التعايش (أنواعه، نماذج تطبيقية: التعايش الوطني والحضاري)

 

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

فإن الإسلام يضمن لكل فرد يعيش في ظله حفظ (دينه ونفسه وعقله وماله ونسله)، فهي حقوق ضرورية لا تقوم المصالح وحياة الناس من دونها. وسواء كان هذا الفرد مسلماً أو غير مسلم، وسواء كان يقيم في بلد الإسلام إقامة دائمة أو مؤقتة بالعهد والميثاق.

 

وهذا البحث - المختصر - يوضح أنواع التعايش مع ذكر نماذج تطبيقية في التعايش الوطني والحضاري، وقد قسمت الورقة إلى مبحثان:

المبحث الأول: أنواع التعايش وضوابطه.

المبحث الثاني: نماذج تطبيقية: التعايش الوطني والحضاري.

نسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

المبحث الأول

أنواع التعايش وضوابطه

♦ للتعايش ثلاثة أنواع:

1- التعايش الديني: وهو تعايش المسلمين مع غيرهم من الديانات الأخرى سواء داخل الدولة الإسلامية أو غيرها وذلك بالحسنى والمعروف وفقاً للهدي الإسلامي وما تقتضيه مصالح جميع الأطراف في أمور الحياة والمعاش والمواطنة المشتركة.

 

وضوابط هذا النوع ما يأتي:

أ- الاعتراف بوجود الدين الآخر ويعتبر اعتراف وجود وتعايش، لا اعتراف صحة.

ب- التعامل مع غير المسلمين بالبر والقسط؛ وذلك بعدم العدوان عليهم أو إخراجهم من الديار إلا إن وقع منهم ما يوجب ذلك شرعاً.

ج- التفاهم والحوار معهم بالتي هي أحسن.

 

ولعل الإطار الذي رسمه الشيخ محمد الغزالي للتعايش، يمثل صيغة حسنةً لتحديد صورة هذا التعايش بين المسلم و بين غير المسلم، فقد وضع ثلاثة مبادئ للتعايش والحوار هي:

أولاً: الاتفاق على استبعاد كل كلمة تخدش عظمة الله، فأنا وأنت متفقان على أن الله قد أحاط بكل شيء علمًا، وأنه لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه ليس متصفًا بالنقائص والعيوب التي تشع بين البشر.

ثانياً: الاتفاق على أن الله يختار رسله من أهل الصدق والأمانة والكياسة.

ثالثاً: ما وجدناه متوافقًا في تراثنا نرد إليه ما اختلف فيه، وبذلك يمكن وضع قاعدة مشتركة بين الأديان.

ومن أمثلة التعايش الديني في بلاد المسلمين: تعايش المسلمين في مصر مع الأقباط، وفي لبنان مع النصارى وغيرهم. [1]

 

2- التعايش العرقي واللغوي: قد يجتمع في بلاد إسلامية واحدة عدة أعراق فهذا عربي وهذا فارسي وغير ذلك، وأيضاً من جانب اللغة فقد يتواجد في البلد الواحد أكثر من لغة وهذا مشاهد في كثير من الدول.

ومن أمثلة التعايش العرقي واللغوي في بلاد المسلمين: ما يحصل في تركيا والعراق وغيرها من اختلاف في الأعراق واللغات.

 

ومن ضوابط هذا النوع:

أ‌- عدم التفاخر بالأعراق، والطعن فيما سواها، فالأعراق في حد ذاتها غير ذات قيمة يعلو بها أحدٌ على أحدٍ من البشر.

ب‌- تكافؤ فرص العيش الكريم بين سائر الأعراق واللغات دونما تمييز إلا باعتبار عادل كتفاوت العدد ونحو ذلك.

 

3- التعايش المذهبي: لا شك أن في كل دين مذاهب وفرق قد تجتمع في بلاد واحدة كما هو الحال مثلاً في العراق من وجود مذاهب لأهل السنة ومذاهب للشيعة وفي غيرها.

 

ومن ضوابط هذا النوع:

أ‌- مراعاة القواعد الشرعية في التعامل مع المبتدعة كمراعاة التفاوت بين بدعهم فمنها ما هو مكفر ومنها ما ليس كذلك، ومنهم الداعي لها وغير الداعي، ولكل حال حكمها.

ب‌- المنع من نشر الباطل.

ت‌- الأصل في التعامل معهم دعوتهم بالتي هي أحسن وبالرفق واللين.

ث‌- عدم بخسهم شيئاً من الضرورات الدنيوية.

 

ومما يمكن الختم به في شأن ضوابط التعايش بين أبناء الوطن الواحد المختلفين دينياً أو مذهبياً أن يُقال: المواطنة من حيث الحقوق والواجبات في الشريعة لها وجهان:

أولاً: وجه يساوي بين كل الأفراد، من دون نظر إلى دين أو عرق أو جنس، وهذا الوجه يمكن فهمه وضبطه بالكليات الشرعية العامة، وهو ما يدخل تحت مفهوم الضروريات الخمس.

 

وهنا لا بد من التنبيه إلى مسألة تشغل بال كثير من الناس، وهي مواطنةُ المسلم المختلف مع غيره من المسلمين. فيجب أن يعيش هذا المسلم المختلف كسائر المسلمين، وله من الحقوق كمثل ما عليهم من الواجبات.

 

فلا يجوز بناء العلاقة معه على أسس مذهبية أو طائفية أو حزبية، أو تفرقة بسبب اختلاف الملة والنحلة، كما لا يجوز في الشرع أن نحمله كل الواجبات، ونعطيه بعض الحقوق، فالغرم بالغنم كما هي قاعدة الشريعة.

 

فإذا تحمل كل الواجبات، فيعطى كل الحقوق، وإذا قررنا إنقاص بعض حقوقه، فيجب إنقاص الواجبات، أما أن يُطلب منه مواطنة تامة، وتُنتقص بعض حقوقه، فهذا جور وحيف يخل بالتوازن العام في الوطن الواحد.

 

وعليه فلا يجوز أن يُعامل في الوظائف على أسس مذهبية أو حزبية، فهذا خلل في نُظم إدارة الدولة وظلم كبير، فشؤون معاش الناس ترتبط بالمشتركات والقيم العامة، ولا يصلح أن تدار وفق مؤثرات مذهبية بل حتى دينية، فهي إن ارتبطت آلت حينئذ لتمكين الأقل كفاءة لسلامة منهجه وترك الأكثر كفاءة وعلماً وخبرة لخلل في منهجه، فكل شأن دنيوي تمحض للدنيا، يعامل كما الآلات التي ينظر فيها إلى الجودة وحسن التقنية وشروط الصحة ولا ينظر فيها إلى مشاركته لنا في الملة أو المنهج.

 

ثانياً: أن الشريعة فيما عدا الحقوق الضرورية، تميز بين المسلم وغير المسلم، ولا تساوي بين الذكر والأنثى في كل الأحوال. وعدم المساواة مُعلل إما بمؤثر ديني وإما بمؤثر طبيعي.

 

ويقابل هذا التمييز في الحقوق، التفريق في الواجبات أيضاً، فالواجبات على المسلم أكثر وأشد على المسلم من غير المسلم في وطن الشراكة، فلا يلزم غير المسلم ما يلزم المسلم في الوطن الواحد، فيمكن أن يعيش غير المسلم مع المسلم في وطن واحد بجنسية واحدة، ويدفع المسلم أكثر مما يدفعه غير المسلم، كما في الزكاة الواجبة التي تجب في الأموال والزروع والثمار وما أعُد للتجارة، ويكلف الحاكم من يجبيها، ويعاقب من امتنع من أدائها، وبالمقارنة بالواجب من الأموال على غير المسلم فلا يجب عليه إلا مقدار يسير يحق للحاكم إسقاطه عنه إذا رأى مصلحة، ولا يجب إلا على القادر ولا يجب شيء منه على النساء أو الأطفال، ويقابل هذا التخفيف في الواجبات حرمانه من بعض الحقوق فلا يدخل في حفظ الدين وممارسه طقوسه داخل أسواره السماح له بنشر دينه وبناء كنيسته في أرض الدولة المسلمة التي غلب فيها المسلمون، وليس في ذلك إخلال بقاعدة التعامل بالمثل، لأن نشر الدين وبناء الكنائس مما يخضع لقوانين الدولة الخاصة التي لا يجوز لأحد التدخل في هيكلتها ففي ذلك مساس بسيادة الدولة وانتقاص من هيمنتها.

 

وكذا الحال في المسؤوليات على الرجل، التي تختلف اختلافاً بيناً عن الأنثى. وبهذا الاختلاف يستبين جزء من الفرق بين المواطنة، بمعناها المتحرر التي تترادف مع المساواة التامة، ومفهومها في الشريعة. [2]

 

المبحث الثاني

نماذج تطبيقية للتعايش

التعايش الوطني بين أبناء الوطن الواحد المختلفين دينياً أو مذهبياً أو عرقياً:

لا يعيش المسلمون اليوم في جزر منفصلة عن غيرهم بل أصبح في عقر دارهم طوائف ومذاهب متعددة فليس لدى المسلمون إلا دعوتهم إلى التمسك بالإسلام كما جاء في كتاب الله وكما تمثله وعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعايش معهم " قبول الآخر" بضوابط يجب مراعاتها منها عدم نشر باطلهم ومراعاة القواعد الشرعية للتعامل مع المبتدعة.

 

وقبول الآخر إنما يكون في قبول التعايش معهم في مجتمع واحد وهو ما يُسمى بالمواطنة فلهم ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما على المسلمين من واجبات وذلك في إطار الحقوق والواجبات التي نص عليها الشارع.

 

ومن نماذج التعايش الوطني:

أ‌- إن أبهى تلك النماذج وأرقاها هو تعايش النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة مع اليهود حيث عاهدهم واتفق معهم على المصالح المشتركة التي تجمعهم في هذا البلد الذي يشتركون في سكناه، بل كان يحسن إليهم ويتلطف في معاملتهم لعلهم يقبلون هدى الله ومن ذلك عيادته لليهودي في مرضه، ولم يُجلهم النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة حتى نقضوا العهد الذي بينهم وبينه.

 

ب‌- جاء في العهد الذي أعلنه عمرو بن العاص - رضي الله عنه - عامل الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على مصر إثر فتحها التعهد المكتوب الممضى عليه بحماية كنائس النصارى و تأمينهم على ممارسة دينهم بكل حرية.

 

التعايش الحضاري:

أي الاستفادة مما لدى غيرنا من جوانب التقدم الحضاري وهذا قد أخذ به المسلمون منذ وقت طويل نسبياً ولكن أخذهم بها فيه سلبيات هم بحاجة إلى تجاوزها حتى تتم الاستفادة الكاملة منها والتقارب والتعايش مع هؤلاء كفيل بتحقيق كثير من الجوانب الإيجابية في هذه القضية. [3]

♦ ♦ 

 

 

انتهى البحث

وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

 



[1] انظر: صيحة تحذير من دعاة التنصير، محمد الغزالي، ص:29.

[2] التعايش: مفهومه، أنواعه، ضوابطه، نماذج تطبيقية، مجموعة من طلاب قسم الثقافة الإسلامية في جامعة الإمـام محمد بن سعود الإسلامية، إشراف الدكتور ناصر التويم، البحث متوفر على شبكة الانترنت.

[3] التعايش: مفهومه، أنواعه، ضوابطه، نماذج تطبيقية، مجموعة من طلاب قسم الثقافة الإسلامية في جامعة الإمـام محمد بن سعود الإسلامية، إشراف الدكتور ناصر التويم، البحث متوفر على شبكة الانترنت.





المصدر: https://www.alukah.net/culture/0/106255/#ixzz5piufNzxm

 

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك