلْ "التركيب العضوي" لإرادات المتعاقدين كلّهم، تركيب لا يتحقق إلّا في إطار توازن مصالح إرادي، إذ لا يمكن أن ينشأ أيّ عقد على أساس الغلبة، فوحدها ملاءمة الإرادات قادرة على ضمان "قوَّة" العقد واستمراره. وهكذا فالإرادة "كيمياء"، كما تقدَّم، وليست إحصاء، والمجتمع، إن شئنا الإبقاء على الاستعارة البيولوجيَّة، هو توافق عضوي، أو قلْ هو جسم، وليس تجاذباً أو تغلّباً[16].

تنتج عن هذا التحديد جملة من النتائج، سلباً وإيجاباً، بيد أنَّ أكثر النتائج أهميَّة، في تصوّرنا، هو أنَّه يمكّننا من تجاوز الإحراج الأفلاطوني الشهير المتعلّق بقضيَّة الديمقراطيَّة، إذ من المشهور أنَّ أفلاطون يمقت الديمقراطيَّة، والعلّة في ذلك عنده أنَّ هذا النظام يقوم على "الهوى والانفعال والغلبة العدديَّة"؛ وهو ما يجعل المجتمع مهدَّداً بالانحلال في كلّ حين، من جهة ما أنَّ الهوى والتغلّب لا يمكن أن ينتجا نظاماً أو سِلماً. بيد أنَّ روسو، بمفهومه هذا عن الإرادة العامَّة، يحرّرنا من هذه "الحتميَّة" الأفلاطونيَّة، وهذا على مستويين: الأوَّل منهما كونه، وكما تقدَّم، يفصل بين التصوُّر الكمّي المبني على الغلبة، والعقد الاجتماعي المواطن الذي ينبني على "التركيب العضوي للإرادات". المستوى الثاني متعلّق بـ"مضمون" هذا الذي يتمُّ تركيبه، إذ أنَّ هذه الإرادة لا تكون عضويَّة إلَّا لأنَّ ما نجمعه إلى بعضه بعضاً فيها، ليس مجموع الرغبات الفرديَّة المتناقضة التي تنضاف إلى بعضها بعضاً حسابيَّاً، أي الأهواء بلغة أفلاطون، بل هي تركيب لما "يقبل أن يركّْب من الإرادات"، أي ما يقبل، بطبيعته، أن يتخلّص من طابعه الشخصي الفردي، ويتوافق مع إرادات الآخرين، وهذا لن يكون إلّا القواسم العقلانَّية التي يجمع عليها الناس، من حيث هم أناس. على هذا الأساس سيصير مدلول الإرادة العامَّة وبدقّة، هو كونها "مجموع العناصر المشتركة عقليَّاً بين المواطنين، والتي تقبل بطبيعتها العقليَّة هذه، تعمّم على الجميع وتقتسم بينهم، وهذا وحده ما يضمن للعقد شرعيّته، لأنَّه يحفظ عمليَّاً حقَّ الجميع، ونفعه لأنَّ هدفه مصلحة الكلّ لا البعض، وقوَّته لأنَّه مسنود بهذه الإرادة العامَّة التي يعكسها[17].

على أنَّ لهذا الأمر نتائج أيضاً قياساً إلى إشكالنا الذي بدأنا به وهو مفهوم الشعب، أولى هذه النتائج أنَّ هذا الشعب، حين نأخذه بمعنى الإرادة العامَّة هذا، ووفق هذه الشرائط، لن يظلَّ شيئاً متحققاً "بالقوَّة" قبليَّاً، بل سيصير شيئاً "متحصّلاً" بالعقل "بعديَّاً"، بما أنَّ الشعب لا يظلُّ مجرَّد الجمع العددي للإرادات "إحصائيَّاً"، كما قلنا، بل يصير التركيب الهندسي لما يقبل أن يجتمع ويعمَّم. على هذا الأساس، فإنَّ كلَّ نزوع شعبوي، يدَّعي التماهي مع إرادة الشعب وطموحاته تلقائيَّاً، سيصير، وهنا أيضاً، نزوعاً باطلاً، بما أنَّ الشعب سيصبح دائماً تركيباً ينبغي إيجاده، بل قد نذهب إلى أبعد من روسو ونقول، في حدود قصوى، إنَّ الشعب لن يوجد دائماً، أو لن يوجد إلّا نادراً؛ لن يوجد إلّا في لحظات قليلة، من مثل "لحظة التأسيس" هذه التي ذكر روسو، أو لحظة "الثورات الكبرى"، أمَّا أغلب الوقت، فالشعب يكون شيئاً مفقوداً، شيئاً "ينبغي" البحث عنه لإيجاده، وإنْ للحظة، قبل أن ينحلَّ ليعود لما كان عليه من قبل، كتلاً بشريَّة.

والحقيقة، إنَّ مثل هذه الرؤية "الجذريَّة"، إن كانت لا تحضر عند روسو بـ"نصّها"، فإنَّها ليست غريبة عن فكره تماماً، إذ ما يفتأ الفيلسوف يلحُّ على ما يشبهها حين يتحدَّث ويكرّر الحديث عن صعوبة صنع "الإرادة العامَّة"، حتى أنَّ كتابه العقد، كما ذكرنا آنفاً، قد لا يكون إلَّا بياناً لموانع هذه الإرادة العامَّة، إذ أنَّ هذه حتى تتحقّق عنده، تحتاج إلى اجتماع عناصر وأسباب قلّما تجتمع، أوَّلها أن تكون هذه الإرادة قادرة على التعبير عن نفسها، وهذا متعذّر في الغالب، لأنَّ ديناميَّات الانفعال التي تحكم الحشود تمنعها عن ذلك، فيحصل أن تفتتن بشخص وتسلّمه سلطتها، وهو ما ينتج عنه انحلال العقد تلقائيَّاً، لأنَّ المصلحة العامَّة والحريَّة الفرديَّة تنتفيان معاً حينها، وحتى إن نحن تلافينا هذا الخطر وتحَّصلت لنا إرادة عامَّة أولى مؤسّسة، فقد يحصل، في مسار هذه الإرادة العملي، أن تنكسر الصلات بين أطرافها، بأن تستبدَّ جماعة ما أو طبقة بأمر هذه الإرادة في كليّتها، وتحوُّلها إلى "إرادة خاصَّة"، وهو ما يحصل كثيراً مع النظام التمثيلي الديمقراطي، وهو الأمر الذي يجعل روسو يرفض هذا النظام، ويعتبره شرَّاً، بل ويعتبر الديمقراطيَّة، عموماً، ومهما كان جنسها، نظاماً هشَّاً وصعب التحقّق، ومهدّداً بأن يتحوَّل إلى "نظام غوغاء" (ochlocratie)، أو أن يصير حرباً وفوضى خالصة[18].

كل حديث عن السياسة هو في النهاية حديث عن الشعب، أو عن العلاقة مع الشعب وعلى هذا الأساس يمكن، في نظرنا، أن نميّز بين النظريَّات السياسيَّة  

استدراك للختم:

وبعد، ألا يعيدنا هذا، من حيث شئنا أم لم نشأ، إلى ما تقدَّم معنا ابتداءً؟ ألا يدفعنا إلى القول إنَّ الديمقراطيَّة هي نظام "مستحيل" بطبعه، بما أنَّ كلَّ طموح ديمقراطي نظريَّاً، سيصير، عمليَّاً، وبالضرورة، فعل محو للديمقراطيَّة "ديمقراطيَّاً"، أي فعل نسيان لطموحها المبدئي (الاتصال) في مسار تطبيقها الفعلي (انفصال)؟ ألا يكون المآل النهائي للديمقراطيَّة، ومهما اجتهدنا، هو أن تصير نظام "ديكتاتوريَّة متنوّرة"؟

