الحوار في الحقّ والحياة المشتركة
المطران أنطونيوس (الصوري)
متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس
في معظم الأحيان، يتكاذب الناس ولا يتحاورون، لأنّ الحوار إمَّا أن يكون في الحقّ أو لا يكون. لكن، أن يكون الحوار في الحقّ لا يعني أن يتَّفق البشر فيما بينهم على ما يتحاورون به، بل، بالأحرى، أن يتفاهموا على أنّهم مختلفون وأن يقبلوا بفرح ورضًا اختلافهم كهديّة من فوق ليتعلّموا الحرية في المحبّة لكلّ إنسان، إذ حيث الحب الَّذي من فوق تكون الحرية ...
ليست غاية الحوار إثبات رأي في مقابل رأي آخَر بل التواصل في المحبة للوصول إلى رأي يتمّ التفاهم عليه، إن أمكن، أو القبول بالاختلاف في احترام لحريّة كلّ من المتحاورين. لكن، من يريدون العيش معًا، لابدّ لهم من التحاور والتفاهم، ولو على القاسم الأكثر شيوعًا فيما بينهم، لوضع أسس للحياة المشتركة. ليس مطلوبًا من الناس التطابق في المبادئ والعقائد لأنّ هذه تختلف باختلاف الأديان والمناهج الفلسفيّة والعقائد الاجتماعيّة، المطلوب هو التفاهم على الحقّ الإنسانيّ بالحرية والتعبير واحترام الآراء.
* * *
من المؤكَّد وجود مسلَّمات طبيعيّة واجتماعيّة مرتبطة بحقيقة الإنسان واحترام كيانه وخياراته وحقّه بالحياة الكريمة بحسب مشيئة الله، هذه تخضع للحوار في إطار التوضيح واحترام وجود بعضنا البعض. لكن، يوجد أيضًا ما هو غير قابل للحوار وهذا ما يأتي في إطار الحقّ والباطل بالنسبة لكلّ ما يشوّه إنسانيّة الإنسان ويحرمه من حقوقه التي يضمنها الدستور والقانون. في هذا الإطار، نسوق، على سبيل المثال لا الحصر، بعض الأمثلة للتوضيح:
1. الفساد الذي يدمر الدولة ويزيد الحرمان والظلم؛
2. الاحتكار في مجال معيّن الذي يؤدّي إلى تحكّم حفنة من البشر بمصائر الأكثريّة؛
3. تشويه حقيقة الإنسان الأنطولوجيّة في التشريع والممارسة بحجة الحرية الشخصيّة؛ إلخ.
المقصود أن الحوار بين البشر يكون لبنيان هيكل الحياة المشتركة على أساس صلب واحد يعيش فيه كلّ البشر مهما كان إيمانهم أو انتماؤهم السياسي أو العرقي أو الإيديولوجي ...، شرط أن تكون هذه كلها مبنية على احترام رأي ومعتقد وحرية الآخَر في عيش حياته بالطريقة التي يراها مناسبة والتي لا تمسّ ولا تجرح صورة الله في الشريك، وطالما هو تحت سقف القانون.
* * *
المسألة الأساسيّة التي تعيق كلّ حوار جدي بين الناس هي اختلافهم حول الحق، ولو كانوا في الظاهر متّفقين على طلب الحقّ أو يظنّون أنّ الحقّ واضح. الأمور نسبية في أعين البشر أما في عين الله فالحق واحد. من هنا، حين أجاب الرب يسوع المسيح بيلاطس البنطي الذي كان يحاكمه عن سؤاله إذا كان ملكًا قال له: "أَنْتَ تَقُولُ: إِنِّي مَلِكٌ. لِهذَا قَدْ وُلِدْتُ أَنَا، وَلِهذَا قَدْ أَتَيْتُ إِلَى الْعَالَمِ لأَشْهَدَ لِلْحَقِّ. كُلُّ مَنْ هُوَ مِنَ الْحَقِّ يَسْمَعُ صَوْتِي". حينئذ اجابه بيلاطس: "مَا هُوَ الْحَقُّ؟" (راجع: إنجيل يوحنا 18).
هذه هي المسألة المعضلة في الحوار بين البشر: "ما هو الحقّ؟". من هنا، لا يمكن أن يقوم حوار حقيقيّ في الحقّ بين الناس، إلا من زاوية رؤية كلّ طرف للحقّ. وهل الحقّ عند الناس نقيّ أم هو مبنيّ على أهوائهم ومصالحهم؟! ...
لأجل هذا، حوار البشر في الحقّ لأجل خير حياتهم المشتركة يُبنى على القوانين المعترف بها من الجميع التي تصير هي المقياس الجامِع لتبيان واستنباط المبادئ التي يُشاد على أساسها البيت الواحد، أي الوطن، الذي يجتمع فيه الكلّ على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات لأجل خير المجتمع والحياة الكريمة للأفراد في إطار احترام الحرية الشخصية والجماعيّة في خطّ بنيان شركة الحياة الواحدة في التمايز والمتمايزة في الوحدة...