التجليات الإنسانية في مفهوم المواطنة
التجليات الإنسانية في مفهوم المواطنة
علي أسعد وطفة*
تشهد الحياة السياسية العالمية المعاصرة، موجات زاحفة من الإرهاب والتطرف، الذي يهدد أمن المجتمعات الإنسانية وسلامها. وفي دورة العنف هذه وصولته، تجد الأنظمة السياسية الديمقراطية في العالم نفسها، في مواجهة خطرة مع الآثار الدامية لهذا التطرف الذي لا يرحم، وهي مواجهة دامية لن توفر في نهاية الأمر الأنظمة الاستبدادية نفسها التي تعزز الإرهاب وتؤصله.
وفي دائرة هذه التحديات المصيرية الكبرى، أدركت الأنظمة السياسية والفكرية القائمة، بأن التصدي للعنف لا يكون أبدا بالعنف المضاد، وأن المواجهة يجب أن تأخذ صيغا ثقافية وتربوية بعيدة المدى، لأن الثقافة وحدها، ثقافة التسامح، هي التي تشكل الحصن الحصين ضد العنف والتطرف والإرهاب. فالفعل الثقافي في أبسط معانيه وأدنى دلالاته يشكل المنطلق الأول في هذه المواجهة، وذلك لأن العنف والتطرف ينبعان بالضرورة من الجهل والجهالة، ومن ثقافة سوداء مظلمة، تقوم مفرداتها على القتل والتدمير والإرهاب، وهذه الثقافة السوداء تعني جهلا مطلقا بالقيم الديمقراطية والمعاني الإنسانية للسلام والمحبة وهو الجهل المتعصب الذي يشكل ينبوعا حيويا لكل أشكال العنف ومعانية وتجلياته.
فالإرهاب الذي يفتك بالناس، ويستبيح دماءهم ويهدد حياتهم، يستند إلى أيديولوجيا العنف وعقلية التسلط والإكراه، وأن المعنيين بإشعال فتيل بالعنف، يؤسسون في البداية لعقلية الإرهاب، ويغذون أنصارهم بمفاهيم القتل والتدمير والتعصب، ويشيعون فيهم كراهية كل القيم الإنسانية النبيلة في الإنسان. وهذه القيم السوداء -قيم التسلط والعنف والكراهية والتعصب- هي الأصل في كل فعل إرهابي، وفي كل توجه عدواني. فهؤلاء البسطاء الساذجون المغرر بهم، الذين يمارسون هذا النوع من العنف والتسلط، يقعون ضحية عقائد مجنونة، وأيديولوجيات مشبوبة بالحقد والكراهية. وبالتالي فإن ما يصدر من عنهم من أعمال مروعة هي نتاج حقيقي لمنظومة من الأفكار والمعاني، التي غرست في عقلهم الباطن، فتحولت إلى عقيدة راسخة، لا يمكن لأحد أن يوقف مدّها وجنونها. ولسان الحال يقول أنه كلما سقط إرهابي وقاتل في زخم الصراع بين الموت والحياة، تعمل العقيدة الإرهابية على توليد المزيد من الإرهابيين والمزيد من الحاقدين والمتطرفين والقتلة، وهذا يعني أن الحرب على الإرهاب لا تكون إلا بالثقافة أنها حرب ثقافية بكل ما تنطوي عليها هذه الكلمة الراقية من معاني إنسانية.
لقد أدرك الساسة والمفكرون اليوم، أن الصراع المسلح ضد المتطرفين لا يمكنه أن يشكل ضمانة آمنة في المستقبل القريب والبعيد. لأن عقيدة العنف والتطرف قادرة على توليد ما يحصى من المتطرفين. ولذلك فإن هذه الحقيقة أسست لنظريات جديدة تدعو إلى تبني أنساق فكرية وتربوية جديدة كأساس للعمل في اتجاه الترويج لثقافة التسامح والسلام، بوصفها ثقافة مضادة للعنف، يمكنها أن تحصّن الأجيال في مواجهة التطرف والإرهاب، وعلى هذا الأساس بدأت الدول والمؤسسات تعمل يدا بيد من أجل بناء ثقافة السلام في مختلف المستويات والاتجاهات والتقاطعات الإنسانية.
