المسيحية والمشروعية السياسية في تاريخ الولايات المتحدة

المسيحية والمشروعية السياسية في تاريخ الولايات المتحدة

جيمس تيرنر جونسون*

ما كانت المسألة في تجربة الولايات المتحدة التاريخية تبعية الشرعية السياسية للمسيحية أم لا؛ بل كيف يستطيع النظام السياسي أن يحفظ احترام الدين، وأن يحمي الدين من تدخلات الدولة.

ما قامت المشروعية السياسية في الولايات المتحدة على الدين. وقد جاء في الحروب الاستقلال أنّ نظام الولايات المتحدة يقوم على القوانين الطبيعية، المنبثقة من طبيعة الله.. وأنّ كلّ البشر زوّدوك من الخالق بحقوق ثابتة، ومن ضمنها حق الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة. وهذه الأمور كلُّها يمكن تتبُّعها إلى أصول في الفكر المسيحي الغربي؛ لكنها لا سير إلى ارتباكات معينةٍ بالدين المسيحي بحدّ ذاته. والملاحَظُ أنّ الفضل في هذه اللغة ذات الطابع الديني، يعود لثقافة توماس جيفرسون؛ لكنّ الحقوق المذكورة فيها يجري التعبير عنها باعتبارها بديهية أو مؤكدة، كما أنّ شرعية الحكم أساسُها إجماعَُ المواطنين أو المحكومين. وفي ديباحة الدستور يجري التحدث باسم شعب الولايات المتحدة، والذي صَّمم على تحقيق العدالة، والسلام الداخلي، والدفاع عن نفسه، ونشر الرخاه العامّ، وصنع الحرية للذات وللأجيال القادمة. وهكذا لا يُذكَر الله في الدستور، كما لا تُذكَر المسيحية. على أنّ هذا لا يعني تقليلاً عن احترام الدين. فالحقائق البديهية أو المؤكَّدة توصلنا إليها من خلال الطبائع التي خلقها الله. فلا علاقة إذن للشرعية السياسية بالدين المسيحي. لكن إذا كان السؤال عن كيفية تعامل السلطة الشرعية مع المسيحية؟ فإن هناك تراثا غنيا في ذلك في التاريخ الأميركي.

الدين في المجال العام: جاء في مقدمة التعديل الأول للدستور الأميركي: إنّ الكونغرس يجب أن لا يشّرع أيُّ قانون لتسويد أوسيطرة الدين، كما أنه يجب عليه أن لا يحول دون حرية الممارسة الدينية. وهذان السطران ظلا َّ موضع نقاش على مدى أكثر من قرنٍ ونصْف، بشأن مكانة الدين، في علاقتة بالمجال العام. وفي العام 1941م حدَّد الرئيس فرانكلين ردزفلت الحريات التي وردت في التعديل الاول للدستور بأنها أربع وتشمل: حرية التعبير، والحرية الدينية، والحرية من الحاجة، والحرية من الخوف. وهكذا فهناك أربع حريات يمكن التعبير عنها بأنها "الحريات الدستورية": حرية الدين، وحرية التعبير، وحرية الإعلام، وحرية التجمُّع. وهذه الحريات معطاة بالطبعة، ولذلك ليس المطلوب من الدستور تثبيتها، بل المطلوب الحيلولة دون الحدّ منها. لكن ما دامت تلك الحريات ومنها حرية الدين – جزءّ من الطبيعة الإنسانية، فلماذا نصَّ التعديل الأول على عدم جواز تثبيت أو تسويد دين معين؟ لقد كان هناك اتفاقٌ على ضرورة الدين للاستقرار الاجتماعي والسياسي: لكن كانت هناك اختلافاتٌ بين الولايات حول مسائل تفصيلية تتعلّق بالدين. وما أمكن الاتفاق على أيّ الحلّين هو الأفضل: الاعتراف بالدين، أو عدم الحاجة للاعتراف به، من أجل دعم مكانته في النظام الاجتماعي والسياسي. في ولاية ماساشوسيتس كان القانون المستقهّ من العام 1780م يرى ضرورة دعم ممارسة حرية العبادة من المال العامّ. وقد سْمّي أنصار هذا الرأي بالتقليديين. لكنْ كان هناك من رأي من "الإرادويين" أن الدين ضروريٌّ للاستقرار والخير العامّ. لكنْ لا حاجة لدعمه من السلطة أو من المال العامّ، لأنّ ذلك قد لا يفيد أو قد يكونُ مُضِرا. وكان هذا الموقف هو ما ذهبت إليه ثلاث ولايات: ما ريلانر وبنسلقانيا ورود أكلاند. ومن المعروف أنّ سكان تلك الولايات كانوا من المهاجرين الأوائل، ومن الكنائس صغيرة، وليس من الكنيسة الانجليكانية الكبيرة. ولذلك فقد ذهب ممثلو تلك الولايات إلى أنّ المطلوب حماية الحرية الدينية والتسامُح الديني، وليس دعم الدين أو المذهب السائد (كانت ماريلاند ذات أكثرية كاثوليكية، وبنسلفانيا من الكويكرز، ورودأيلاند، من الأُسقُفيين). وهكذا صيغت عبارةُ التعديل الأول بحيث تُرضي التفكيرين والارادوين على حدٍ سواء لقد كان معنى ذلك عدم تدخل السلطات الفيدرالية في الشأن الديني، بعد الإقرار بالحرية الدينية. مع ملاحظة أنه ظلَّ من حقّ كلّ ولاية" أن تشترع ما يعجُبها لجهة مساعدة المؤسسات الدينية أو عدم دعمها. وهذا يعني أنّ التعددية الدينية صارت آمنةً ومضمونة الحقوق. لكنْ هل كانت تلك التعددية قادرةً على المذاهب المسيحية؟ لقد كان معروفاً أن الكنائس البروتستانتية ما كانت إحداها ترتاح للأُخرى، فضلاً على عدم الارتياح للكتلكة. بين أنّ هذا الإشكالَ وجد حلاًّ له في المزيد من إقرار التعددية الدينية. إذ في العهد الكولونيالي البريطاني بدأت الانشقاقاتُ عن الكنيسة الأنجليكانية الأمّ. ثم ازدادت الانقسامات في "الإحياء الكبير الأول"، "والإحياء الكبير الثاني". وكانت الاختلافات التي تقضي الانقسامات تدورُ حول شعيرة المعمودية وهل تتمُّ في الطفولة أم بعد البلوغ، وحول طرائف ومناهج تفسير الإنجيل، وحول ممروقة المؤمنين من حل الدين. ولا شك أنّ هذه الانشقاقات والفرق الجديدة نصرتْ وجهة نظر الإرادوين أو الاختيارين، الذين رأَواعدم التدخل في الشأن الدين لصالح دعم كنسية معينة. وهكذا فبعد التعديل الأول، ما قامت أيُ ولايةٍ بتثبيت أو دعم اتجاهٍ كنسٍِ معين. وقد سمح ذلك بمدّ الحرية الدينية على المهاجرين الجدد ودياناتهم من مثل الأميركيين اللايتين، والهندوس والبذوين والمذاهب الإسلامية المختلفة. وما أدى ذلك إلى إضعاف الدين أو التدين بشكلٍ عام. فالولايات المتحدة معروفة بأنها الأكثرتدنياً بين البلدان الغربية؛ فحين أنّ الدول الأوروبية التي كانت جميعها تملك كنيسةً سائدةً أو مدعومَه، قلَّ التديُّنُ فيها عبر العصور وصولاً إلى الذروة في الزمن الحاضر. ولاشكَّ أنّ ذلك لا يعود لانتصار رأي الإرادويين أو التعدديين في الولايات المتحدة؛ بل لأنّ الأميركيين اعتبروا الدين أساس القيم الاجتماعية والاستقرار والخير العامّ، وما تدخلوا في شؤونه. وهكذا فقد كان الفصلُ بين الدين والدولة في الولايات المتحدة، مختلفاً عن تجربة الفصْل في فرنسا، والتي اتخذت طابعاً راديكالياً. إذ عُنيت بحماية المجال العامّ من التدخل الديني؛ في حين حمى الأميركيون الدين من تدخل الدولة.

رفض الثيوقراطية: إنّ الواضح أيضاً في التجربة الأمريكية بشأن العلاقة بين الدين والنظام الاجتماعي والسياسي، أن الدولة لا ينبغي أن تكون ثيوقراطية، أي أن ديناًمعنياً يسيطر فيها أو يملك حق الفيتو في المجال العامّ. وقد كانت هناك تجربةٌ في ما "ماسا شوسيتن باي كولوني" لإقامة نوع من الثيوقراطية مؤسسة على المذهب التقوي داخل الكالقينية. لقد اعتقد هؤلاء أنّ للقانون وظيفتين: معرفة الحقيقة الكبرى والسعي لتطبيقها حرفياً، واستحثاث المؤمنين على طاعة الله. لكنْ ماذا عن غير المؤمنين؟ وظيفة القانون الأولى تكون: تحريرهم من الكفر بالله، وهوايتهم للحق والصواب. وكانوا يؤمّلون من وراء ذلك التوصل إلى المجتمع المقالي، مجتمع "المدينة على الجبل" التي تصبح منارةً لكل الشعوب. بيد أنّ هؤلاء سُرعان ما أدركوا أنهم تجاوزوا المثالية إلى القهر والإرهاب. لقد كان هدفهم إنشاء كيانٍ خالٍ من الخطايا والذنوب، موصول بالقانون الإلهي الخالد. بيد أنّ ناثانييل هوثورن في روايته "الحرف الأصفر" أوضح لهم أنّ ذلك غير ممكنٍ أو غير إنساني. إذ إنّ النواحي المحيطة بهم آثرت مبادئ أخرى مثل الحرية الشخصية، والإنجاز، والتضامُن، والمبادرة. والمشكلة الأخرى أنّ الهجرات المتتابعة إلى الولاية جلبت جماهير لا تقول بالمبادئ نفسها التي يقولون بها. والمشكلة الثالثة أنّ أبناء البيورتانيين وأحضارهم ما كانوا يذهبون المذاهب نفسها التي ذهبوا إليها هم. والمشكلة الرابعة لدى هؤلاء ظهرت في سوء فهمهم للعلاقة بين المثال الديني والأخلاقي من جهة، والنظام السياسي الذي كان المفروض فيه أن يريد الشأن العامّ الخاضع للحرفية الدينية الموروثة عن العلاقة بين يهود وإسرائيل، وبطريقةٍ جامدة. وأخيراً وليس آخيراً فقد ظهرت مجتمعاتٌ أُخرى داخل الكيان الفيدرالي فيها كاثوليك ويهود وكويكرز، أتوا جميعاً من أوروبا هرباً من الاضطهاد؛ ولذلك كانت الحرية الدينية هدفهم الأول والممكن، وما كان بوسعهم ممارسة الحصرية الإرغامية التي هربوا من أوروبا لتجنُّب سلبياتها. وهكذا فقد تبين للجميع وبالتجربة أنّ الثيوقراطية لاتُسيئُ إليهم فقط، ولا إلى الولايات المتحدة فقط؛ بل تُسيئُ أيضاً إلى الدين نفسه. ذلك أنّ الدين جوهرُهُ الحرية. وحماية الدين من الدولة والدولة من الدين وجهان لعُملةٍ واحدة. فالثيوقراطية تدمّر الدين، كما تدمّر الجماعة السياسية.

الحرية الدينية والمجتمع المدني: إنّ مفهوم حرية الاجتماع والتنظيم، إذا اقتيد إلى نتائجه المنطقية في المجال الديني، يسهم في خَلقْ ومساعدة الحياة الاجتماعية المتحركة. فالتنافُسُ بين الجماعات الدينية في المجتمع الأميركي، يؤدي أحياناً إلى أعمالٍ إيجابيةٍ بارزة. إذ إنَّ كلَّ طرفٍ يهدف للرعاية الطيبة والمُغرية لنفسه في المجال الاجتماعي. وتدل التجربة على أنّ التنافُس من أجل النموّ العددي أو النفوذ لايتمُّ من طريق العقيدة الطهورية أو الافتخار بالتاريخ؛ بل من خلال الخدمات الاجتماعية والقيام بنشاطاتٍ ينخرطُ فيها كثيرون طوعياً لما يرونه من فائدتها وجاذبيتها. وهذا ما تفعله الكنائس المعصرة، والتي تشهدُ نمواً انفجارياً هائلاً. والذي أراه أنّ هذا النموَّ النشيط والمفيد من بعض الجوانب، إنما يعودُ إلى الطابع الحر والتطوعي، كما يعود إلى الفصل التاريخي والخاصّ في طبيعته بين الدين والدولة في الولايات المتحدة. وعندي دليلٌ على ذلك يتمثل في إقبال إدارة الرئيس بوش على استعمال المنظمات الاجتماعية والمدنية لبعض الكنائس في الخدمات العامة بالداخل والخارج. قالت الإدارة إنّ تلك الهيئات الدينية أثبتت كفاءةً في تلك الأعمال التطوعية، ولذلك تحسُنُ الإفادةُ من خبرتها، ويحسُنُ بالتالي دعمُها. بيد أنّ ذلك –وكما كان متوقَّعاً- تسبّب في ضجةٍ هائلة. فقد نظر إليه البعض باعتباره دعماً لجهةٍ دينيةٍ وهذا مُخالفٌ للدستور. بينما رأت فيه جماعاتٌ دينيةٌ نصراً لمنافسيها عليها في المدى الطويل، ما دامت هي لا تقومُ بالأعمال نفسِها الجالية للشعبية والدعم. هكذا جُمدِّتْ تلك الخطوة الفيدرالية. أمّا على المستوى المحلي فإنّ الجهات المدنية في الجماعات الدينية، ما تزالُ تقومُ بأعمالٍ جليلةٍ في الخدمة الاجتماعية. وقد يكونُ مبالَغاً فيه هنا الذهاب إلى أنّ ذلك يعني معارضةً للثيوقراطية. لكنْ في الواقع فالدعُم المتبادَلُ والخاصُّ بين المؤسَّسة السياسية والمؤسسة الدينية يوشكُ أن يؤدي إلى نوعٍ من أنواع الثيوقراطية بالفعل. وكما سبق القول؛ فإنّ ذلك لم ينجح بتاتاً في التجربة الأميركية. وفي الخلاصة؛ فإنّ النموذج الأميركي للتعامُل مع الدين، يجعل من الجماعات الدينية الطوعية جزءاً حياً وفاعلاً من المجتمع المدني الأميركي. وإذا كانت تلك الجماعات الدينية تقوم بأعمالٍ في المجال العامّ؛ فإنّ ذلك لا ينبغي أن يُوصِلَ إلى تداخُلاتٍ مصالح أو افتراقات تنابُذ؛ تُخِلُّ بمبدأ الفصل بين الدين والدولة.

ما العمل؟ وما الطريق لتفاعُلٍ مستمرٍ مع عالَم الإسلام؟ من دروس التجربة الأميركية أنّ سيطرة الدين على المؤسسة السياسية هو أمرٌ غير مقبول، كما أنّ سيطرة المؤسسة السياسية على الدين هي أمرٌ غير مقبولٍ أيضاً. والأمر الثالث غير المقبول هو التداخُلُ وتبادُل المصالح والمنافع بين المؤسستين. ومع ذلك فإنّ العلمانيين الراديكاليين في أوروبا ما يزالون يعتبرون النظام الأميركي نظاماً مسيطَراً عليه من المحافظين الدينيين المسيحيين. والواقع أنّ هذا غير صحيح؛ وفي الوقت نفسِه لا نستطيع القَبولً استناداً إلى التجربة المقارنة بإبعاد الدين قوةٍ عن المجال العامّ؛ لأنّ ذلك يُهدّد النظام الأخلاقيَّ الذي تقومُ عليه الحياةُ العامة. ويمكن القولُ هنا مرةً أُخرى إننا لا نقبلُ السيطرة الدينية على الحياة السياسية. فالتجربة الأميركية تُثبتُ أنّ التدامُج أو التداخل بين السلطتين ما كانا مفيدين، وأنّ في الأمر ظلماً للدولة وللدين معاً. وأستطيعُ أن أذكر هنا بعض الأمثلة. فالخلاف مع النظام السائر في إيران لا يعود إلى أنه نظامٌ إسلامي، ولا لأنّ إيران تُعادي الولايات المتحدة وتتعرض لمصالحها؛ بل لأنَّ النظام هناك نظامٌ ثيوقراطيٌّ يحول دون قيام حياةٍ سياسيةٍ حرةٍ وراعية للمصالح العامة.

وكذلك الأمر مع نظام الخلافة أو الدعوة إليها. ليسٍ لأنّ الراديكاليين قتلوا الرئيس السادات، ولا من أجل طالبان أفغانْستان، ولا من أجل عمليات القاعدة؛ بل لأننا نرفض الدعوة المتضمنة في هذه المناهج والحركات: الدعوة إلى التدامُج بين الدين والدولة. إننا لا نرى سيطرة توجه ديني معين على الدولة، كما لا نرى إبعاد الدين وقيمه نهائياً عن المجال العامّ. وتجربة الولايات المتحدة التاريخية تشير إلى نجاح الحلّ المتوسط، أو العلاقة ذات المجالين المتجاورين والمنفلين.

إنّ المشكلة هنا ليست بين المسيحية والإسلام، كما يزعم المتطرفون. ولنتذكّرْ المقولة القرآنية: "لا إكراه في الدين". ثم لنتذكَّر الأشكال والصيغ التي يدورُ الجدالُ حولها في العالمين العربي والإسلامي، والتي تعني اجتياحاً من جانب الجماعات الدينية للمجال العامّ والسلطة السياسية. كما تعني في إيران سيطرة رجال الدين. والذي أراه وأختم به أنه من الممكن أن تعود العلاقةُ الودودةُ بين الدين والدولة في عالَم الإسلام، كما في التجربة الكلاسيكية. وتكونُ حداثةُ تلك العلاقة وجديتها قائمةً على احترام الدين وحرية المتدينين، وعدم السماح بسيطرة أحدهما على الآخر.

**************

*) أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة Rutgers أمريكا.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=333

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك