الإنجليون و المتشددون المسيحيون بأمريكا
الإنجليون و المتشددون المسيحيون بأمريكا
عزالدين عناية*
تعجّ الولايات المتّحدة الأمريكية بالأنشطة والمذاهب الدّينية كما لا تشبه أي بلد آخر في ذلك، وخاصة السّوق الدّينية الرائجة هناك، فهي في حيويتها وفي تغلغلها في النّسيج الاجتماعي، مع اتخاذها مسافة من الظّهور السّياسي المباشر، وهو ما جعل ضبابية في تقدير فاعليتها وأثرها على عكس بلدان أخرى. فالفعل السياسي الرّئيسي المتمّثل في الحزبين السّائدين المحتكرين للسّاحة: الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي، تدعمه تجمّعات دينية كنسية مليونية، كثيفة ومتنوّعة. يعدّ سباستيان فاتاه، المؤرّخ والباحث في علم اجتماع الأديان، في مركز أبحاث (CNRS) بفرنسا، من أبرز المتخصّصين الفرنسيين في الظّواهر الدّينية الأمريكية، وبالأساس في البروتستانتية، فله عدّة أعمال منشورة منها (الربّ يبارك أمريكا)، (أديان البيت الأبيض)، (بيلّي غراهام: البابا البروتستانتي؟). نتولّى في هذه الورقة عرض وتلخيص أحد كتبه المترجمة إلَى اللّغة الإيطالية (في الربّ نثق: الإنجيليون والمتشدّدون المسيحيون في الولايات المتحدة)، الصّادر أخيرا في مدينة طورينو الإيطالية.
يحوز المعقل الكبير لهذه التجمّعات الدّينية، جنوب الولايات المتحدة، أَو (الأرض المهووسة بالربّ) كما نعتها الكاتب ماكبريد دابس، أَو كما راج نعتها في أدبيات الأبحاث الاجتماعية بـ(حزام الكتاب المقدّس)، "Bible Belt"، والنّعت أبدعه الصّحفي والنّاقد الأدبي هـ.ل. مانكن (1880-1956)، وهو يضم الولايات الآتية: كارولينا الشّمالية، كارولينا الجنوبية، جورجيا، ألباما، الميسيسبي، فرجينيا، التكساس، تينيسي، أركنساس، لويزيانا، كنتوكي، فلوريدا. تبلغ مساحة المنطقة قرابة حجم الجزائر. وقد عدّت فلوريدا وحدها بحسب إحصاء سنة 2000م، 15.980.000 نسمة، في حين عدّت التكساس، 20.850.000 نسمة، وقد بلغ التّعداد السّكني العام في تلك المنطقة، حسب إحصاء سنة 2000م، 88.325.877 نسمة.
ففي الولايات المتحدة 70 مليون إنجيلي، أي ممن ينتمون للتيار المتشدّد الرئيسي، فإن ما يفوق نصفهم، يتواجدون في ولايات الجنوب المذكورة، وهي منطقة لها حساسية مفرطة تجاه التديّن، إذ يقرّ 44% من الجنوبيين أنهم من الممارسين والمؤدّين للشعائر بانتظام بحسب إحصاءات جرت خلال سنة 2000م.
الكنيسة الأنغليكانية وخيار الـمُترَفين
منذ خروج الكنيسة من فضائها الشّرقي العربي واندماجها في الإمبراطورية الرّومانية، تبدّلت فلسفة تلك الدّيانة، عقديا وفكريا، بشكل يكاد يكون جذريا، فلم تبق سوى الأطلال شاهدة على الوجه النقيّ لخيار الفقراء الذي أرساه السيّد المسيح –عليه السلام- عبر تطويباته، وعبر إعلانه الصّارخ: (إن بيتي هو بيت للصّلاة، أما أنتم فقد جعلتموه مغارةَ لُصُوصٍ!). في أمريكا الناشئة، على حساب الشعوب الأصلية في المنطقة، كان المترَفون في حاجة ماسّة لخطاب ديني يباركهم ولا يؤثم سعيهم، بغرض تبرير أعمالهم، وبالمثل كان أوصياء كلمة الربّ في حاجة ملحّة لمال قيصر وسيفه، لنشر مسيحيتهم المولَّدة. نشأ ذلك التحالف بين الميسورين ورجال الدّين في الجنوب بمباركة ودعم من الكنيسة الأنغليكانية الأمّ في إنكلترا، تجلّى ذلك في الرمز التاريخي جايمس بلار، ممثّل أسقف لندن في فرجيينا. جرى تأسيس كوليج ويليام ومريم (سنة 1693م)، على أنموذج كمبريدج وأكسفورد، لصناعة الكوادر السّياسية والدّينية لمجتمع الجنوب، لغرض الدّفاع عن مصالح المترَفين المشتركة. مع نهاية القرن الثّامن عشر وبداية القرن التّاسع عشر، كانت شعوب الجنوب ترزح تحت هيمنة اقتصادية وسياسية لُثلَّةٍ صغيرة من المزارعين الأنغليكان الأثرياء، يتركّزون أساسا في فرجينيا. فقد كان مترَفو الجنوب مقتنعين بشكل عام أن التراتبية الاجتماعية والتفاوت الطبقي الذي بنوه يتوافق بعمق مع المراد الإلهي، الضّامن لنظام خضوع وهيمنة، يرزح فيه السّود للبيض، والفقراء للأغنياء، والنّساء للرّجال.
بقي الدّين السّائد حتى حقبة الاستقلال، متمثّلا في الأنغليكانية، النّسخة الكنسية البروتستانتية التراتبية، التي تمثّل طريق وسطا بين الكاثوليكية والبحث التأصيلي للمصلحين خلال القرن السّادس عشر. فدين أمريكا الذي روّض ظاهرة العبودية قولا وفعلا، كان صناعة المتنفّذين بالأساس، ولم تدب التحوّلات اللاّهوتية والعملية فيه إلاّ مع منتهى النّصف الأوّل من القرن السّابع عشر بدخول تقليعات جديدة بدأت تؤسّس استقلالها عن هيمنة رؤى كنيسة إنكلترا.
مع بداية القرن التّاسع عشر انهار النّظام الدّيني الأنغليكاني وغيّر الربّ وجه الجنوب. تحلّل النّظام القديم، وخلفته إعادة توزيع مستجدة للثّروة الدّينية المسيحية، منحت أصولها من التراث البروتستاني عموما، مع إطلالة ناشط جديد على السّاحة، تمثّل في بداية تشكّل كنيسة السّود، التي ستسعى لتوليد (المسيح الأسود) في مقابل (المسيح الأشقر)، والتي ستعيد قراءة الكتاب المقدّس من داخل أوضاع القهر الاجتماعي الذي تعيشه. تلخصت أهم التكتّلات الجديدة في:
- (المعمدانيون) "Baptists"، الذين يتميّز لاهوتهم بطابع كالفيني تشوبه تأثيرات طهرية، مع رفض لمؤسّسة الكنيسة التراتبية، وميل لمفهوم مستقلّ للتجمّع المحلّي، يلحّ على ممارسة التعميد.
- (الميتوديون) "Methodists"، ظهروا مع بداية القرن التاسع عشر كمؤسّسة جديدة، تحت دفع جون ويسلي وجورج وايتفيلد، تركّز هدفهم في البداية في محاولة إنهاض ولفت الكنيسة الأنغليكانية الرّسمية في إنكلترا، على ضرورة مواكبة رياح التغيير، المستجدّة قبل فوات الأوان، حتى لا يتحوّلوا إلَى صخرة ثابتة على نمط الكنيسة الكاثوليكية الأوروبية التي رفضت الإصلاح الذي نادى به البروتستانتيون. تلحّ دعوتهم على حياة مسيحية ملؤها الالتزام الطهري، تتلخّص في أرثوذكسية مصحوبة بأرتوبراسية، يتزاوج فيها الطريق المستقيم العقدي بالفعل القويم العملي.
- (البرسبيتاريون)،"Presbyterians"، أَو (المشيخيون) كما يجري نعتهم في اللّسان العربي، يشايعون كنيسة ذات توجّه لاهوتي كالفيني، يتميز بالجمود الفكري مما حدّ من رواجه. تتميّز هذه النِّحلة بتراتبية على شكل الميتودية. كما يتواجد أتباعها في إنجلترا واسكتلندا وإيرلندا.
بقيت هذه التيّارات ناشطة وفاعلة في الولايات المتّحدة الأمريكية حتى التّاريخ المعاصر، مع تقلّص نسبي لشعبية الكنيسة المشيخية (البريسبيتارية)، فهو تجمّع جنوبي صغير يتركّز حيث تتواجد الأغلبية السّوداء ذات التوجّه المعمداني والميتودي. كما بدأ يلعب الإسلام، مع بداية السّبعينات، دورا متناميا، تطوّر خلال التسعينات بظهور تكتّل (أمّة الإسلام) بقيادة لويس فرحان. فإذا ما كان تسعة من الجنوبيين البيض من عشرة معمدانيين أَو ميتوديين، فإن النّسبة نفسها تقريبا فيما يتعلّق بالأفارقة الأمريكيين في جنوب الولايات المتّحدة، حتى مع مستهلّ القرن الوحادي والعشرين.
وتعود قوّة هذين المذهبين -المعمداني والميتودي- لما يقدّمه التجمّعان من خدمات كبرى للمنضوين تحتهما، رمزية وثقافية ورياضية وتربوية وطبّية. فهناك مثلا مستشفيات معمدانية، تتجاوز جاذبية خدماتها ما تقدّمه المؤسّسات العلمانية. وفوز المعمدانيين (سنة 1976م) بكرسي الرّئاسة مع الرئيس السّابق جيمي كارتر، جعل قوّة هذا التيار أعمق أثرا على المستوى الوطني. إذ كان كارتر معمدانيا متحمّسا ومن المواظبين على أداء الطقوس، فقد عمل واعظا أحيانا ومدرّسا في مدرسة الأحد الدّينية (Sundy school).
مع الثلث الأخير من القرن التّاسع عشر، تعدّدت كنائس السّود، وصارت الوصيّة على الميراث الإفريقي الأمريكي. خلال سنة 1900م، كان عدد أعضاء تلك الكنيسة 2.700.000، من مجموع 8.300.000، حيث تعيش الأغلبية العظمى منها في الجنوب. تجيب المسيحية، خصوصا في نسختها البروتستانتية الإنجيلية، على عديد مشاغل الشعوب المستعبدة سابقا، التي تسعى نحو مستقبل مفتوح وثابت. فالسّود، في أغلبيتهم الممسّحة، سعوا لتحويل الدّين إلَى أداة تحرير، بعد أن كان أداة استعباد لهم. ولكن الأفق الدّيني المتاح أمام الأسود الأمريكي ما كان يوفّر له رؤى خلاص أخرى تتجاوز المسيحية الرّامية بجذورها في وعيه وفي واقعه، ولابد من أن يفعل الزّمن فعله حتى يكتشف بعضهم الإسلام، ويدركوا أن الرّب يوجد خارج المسيحية أيضا، وبصيغ أخرى تتناغم مع همومهم وتعبر عن تطلّعاتهم.
ففي قراءة هذه التحوّلات الدّينية التي هزّت أمريكا وأثرها على التحوّلات المجتمعية، يذهب عالم الاجتماع الفرنسي جون بول وِلاّم، إلَى أنه منذ لحظة الاعتراف بالسّلطة العليا للكتاب المقدّس في مسألة الإيمان، ما عاد مقرّ الحقيقة الدّينية في المؤسّسة -كما هو سائد في الكنيسة الكاثوليكية-، بل صارت الرّسالة المبّشر بها في الوفاء للتعليم الكتابي. لقد انزلقت الشّرعية من المؤسّسة الكنسية إلَى الكتاب المقدّس، ومن الكتاب المقدّس إلَى الفرد المفسّر. فتلك الفردانية البروتستانتية هي التي أنتجت الحداثة، بما أولت به المناقشة من عناية أوفر من التقليد، إذ أخرجت الفرد من التكيّف السلبي مع الأفكار الجماعية السّائدة، إلَى التفسير الشّخصي غير الخاضع للتراتبية. لذلك يبقى الكتاب المقدّس بشقّيه القديم والجديد النصّ الوحيد الذي تتأسّس عليه البروتستانتية، فهو الذي يرتَّل ويدرَّس ويطبَّق. يلتقي ذلك التفسير في عموميته مع ما ذهب إليه عالم الاجتماع أرنست ترويلتش (1865-1922م) في قراءته للبروتستانتية الأمريكية، فإن يكن التوجّه العام ذا خاصيات إنجيلية، فإن بداخله أقلّية أصولية نشيطة. تبدو تلك الفرضية حاسمة مع ترويلتش، ففي مؤلفّه، الذي تناول علاقة البروتستانتية بالحداثة، والذي نشر (سنة 1909م)، ينسب هذا الصدّيق لماكس فيبر الحداثةَ، لا إلَى البروتستانتية اللّوثرية والكالفينية، بل إلَى ما يسمّيه بـ(البروتستانتية الجديدة) الأكثر فردانية، والأكثر نِحْلية، والأكثر يوطوبية. فالمعمدانيون، النّحلة البروتستانتية الأهمّ في حزام الكتاب المقدّس، هي التي يعود إليها الفضل بحسب ترويلتش في الإسهام الجاد في صناعة العالم الحديث.
ولكن برغم هذه الإرهاصات الفكرية في مقاربة اللاّهوت، لم تصحبها تحوّلات جذريّة في التعامل مع الواقع، مما يبيّن أن آليات التحوّل الاجتماعي تتجاوز قدرات وعود اللاهوت، إذ يبقى الجنوب حتى الرّاهن متميّزا بالتفاوت الطّبقي الهائل، فإن تكن في التكساس مثلا حقول النفط والغاز الطبيعي المهمة التي تسيطر عليها عائلة بوش، ففيه أيضا تتواجد أعلى نسبة مهمّشة في المجتمع الأمريكي. كما تشترك الأغلبية السّاحقة من البيض في الجنوب، وكذلك السّود، في عدم التمتّع بالرّفاه وتقاسم الأوضاع الهامشية، التي توحّدها في دائرة التأخّر الاجتماعي والاقتصادي، مقارنة بالتطوّر الذي يميّز باقي الولايات. الأمر الذي نَمَّى بداخلها توجّسا من التكنوقراطيين، وتطوّرا للوظيفة الاجتماعية للكنائس. فقْر تلك التجمّعات وانسداد الآفاق أمامها أفرز تديّنا خاصا، يمتزج فيه الرّجاء في إله فاعل من خلف المعجزات، مع قدرية أمام التاريخ.
موسيقى (روكن رول) خدمة للربّ
قلّة من تعرف الخلفية الدّينية لنجوم الموجات الموسيقية الأمريكية، فالوجه الصاخب لتلك الموسيقى أخفى منشأها الكنسي الصّامت، فأغلبية مطربي الرّوك يتجذّرون في ثقافة بروتستانتية إنجيلية مؤدّية للشعائر.
كان حزام الكتاب المقدّس وراء ظهور عديد الأنماط الموسيقية مثل: السبيريتوال (الرّوحي)، والغوسبل (الإنجيل)، والبلوز، والجاز (في جانب منه)، والكونتري، وأيضا الروكن رول، فكلّ هذه الأنواع مسكونة بالتراث الديني. وهي غالبا ما تصحب المواعظ التي يلهج بها أساقفة سود أَو بيض، في البرامج الإذاعية، تحض المستمعين لـ(منح قلوبهم للمسيح).
فمغنّيا الرّوك (جرّي ليي لويس وإلفيس بريسلي) ينحدران من تجمّعات الربّ في الجنوب، وهو تجمّع تابع للتيّار البنتكوستالي الكلاسيكي. فقد كانت عائلة إلفيس ترتاد التجمّع الأوّل لكنيسة الربّ بتبلو - الشّرقية في الميسيسبي، ثم في ممفيس وتينيسي. وفي هذه المعاقل اكتشف المراهق إلفيس بريسلي سحر الإنجيل. أما بودي هولي فقد كانا يرتاد الكنائس المعمدانية في التكساس. في حين ليتل ريشارد الذي كان قريبا من تيّار (الكنائس المقدّسة)، فقد كان يرتاد كنيسة نيو هاوب المعمدانية بماكون في جورجيا.
مع الخمسينات بدأ الاكتشاف الفعلي لموسيقى الغوسبل، التي ميّزت الجمهور الأفروأمريكي، والتي صاحبت رواجها شعارات المسيح الملصقة على الأطراف الخارجية للعربات. تطوّرت تلك الموسيقى بدفع من طوماس دورساي الذي ولد في أطلنطا (سنة 1899م)، وتوفّي في شيكاغو (سنة 1933م)، وقد كانت بداية دخول تلك الموسيقى حزام الكتاب المقدّس في العشرينات، عبر مزاوجة بين موسيقى البلوز والجاز مع الرّسالة المسيحية. أسهمت الشّخصيّة الكاريزمية للمطربة ماهاليا جاكسون المولودة بنيو أورليان (1911-1972م)، في توسيع جماهيرية هذه الموسيقى. فهي تنحدر من عائلة متحمّسة للمعمدانيين، هاجرت (سنة 1927م) إلَى شيكاغو حيث نالت شهرة، ثم بعد الحرب العالمية كانت انطلاقتها في اكتساح الجمهور الأبيض. هكذا اكتشف المسيحيون البيض، شيئا فشيئا، أن (أختا) سوداء يمكن أن تلهب حماسهم وتثير طربهم الدّيني. فبعد عقد من الحرب العالمية الثّانية بدأت تهبّ رياح التغيير على الكنائس البروتستانتية، وبدأ الابتعاد نوعا ما عن العنصرية التي لا تزال شائعة بكثافة.
لن يدخل حرَمَنا إلاّ من كان أشقر
(البيض يفعلون ما يشاؤون والسّود يفعلون ما يستطيعون)، لم تفقد هذه المقولة صدقيتها في التعبير عن أوضاع تكتّلي اللّونين: الأبيض والأسود في أمريكا إلَى الآن. فعلى مدى فترة فاعلية قوانين جيم كراو وبعدها، أي حتى منتصف القرن العشرين، ساندت الكنائس البروتستانتية وكذلك الكنيسة الكاثوليكية، نظامَ التمييز العنصري السّائد، الذي امتدّت جرّاءه رقابة اجتماعية قاسية على الشّعوب، استندت إلَى قوانين وموانع وأعراف ملزمة. فقد غابت طيلة حقبة القهر إدانة مسؤولة من الكنائس للممارسات العنصرية الشائنة في حق السّود. وفي المقابل تواصلت الإدانة بصرامة وحدة، للرّقص والمسرح والكحول والقمار ولعب الورق والكلام البذيء والطلاق.
وعند انطلاق موجة الإضرابات الواسعة خلال سنوات 35 و37، لم تعبر الكنائس البروتستانتية الإنجيلية عن إدانتها الجلية للعنف، المضاد للمطالب النقابية، الذي اقترفته أياد مأجورة من طرف أصحاب المؤسّسات. في حين أدانوا وبصرامة المطالب العمّالية للنقابيين (الحمر)، المسلّطة عليهم تهمة الشيوعية، والمتهمين بتدنيس القيم المسيحية.
في الثالث من شهر مارس/آذار سنة 2000م سمح رسميا بوب جونس الثّالث، مدير الجامعة الأصولية بوب جونس، (غرينفيل، كارولينا الجنوبية) بجواز تبادل القُبل –dating- بين السّود والبيض في مركّبه الجامعي، بعد أن كان المنع ساري التنفيذ حتى قبيل ذلك التاريخ.
قضيّة القرد
لفهم جيّد للبناء السوسيوديني للغلوّ الدّيني في أمريكا ينبغي الغوص في السّياق الاجتماعي الذي تأصَّل فيه. فالتشدّد الديني يترسّخ ضمن جدل ذي طبيعة لاهوتية بين البروتستانتيين بالأساس. بصفته محاولة لإحياء السلوك الدّيني، نابعا عن المنطق نفسه للبروتستانتية، فيما تدعيه من عودة للأصول ومن إصلاح عقدي وعملي.
بالنسبة للمُغالين، يسير التاريخ من سَيِّئٍ إلَى أسوأ، فقط عودة المسيح، بإرساء العصر الألفي، تسكّن مراجي المنتظرين. من هناك كانت تفيض رؤية متشائمة عن العالم، تغذّي الرؤى الثقافية المضادة للحداثة. أمّا الخاصية الثانية التي تميز التوجّه الدّغمائي في النصف الأخير من القرن، فهي عصمة الكتاب المقدّس، الخالي من الأخطاء، والحاوي للإجابات اليقينية الشافية الكافية عن المعاش والمعاد.
المشهد الأكثر جلاء للغلوّ في حزام الكتاب المقدس، ظهر خلال شهر (يوليو 1925م) في دايتون وتينيسي. فبمناسبة تفجّر القضيّة المرفوعة ضدّ تدريس نظرية التطوّر الدّاروينية، التي عرفت بـ(قضيّة القرد)، والتي أثارت صدى إعلاميا واسعا، نزل المتشدّدون للمرّة الأولى إلَى ميدان الجدل الاجتماعي ضدّ أطروحات داروين، المرفوضة بشكل صارم من الأغلبية السّاحقة من البروتستانتيين. فقد انتهك المدرّس الشّاب جون توماس سكوبس التحجير، الذي أقرّ في السنة السّابقة في تينيسي، فيما عرف بقانون بوتلر، الذي يمنع تدريس نظرية التطوّر في المدارس العمومية التابعة للدّولة. الشابّ مدرّس بيولوجيا في معهد في دايتون، كان متحمّسا لانتهاك ذلك القانون، سانده في ذلك (الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية) -ACLU-، الذي كان يبحث عن تعلّة لثني المحكمة العليا، للتراجع عن لادستورية ذلك القانون، الذي عُدَّ خطيرا ورجعيا. تابع الغلاة الحدث باهتمام، بزعامة ويليام جينينغس بريان (1860-1925)، البرسبيتاري الجنوبي، والمرشّح السّابق للرّئاسة الأمريكية، والصّوت الرئيس لـ(جمعية المسيحيون الأصوليون العالمية)، التي تضم مليون ناشط، يتوزعون بين الشمال والجنوب.
صارت المعركة ضدّ نظرية التطوّر أحد المحاور الأساسية للحركة الأصولية في حزام الكتاب المقدّس. فقد منع تدريسها، بين سنوات (1921 و1929م)، في سياق (قضية القرد)، في خمس ولايات أمريكية: فلوريدا، وتينيسي، والميسيسبي، وأركنزاس وأكلاهوما. وإن وُفِّقَ المتشدّدون في كسب تلك القضية، بفضل ويليام جينينغس بريان، فقد فشلوا في المعركة إعلاميا، حيث سخرت منهم الصحافة، ونظرت إليهم كبديل فاقد للمصداقية في التحوّلات الاجتماعية، بصفتهم ظلاميين ورجعيين يعادون التطوّر العلمي.
(سنة 1925م) كانت نقطة انطلاق لاستراتيجية غزو أصولي للمجتمع. فضمن وعيهم بعدم القدرة على مراقبة كافة قطاعات الثقافة، طوّر الغُلاة منذ منتصف العشرينات، شبكة من المدارس ووسائل للاتصال مزاحمة، حافلة بثقافة مغايرة ومتناسقة، تعرض من خلالها على أعضائها حزمة من الأنشطة التربوية والإعلامية. كانت صحيفة (سيف الربّ) - The Sword of the Lor- الأكثر رواجا، وقد كان رائد تلك الأنشطة بوب جونس الآتي من الميتوديين، فقد أسّس معهدا أصوليا مفتوحا لكافة التيّارات الدّينية في غرينفيل، بكارولينا الجنوبية، (سنة 1926م)، ثم (سنة 1947م)، بعد الحرب العالمية الثانية، تحوّل إلَى جامعة بوب جونس وصار أهمّ مركز تنظيري للمسيحية المتشدّدة في الولايات المتّحدة. كما بعث فرانك نوريس سنة 1939م في فورت وورث (معهد الكتاب المقدّس)، الذي صار أنموذجا للعديد من المعاهد والمؤسسات الكنسية.
لم تتوقّف تهجّمات المتشدّدين على المجال التربوي، بل تعدتها إلَى المجال الاجتماعي، فمثلما قاد الشّماليون البلاد ضدّ العبودية، قاد الجنوبيون البلاد ضدّ الكحول، الذي مُنع من سنة 1920 إلَى 1933م. تغنى الطُّهِْريُّون في أثناء تلك الفترة بتحويل أمريكا إلَى فردوس آمن، تلخصّت في أهازيج ترنيمة شاعت آنذاك: (بِرَك الدّموع جفّت والمحرومون صاروا ذكرى. سنحوّل السّجون إلَى مصانع، والزنزانات إلَى مخازن حنطة. فمن الآن يمشي الرّجال مرفوعي الهامة، والنسوة يبتسمن والأطفال يضحكون. يمكن أن تعلّق على جهنّم لافتة للأبد مكتوب عليها محلّ للكراء).
في مقابل ذلك التنفير من الكحول، حثّت التيارات الدّينية على شرب الكوكاكولا، فهذا المشروب الغازي المضاف إليه السكّر، أبدعه صيدلي من أطلنطا (سنة 1886م)، صار رمزا للعيش على النّمط الأمريكي. كان الأساقفة المعمدانيون والميتوديون والبرسبيتاريون في حزام الكتاب المقدّس وراء رواج هذا المشروب لدى ظهوره، فمنعهم تناول المشروبات الكحولية حضُّهم على تشجيع استبدالها بالكوكاكولا ذلك الشّراب المسموح به دينيا وقانونيا.
كلمة الربّ عبر المصدح: (المسيح هو الحلّ) "Jesus is the answer"
مازال هذا الشّعار عنوان الغلو الدّيني الجامع في الولايات المتّحدة الأمريكية، الذي يتكتّل في (المجلس الأمريكي للكنائس المسيحية)، والذي تتكثّف أنشطته الدّعائية، الإذاعية والتلفازية والإعلامية، لحشد النّاس نحوه.
تعود بدايات ظهور البرامج الإذاعية، ثم التلفازية، إلَى بداية العشرينات. فهناك ثلاث مراحل: التطوّر المشتّت من (1922 إلَى 1944م)، تلاه التنسيق الإعلامي الإنجيلي الأكثر جلاء من (1944 إلَى 1969م)، ثم فترة التنامي الواسع بداية من السبعينات. حيث بدأ الحديث عن (الكنيسة الإلكترونية)، التي ليست ظاهرة إنجيلية فحسب بل ظاهرة أمريكية، تجمع بين التسويق (الماركتينغ)، والتواصل مع الجمهور، ونجم البرنامج، ضمن ربط بين مشهدية الصّورة واللّغة الدّينية المتشدّدة.
(سنة 1979م)، تم إحصاء 22 محطّة تلفزة في الولايات المتحدة، تبثّ بانتظام برامج دينية في 16 ولاية، ومعظم هذه المحطّات ذات توجّه بروتستانتي إنجيلي. كما ازدادت الشبكات الإذاعية والمتلفزة، خلال (سنة 1988م)، فصار عدد المحطات الإذاعية الدّينية 1393 من مجموع 9000، وبلغ عدد القنوات المتلفزة الدّينية 259.
عديد من الشّخصيات نشطت إعلاميا، مثل سواغارت وفالوال وروبرتسون. مثّل (حزام الكتاب المقدس) القلعة الرئيسة للمنشّط التلفازي الإنجيلي جيمي سواغارت، فقد كان من أكثرهم شهرة، لما يجمعه من مواهب الوعظ والغناء عند أدائه. نشّط برنامجا منذ (1973 إلَى 1988م) تحت عنوان "Camp Meeting Hour" في باتون روج بلويزيانا. في (فيفري 1988م) وفّق في جذب ثلاثة ملايين متفرجٍ، كان ذلك عشيّة فضيحة جنسية هدمت ما بناه. دائما في حزام الكتاب المقدّس، فقد تكثّف التنشيط ذو الهدف الدّيني السّياسي لجرّي فالوال، الأكثر قربا من الخط المتشدّد منه إلَى الإنجيليين. أسّس قاعدته في فرجينيا في لينكبورغ، حيث مسقط رأسه، طوّر فالوال مركّبا إعلاميا وتربويا كبيرا خدمة للتوجه المحافظ المضاد لعديد الظواهر الثقافية الحداثية والحركات الحقوقية، مثل حركة الحقوق المدنية "Civil rights"، كان أوج تأثيره خلال (سنة 1988م) مع حركة (الأغلبية الأخلاقية) "Moral Majority" التي شهدت تراجعا لاحقا.
نجومية جيرّي فالوال الإعلامية ودوره في الحثّ على مساندة إسرائيل، جعلت حكومة ميناحيم بيغن تُقْدِم على منحه طائرة خاصة سنة 1979م، في مناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس دولة إسرائيل.
أما الإنجيلي بيلّي غراهام المولود (سنة 1918م)، وابن حزام الكتاب المقدّس، فقد كان الأكثر أثرا على السّاحة الدّينية في الولايات المتّحدة، كان هذا (النجم البروتستانتي) الشّخصية الأمريكية الأوسع شعبية في النّصف الثّاني من القرن العشرين. فقد وعظ أمام جمهور يتجاوز 200 مليون نسمة في العالم. في ملخّص -Who's Who- للقرن العشرين، نُشِر في مجلّة التايمز، قُدِّمَ بيلّي غراهام كمستشار روحي للولايات المتّحدة. كانت انطلاقة بيلّي مع النشاط المسيحي ضمن البريسبتاريين في الجنوب، وهو تجمّع صغير مقارنة بالميتوديين والمعمدانيين، (سنة 1934م) انضمّ تحت تأثير وعظ الإنجيلي المعمداني، مردخاي فاولر هام إلَى تلك النحلة. منذ ذلك التاريخ تدشّنت انطلاقة تكوينه الدّيني، حيث درَس في المعهد الكتابي الأصولي بوب جونس، في كارولينا الجنوبية (سنة 1936م)، ثم في تامبا، في المعهد الكتابي بفلوريدا حتى (سنة 1940م)، وفي نفس المدينة جرى تعْميده عبر تغطيسه في مياه بحيرة في فلوريدا. وبعيدا عن الوسط المعمداني، فقد كانت كافة الكنائس تحت تأثيره، كما كان يسمو بنفسه فوق الانتماء إليها مباشرة، ولم يشايع كنيسة محدّدة، مما أكسبه ولاءها جميعا وأهّله لقيادة عشرات من حملات الأنجلة منذ (1948م). بفضل نشاطه المكثّف حازت البروتستانتية الإنجيلية أهمية جديدة على مستوى الانتشار العالمي.
أنماط من الأصولية الدّينية
تتخلّل الأصولية في أمريكا عدّة أنواع ولكن أكثرها نشاطا صنفان:
1- الأصولية السّياسيّة: والتي يعد جيرّي فالوال وبات روبارتسون أبرز زعمائها، فالأوّل منشّط إذاعي تحوّل لاحقا إلَى مقدّم برامج تليفزيونية منذ (1968م)، خلال (سنة 1971م) أسّس معهدا أصوليا، صار لاحقا (جامعة الحرية) -Liberty University-. تعمّقت شهرة هذا المنشّط بعد قيادته (الأغلبية الأخلاقية) التي شكّلها (سنة 1979م). ساند تجمّعه رونالد ريغن، ودافع عن القيم الأخلاقية المحافظة والتقليدية لحزام الكتاب المقدّس. أما بات روبارتسون فهو من (مواليد 1930م)، أسّس مع صديقه رالف ريد (التّحالف المسيحي) -Christian Coalition- بأهداف متقاربة من فالوال، روبارتسون جنوبي لَكِنْ ذو تكوين أرستقراطي وهو كذلك رجل أعمال ثري، له خبرة تلفازية طويلة منذ تأسيس قناته"Christian Broadcasting Network" (CBN) (سنة 1961م). ضمّ إلَى جانب الحماس الدّيني الانتهازية السياسية، وقد بقي حتى مطلع (سنة 2000م) فاعلا سياسيا مؤثرا في الجنوب، كما كان مؤسّس جامعة (RegentUniversity).
2-الأصولية التبشيرية: تتكتّل في "Great Commission"، وتهتم بصناعة أتباع المسيح، لها نظرة ثانوية للسّياسة. بالنّسبة لهذا التكتّل الدّيني، لا تتلخّص الصحّة الفعلية للعالم في انخفاض معدّل البطالة، أَو في النتائج الانتخابية الديمقراطية، أَو في علامات البورصة، بل في ازدياد أعداد الكنائس وتنامي الاهتداءات التي يعلنها المبشّرون. تعتبر)جامعة كولمبيا العالمية("Columbia International University" (CIU) بكارولينا الجنوبية معقلهم العلمي الحصين، شعارها الأساسي (معرفة المسيح والتعريف به). يسيّرها مبشّر سابق في إيطاليا، الدّكتور جورج و. مورّاي. حوت هذه الجامعة قرابة الألف طالب خلال (سنة 2004م)، إضافة إلَى مئات المسجلّين الذين يتابعون الدّروس بالمراسلة. تكوّن هذه الجامعة طلاّبها في علم التّبشير فيما وراء البحار خاصة، حتى وإن كان أغلب الخرّيجين يفضّلون العمل داخل الولايات المتّحدة. تنشط هذه الجامعة في التبشير في 120 دولة، وتشهد أنشطتها تناميا لافتا خصوصا في الفضاءات الإسلامية، بين مسلمي الباكستان والضواحي الباريسية ومنغوليا.
شهد المعمدانيون المستقلّون، تناميا كبيرا، فمع النّصف الثاني من القرن العشرين أسّس أنصار هذا المذهب مئات المدارس والمعاهد الخاصّة وألحقوها بكلّيات كتابية ذات توجّه تعليمي أصولي، مثل: -Baptist Bible Fellowship-، التي مقرّها في سبرينغفيلد. سهر على تسييرها في البداية نوريس، ثم مع (سنة 1950م) خَلَفَهُ نويل سميث و ج. بوشامب فيك. تلك الأنشطة التعليمية الحثيثة للمعمدانيين أنشأت جيلا من الأصوليين المستقلّين، من أشهرهم مقدّم البرامج الإنجيلي جيرّي فالوال. كما تبع ذلك تأسيس عديد الشبكات الإعلامية مثل: - Southwide Fellowship-، التي تأسّست (سنة 1956م). ولم يكن انعزالهم حدّا من نمائهم بل دافعا لتطوّر حثيث جرّاء تكتّلهم. انطلاقا من هذه الأسس، بدؤوا مع الستّينات في إيلاء اهتمام بالسّياسة. فقد وفّر سياق الحرب الباردة للأصوليين عدوّا بارزا في الخارج، ألا وهو الشيوعية العالمية، إضافة إلَى عدوّ داخلي متمثّل في البروتستانتيين اللّيبراليين، والسياسيين المعتدلين، وأنصار منظمة (الحقوق المدنية) -Civil rights-، المتهمين بالتواطؤ مع الإلحاد الأحمر الذي تقاومه أمريكا.
كانت ولا تزال (جمعية جون بيرش)، وهو تنظيم من أقصى اليمين يحمل اسم مبشّر معمداني، قتل بسبب اتهامه بالتجسّس في كوريا، تمثّل إحدى فضاءات اللّقاء للمتشددين والإيديولوجيين المتطرّفين، الذين يمزجون في خطابهم بين السّياسي والاجتماعي، ولا يضعون الدّين في الصدارة. تأسّست تلك الجمعية (سنة 1958م) من طرف روبار والش وهو من الشّمال، وقد عدّت في أوجها، 75 ألف عضوا، كما شكّلت في الستّينات رأس حربة المحافظين المتطرّفين.
مع أواخر السبعينات، تم تجاوز عتبة جديدة، كان ذلك مع المقدّمَينْ الجنوِبيَّيِنْ جيرّي فالوال، مؤسّس (الأغلبية الأخلاقية)، وبات روبارتسون، مؤسّس (التحالف المسيحي)، فجرّاء تأثيرهما الإعلامي الواسع، فتح هذان المقدِّمان الباب واسعا أمام الأصوليين لاكتساح السّياسة، وقطعا مع نوع من العزلة كانت مهيمنة، فقد أغرق المقدّمان الجمهور برؤى شعبوية (مانوية)، تلخّصت في تخليص أمريكا من العلمانية، علامة ضياع الهوية، مع المناداة بإدماج أداء الصّلاة في المدرسة العمومية، وكذلك التأكيد على نظرية الخلق، ومعارضتهم للإجهاض والعلاقات الحرّة والجنسية المثلية. لحظات مجد هذا اليمين الجديد كانت بين سنوات ريغن وبوش الأب.
فلسطين في التأويلات الألفية
ضمن مفهوم تمركز السّلطة في نصّ الكتاب المقدّس، لا في مؤسّسة خارجيّة أَو في شخصيّة كاريزمية، يعتبر البروتستانتيون نبوءات التّوراة المختلفة توضيحات جليّة للمستقبل، وضمن ذلك السّياق يمثّل النّبي إبراهيم –عليه السلام- ركنا مهما في هذا الاقتصاد التأويلي الرّمزي، سنتابع بعض مظاهر هذه التأويليات من خلال رؤى بعض التيّارات الدّينية.
بعد حرب 67، بدأ في التشكّل في أمريكا تيّار يتكوّن أساسا من اليهود المسيحيين (أناس من أصل يهودي اعتنقوا الإيمان المسيحي)، غلبت عليهم تسمية (اليهود المسيحانيون) نسبة للمسيا، المخلّص التوراتي. احتفظ أتباع ذلك المذهب من اليهودية ببعض الرّموز، فهم يتحدّثون عن (البِيَع) أَو (التجمّعات) بدل الكنائس، كما يرفضون تصوير الربّ وتجسيمه التزاما بذلك النهي الصّارم الوارد في الوصايا العشر في التوراة، في مواضع مختلفة، مثل: (لا يكن لك آلهة أخرى سواي. لا تنحت لك تمثالا، ولا تصنع صورة ما مما في السّماء من فوق، وما في الأرض من تحت، وما في الماء من أسفل الأرض. لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ، لأني أنا الربّ إلهك...) (سفر الخروج20: 3-5)، على خلاف ما هو شائع بين المسيحيين. بالإضافة إلَى ذلك فهم يرتدون الشّال في أثناء أداء الصّلاة، كما أن العديد منهم لا يحتفلون بأعياد الميلاد، ولهم حساسية كبيرة من بعض محتويات العهد الجديد، إذ يبدون احترازا كذلك من عديد المظاهر الثّقافية المسيحية التي تشكّلت عبر القرون. يتجمّعون في تنظيمين: هما (اتحاد التجمّعات اليهودية المسيحانية) ويضم 70 تجمّعا، و (التحالف المسيحاني اليهودي بأمريكا) ويضم 90 تجمّعا. قبيل (سنة 1967م) ما كان هناك تجمّع يهودي مسيحاني من هذا النّوع، أمّا حاليا (سنة 1998م) فقد بلغت أعداد تجمّعاتهم 350. مدّت هذه النّحلة جسور التّقارب مع مسيحيي حزام الكتاب المقدّس، الذين رأوا فيهم اعترافا في النّهاية من اليهود بالمسيح كمسيا، أَو كرسول لله، أَو كابن له، وليس كما هو شائع بين اليهود مجدِّفا أَو رائيا في الدّين اليهودي. وهو ما يفسّر سبب تواجد مجمل المنظّمات التي تجعل من مساندة إسرائيل هدفها الأوّل بجنوب الولايات المتّحدة مثل: "Restoration Foundation- Atlanta"، "Arkansas Istitute of Holy" Land Studies، "Hebraic Heritage Ministeries- Houston".
يساند تجمّع (المسيح للأمم) بشكل مباشر المصالح الإسرائيلية ولا يتوانى عن إثارة التشكّكات والانتقادات للفلسطينيين. فهناك قراءة تأويلية للكتاب المقدّس، تدخل ضمن هرمنوطيقيا النبوءات التوراتية، الدّائرة أساسا حول سفر إشعياء، الذي ينشغل بموضوع الخلاص، تعدّ التأسيس النّظري والعقدي لهذا التجمّع.
كما تعبّر (الصّهيونية المسيحيّة) عن تيّار مسيحي يرى أن النبوءات التوراتية تعلن العودة الصريحة والشّاملة للشّعب اليهودي إلَى إسرائيل. فبالنّسبة للمسيحيين الصهاينة، لم تفقد العهود التوراتية لإسرائيل القديمة صلاحيتها، كما يعتبر تأسيس دولة إسرائيل بالنسبة إليهم توافقا مع النبوءات التوراتية. هذا المعتقد شائع بين البروتستانتيين الإنجيليين، وقد تقوّى ذلك مع تطوّر حركة اليهود المسيحانيين، ورأوا فيهم الإثبات التاريخي لصدق نبوءات الخلاص، التي تنتهي في آخر الأزمنة بهداية الربّ كلّ اليهود إلَى المسيحية، وما عودة إسرائيل إلَى فلسطين سوى جزء من البرنامج الإلهي لنهاية الأزمنة.
يلخّص الباحث كولن شابمان في كتابه: (لمن الأرض المقدّسة للفلسطينيين أم للإسرائيليين؟) الصّادر في أكسفورد (سنة 1993م)، ص: 223، جوهر موقف الصهاينة المسيحيين من الفلسطينيين، بقوله: (حظّكم تعيس! يمكن تفهّم معاناتكم بسبب بعض مظاهر الظّلم، لكن في العموم فالكّل بسببكم، لأنّكم تناهضون اليهود. فمنذ اللّحظة التي كان فيها للربّ مخطّط لنقل اليهود إلَى أرضهم، فإن رجاءكم الوحيد في القبول بالسّيادة اليهودية، منتظرين بأيّ شكل كيف سيبارككم الربّ أنتم والعالم أجمع عبر اليهود).
لقد استطاعت (الصّهيونية المسيحيّة) والمنظّمات الإنجيلية المساندة لإسرائيل منذ (1976م) خلق لوبي سياسي داخل الحزب الجمهوري، كان ذلك عبر مؤسّسات مؤثّرة مثل: "National Christian Leadership Conference for Israel"، الذي تأسّس (سنة 1967م)، و(السّفارة المسيحية العالمية بالقدس) التي تأسّست سنة 1980م، و "Christian Zionist Congress"و "Voices United for Israel"، اللّذين تأسّسا (سنة 1996م). أنشطة تلك التجمّعات المكثّفة، تفسّر جليا لماذا اعتبر الرئيس بوش الابن في (أفريل 2002م) (شارون رجل سلام)، وكيف اعتبر، في شهر أكتوبر من السّنة نفسها، جيرّي فالوال النّبي محمدّ (إرهابيا) و(رجل حرب) و(عنيفا)، ولماذا تمت مماثلة الحرب ضدّ العراق، (سنة 2003م) بحرب صليبية بأسلوب حديث.
السّياسة الأمريكية المتصلّبة تجاه عديد من المسائل العالمية تجد تعليلاتها وتفسيراتها في ثنايا الخطاب الدّيني المتشدّد المتحكّم في النسيج الاجتماعي، والمؤثر في القرار السّياسي الفوقي. لذلك يبقى شعار(المسيح هو الحلّ) "Jesus is the answer" بين التيارات الدينية المتشدّدة مرشّحا لمزيد من التطوّر والضغط ومدّ السياسة بما تحتاجه من هواجس تجاه الآخر، في ظلّ الخيارات الحالية التي تسير بها أمريكا تجاه الشعوب.