لسنا ندري، قد يكون في الأمر شيء من هذا، شيء هو ما يفسّر قلق الفلاسفة الدائم (من أفلاطون إلى هابرماس، مروراً بهوبس وطوكفيل وغيرهم) من كلّ حديث حماسي عن المبادئ في مسألة الحريَّة والشعب، ومن ثمَّة الديمقراطيَّة، كونهم أدركوا مثلاً أنَّ الانفعال ليس مرض الديمقراطيَّة اللّاحق، بل هو شيء يسكنها في عمقها، كونه "همّها" أو "قلقها" بلغة الوجوديين. لكن مهما يكن من أمر هذا السؤال والجواب عنه، فإنَّ الذي يمكننا أن نقرّره هنا، وبخصوص روسو تحديداً، هو أنَّ هذا الفيلسوف الكبير، وحتى إن كان لا يذهب إلى القول إنَّ السياسة هي مسألة "علاقات قوى"، وإنَّ كلَّ النظم تتواطأ "أخلاقيَّاً"، باعتبارها كلّها تدبريَّات ممكنة لهذه العلاقة، فإنَّه يقرُّ بصعوبة المسألة، وبصعوبة تحقيق النموذج الديمقراطي، أو على الأقلّ نموذج ديمقراطي يدوم، إذ أنَّه من المخالف للطبيعة "أن تقود الكثرة القلّة"، أو أن يخضع الجميع لإرادة تنشأ عن "توافق حر"، فهذا لا يناسب إلّا الآلهة، والحال أنَّ الناس لن يكونوا آلهة أبداً، بل إنَّ الرجل يدفع الأمر إلى حدٍّ أبعد، فيستدرك على نفسه وعلى نظريّته في "الإرادة العامَّة" بالقول في واحدة من رسائله المتأخّرة، إنَّها كانت أقرب إلى محاولة لتربيع الدوائر منها إلى تصوُّر سياسي. لهذه الاعتبارات، ولأخرى كثيرة غيرها، يبدو لنا أنَّه من الخطأ النظر إلى فلسفة روسو السياسيَّة، وضمنها نصّ "العقد الاجتماعي"، باعتباره "برنامجَ عملٍ" سياسي لأجل "حرّيّة الشعب"، بل أن نعتبر حتى أنَّ النظام الذي يدافع عنه روسو، في هذه الفلسفة وهذا الكتاب، كان "النظام الديمقراطي"، إذ لا شيء عنده يشي بهذا، صحيح أنَّ الرجل، كما بيَّنا، يقدّم مفاتيح لتحرير مفهوم الشعب من الإحراج الذي وضعه فيه أفلاطون، وأنَّه يعلي من شأن الحريَّة ويجتهد لصياغة مفهوم "موضوعي" عنها، لكنَّ هذا لا يبيح لنا أن نتحدَّث عنده عن نماذج مكتملة أو أجوبة أخيرة، إذ أنَّ الرجل كان، كما قلنا ابتداءً، أذكى وأعمق فلسفيَّاً من أن يقدّم، حيال هذا الأمر الجلل المحفوف بـ"النوايا الطيّبة" الخطيرة، أجوبةً نهائيَّةً.

[1] نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 13

[2]ـ انظر بهذا الخصوص مثلاً كتاب جيرار برا، التباسات الشعب:

Gerard Bras, de Les ambiguïtés du peuple les éditions Pleins Feux,Paris, 2008.

[3]ـ انظر في هذا الصدد مقدّمة كتاب رسالة في اللّاهوت والسياسة لباروخ سبينوزا، الترجمة العربيّة لـ: حسن حنفي، مراجعة فؤاد زكريا، دار التنوير، بيروت، 2008، ص 112.

[4]ـ ورد عند: Henry Guilleminفي محاضرته حول روسو، وهي مأخوذة من دروس برغسون الشفويّة، Henry Guillemin, Rousseau, première partie.، وهي موجودة على الويب ELR_yTpR2yK

[5]ـ نستند في هذه الدراسة، من جهة الإحالة لا الإشكال، على نصّ "في العقد الاجتماعي" حصراً، والعلّة في ذلك هي أنّ بحث هذه المسالة في مجموع الكتب السياسيّة لروسو، ناهيك عن باقي الكتب التي هي كلها، ومن كلّ الأنحاء، حديث بصيغ أخرى عن همّ السياسة والإنسان، لا يمكن أن يسعه بحث أو دراسة من هذا الحجم، لهذا اخترنا الاقتصار على هذا النص، خصوصاً أنّه مترجم ورائج عند القارئ العربي (ترجمة عادل زعيتر، دار هنداوي للنشر، القاهرة، 2012). والإحالات التي سنقدمها كلّها مأخوذة من النسخة الفرنسيّة عن هذا النصّ (الأعمال الكاملة، لا بلياد عند دار غاليمار، في خمسة أجزاء، الجزء الثالث) ثم نسخة دار فلاماريون لأهميّة المقدّمة التي تحتويها والهوامش، كما سنثبت في حينه. شكل الإحالة سيكون بأرقام الكتب والفصول، حتى يسهل الرجوع إلى المقابل العربي.

انظر على سبيل المثال ما ورد في الفصل الثامن من الكتاب الأوّل من "العقد الاجتماعي".

[6]ـ لروسو قصّة خاصّة مع فرنسا والمثقفين ورجال السياسة في عصره وبما بعده، نتذكّر هنا الاضطهاد الذي تعرَّض له في حياته الخاصّة من طرف السلطة وجملة من المثقفين على رأسهم فولتير، اضطهاد يتحدّث عنه هو شخصيّاً، وبمرارة شديدة، في عدد من كتبه منها الصفحات الأولى من كتاب ريفري، ذهب إلى حدّ اتهامه بالجنون والخرف، ونتذكّر هنا الصراع الذي نشأ حول جثته وإدخالها للبانثيون. وهناك عدد من الدراسات التي تعرَّضت لهذا الموضوع منها:

D. Bensoussan, La maladie de Rousseau, Paris, 1974.

J. Starobinski Jean-Jacques Rousseau: la transparence et l’obstacle, Paris, Gallimard, (1971). 

انظر كذلك العدد السابع عشر من مجلة Reliance، الذي صدر سنة 2005، والذي خُصِّص لهذا الموضوع.

بالنسبة إلى كتب روسو، انظر الكتاب الأوَّل من rêveries d’un promeneur solitaire ثمّ الكتاب السادس مثلاً من نصّ اعترافات. أمَّا في ألمانيا، فالأمر كان دائماً مختلفاً، فروسو مثل أحد أهمّ مراجع المثاليَّة الألمانيَّة، من كانط إلى كاسيرر، مروراً بهيغل وفيخته، انظر في هذا الصدد مقدّمة النسخة الفرنسيَّة لنصّ "العقد الاجتماعي" المنجزة من طرف برونو بيرناردي، دار فلاماريون، باريس 2001، ص 8.

[7]ـ هذه الروح نجدها على طول الكتاب، انظر مثلاً الفصول الأولى من الكتاب الأوَّل من "العقد"، ثمَّ الفصل العاشر من الكتاب نفسه.

[8]ـ العنوان الكامل للكتاب هو:

Du contrat social ou principes du droit politique, par J-J. Rousseau, citoyen de Genève.

[9]ـ العقد، الكتاب الأوّل، الفصل الأوّل.

[10]ـ انظر في هذا الصدد:

Alexis de Tocqueville, De la démocratie en Amérique, Tome II, Deuxième partie, Influence de la démocratie sur les sentiments des Américains, Chapitre premier.

[11]ـ انظر العقد، الفصل الخامس والثامن من الكتاب الأوّل.

[12]ـ هذا الموضوع حاضر في الكتاب الأوّل والثاني كليهما تقريباً، خصوصاً الفصل الأوّل من الكتاب الأوّل، والفصل الرابع، والفصل السابع.

[13]ـ نجد بعض هذه الأمثلة في الفقرات الأولى من العقد، ولكن خصوصاً في الباب الرابع والأخير، حيث يجعل من تاريخ روما ونشأتها وعلاقتها بالقبائل سنده الأساس في الاستدلال على ما طرحه من قضايا سابقة.

[14]ـ انظر الفصل الثامن وما يليه من الكتاب الثاني.

[15]ـ يمكن هذا التصوّر روسو طرداً من أمر آخر ذي بال في الفلسفة السياسيَّة، وهو التوفيق بين أمرين قلّما يتفقان، وهما العدالة والمصلحة، فلأنَّ الأصل في كلّ تجمّع هو المصلحة، كانت العدالة ممكنة، بما أنَّ أفضل تدبير ممكن للمصالح وحفظها، في المستوى العام، لا يكون إلّا العدالة. والعدالة حين تؤخذ بهذا المعنى، فإنَّها لن تعني، سياسيّاً، شيئاً آخر غير الحريَّة، حريَّة كلّ فرد، وبالتالي الجميع في أن يحفظ حقه ومصلحته وإرادته، بما يحفظ حقّ ومصلحة وإرادة غيره. هكذا تلتئم العناصر بشكل متواطئ متداخل، فيتحقق المجتمع الذي هو عينه القانون وهو الدولة: فهو في خضوعه لنفسه يكون شعباً، وفي حكمه لنفسه حاكماً، وفي تحديده لقوانين وبنود هذا الحكم ومؤسَّساته يكون دولة. (انظر الفصل السادس والسابع من الكتاب الأوّل).

[16]ـ انظر الفصل التاسع من الكتاب الثاني.

[17]ـ الكتاب الأوَّل، الفصل السادس، عن الميثاق الاجتماعي.

[18]ـ في نقد الديمقراطيّة وبيان هشاشتها انظر الباب الثالث، الفصل الثامن، الفصل التاسع، أمّا بخصوص في نقد الديمقراطيّة التمثيليّة، فانظر الباب الثالث، الفصل الخامس عشر، وبخصوص صعوبة حفظ الإرادة العامّة لذاتها وفي ميلها الطبعي نحو الانحلال، انظر الفصل الرابع من الكتاب الثالث، الفصل العاشر من الكتاب نفسه، وانظر، أخيراً، بخصوص ميل الإرادة العامَّة للاستلاب، الفصل الثاني من الكتاب الرابع، الفصل الثالث من الكتاب نفسه.

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%A8-%D8%AF%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%85%D9%81%D8%A7%D8%B1%D9%82%D8%A7%D8%AA-6443

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك