دار الإسلام : بحث في المفهوم، و المرجعية الدينية ، والتحيزات الثقافية

دار الإسلام : بحث في المفهوم، و المرجعية الدينية ، والتحيزات الثقافية

عبدالله إبراهيم*

1 - دار الإسلام: انبثاق عالم جديد

يصعب، من ناحية تاريخية، تحديد اللحظة التي بدأ يتداول فيها مصطلح (دار الإسلام) ليس لأن هذا المصطلح غير قادر على الإفصاح عن مضمونه، إنما لأن قيمته الحقيقية تكمن في دلالته الثقافية، فدار الإسلام لم ترتهن أبدا لمعنى جغرافي مباشر محدّد؛ لأن تلك الدار كانت تتوسّع وتنحسر على وفق درجة حرارة البعد الثقافي للإسلام كمنظومة ثقافية يوجهها بعدٌ ديني لرؤية العالم. ووحدة دار الإسلام كانت ثقافية بالدرجة الأولى، وجرى باستمرار تهميش للعوامل العرقية والجغرافية، ولكن هذا لا يقصد منه طمسها، إنما هي انتماء طبيعي، فيما العقيدة انتماء ثقافي. ولم تكن دار الإسلام في أي وقت من الأوقات أرضا تحتكر السيطرة عليها دولة واحدة. ويبدو لنا -وهذا أمر يحتاج إلى اختبار خاص- أن هناك تعارضا شبه دائم بين المفهومين السياسي والثقافي لـدار الإسلام. وفي حدود علمنا نشأ المفهوم إثر انحسار السيطرة العربية على جزء كبير من العالم القديم؛ فمنذ العقد الأخير من القرن الأول الهجري (= بداية القرن الثامن) وقع أمران ملفتان للنظر: أولهما توقف الفتوحات في أقاصي الشرق داخل الأراضي التركستانية عند (كاشغر) وظهور بوادر تقهقر دائم في تلك النواحي، انتهى بعد أكثر من خمسة قرون بوصول الأقوام المغولية إلى بغداد، القلب الثقافي النابض لـدار الإسلام آنذاك، وثانيهما اندفاع الفتوحات الغربية إلى أوربا عن طريق الأندلس، ثم توقفها شبه المفاجئ، بعد فترة قصيرة. ولعلّ العقد الأخير من ذلك القرن، والعقد الأول من القرن الذي تلاه، هما البداية التي شهدت اللحظة الفاصلة بين اندفاعين يصعب تفسيرهما، وبداية تقهقرين لا يقلان عنهما غموضا. هذان الأمران كانا دائما مثار خلاف في التفسير، وتقاطعت حولهما المواقف، وبخاصة حينما خلع عليهما الغطاء الديني، فكان المفسر الوحيد لصعود الممالك وانهيارها.

احتل الحديث عن دار الحرب مكانا بارزا في الأدبيات الفقهية الإسلامية منذ القرن الثاني الهجري، وزاد الاهتمام به في القرون اللاحقة، وأسهم فيه نخبة من الفقهاء، إذ كان العالم حسب المفهوم الإسلامي، ينقسم إلى قسمين: دار الإسلام التي تضمّ المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية التي رضخت للسيادة الإسلامية، ودار الحرب. أما دار الإسلام فتشمل فئة المؤمنين، والفئات التي حالفت المسلمين من أهل الكتاب الذين آثروا البقاء على ديانتهم مقابل دفع الجزية، وجميع الساكنين في دار الإسلام يعدّون رعايا الإمام أو الخليفة، ولهم حق الحماية في الداخل وحق الدفاع عنهم في حال اعتداء خارجي. أما دار الحرب فضمّت العالم المحيط بدار الإسلام، وجمعت الشعوب والأقاليم غير الخاضعة للسيادة الإسلامية. ودار الحرب هي الهدف الذي كان الشرع يسعى إلى ضمّه إليه، فمن واجب كل حاكم مسلم أن يسعى لإخضاع دار الحرب للسيادة الإسلامية عندما تتوافر له القوة الضرورية لذلك. وعدّ سكان دار الحرب أقواما على سجيتهم الأولى البدائية تنقصهم الكفاءة الشرعية التي تؤهلهم للدخول في مفاوضات مع المسلمين على قدم المساواة، وعلى مبدأ العدالة بالمثل، لأنهم عاجزون عن الانسجام مع المستوى الخلقي والشرعي لدى المسلمين، وعلى هذا فالمعاهدات معهم لم يكن معترفا بها ضمنا طبقا للشرع الإسلامي(1).

وقع خلاف بين الفقهاء المسلمين فيما يخص هذا التقسيم للعالم، ومع أن الغالبية قبلته كأمر واقع فإنّ فئة منهم -ولاسيما فقهاء المذهب الشافعي- افترضت وجود دارٍ ثالثةٍ هي دار الصلح، أو دار العهد. وحسب هذا المذهب فالإسلام اعترف بالشعوب غير الإسلامية التي أبرمت معاهدة أو صلحا مع المسلمين على أن تدفع الجزية. لكن فقهاء الحنفية لم يقبلوا بهذا، وما اعترفوا أبدا بالصلح، وحجتهم إنه متى عقد سكان الإقليم معاهدة سلام، ودفعوا الجزية؛ فأنهم يصبحون بذلك ضمن دار الإسلام، وعلى الإسلام أن يضمن لهم الحماية. وكانت دار الإسلام -من ناحية نظرية- في حالة نزاع مع دار الحرب، لأن الهدف الأخير للإسلام هو أن يكون العالم بأسره تحت سيطرة المسلمين، وإذا أفلح المسلمون في ذلك، فإن حالة السلم التي يفرضها الإسلام تحلّ محل كل تدبير سلمي آخر، وتصبح الشعوب غير المسلمة إمّا جزءا من الدولة الإسلامية، أو خاضعة لسيادتها كأقليات دينية معترف بها، أو كوحدت ذات استقلال ذاتي تربطها بالدولة الإسلامية معاهدات تنظّم العلاقات بينهما(2). وطبقا لهذا التصور فإن الفكر السياسي الإسلامي أوجد دولة بمقتضى عقد مقدّس قائم على الشريعة، ولا انفصال بين الدولة والمجتمع ولا بين الدولة والدين(3). وحسب (شاخت) فالشريعة هي نموذج للقانون الديني(4). والخليفة أو الإمام هو الشخص الأعلى المسؤول عن حماية الشريعة، ثم أن مسؤوليته لا تقتصر على صون حدود دار الإسلام، إنما توسيعها لتهيئة العالم لقبول الشريعة بما يجعله كله معتنقا للإسلام؛ فالله هو المصدر النهائي للسلطة، والجماعة الإسلامية أمّة الله، وممتلكاتها مال الله، بما في ذلك الغنائم، وأعداؤها هم أيضا أعداء الله(5).

وقد وضع ابن فضل الله العمري لدار الإسلام تخوما مبهمة تأخذ بالحسبان العقائد أكثر من أي شيء آخر، فقال: (ممالك الإسلام واقعة، بحمد الله، في أحَسن المعمور شرقاً وغرباً وجنوباً وَشمَالاً، لأنها لا تنتهي إلى غاية الحَرارَة المفرطَة ولا إلى غَايَة البَرد المفرط، إلا فيمَا قل، ولا يخرجُ عن حد المُستَطاب.. فغاية معمور الجنوب مساكن السودَان من عُبَّاد النيران والأصنام، بما تغلغل من جزاير الهند وَأطرافه، والنصارى بأطراف الحبشة، وعبَّاد الحيَّات، والهمج في سُودَان المغرب جنوب غَانه. وغاية معمور الشمال من النصارى والهمج ببلاد الصقلب، في شماليها أحد قسمي إيران المسَّماة ببلاد القبجاق، وما سامت ذلك الخط من القسطنطينية، وما وراءها إلى جليقية والأرض الكبيرة وجزاير البحر الرومي. وغاية معمور الشرق من عُباد النيران والأصنام بثالث أقسام توران من بلاد الصين إلى المحيط، وأمَّا الغرب فانتهى فيه الإسلام إلى البحر المحيط)(6). فدار الإسلام تكشف قيمتها وأهميتها وموقعها المرموق من الناحية الطبيعية والبشرية، فهي في أحسن المعمور من الأرض، فمن الجنوب والشرق عبّاد النيران والأصنام، ومن الشمال الهمج، ومن محيط الظلمات.

ونُظر إلى الشعوب خارج دار الإسلام على أنها جماعات وقبائل ضالة ينبغي أن تمتثل للشريعة الإلهية، ويجب أن يبسط الإسلام قيمه في ربوعها لترتقي إلى مستوى الأهلية البشرية الحقيقية، وعلى هذا فهناك حرب بين دار الإسلام ودار الحرب، حرب معلنة أو مضمرة أو مؤجلة، وهي لا تنتهي إلا حينما يدخل الجميع إلى الإسلام أو يخضعون له؛ فالسلام بين الدارين غير ممكن من ناحية شرعية لأنه مصالحة بين نقيضين: حق وباطل، هدى وضلالة، إيمان وكفر. ووجود هدنة لا يعني أن تضع الحرب أوزارها إلى الأبد، فهي مؤقتة لا تزيد على عشر سنوات، وللمسلمين حق نقضها من طرف واحد، ومواصلة الجهاد، متى وجـدوا ذلك ممـكنا وضــروريا(7). وهذا يشمل كل الممالك المتاخمة لدار الإسلام، باستثناء الحبشة التي استثنيت من ذلك لأسباب تتصل بموقفها من الإسلام في مرحلته الأولى. يتضح مما سبق أن النظرة إلى الآخر كانت تقوم على أسس دينية وقيمية، فالدين هو الذي يمنح المعنى النهائي للأشياء، وللظواهر، وللبشر، لذلك فالبحث عن ملامح الآخر يفترض العودة إلى النص المرجعي الأول إلى القرآن الذي يجهز النظر ببعض عناصر الإدراك والوعي، ويطعّم المتخيّل بما يحتاج إليه من صور وأشكال ورموز.. ومادام الإسلام يحمل تصورا للعالم وللإنسان، ويمثل النص القرآني تكثيفا للكلام الرباني، وتعبيرا عن تجلّيات المقدّس، فهو يشكـل مصـدرا للرؤية، وقاعدة معيارية للجماعة الإسلامية(8).

لم يستطع المسلمون الحفاظ على هذه الوحدة المتماسكة التي توجهها الشريعة وتنظمها، فسرعان ما تفكّكت أواصر الوحدة السياسية داخل دار الإسلام، وظهرت مراكز سياسية تدّعي احتكار الإسلام الحقيقي، وتصارعت تحت ستار امتلاك الشريعة بصورتها الصحيحة، وقُسِّمت دار الإسلام سياسيا، وإن ظلت موحدة عقائديا، ولهذا فدار الإسلام كانت ذات طابع ثقافي أكثر مما هو سياسي، ومع الزمن تم ّ قبول الجوار كأمر لابد منه، فمادام التنوع قُبل داخل دار الإسلام، فقد امتد ليشمل العالم كله، لكن واقع الحال هذا لم يفرض نفسه إلا في وقت متأخر، بعد أن تعددت الكيانات السياسية داخل دار الإسلام.

لم تتثبّت أبدا حدود جغرافية لدار الإسلام، ولكن ليس هذا ما نريد الإشارة إليه هنا، إنما الأمر الرئيس الواجب إثارته هو عدم إمكانية ظهور دلالة ثقافية لهذا المصطلح في ظروف فتوحات كاسحة، وعندما توقفت جرى شبه تثبيت عقائدي، هو الذي لعب دورا بالغ الأهمية في ظهور مفهوم دار الإسلام. لم تكن الحدود الجغرافية بين الدولة الإسلامية والدول المجاورة لها في يوم ما ثابتة، ولم يجر طوال القرون الوسطى في أي مكان من العالم الاتفاق النهائي على حدود ثابتة معترف بها بصورة كاملة. والقول بحدود شرعية فكرة تمخضت عن النزاعات الدائمة بين الدول الأوربية في القرن السابع عشر، وظل الشك يلازم تطبيقها إلى الآن. فلم يحدث أن أخذت دولة قوية خلال القرون الوسطى أمر سيادة الدول المتاخمة لها بعين الجد، فعنصر القوة، وليس الحق، هو المهيمن في العلاقات السياسية بين الدول، وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق على مجموعة الدول التي كانت تتنازع السلطات ضمن دار الإسلام فيما بينها أو مع الدول المتاخمة لها. وهو يفسر لنا جزئيا ظهور مجال فاصل بين دار الإسلام ودار الحرب، مجال فرضه التنازع الدائم، وشكل دارا ثالثة، هي (دار العهد) أو (دار الصلح). وغني عن البيان تفصيل القول في أن هذه الدار المزدوجة الولاء بين الدارين المذكورتين كانت هشة التكوين، ضبابية الهوية، مخترقة دائما من إحدى القوتين المحاذيتين لها، تقوم بدور التخوم الفاصلة، حينما تغيب التخوم الطبيعية المانعة لتقدّم هذا أو ذاك، إلى ذلك كانت سهلة الاختراق، فنسيجها الاجتماعي والثقافي والعقائدي خليط مستعار من هذا وذاك. وهي دار رمزية يتزحزح مكانها بصورة دائمة، لا تعرف الثبات أبدا، وكثيرا ما ينعدم وجودها.

وبداية من مطلع القرن الخامس الهجري (= الحادي عشر الميلادي) كانت العلاقة بين المجال السياسي والمجال الثقافي فيما يسمى بـ(دار الإسلام) هي علاقة عكسية؛ فكلما تراجعت السيطرة السياسية، تقدمت السيطرة الثقافية. وبعبارة أكثر تحديدا، فقد حالت التنازعات الداخلية في دار الإسلام دون القدرة على إبقاء قوة كاملة في تخومها تؤمِّن حدودها بشكل دائم. وعلى هذا فقد امتصت تلك المنازعات القوة المطلوبة، وظلت حدود دار الإسلام غامضة، يتحكم بها عامل القوة الذي ينبثق هنا أو هناك، بسبب سلطان طموح، أو إمارة قوية، ثم يعيدها الضعف إلى سابق عهدها. ولكن بالمقابل فإن المسلمين المتاخمين لدار الحرب، والذين تتلاعب بهم رهانات القوة، فيكونون مرة ضمن دار الإسلام، ومرة ضمن دار العهد، وثالثة داخل دار الحرب، نجحوا على نحو منقطع النظير في تشكيل هويتهم الثقافية الإسلامية كائنا ما كان وجودهم داخل هذه الدار أو تلك، وكائنا ما كانت قراءتهم للإسلام. وعلى هذا فقد تتراجع الحدود السياسية لدار الإسلام، ولكن الحدود الثقافية شبه ثابتة، إن لم نقل إنها تتوسع (= ظهر هذا في جنوب آسيا ووسط إفريقيا حيث تمددت دار الإسلام بوسائل غير عسكرية في كثير من الأحيان) ومع التراجع المطّرد للحدود السياسة، نشأ وضع جديد في ظل هذا التوتر المستمر؛ فقد نشأت إمارات غير خاضعة للمركز التقليدي السياسي لدار الإسلام، لكنها تدين بالعقيدة نفسها، والحق فإن هذه الكيانات السياسية، وهي أكثر من أن تحصى في هذا المقام، وتمثل أطراف دار الإسلام، لعبت الدور الرئيس والفاعل في إضفاء التنوع الخصب ثقافيا وعقائديا على دار الإسلام طوال قرون وقرون، وفيها نشأت فكرة الإسلام المتنوع الذي لا يتعارض مع وحدته العامة. وعلى هذا لم تكن دار الإسلام كتلة ثقافية متطابقة التصورات تماما، ومتماثلة التفسيرات على نحو مطلق، إنما اتصفت بالتنوع الذي أضفى خصبا ثقافيا لا يمكن إهماله. كان الإسلام يمثل هوية ثقافية أكثر منه كيانا سياسيا.

لقد فرضت المفاهيم القديمة للعالم تباينا في التصورات، أدت إلى تركيب صور الكراهيّة للآخر. صور سادت لفترة طويلة توجهها منظومات قيم متباينة. إن الآخر في الفكر القديم هو المختلف قيميا بالدرجة الأولى. وتثير قضية الآخر في أذهان المسلمين موضوع القيم الإسلامية وضرورة تعميمها على العالم بأجمعه، فالآخر موضوع ينبغي أن يُغزى بالقيم الإسلامية لكي يصلح أمره. وكان التصور الشائع عن الذات والآخر يستمد حيويته من المركزية الدينية، أي تلك البؤرة التي تنبثق منها قيم الحق إلى الأبد، وبما أن التصور الديني عدّ الله مصدرا لقيم الحق، وأنه حلّ هنا (دار الإسلام) ولم يحل هناك (دار الحرب) فالنتيجة المنطقية هي أن قيم دار الإسلام هي الحقيقية والصائبة، أما قيم الآخر فمحقّرة، ومدنّسة، ويلزم تطهيرها من النجاسة الوثنية. قيم الآخر هي موضوع لحكم القيمة وندر أن استأثرت بوصف وحكم موضوعيين؛ ففي عصر يتصدّر فيه الشعور الديني أي شعور آخر، لا مكان للمصالحة في القيم والأخلاقيات. ولكي يظلّ ذلك الشعور حيّا، ومتوهجا، ومتّقدا بالتنازع القيمي لابد من تفريق يقوم على ثنائية الحق والباطل بين قيمـ(نا) وقيمـ(هم). هذه الثنائية تصوغ وعي لاوعي المجموع، وتجعله يبني تخيلاته ومواقفه وأحكامه واختياراته على أساس فكرة التفاضل والتراتب التي تقود إلى الإعلاء من شأن الذات وخفض قيمة الآخر. لقد تم تخطّي الإنسان كذات، وصار التركيز عليه كموضوع للقيم، وأهميته لا تتحدّد من كونه بشرا، إنما في اعتناقه ضربا من القيم دون غيره.

سلّم القيم والمرجعيات الذي صاغه الإسلام، وتحول إلى جزء مكمّل من العقيدة حسب الفهم الشائع لها سيتدخّل في تركيب صور مشوّهة للآخر. وبالإجمال فصور الأخر منتقصة، يشمل الانتقاص بالدرجة الأساس القيم الشائعة لديه، ويمتد ليشمل الإنسان حامل تلك القيم. هنالك تشويه لحقيقة الآخر ذهنيا وجسديا وعقائديا، ففضلا عن البلادة والجهل والضلال والسفه والبوهيمية، يتراوح الأخر بين تصغير يشوش إنسانيته، كما هو الأمر بالنسبة لأقوام أقصى الشمال حيث يفترض أن تكون بلاد يأجوج ومأجوج، أو تضخيم مقصود كما هو الأمر في حالة الزنوج والصقالبة وكثير من الأقوام الشمالية. تتصف القيم الدينية بالثبات، وكان الفهم الديني للحياة يقوم دائما بمراجعات دقيقة كيلا يخرم الزمن ثبات القيم، فتصاب بالفساد بسبب التحوّل، بعبارة أخرى فالقيم الدينية تتخطّى البعد التاريخي، ولها قدرة الشمول والديمومة والثبات؛ لأنها قيم مكانية وليست زمانية. فهي لاتقرّ بالتحول، ثابتة، ساكنة، دائمة الصحة، تريد للإنسان أن يتكيّف معها، فيظل في حالة تصحيح دائم لمساره، لكي يمتثل لها. هي المركز المشع الدائم، وهو يدور في فلكها. قربه وبعده عنها هو الذي يحدد قيمته. ومادامت القيم الدينية هي التي تحدد أهمية الإنسان فمن الطبيعي أن تجرد قواها كاملة لتضمّه إلى عالم الحق. فحيثما تكون ثمة حقيقة مطلقة الصواب ينبغي نشرها، يسود العنف والقسوة كوسيلتين لذلك. أصبحت القيم جوهرا، وصار الإنسان عرضا.

تُستمد القيم من طبيعة المجتمع الذي رسمه الإسلام، تلك المرجعيات هي المعيار الوحيد لصواب المسار الذي ينبغي على المرء أن يسلكه، وذلك سيفضي لا محالة إلى وجود نقيض؛ النقيض يسوغ صيانة القيم من جهة، والعمل على نشرها لتعمّ العالم من جهة ثانية، ففي المجتمع النصّي القرآني تمثل الثنائيات الضدّية دوراً حاسماً في شطر العالم إلى عالمين. ثمة تعارض دائم بين الحق والباطل، والخير والشر، والإيمان والكفر. ولا يمكن أن يظل الصراع منحبساً في المصحف، واستناداً إلى مركزية كلام الله بوصفه المرجعية الكلية لكل شيء، فإن العالم بتناقضاته قد صيغ على غراره. المجتمع الأرضي المنشود إنما هو محاكاة للمجتمع النصي، كما قرر ذلك علم الكلام ثم الشريعة الإسلامية. وفي النهاية لا بد من انتصار وظفر، فكل من أهل الباطل والشر والكفر يتآكلون؛ لأنهم زاغوا عن الحق والخير والإيمان، والصراع محكوم بالثبات والديمومة، وأهل الحق هؤلاء أنيطت بهم مهمة خالدة: نشر كلمة الله في أرجاء الأرض، إذ ليس ثمة حدود نهائية تحول دون ذلك، وبالنظر إلى اختلاف العقائد، والأديان، والثقافات. فمن المنتظر أن يتعثر أهل الحق في مهمتهم، ولكن ينبغي عليهم الالتفاف حول كلمة الله، والتمسك بها، ونشرها، وذلك هو الجهاد. فالجهاد إذن وسيلة لحسم التناقض العقائدي، وإحلال الوحدة محل التعدد. وما دام نسق الثنائيات الضدية قائماً في صلب التفكير الديني فالجهاد لن يتوقف. إنه فعل محكوم بنظام لاهوتي عام. والحق فإن فعل الجهاد كممارسة تهدف إلى تحويل البشر إلى عقيدة واحدة، سيصطدم مع فرضية انشطار العالم إلى عالمين: دار الإسلام ودار الحرب. ولمّا كان الصراع يُعبّر عنه بتجليات مباشرة، فالمؤمنون يوضعون دائماً في تضاد مع الكافرين، وبينهم يتحرك المنافقون حركة مكوكية خادعة.

لقد أشار (جاك بيرك) إلى هذا التضاد الذي يحكم هذه الأطراف بالصورة الآتية (المؤمنون يتعارضون مع مختلف أجناس الخصوم، ويتعارضون حسب أنماط الغيرية. ويقف المؤمنون إزاء الوثنيين والمشركين موقف التضاد المنطقي، وتنخفض حدة هذا التناقض إلى تعاكس بسيط..في حال المنافقين الذين يظهرون وكأنهم مؤمنون، لكنهم ليسوا كذلك في الحقيقة..تتحرك سلوكياتهم المراوغة بين جميع اللايقينيات والتقسيمات الناجمة عن ازدواج الوجود والفعل والكلام، وفي النهاية فهم ينضمون إلى جانب الباطل..غير أن هنالك خصوماً آخرين سبق أن لمسهم الحق وبُلّغوا به، لكنهم يرفضونه ويخفونه. إنهم الكفار، وهؤلاء الكفار لا يقدمون أنفسهم إذن كمنـافقين، وإنما كتضمين للاعتقاد من ناحية الباطل)(9). العالم طبقا للتصور العقائدي يحتاج إلى الانقسام أولا من أجل أن تكون الوحدة هي الهدف المنشود فيما بعد، ومادام الحق ينبثق من دار الإسلام فلابد أن تكون تلك الدار هي المركز، بكل المعاني الثقافية والدينية والجغرافية والأخلاقية. وهذا فيما نرى الدافع وراء مركزية دار الإسلام طوال القرون الوسطى حسب التصورات الإسلامية. من الصحيح أنها تمدّدت جغرافيا في قلب العالم القديم، ولكن اعتبارها مركز الحق فاق المكون الجغرافي في تثبيت مركزيتها. ظهرت الجغرافيا لتسوغ كل ذلك.

2 - مركزية دار الإسلام: تأسيس نسق ثقافي
من الطبيعي أن تجد المنظومات الثقافية تعبيرا لها في التواريخ والآداب والفلسفات، وفي نظُم التفكير والمواقف، وفي كل هذه تتجلّى المركزية الإسلامية بدرجة أو بأخرى، ولكن من الواضح أن الجغرافيا هي الوسيلة الأكثر فاعلية في تحديد الأطر العامة للحدود الرمزية لتلك المركزية الإسلامية، فـ(دار الإسلام) -كمصطلح- لعبت الأدبيات الجغرافية دورا مباشرا في صوغه، مع أنها تدرك بوضوح أن الحدود السياسية كانت مثار تنازع وعدم استقرار. فكرة دار الإسلام هي التعبير الأكثر وضوحا لمفهوم المركزية الإسلامية. وقد سلّم الجغرافيون بهذه الحقيقة، وجعلوها موجها لتصوراتهم. لم ينج أحد من ضغطها الواعي وغير الواعي في بناء فرضياته، وتحديد منطلقاته في النظر إلى الذات والآخر.

تبدو صورة الأرض التي رسمها ابن حوقل في القرن الرابع الهجري (= العاشر الميلادي) أول محاولة جادة وتفصيلية لتقريب صورة الأرض في الثقافة الإسلامية. فالأرض كرة، تقع ديار العرب في قلبها تماماً، وفي المحيط الضيق للإطار المائي حول الأرض، بالكاد تظهر من ناحية المشرق والمغرب ممالك الكفار. ثمة تضخيم متعمد للصورة خاص فقط بدار الإسلام. وكتاب ابن حوقل بكامله خصص لتلك الدار، وكأنها هي الأرض كلها. لم يبذل هذا الجغرافي المشغول بالتفاصيل الكثيرة والمتنوعة جهداً بدار الحرب المحصورة بين عالم هو المركز ومياه مظلمة. ولم يعن بالعوالم الخارجة عن مجال العقيدة الإسلامية. مدونته الضخمة لم تتطرق إلى غير العناصر المكونة لدار الإسلام. بدأها بديار العرب، ثم توسع إلى الغرب أولاً: المغرب، الأندلس، صقلية، مصر، ثم شمالاً: الشام، الجزيرة، العراق، واتجه شرقاً: خورستان، فارس، كرمان، السند، أرمينية وأذربيجان، والران، الجبال، الديلم وطبرستان، مفازة خراسان، سجستان، خراسان، ما وراء النهر، ولم يهمل البحار التي تربط أطراف هذا العالم: بحر فارس، بحر الروم، بحر الخزر. ما سوى ذلك لا وجود له في تصوّر ابن حوقل. في الصفحة الأخيرة من كتابه يؤكد، لآخر مرة خطته الجغرافية، فما أن يصل إلى آخر المدن الصغيرة في منطقة ما وراء النهر، يذكر مدينتين هما (شلاث) و(استياكند) ويقرر (هما ثغران، وإنما يذكران لمحلهما في الجهاد، وأنهما آخر الإسلام(10). هذا التصور سرعان ما اتخذ طابعا ثقافيا، فليس ثمة مايرتجى منه خارج دار الإسلام. المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) يؤكد أنه معني بدار الإسلام، وأهل هذه الدار غير معنيين بدار الكفر، وإنه لن يكلّف نفسه عناء البـحث في ممالك الكفار، ولا يرى فائدة من ذكرها(11). حافظ كثير من الجغرافيين على هذا الميثاق الضمني، لكنّ الرحالة خرقوه، كما سنرى في تضاعيف هذا الكتاب، وعلى الرغم من أنهم امتثلوا لشروطه ذهنيا، لكنهم تمردوا على قيوده الجغرافية. قلة قليلة جدا منهم ظهر لديهم تحفّظ على ذلك، لكنها تحفظات كادت تذوب في النسيج شبه المغلق للرؤية الثقافية العامة التي يتحركون في مجالها.

يُظهر ابن حوقل معلومات غزيرة فيما يخص أقاليم دار الإسلام، وفي الوقت نفسه يفاخر بجهل لا يُقبل فيما يخص الأقاليم الأخرى، وإذا كان معياره يقوم على أساس أن (انتظام الممالك بالديانات، والآداب، والحكم، وتقويم العمارات بالسياسة المستقيمة)(12). فإنه يرى أن هذه المكونات منعدمة إلا في دار الإسلام، وذلك يؤدي به إلى استبعاد كل ما يتصل بالعوالم: الرومية، والصينية، والهندية، والإفريقية جنوب الصحراء، والأقوام الشمالية من إفرنجة، وصقالبة، وبلغار، وأتراك، وغيرهم. البصيرة العقائدية الضيقة تسبب خطأ ثقافياً لا يغتفر، وينبغي طبقاً لمنظور ابن حوقل طمس الآخر واستبعاده، فكل مَنْ لا يتنفس رحيق العقيدة الإسلامية يعدّ فاقداً للخصال الإنسانية التي تجعله مقبولا في (أرض) ابن حوقل. تتأسس على هذا التصور نظرة مشوبة بالتبخيس إلى الآخر الذي يفتقر إلى مقومات دار الإسلام، وهي: الديانات، الآداب، الحكم، السياسة المستقيمة. هذه المكونات المميزة لدار الإسلام، كما صاغها ابن حوقل، استنادا إلى موروث ديني وقيمي، ستظهر بتجليات متعددة، وستلعب دورا حاسما في التفريق بين البشر، فتضفي على أهل دار الإسلام قيمة سامية، وتسلب من سواهم ذلك الامتياز. يكثّف ابن حوقل رؤية عرقية - دينية - ثقافية - جغرافية، يجعل منها أساساً لقانون صارم، يرتب في ضوئه أهمية أقاليم الأرض، وينزّل (ديار العرب) في قلب الدائرة، إنها المركز المشع إلى الأطراف. يقول (بدأت بذكر ديار العرب فجعلتها إقليماً واحداً لأن الكعبة فيها، ومكة أم القرى، وهي واسطة هذه الأقاليم عندي، واتبعت ديار العرب بعد أن رسمت فيها جميع ما تشتمل عليه من الجبال والرمال والطرق، وما يجاورها من الأنهار المنصبة إلى بحر فارس؛ لأنه يحفُّ بأكثر ديارها، ولأن بحر فارس يعطف من جزيرة مسقط مغرّباً إلى مكة، وإلى القلزم، عن خمسين فرسخاً من عمان، ويدعى ذلك رأس الجمجمة)(13) ثم يتوسع في أوصافه غرباً وشرقا. وبالنسبة له فالأقاليم المجاورة لديار العرب، إنما هي تخوم لها. أما ممالك الكفار فهي تخوم دار الإسلام. وتلازمه فكرة المركزية، فيعود لتأكيدها في فصول كتابه، لكنه ليبرز هذه المرة، فضلاً عن الجانب الديني، الصفاء العرقي (ابتدأت بديار العرب لأن القبلة بها، ومكة فيها، وهي أم القرى، وبلد العرب وأوطانهم التي لم يشركهم في سكناهم غيرهم)(14).

صاغت المدونات الجغرافية وعي المسلمين بعالمهم وعالم غيرهم، والحق فإنها مستندات على غاية من الأهمية في ترسيخ صورة (الأنا) وصورة (الآخر) لفترة طويلة جدا. ومع أن المرويات والمدونات الجغرافية المباشرة ككتب البلدان، والمسالك والممالك، وكتب الأقاليم بخاصة، قدمت معلومات ثمينة عن دار الإسلام، وأحيانا مرَّرتْ معلومات عابرة وسريعة عن دار الحرب؛ فإن المعلومات الأكثر أهمية عن العالمين قدمتها كتب الرحلات التي خصت العالم القديم بأجمعه تقريبا بملاحظات مباشرة ثمينة. إلى ذلك فكتب الجغرافيا والتاريخ والرحلات قدّمت مرويات عجائبية كرّست صورا منقوصة عن الآخر.

3 - الآخر: مواقع دونية

أكد ابن خلدون في (المقدمة) أهمية التدرج في ترتيب الأقاليم، وربط الخصائص البشرية والقيمية بذلك التدرج، فذهب إلى أن: المغمور من الأرض إنما يوجد في الوسط لإفراط الحر في الجنوب منه والبرد في الشمال، ولما كان الجانبان من الشمال والجنوب متضادين من الحر والبرد وجب أن تتدرج الكيفية من كليهما إلى الوسط فيكون معتدلا؛ فالإقليم الرابع أعدل العمران، والذي حافاته من الثالث والخامس أقرب إلى الاعتدال، والذي يليهما. والثاني والسادس بعيدان من الاعتدال. والأول والسابع أبعد بكثير؛ فلهذا كانت العلوم، والصنائع، والمباني، والملابس، والأقوات، والفواكه، بل والحيوانات، وجميع ما يتكون في هذه الأقاليم الثلاثة المتوسطة مخصوصة بالاعتدال، وسكانها من البشر أعدل أجساما وألوانا وأخلاقا وأديانا، حتى النبوات فإنما توجد في الأكثر فيها. ولم نقف على خبر بعثة في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية؛ وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم، قال تعالى : ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ وذلك ليتم القبول بما يأتيهم به الأنبياء من عند الله.

وأهل هذه الأقاليم أكمل لوجود الاعتدال لهم، فتجدهم على غاية من التوسط في مساكنهم، وملابسهم، وأقواتهم، وصنائعهم، يتخذون البيوت المنجّدة بالحجارة المنمّقة بالصناعة، ويتناغون في استجادة الآلات والمواعين، ويذهبون في ذلك إلى الغاية، وتوجد لديهم المعادن الطبيعية من الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، والقصدير، ويتصرفون في معاملاتهم بالنقدين العزيزين، ويبعدون عن الانحراف في عامة أحوالهم، وهؤلاء أهل المغرب، والشام، والحجاز، واليمن، والعراقين، والهند، والسند، والصين، وكذلك الأندلس ومَنْ قرُب منها من الفرنجة، والجلالقة، والروم واليونانيين، ومَنْ كان مع هؤلاء أو قريبا منهم في هذه الأقاليم المعتدلة؛ ولهذا كان العراق والشام أعدل هذه كلها لأنها وسط من جميع الجهات.

وأما الأقاليم البعيدة من الاعتدال، مثل: الأول والثاني والسادس والسابع؛ فأهلها أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم، فبناؤهم بالطين والقصب، وأقواتهم من الذرة والعشب، وملابسهم من أوراق الشجر يخصفونها عليهم أو الجلود، وأكثرهم عرايا من اللباس، وفواكه بلادهم وأدمها غريبة التكوين مائلة إلى الانحراف، ومعاملاتهم بغير الحجرين الشريفين من نحاس أو حديد أو جلود يقدرونها للمعاملات، وأخلاقهم مع ذلك قريبة من خلق الحيوانات العجم، حتى لينقل عن الكثير من السودان أهل الإقليم الأول أنهم يسكنون الكهوف والغياض، ويأكلون العشب، وأنهم متوحشون غير مستأنسين يأكل بعضهم بعضا، وكذا الصقالبة؛ والسبب في ذلك أنهم لبعدهم عن الاعتدال يقرب عرض أمزجتهم وأخلاقهم من عرض الحيوانات العجم، ويبعدون عن الإنسانية بمقدار ذلك، وكذلك أحوالهم في الديانة أيضا، فلا يعرفون نبوءة ولا يدينون بشريعة إلا من قرب منهم من جوانب الاعتدال، وهو في الأقل النادر مثل الحبشة المجاورين لليمن الدائنين بالنصرانية فيما قبل الإسلام، وما بعده لهذا العهد. ومثل أهل مالي وكوكو والتكرور المجاورين لأرض المغرب الدائنين بالإسلام لهذا العهد، يقال إنهم دانوا به في المائة السابعة. ومثل مَنْ دان بالنصرانية من أمم الصقالبة والإفرنجة والترك من الشمال. ومن سوى هؤلاء من أهل تلك الأقاليم المنحرفة جنوبا وشمالا فالدين مجهول عندهم، والعلم مفقود بينهم، وجميع أحوالهم بعيدة من أحوال الأناسي قريبة من أحوال البهائم. ويخلق ما لا تعلمون. ولا يعترض على هذا القول بوجود اليمن، وحضرموت، والأحقاف، وبلاد الحجاز، واليمامة، وما يليها من جزيرة العرب في الإقليم الأول والثاني؛ فإن جزيرة العرب كلها أحاطت بها البحار من الجهات الثلاث...فكان لرطوبتها أثر في رطوبة هوائها، فنقص ذلك من اليبس والانحراف الذي يقتضيه الحر، وصار فيها بعـض الاعتـدال بسبب رطوبة البحر)(15).

أوردنا النص كاملا لأنه يحمل في طياته الحجج بجلاء. ويلاحظ أن صاحب (المقدمة) يصدر أحكاما مطلقة، وولكنه سرعان ما يقيدها حينما تلحق ضررا بالعالم الذي ينتـمي إليه: دار الإسلام. يتضح ذلك في استثناء أهل اليمن وعُمان وجزء من بلاد الحجاز، وبعضهم ضمن الإقليمين الأول والثاني اللذين ينبغي أن يتصف ساكنوه على وفق التصنيف الذي يقول به، بأنهم (أبعد من الاعتدال في جميع أحوالهم) وأن (أخلاقهم...قريبة من خلق الحيوانات العجم) لكنّ أهل هذه البلاد لايشملهم الحكم الذي شمل غيرهم؛ لوجود الرطوبة في الهواء فنقص بسبب ذلك اليبس والانحراف، فالمناخ يصلح بحسب هذا التصور أن يكون دليلا على ذم جنس وإعلاء آخر. يدمج ابن خلدون بين المعطيات المناخية والربانية، فقد اختار الله أهل الأقاليم الثلاثة المتوسطة المخصوصة بالاعتدال، وسكانها من أعدل البشر أجساما وألوانا وأخلاقا، فخصّهم بالأديان، حتى النبوات فإنما هي فيهم. ويلاحظ ابن خلدون أنه لم يقف على خبر بعثة نبوية في الأقاليم الجنوبية ولا الشمالية؛ وذلك أن الأنبياء والرسل إنما يختص بهم أكمل النوع في خلقهم وأخلاقهم، وقد أعاد تكييف دلالة الآية القرآنية ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾ لدعم حجته، وذلك ليتم القبول بما يأتيهم به الأنبياء من عند الله. لقد ربط ابن خلدون بين البيئة، والطبع، وإرادة الله، ليسوّغ موقفا يقوم في أساسه على خفض قيمة جماعة من البشر، ورفع قيمة جماعة أخرى. ولأننا نهدف إلى إبراز فكرة العلاقة بين الطبائع والبيئة فينبغي علينا مرافقة ابن خلدون في ترتيبه لضروب تلك العلاقة استنادا إلى المؤثّر المناخي الذي عدّ في ذلك الزمن العنصر الحاسم في تحديد الألوان والأشكال والطبائع. ومن الصعب إقامة براهين على فرضية تدفع بها منظومة ثقافية لها شروط مغايرة عن شروط الأقوام الموصوفة. لقد حذّر روسو من أنه عندما يجري البحث في أمور عامة كالأعراف وطرق معيشة شعب ما، ينبغي توخّي الحذر لئلاّ يصار إلى تقليص أمر الرؤية على أمثـلة خاصـة)(16).

حاول ابن خلدون نقض الأسطورة الشائعة حول الألوان، وبها استبدل القول بالنظرية المناخية، فيذهب إلى أن بعض النسابين ممن لا علم لديه بطبائع الكائنات توهم أن السودان، وهم ولد حام بن نوح، اختصوا بلون السواد لدعوة كانت عليه من أبيه ظهر أثرها في لونه، وفيما جعل الله من الرق في عقبه، وينقلون في ذلك حكاية من خرافات القصاص، ودعاء نوح على ابنه حام قد وقع في التوراة، وليس فيه ذكر السواد، وإنما دعا عليه بأن يكون ولده عبيدا لولد إخوته لا غير(17). بعد هذه المقدمة التي يظهر فيها ابن خلدون مبدّدا لخرافات القصّاص، سرعان ما ينزلق إلى خرافة المناخ، فيقول: في القول بنسبة السواد إلى حام غفلة عن طبيعة الحر والبرد وأثرهما في الهواء، وفيما يتكون فيه من الحيوانات، وذلك أن هذا اللون شمل أهل الإقليم الأول والثاني من مزاج هوائهم للحرارة المتضاعفة بالجنوب؛ فإن الشمس تسامت رؤوسهم مرتين في كل سنة قريبة إحداهما من الأخرى، فتطول المسامتة عامة الفصول، فيكثر الضوء لأجلها ويلح القيظ الشديد عليهم، وتسودّ جلودهم لإفراط الحر. ونظير هذين الإقليمين مما يقابلهما من الشمال الإقليم السابع والسادس شمل سكانهما أيضا البياض من مزاج هوائهم للبرد المفرط بالشمال؛ إذ الشمس لا تزال بأفقهم في دائرة مرأى العين، أو ما قرب منها، ولا ترتفع إلى المسامتة ولا ما قرب منها، فيضعف الحر فيها، ويشتد البرد عامة الفصول؛ فتبيض ألوان أهلها، وتنتهي إلى الزعورة، ويتبع ذلك ما يقتضيه مزاج البرد المفرط من زرقة العيون، وبرش الجلود، وصهوبة الشعور(18).

المسعودي وابن خلدون يصدران في موقفهما من خضم الثقافة المتمركزة حول نفسها، الثقافة التي تقول بقيم، وتؤمن بها، وتدعو إليها، وتنفي كل ّ منْ لا ينصاع لها، فالاختلاف في منظومات القيم يقود إلى التراتب، والتراتب نوع من التفاضل القائم على ترجيح قيم وتبخيس أخرى. لم يبرأ مجتمع من هذا الداء، مهما ادّعى من تسامح؛ فالتسامح في القرون الوسطى كان رغبة دفينة بالامتثال وليس التعايش. ولا يخفى أن هذه الأحكام تقود إلى أيدلوجيا الإحساس بالتفرّد القائم على المفاضلة. ويشعر البيروني بالافتخار، وهو الذي أمضى شطرا طويلا من حياته بين الهنود، لأنه (لم يَسُمنا التهنّد، والانتقال إلى رسومهم) لأنهم (يباينوننا في الرسوم والعادات) و(يباينوننا بالديانة مباينة كلية لا يقع منّا شيء من الاقرار بما عندهم، ولا منهم بشيء مما عندنا)(19). هذا السلوك الذي يبدو طبيعيا أول وهلة، بسبب الانحباس ضمن إطار الهوية الخاصة والثابتة، سيصبح مع الزمن عبئا، إذ لا يمكن التقيّد الصارم بمنظومة أخلاقية مغلقة وسط منظومة أخلاقية مفتوحة مغايرة ومتغيّرة، وهذا النمط من التفكير هو اتصال دوغمائي بنوع من (الهويات القاتلة)(20). إنه التمركز الذي يكثّف مجموعة من الرؤى في مجال شعوري محدد، فيؤدي إلى تشكيل كتلة متجانسة من التصورات المتصلّبة التي تنتج الذات، ومعطياتها الثقافية، بما في ذلك الدينية والأخلاقية، باعتبارها الأفضل، إستنادا إلى معنى محدد للهوية، قوامه الثبات، والديمومة، والتطابق، بحيث تكون الذات هي المرجعية الفاعلة في أي فعل، سواء باستكشاف أبعاد نفسها أو بمعرفة الآخر، وذلك سيؤدي إلى تركيب صورة مشوهة للآخر، وانتاج أيدلوجيا اقصائية استبعادية ضده، وأيدلوجيا طهرانية مقدسة خاصة بالذات(21).

لم تكن الصورة المتشكّلة في أعين المسلمين للعالم الوسيط قد تمت بمنأى عن الوسيلة التي وقعت بها معرفة الشعوب في دار الحرب، فمصدر المعلومات، وطرق تداولها، وكيفية ترتيبها، لعب دورا مباشرا في صوغ تلك الصورة، وقد قامت تلك المعرفة إما على احتكاك خارجي مع أفراد ينتمون إلى تلك الشعوب في دار الإسلام أو على احتكاك داخلي، والأول مصدره الحروب والتجارة والإرتحال، والداخلي مصدره الرقيق والكتب المنقولة عن لغات الشعوب الأخرى إلى العربية، ولم تكن معرفة المسلمين بالآخر معرفة بريئة، إنما كانت مزيجا من التوقّعات والتصوّرات الشائعة وهي ممزوجة بتخيلات ورغبات(22). إن المرويات والاوصاف عن المختلف ثقافيا تؤدي لا محالة إلى رسم صور تطابق رغبة الذي يقوم بها، أكثر مما تعبّر عن الأصل. ومن المؤكد بأن المنظومة الثقافية - العقائدية الإسلامية تدخّلت في إعادة رسم ملامح تلك المعرفة، فمن المعلوم أن صور الآخرين تتشكّل من تداخل المعلومات الحقيقية بالمزيفة، ومن المشاهدات المباشرة المفسّرة على وفق سلّم معين من القيم، ومن الأخبار التي هتكتها الخرافات والأساطير، واقتحمت صلبها، وأخيرا من الرغبة الثابتة في الذات لإنتاج صورة نمطية منقوصة للآخر. وفي حقبة يعدّ الموجّه العقائدي فيها محفّزا لتشويه الآخر الذي يئنّ تحت طائلة الضلال، فليس من المنتظر البحث عن نقاء الصورة، فطالما انتجت، ومازالت، الأعراق والعقائد صورا استعلائية لنفسها وتخفيضية لغيرها، وفي الحالين تقوم تلك الصور على تنضيد مرويات لا يركّز الاهتمام فيها على الدقة والتقدير المطلوبين، إنما على اشباع الرغبات الثقافية، ففي مخيال الجماعات الثقافية-البشرية المعتصمة بذاتها ترتسم صورة مُرضية عن ذاتها، ومَرضّية عن غيرها. ومادام الآخر موضوعا للتبخيس في مجتمعات القرون الوسطى، فلم يفلح أحد بصورة مطلقة في تعديل الصور المقلوبة.

******************

الحواشي

*) باحث وأكاديمي من العراق.

1- مجيد خدوري، القانون الإسلامي، بيروت، الدار المتحدة للنشر، 1975م، ص22.

2- م. ن. ص23.

3- جوزيف شاخت، الفكر السياسي عند المسلمين، انظر تراث الإسلام، تصنيف شاخت وبوزوت، ترجمة حسين مؤنس وإحسان صدقي، الكويت، عالم المعرفة، 1978م، ق3، ص33.

4- شاخت، الشريعة الإسلامية، م. ن. ص9.
5- برنارد لويس، السياسة والحرب، أنظر تراث الإسلام، ترجمة محمد زهير السمهوري، الكويت، عالم المعرفة، 1978م، ق1, ص233و235.

6- ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، القاهرة، ص2.

7- م. ن. ص255.

8- محمد نور الدين أفاية، الغرب والمتخيّل، بيروت المركز الثقافي العربية، 2000م، ص288-289.

9- جاك بيرك، حينما كنت أعيد قراءة القرآن، ترجمة وائل غالي، مجلة القاهرة، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ع 154 لسنة 1995م, ص29.

10- ابن حوقل، كتاب صورة الأرض، ليدن، مطبعة بريل، 1939م، ص525.

11- المقدسي(الإدريسي)، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، تحقيق دي غويه، ليدن, ص9.

12- صورة الأرض، ص15.

13- م. ن. ص6.

14- م. ن. ص18.

15- ابن خلدون، المقدمة، تحقيق حجر عاصي، بيروت، دار مكتبة الهلال، 1986م، ص60-61.

16- أورده، تودروف، نحن والآخرون، ترجمة ربى حمود، دمشق، دار المدى، 1998م، ص61.

17- المقدمة، ص63.

18- م. ن. ص63.

19- أبو الريحان البيروني، في تحقيق ماللهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرفوضة، حيدر آباد، مطبعة المعارف العثمانية، 1958م، ص14-15.

20- الإشارة إلى كتاب أمين معلوف، الهويات القاتلة، ترجمة نهلة بيضون، دمشق، دار الجندي، 1999م.

21- المركزية الغربية، ص10.

22- عزيز العظمة، العرب والبرابرة، لندن، رياض الريس للكتب والنشر، 1991م، ص218.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=377

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك