مسلمون ومسيحيون معاً في قراءة التاريخ وتنقية الذاكرة
مسلمون ومسيحيون معاً في قراءة التاريخ وتنقية الذاكرة
بقلم: د.خالد زيادة
ثمة العديد من المؤلفات التي تحمل عناوين متشابهة، مثل تاريخ الشعوب الاسلامية او تاريخ الشعوب العربية، وأخرى تتناول الحضارة العربية والاسلامية، الفها الكثيرون من الباحثين المرموقين في الغرب والعالم العربي.
والقارئ لهذه الاعمال، سيتنبه الى الحيز الضئيل الذي يحتله الكلام عن المسيحية التي عاشت الى جانب الاسلام في ظل الدول المتعاقبة، من الاموية والعباسية الى الفاطمية والمملوكية والعثمانية.
كذلك فان الكلام عن دور المسيحيين في الحضارة الاسلامية، عادة ما ينحصر في ذكر المترجمين الذين نقلوا التراث اليوناني الى العربية.
وعلى اهمية هذا الدور، فان ما تطالعنا به المؤلفات تلك لا يشبع الفضول العلمي. من المعروف ان التأريخ لا يقتصر على هذا النوع من المؤلفات. فهناك الكثير من المؤلفين الذين سلخوا حياتهم الاكاديمية في التخصص في حقبة من الحقبات او موضوع من الموضوعات.
ولكن اشد ما يلفت الانتباه ان التاريخ انصرف الى الموضوعات السياسية التي تتناول الدول والسلالات الحاكمة كما انصرف الى الشريعة والفلسفة والآداب، ويمكن ان نرد ذلك الى ان رواد التاريخ الاجتماعي ما زالوا قليلي العدد، كما ان تقاليد الكتابة التاريخية لم تنفتح انفتاحا كافيا على الانجازات المنهجية التي حققتها العلوم الاجتماعية والانتروبولوجيا.
ولو ذهبنا ابعد في البحث عن الكتب الأكثر تخصصا، والتي تتناول تاريخ المسيحية في المشرق، فلن نجد ما يشفي الغليل والمنهج التاريخي يبقى نفسه. وهنا سنعثر على تأريخ للفرق والخلافات بين الذين قبلوا مقررات المجامع المسكونية والذين خرجوا عنها او سنجد استعراضا لفترات تعاقب خلالها رؤساء الطوائف المسيحية وتأريخا لعلاقاتهم بالخلفاء ومقدار نفوذهم او ما تعرضوا له من عزل واضطهاد.
لست في صدد انتقاد المؤرخين، من مستشرقين او وطنيين. فالتقصير يمكن ان نرده الى المدارس التأريخية المتخصصة بالعالم الاسلامي، وما تتبعه من مناهج، وليس الى همم الاشخاص الذين ندبوا انفسهم وافنوا اعمارهم في البحث والتنقيب. على ان ذلك لا يعفينا من القول ان الحقول الشاغرة التي لم يحرثها البحث والتنقيب، والصفحات البيضاء الطويلة التي لم تكتب، تترك المجال للتفسيرات السطحية والمتسرعة، كما تفتح المجال واسعا امام اساءة الفهم.
وعلى عكس ما يعتقد، فان كتابة التاريخ الاسلامي ما زالت في بداياتها، علما ان كتابة التاريخ تعتني بالمواد من مخطوطات ووثائق وبالآثار المكتشفة، وبالمناهج المبتكرة. فالكثير من المعطيات المتوافرة لم تستثمر، نتيجة عدم استخدام الطرائق المستخدمة في علوم انسانية اخرى.
لقد كشف البرت حوراني، في دراسة اعدها حول وضع كتابة التاريخين الاسلامي والشرق اوسطي، عن حال تدريس هذين التاريخين فكتب: "يحضر سنويا عدة مئات من طلاب الجامعات في اوروبا الغربية واميركا الشمالية دورات اولية في التاريخ الاسلامي، ويصل عددهم الى عدة آلاف في الشرق الاوسط وافريقيا الشمالية، الا ان نسبة ضئيلة منهم تحضر درجة علمية اولى يشكل التاريخ الاسلامي منها جزءا يسيرا وبضع عشرات فقط يتابعون دراساتهم العليا.
وفي بعض فروع التاريخ الاسلامي، لا يتخرج سوى عدد يسير من المؤرخين ذوي الخبرة الكافية، وهو عدد لا يكفي لملء كل المراكز التعليمية الشاغرة". وتبين لنا دراسة حوراني ان متابعة الابحاث في التاريخ الاسلامي ترتبط بعدد محدد من المؤرخين المبعثرين في انحاء العالم، كما يبين لنا حقيقة الميادين الشاغرة التي تنتظر من يشغلها.
ان كتابة التاريخ الاسلامي عانت، حتى وقت قريب، من ثقل الافكار المركزية التي جثمت عليها. فغالبا ما ينظر الى التاريخ باعتباره كلاً مكتملاً، يساعد على ذلك ان ثمة نقطة بداية هي الدعوة الاسلامية، ونقاط وصول، مثل سقوط بغداد منتصف القرن الثالث عشر ميلادي، او حملة نابوليون بونابرت على مصر السنة الـ ،1798 او الغاء السلطنة والخلافة العثمانية اثر الحرب العالمية الاولى.
وحتى اولئك الذين انكبّوا على دراسة حقبة او سلالة حاكمة، كانوا يسعون الى ايجاد منطق وسياق للاحداث، ولا شك ان التاريخ بهذا المعنى خضع لفلسفة للتاريخ، هيغلية كانت ام مادية، تسعى الى استنباط قوانين تفسّر النهوض والهبوط والاضمحلال.
في المقابل فان الباحثين يعزلون التاريخ الاسلامي، عادة، عن سياق التاريخ العالمي، ويعود ذلك الى اسباب اكاديمية وتقنية، وفي اغلب الاحوال، فان المتخصص في مجال التاريخ الاسلامي المبكر، نادرا ما يفترض ان معرفته بالتاريخ البيزنطي ملزِمة، والعكس صحيح، وقد نكون الآن في مرحلة نشهد فيها انفتاح الحقول التاريخية والاكاديمية بعضها على بعض. والا كيف يمكننا ان نفهم حقيقة اوضاع مسيحيي سوريا والعراق من دون ان نعرف العلاقات اللغوية والعقيدية وبالتالي المجابهات المستمرة على حدود العالمين والدولتين.
لا شك ان هذا التاريخ الذي نتناوله التصقت به اكثر من اي تاريخ اخر صفة الاسلام، وقد تم الدمج بين التاريخ السياسي والتاريخ الديني اذا جاز التعبير، بين الدولة والعقيدة، كأن الاحداث والوقائع وسلوك الدول الحاكمة صدى للشريعة، وكأن افعال الخلفاء والسلاطين تطبيق لتعاليم الدين.
في اطار هذه القراءة، لا بد من طرح بعض الفرضيات:
- لا بد ان نميز بين التاريخ الحضاري او الثقافي، وبين التاريخ السياسي. فوحدة الثقافة والحضارة التي لا تلغي التنوعات في داخلها، ليست تابعة للتاريخ السياسي والسلالات الحاكمة والدول. فهذا الاخير يتسم بالاضطراب والتقطع. من هنا فان عطاء المسيحيين ودورهم في بناء الثقافة ليس رهنا بسياسات الحكام وممارساتهم.
- ولا بد ان نفصل بين التاريخ الذي يضعه الساسة والقوى النافذة والمصالح والحروب، وبين العقيدة والتشريع. فأفعال الحكام من سلاطين وملوك ليست نابعة من تطبيق حرفي للشريعة، ولا يمكن ان ننسب افعال المتوكل او الحاكم بامر الله او سواهما في خصوص المسيحيين الى تطبيق ما تمليه العقيدة الاسلامية. لا شك ان الدين استخدم لتبرير الكثير من الاجراءات والتصرفات، لكن استخدام الدين كذريعة لا يجعل اتباع هذا الدين او ذاك مسؤولين عن افعال الحكام.
- ان تاريخ العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، داخل العالم المشمول بالهيمنة الاسلامية حسب تعبير موريس لومبار، يعود في جزء منه الى ازمة بناء الدولة الذي استغرق ردحا طويلا من الزمن من دون ان تستقر العلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية. ولعل الاستقرار في العلاقة بين السلطتين ظهر الى الوجود مع المماليك والعثمانيين، اي في اوقات متأخرة. ولكن في الزمن العباسي المديد، كانت الامبراطورية المتسعة والمتعددة الاعراق والاديان والمذاهب تطرح تحديات امام الدولة التي سعى حكامها الى سياسات تراوح بين التسامح والتشدد، من اجل فرض سلطة الدولة ووحدتها. ولعل المسيحيين كانوا قد تعرضوا في احيان كثيرة للتضييق جراء تلك السياسات.
- كان العالم الاسلامي على اتصال وصراع مباشرين ولمدة ثمانية قرون متواصلة مع بيزنطة في الشرق، والمسيحية اللاتينية في الغرب، مع ما تخلل ذلك من حروب صليبية استطالت على مدى قرنين من الزمن، ولا يمكننا قراءة تاريخنا من دون ان نأخذ في الاعتبار التأثيرات السلبية والايجابية للاتصالات والتوترات على حدود الدول.
- اذا كانت الدولة العثمانية التي سيطرت على اجزاء كبرى من العالم الاسلامي قد انهت الدولة البيزنطية بسقوط القسطنطينية عام ،1453 وجعلت الغالبية من المسيحيين الملكيين رعايا لها، فان المجابهة منذ منتصف القرن الخامس عشر، اصبحت بين الاسلام العثماني واوروبا الغربية، قبل ان تستيقظ الارثوذكسية الروسية في نهاية القرن السابع عشر.
ومن البديهي القول ان مشاعر المسلمين والمسيحيين، في زمن كانت العاطفة الدينية تتفوق فيه على العواطف الاخرى، قد تأثرت ولو نسبيا بالاوضاع الدولية والتدخلات الاجنبية لاحقا.
- وأحد الاسئــلة المهـمة المــلــقاة على تاريخنا المشترك، تتعــلق بالقسمـــة بين الريف والمدينة، ولطالما كان التأريخ يقتصر على المدن دون الارياف. ان جزءا مهما من المسيحية عاش في الارياف بعيدا عن صراعات المدن، والمعلومات تنقصنا عن الارياف وسكانها، والجهود التي بذلت في هذا المجال لا تزال قليلة.
اننا مدعوون الى قراءة جديدة لتاريخنا تفضي الى كتابته من جديد. وهذه مهمة منوطة بأجيال من الباحثين. فكتابة التاريخ لا يمكن ان تتوقف، لكن المهم هو طرح الاسئلة والتسلح بالنقد وحرية البحث. نحتاج الى منهج في البحث التاريخي يمضي الى الحياة اليومية، الى ما كان يفعله الناس ويعيشونه، لمعرفة كيف يتدبرون امورهم ويتغلبون على الصعوبات، ومعرفة طقوسهم وعاداتهم، فلا نكتفي بالوقائع والاحداث الكبرى التي ما زالت نقاط ارتكاز للكتابة التاريخية.
قد لا تخدمنا الوثائق والمعطيات بشكل متكافئ، والأمل لم ينقطع في العثور على وثائق وبرديات تعود الى بدايات التاريخ الاسلامي والى فترات سابقة ايضاً.
ولعلنا كلما تقدمنا في الزمن استطعنا العثور على المعطيات والأدوات التي تساعدنا في دراسة تاريخ البشر والمجتمعات، لا الدول والحروب.
إن الارشيف الضخم الذي خلقته الدولة العثمانية يسمح لنا باجراء دراسات تفصيلية حول جوانب متعددة من التاريخ منذ بدايات القرن السادس عشر. والدراسات التي استندت على وثائق المحاكم الشرعية في القاهرة ودمشق غيّرت من فهمنا للتاريخ. ومثال على ذلك دراسة اندره ريمون عن القاهرة. وثمة جهود تبذل حالياً لدراسة العلاقات المسيحية - الاسلامية، من خلال سجلات المحاكم الشرعية في بيروت وطرابلس. أما الذاكرة، فانها تشكل نوعاً من المعرفة التاريخية لم يعترف بها المؤرخون إلا منذ وقت قريب، بعد ان تطور ما يعرف اليوم بالتاريخ الشفهي الذي يقوم على تدوين وتسجيل ما يحفظه اشخاص يعبّرون عن ذاكرة الجماعة التي ينتمون اليها او يحفظون وقائع شاهدوها او توارثوها.
والواقع ان ذاكرة الفرد ليست شيئاً بالقياس الى تاريخ الشعوب، لهذا فان الذاكرة الجماعية ليست ما يحفظه الفرد من أحداث شهدها او سمعها عن آبائه واجداده، انما تتجسد في الطقوس والعادات والممارسات وانواع المعاش التي تختزن طبقات متراكمة عبر العصور. لهذا فان البحث في الذاكرة يبقى على علاقة محددة بعلم التاريخ، اذ ان دراسة الجماعات وعاداتها وحكاياتها تنتمي الى مجال علمي آخر هو الانتروبولوجيا او الأناسة.
ولعل انبثاق ميدان علمي جديد هو الانتروبولوجيا التاريخية، حسب جاك لوغوف وآخرين، يستجيب لمسعانا اليوم في سبيل الغوص في الذاكرة وتفكيكها من أجل تنقيتها. فالذاكرة عادة ما تكون خاصة بجماعة من الجماعات، وتعبّر عن فكرتها عن ذاتها وفكرتها عن الآخرين. وللذاكرة منطقها الخاص، ما دامت تقيم تسلسلاً لا يتبع منطق التاريخ و"تسلسله العقلاني". ولن نفلح في اختراق الذاكرة الخاصة بكل جماعة من الجماعات، ما لم نشجع البحث الانتروبولوجي، الذي هو، بمعنى من المعاني، علم آثار ثقافي واجتماعي يبحث في الطبقات المتراكمة للعادات والطقوس والمعتقدات.
ويمكنني ان اذكر هنا مثلاً مشجعاً. فقد أجرى أحد الباحثين دراسة على قريتين لبنانيتين متجاورتين، واحدة سكانها مسلمون والأخرى سكانها مسيحيون، وقد اكتشف ان عاداتهم ونمط عيشهم ونظرتهم الى الحياة تصدر كلها عن معين مشترك. فهم اقرب الى بعضهم بعضاً مما يظنون. ولعل هذا المثال هو نموذج لما ينتظرنا من خلال قراءة التاريخ وتنقية الذاكرة. فالمسلمون والمسيحيون قريبون، بعضهم من بعض، اكثر بكثير مما يظنون.
جريدة النهار- عدد الأحد، 19 كانون الثاني 2003 http://www.annahar.com.lb