لقد اعتقد جميع المؤمنين بقدر السلام، من مفكرين وساسة، بأن بناء عقلية السلام، وأيديولوجيا التسامح، في مواجهة العنف والتعصب، عمل استراتيجي يكتسب أهمية وخطورته من تجارب الصراع الدامي بين أنصار السلام ودعاة الإرهاب في التاريخ المعاصر. وعلى هذا الأساس بدأت الجهود الحثيثة في مختلف المستويات من أجل بناء وعي إنساني جديد، يدين العنف، ويرفض الإكراه، وينبذ التسلط، ويؤمن بالسلام الأبدي كقيم ضامنة لأمن الإنسانية وحريتها وسلامها جمعاء.
وقد بدا واضحا أن عملية بناء وعي جديد على قيم التسامح، أصبح ضرورة تاريخية في مختلف الاتجاهات والميادين وأوجه النشاط الإنساني، وهذا الأمر يتطلب بالضرورة تغييرا جوهريا في العقليات والتكوينات الذهنية السائدة، وفي أنماط السلوك والاتجاهات والعقائد القائمة. وقد تطلب مثل هذا الأمر اليوم العمل على تفكيك العقليات التقليدية القديمة، وتفجير أطرها، من أجل بناء أنظمة عقلية حاكمة جديدة، تستند إلى قيم جديدة ورؤى تسامحية متجددة. وهذا بدوره يتطلب عمليات فكرية وثقافية من نوع استراتيجي لإحداث تحويل في العقائد الفكرية القائمة، وبناء فلسفات تسامحية جديدة للحياة، وهذا جميعه يشكل رهان عملية ثقافية تتسم بطابع التحول والعمق والشمول، في اتجاه بناء مفهوم المواطنة على أسس ديمقراطية وقيم حرة. وهذا بدوره يقتضي إعادة بناء التصورات السياسية لأفراد المجتمع، على نحو مختلف وجديد، قادر على تحقيق التوازن تربويا مع قيم الحياة الإنسانية الجديدة، التي تعبر عن مرحلة مستجدة من التغيرات الجوهرية والبنيوية في حياة الناس والمجتمع.
ومن هنا يأتي المتطلب التاريخي لإعادة تربية الأطفال والناشئة والكبار على مبدأ المواطنة وحقوق الإنسان، ونبذ العنف، ورفض التطرف، ومواجهة التعصب، في مختلف الميادين والاتجاهات. حيث يترتب على هذه التربية أن تنطلق من القيم الديمقراطية وأن تعتمدها منهجا وطريقة وغاية وممارسة من أجل مواجهة التحديات الكبرى للعنف والتسلط والإرهاب، ويشمل هذا تحديات الانتماءات الصغرى(الطائفية والعشائرية والمذهبية) التي تجسد هزيمة إنسانية ونكوصا تاريخيا إلى حالة عدمية في حركة الحضارة.
ففي العالم العربي المعاصر ما زال مفهوم القبيلة والطائفة يتقدم على مفهوم المواطنة، وما زال الانتماء إلى القبيلة والطائفة والمذهب، يتصدر مختلف الانتماءات، وفي مقدمتها الانتماء إلى الوطن. وما زال مفهوم الوطن يقع في دائرة الغموض، وما زالت العلاقة بين الوطن والمواطن علاقة مشوبة بالخوف والقلق والحذر(1).
إن بناء مفهوم المواطنة citoyenneté، وتأصيله وعيا مرجعيا في عقل المواطن، لتعزيز الانتماء إلى الوطن ثقافيا وإنسانيا، أصبح ضرورة حضارية تفرض نفسها في مختلف التكوينات الاجتماعية للوجود الإنساني المعاصر. ولا ريب في ذلك لأن مفهوم المواطنة يشكل واحدا من المفاهيم الأساسية للتقدم الإنساني القائم على التفاعل الحر بين الإنسان والوطن، بين الإنسان وقيم الحرية والإخاء والتسامح. ويعول كثير من المفكرين اليوم على أهمية بناء هذا المفهوم وتأصيله، لتحرير الوعي اليوم من أثقال الانتماءات التقليدية الضيقة التي تتمثل يقينا في الانتماءات الطائفية والقبلية والعشائرية الضيقة. فالتحولات الكبرى الضاغطة، التي تشهدها المجتمعات الإنسانية في عصر العولمة، في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، تعمل على تفكيك المنظومات الأيديولوجية القديمة، وتفرض على الأنظمة السياسية المعاصرة إعادة النظر في أنساقها الثقافية من أجل استمرارها في الهيمنة والوجود.
في مفهوم المواطنة وتجلياته التاريخية:
يرمز مفهوم المواطنة citizenship إلى معاني الانتماء السياسي والحقوقي إلى الوطن أرضا ومؤسسات دستورية وقانونية. ويجسد هذا المفهوم الروابط الأعمق بين المواطن والوطن، كما بين المواطن والدولة. فالمواطنة إحساس بالانتماء وشعور بالولاء للدولة والوطن، والمواطنة ليست مجرد اكتساب لجنسية في وطن، إنها كيان من المشاعر والحقوق والواجبات والروابط الأخلاقية والإنسانية والقانونية بين الإنسان وتراب الوطن، وبين الوطن بكيانه السياسي ومختلف مواطنيه.
ينبئنا تاريخ الفكر السياسي، منذ العصور القديمة حتى اليوم، أن مفهوم المواطنة citoyenneté كان يعبر تاريخيا عن العلاقة الجوهرية بين المواطن والدولة. ووفقا لبعض الحالات فإن المواطنة تعبير يرتبط بمفهوم الديمقراطية وممارستها الحيوية. هذا ويعد مفهوم المواطنة من أقدم المفاهيم السياسية والتربوية في المجتمعات الإنسانية، ويؤرخ لظهوره في العهد الإغريقي القديم.
يقابل مفهوم المواطنة في اللغة الإغريقية القديمة كلمة "Politeia"، وتدل على جميع المواطنين في المدينة. وقد ظهرت هذه الكلمة في المدن والدول الإغريقية القديمة، وهي تأخذ معناها من صلب العلاقة الجوهرية التي تربط الفرد بالمدينة(الدولة) عبر العملية السياسية الديمقراطية. ومفهوم المواطنة، في صورته الإغريقية، هذه يتنافى مع مفاهيم الإكراه والتسلط بين الفرد والدولة، وهذا التصور يقدم مفهوم المواطنة بصورته الديمقراطية، ويؤكد جوهر العلاقة الديمقراطية الحرّة بين الفرد والمجتمع أو بين الفرد والدولة.
وتأسيسا على ذلك، فإن مفهوم المواطنة في بلاد الإغريق، ينطلق من مفهوم المساواة L'égalité بين المواطنين، وهذا ما تدل عليه كلمة "Homoi"، التي كانت تطلق على المواطن في دولة اسبرطة في بلاد اليونان، وهي تعني المساواة والتكافؤ بين جميع مواطني المدينة. فالجميع في المدينة متساوون أمام القانون وأنظمة الدولة. ولكن يجب علينا هنا أن نأخذ بعين الاعتبار أن أقلية من السكان في إسبرطة كانت وحدها تمتلك هذا الحق أي المواطنة. وهنا نجد نوعا من التقسيم الوظيفي فالمواطنون وحدهم هم المعنيون بإدارة الشأن السياسي، ويطلق على هذه الطبقة طبقة الإسبرطيين الأحرار، وهي الطبقة الوحيدة التي تمتلك حق الانتخاب والمشاركة السياسية وإبداء الرأي(2). وهذا يعني أن مفهوم المواطنة كان مفهوم طبقيا في بلاد الإغريق وكانت تسمية "المواطن" تطلق على الأسياد دون العبيد في أثينا، وعلى الحكام الغزاة دون المحكومين السكان الأصليين في إسبرطة.
وتعود كلمة المواطنة في اللاتينية إلى كلمة "sativic"، ووفقا لهذه الدلالة فإن المواطن الروماني هو السيد المالك الذي يحظى برعاية الدولة وحمايتها القانوينية، ولاسيما في الحالات التي يتعرض فيها لإدانة قانونية أو مظلمة سياسية. ولذلك فإن الحصول على حق المواطنة كان يمثل هدفا نبيلا يسعى إليه كل فرد في المجتمع الروماني القديم.
وقد ظهر مفهوم المواطنة في فرنسا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، وكان يرمز إلى المواطنين الذين كانوا يخضعون لسلطة الملك المطلقة في النظام السياسي الفرنسي القديم. وهذا يعني أن المواطن لم يكن يشارك في الحياة السياسية بل كان يتجاوب مع السيادة المطلقة للملوك الفرنسيين في ذلك العهد.
وبدأ مفهوم المواطنة يأخذ دلالته السياسية والفلسفية، في القرن السابع عشر، على يد الفيلسوف الإنكليزي المعروف توماس هوبز Thomas Hobles، الذي عرف المواطن بوصفه عضوا في جماعة سياسية أبرمت عقدا اجتماعيا تتعهد بموجبه ضمان أمن الأفراد في دائرة مجتمع يخضع لسلطة مطلقة.
وفي العصور الحديثة، بدأ مفهوم المواطنة يأخذ حلته الجديدة على يد المفكر الفرنسي جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau، في كتابه العقد الاجتماعي ""le Contrat Social(3)، فالمواطنة كما يعلنها روسو، لم تعد امتيازا تحظى به النخبة الاجتماعية والسياسية، بل حق يحظى به كل الأفراد في المجتمع ويمكنهم من ممارسة أدوارهم الاجتماعية والسياسية ولاسيما هذه التي تتعلق بالشؤون العامة للحياة في المجتمع.
وفي مرحلة لاحقة بدأ هذا المفهوم يرتدي معانيه الديمقراطية ويتخذ هيئته الإنسانية، إذ يعرف سييز L'abbé Sieyes المواطنين بأنهم هؤلاء الذين يخضعون لقوانين سياسية ومجتمعية واحدة على مبدأ المساواة ويشاركون في بناء الحياة المجتمعية المتعلقة بالشأن العام.
وفي منصف القرن التاسع عشر، بدأ مفهوم المواطنة يتحدد بالعلاقة بين الفرد والدولة، وبدلالة المساواة أمام القانون، والمشاركة في الحياة العامة. وقد أصبح مفهوم المواطنة نموذجا مثاليا يأخذ فيه المواطن صورة الفرد الذي يعي انتماءه الاجتماعي والسياسي. فالوعي بالانتماء والمواطنة ضرورة مدنية، وهذا يعني أن الفرد لا يستطيع أبدا أن يشارك في الحياة العامة من غير هذا الوعي، ولا يمكن لمشاركته هذه أن تكون فاعلة ما لم يمتلك الوعي المطلوب بالانتماء والروابط التي تشده إلى المجتمع في اتجاه المصلحة العامة.
وفي القرن العشرين ظهر مفهوم المواطنة العصرية"Les citoyennetés modernes". فالمواطنة بالمعنى الشامل تعني قدرة الفرد على المشاركة المسؤولة في المهمات الجديدة للمواطنة، وهذا يعني أنه يتوجب على المواطن وفقا لهذا المفهوم أن يتعلم كيف يكون جسورا، وكيف يبدع طرائق متجددة للحياة تمكنه من أن ينتظم في أنساقها. والمشاركة في المسؤولية ليست كالمشاركة في اقتسام قالب من الحلوى، فالمسؤوليات الكبرى التي تتعلق بالكرامة والحرب والفقر والبطالة هي قضايا ديمقراطية مشتركة بين جميع أفراد الأمة الذين يتحملون مسؤولية اتخاذ القرار فيها. فالجميع مسؤول عن الحرب والسلام والعمل والكرامة الوطنية والفقر والحاجة والحرمان في المجتمع، وهذا هو المفهوم الواسع للمواطنة.
وينطوي مفهوم المواطنة الحديثة هذا، على إيمان كبيرة وقناعة راسخة من قبل المواطن، بأهمية وجود المعارضة السياسية الدائمة في المجتمع، وذلك من أجل تحقيق التوازن الديمقراطي في قلب المجتمع، وهذا التوازن هو الذي يمنع النظام السياسي القائم من الإسراف والشطط.
ومن أجل فهم أفضل لهذه الخصوصية المتعلقة بالتوازن، يمكن القول أن المواطنة الحديثة تتجاوز في دلالتها الديمقراطية حدود الشعار الذي طرحه الإعلان الفرنسي للحرية في عام 1789م، والذي يرى بأن "حرية الفرد تنتهي عند حدود حرية الآخرين "Ma liberté commence là où commence celle d'autrui"، وفي هذا التجاوز الحرّ للشعار الفرنسي الحرّ، تصبح المقولة " الحرية تبدأ مع بداية حرية الآخرين" "Ma liberté commence là où commence celle d'autrui ". وهذا يعني أن حرية الفرد رهينة بحرية الآخرين ولا حرية للأنا في غياب حرية الآخر، وبالتالي فإن حرية الآخر هي الشرط الأساسي للحرية الفردية في المجتمع. وهذا يعني أنه من أجل أن أضمن حريتي فإنه يجب علي أن أبحث عن حرية الآخر وأساندها. وهذا يقتضي أيضا النضال من أجل الحرية بالمطلق والعدالة الاجتماعية بأوسع حدودها وأعمق مضامينها لجميع افراد المجتمع. فالمواطنة وفق هذه الصورة تأخذ دلالة جديدة تعني تعلم الحرية وممارستها واحترام حقوق الآخرين وحريتهم في الوجود كشرط للحرية الفردية والعامة.
فالمواطنة بالمعنى الحديث تعني تنمية أفق مشاركة الأشخاص والأفراد في الحياة المجتمعية والسياسية مشاركة حرة مسؤولة، وذلك عبر الصيغ الديمقراطية الحديثة للمشاركة الحرة من: انتخابات وتصويت وحق الترشيح. وتشمل هذه الممارسة الحرة الحق في التظاهر وفي الاعتراض، وفي ممارسة حرية القول والتعبير. كما أنه يحق للمواطن بصيغة مفهوم المواطنة، هذا أن يشارك في الجمعيات والمنتديات والممارسات السياسية وأن يعبر بالأدوات التي يمتلك عليها عن رأيه وتطلعاته في الشارع والمنزل ومكان العمل.
ومع أهمية هذا التحديد الشكلي لمفهوم المواطنة، يمكن القول بأن هذه الصيغة المتقدمة لمفهوم المواطنة الحديثة ما تزال في الظل وعلى هامش الحياة المجتمعية. فالحياة السياسية رهينة اليوم بهيمنة عدد من أصحاب النفوذ والسيطرة، وبالتالي فإن هذه الهيمنة تضع مفهوم المواطنة على الرف في كثير من بلدان العالم. ومع ذلك يمكن القول بأن المواطنة الجديدة هي نتاج لعملية تنمية اجتماعية مستمرة للحياة المدنية التي شهدت انطلاقتها في قلب المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية، وفي أحضان مؤسسات المجتمع المدني بصورة خاصة.
وفي هذا الاتجاه من التحليل تأتي رؤية مايير بيسش Meyer P. Bisch وموجينيتو A. Mougniotte، حول الكيفيات الممكنة لتنمية مفهوم المواطنة وتعزيز حضور المواطن في الحياة المجتمعية. وهنا يأتي التركيز على الوضع القانوني للمواطن، ولاسيما هذا الذي يحظى به الفرد بالمقارنة مع الأجانب في المجتمع. فالمواطن يتحمل مسؤوليات مجتمعية كبيرة، ويمارس حق التصويت والانتخاب، وهذه الحقوق ترتبط بالجنسية التي يمتلك عليها المواطن وهو حق لا يمتلك عليه الأجنبي أو الوافد أو القادم المهاجر.
وفي دائرة هذه الكيفيات الممكنة، يعالج الباحثان مسألة العلاقة بين المواطنة وظهور ما يسمى بالمجتمع المدني "Société civile"، الذي يعبر عن دينامية اجتماعية ديمقراطية متعددة الأصول والاتجاهات، وهذه القوى-أي قوى المجتمع المدني- لا ترتبط بالدولة أو بالقوى السياسية القائمة والفاعلة. فالمجتمع المدني يعبر هنا عن مبادرات اجتماعية ذاتية متعددة، يمثلها أفراد وجماعات، وهي تعمل بروح اجتماعية من أجل الاستقلال عن الدولة والقوى السياسية، وهي قوى مناهضة لسلطة الدولة أو حذرة منها، ولاسيما فيما يتعلق بكل مظاهر السلطة التي تباشرها الدولة، أو فيما يتعلق بالأيديولوجيات السياسية التي تطرحها الدولة أو غيرها من القوى الفاعلة في الساحة السياسية.
ومؤسسات المجتمع المدني تعمل على احترام حرية الأفراد، وحماية مصالحهم في مواجهة ضغط الدولة، وهي تعمل وفقا لمبدأ الإدارة الذاتية والتنظيم الذاتي، وتقدم حلولا فعالة لعدد كبير من المشكلات التي تواجه الأفراد الذين ينضوون تحت رايتها. وهذه الجماعات تنشأ في الأصل انطلاقا من مبدأ الحد من سلطة الدولة وطغيانها على الأفراد، وهي تقوم على التنظيم والإدارة الذاتية.
وتعبر جماعات المجتمع المدني عن طموحاتها وتطلعاتها السياسية في اللحظات السياسية الحرجة، وهي تشحن مفهوم الديمقراطية السياسية بأبعاد اجتماعية وأخلاقية وإنسانية. وتعتمد مبدأ الديمقراطية في ممارساتها الخاصة، كما أنها تؤكد على مفهوم المواطنة الحرة وتمنح هذا المفهوم فعالية إنسانية وسياسية تتميز بدرجة عالية من الثقة والاهتمام.
فالمواطنة الحديثة كما يرى مايير P. Meyer، تتمثل في قدرة الفرد على وعي القيم الديمقراطية والأخلاقية الأساسية التي تجعله أكثر قدرة على اتخاذ خياراته الديمقراطية، وأكثر قدرة على الفعل في إطار إحساسه بالانتماء إلى كيان اجتماعي منظم ومحدد. وهي تعني المشاركة الفعالة في مختلف المسؤوليات العامة للمجتمع.
المواطنة والديمقراطية La citoyenneté et la démocratie:
تعرف الديمقراطية كلاسيكيا بأنها حكم الشعب لنفسه بنفسه ""Le gouvernement du peuple par le peuple"، وهذا المفهوم للديمقراطية لا يتسم كفاية بالوضوح والدقة بل ينطوي على درجة كبيرة من الغموض والضبابية. فالتعريف لا يحدد طبيعة هذه الممارسة وكيفياتها ولا يقطع في وجود تفسيرات متعددة. فقد يعني الأمر أن الشعب قد يعهد بمصيره إلى نظام سياسي معين، عبر حكومة ما يتم انتخابها وتجري محاسبتها من قبل ممثلي الشعب. ويمكن الحديث عن أشكال لا حصر لها من الممارسة السياسية التي تعبر عن مضمون الشعار المطروح: حكم الشعب نفسه بنفسه. فالديمقراطية تعني في جوهرها الاعتراف الرسمي للشعب بالنظام السياسي القائم وهذا يعني أن شرعية المؤسسات مرهونة بحدود ما هو محدد لها من مشروعية سياسية ممنوحة من قبل الشعب.
والديمقراطية لا تتحدد بمجموع المؤسسات الدستورية، بل تتمثل أيضا في الروح الثقافية للمعاني الديمقراطية. والثقافة الديمقراطية تتضمن قيم أخلاقية وفضائل سياسية محددة: الحرية في مواجهة الخضوع والامتثال، الإحساس بالمسؤولية، الإبداع في العمل بعيدا عن الروتين الصارم، احترام حقوق الآخرين والتعددية، ورفض كل أشكال التعصب الأعمى ضد الآخرين، الروح النقدية ورفض التوافق والامتثال العفوي للسلطة، الإحساس بالخطر في مواجهة الإحساس بالأمن الحزبي.... الخ.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما أواصر العلاقة بين الديمقراطية والمواطنة؟ والإجابة في منتهى البساطة وهي أنه لا توجد هناك ديمقراطية من غير مواطنين أو مواطنة. فالممارسة الديمقراطية تحتاج إلى فاعلين ومشاركين وهؤلاء الفاعلين يمثلون المواطنين في المجتمع. وبالقابل لا توجد مواطنة من غير ديمقراطية، لأن المواطنة تعني حقوق المواطن في الممارسة الديمقراطية الحرة للحياة السياسية والاجتماعية. وهذا يعني أن المجتمعات الاستبدادية مجتمعات تخلو من دلالة المواطنة والمواطن، وتترك هذه الدلالة لمفهوم الرعايا والرعية. فأفراد المجتمع في مجتمع ديكتاتوري هم رعايا ورعية، وأحوالهم في جوهرها لا تختلف عن أحوال العبيد في ظل الأنظمة السياسية القديمة.
فمفهوم المواطنة الحديثة يتضمن مفهوم المسؤولية، وهذا يعني أن المواطن بحكم مشاركته السياسية في مختلف أوجه الحياة الاجتماعية والسياسية يكون مسؤولا مسؤولية حقيقية عن كل الوضعيات الحادثة في المجتمع. وإذا كان حق المواطنة يمنح للفرد في الأنظمة الديمقراطية منذ الولادة، فإن المواطن يجب ألا يكتفي بالامتيازات الممنوحة له والحقوق الواجبة، بل يجب عليه أن يمتثل لنداء الواجب في الممارسة الحية للحياة الديمقراطية. وبالتالي فإن هذه الممارسة يجب أن تأخذ مكانها في سياق اجتماعي وسياسي محدد وأن تراعي القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان بمختلف مستوياتها وتجلياتها.
المواطنة والعولمة: La citoyenneté et la mondialisation:
تحقق المواطنة جوهرها في البحث عن المصلحة العامة والعمل على صونها، كما أنها تأخذ في جوهرها الإيمان بالتنوع الإنساني والتعددية الثقافية الاجتماعية والسياسية. والعولمة من جهة أخرى تمثل حالة حضارية تتجه إلى هدم الحدود والحواجز الثقافية القائمة بين الشعوب والأمم. فالأيديولوجيا التي تتبناها العولمة تأبى القبول بمبدأ القومية والأمة والهوية القومية أو الهوية الجمعية. وهي في هذا التوجه تتوسم صورة جديدة للمواطنة العالمية خارج دائرة الأطر التقليدية للهوية القومية والوطنية. وهذا يعني أن العولمة هذه تريد أن تفصل بين ممارسة المواطنة والانتماء الوطني أو القومي، أو أي شكل آخر من أشكال الانتماء الثقافي التقليدي. فالمواطنة التي تسعى إليها العولمة هي مواطنة جديدة، من نوع جديد تنطلق خارج الأطر التقليدية للانتماءات الوطنية والقومية. وغالبا ما يطلق اليوم على هذا النوع من المواطنة الجديدة "مواطنة ما بعد الحداثة" أو مواطنة مكان الإقامة. وهذا النوع من المواطنة يكتسب في أي مكان يقيم فيه المواطن العالمي أو يعمل به. والمواطن في هذه الصورة له الحرية في أن يحافظ على ارتباطاته القديمة وانتماءاته التقليدية العرقية والقومية. وهنا ومن جديد نجد بأن مفهوم المواطنة يرتبط في جوهره بمنظومة من الحقوق والواجبات يكتسبها الفرد بحكم إقامته وعمله في أي مكان يتواجد فيه عبر العالم.
وهذه الصورة الجديدة لمفهوم المواطنة تجد رفضا لها عند عدد كبير من المفكرين. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: ماذا سيكون حال المواطنة إذا ما تمّ إفراغ المجتمعات الإنسانية الديمقراطية والحداثية وما بعد الحداثية من أبعادها في اتجاه التأكيد على المصالح المادية؟ والجواب في هذا الخصوص أن المواطنة الحقّة غير ممكنة إلا في إطار سياسي واجتماعي ومكاني محدد. فالمواطن يحتاج في حقيقة الأمر إلى ممارسة المواطنة، وهذه الممارسة يجب أن تتحدد في زمان ومكان وفي نسق من المتغيرات الإنسانية المتكاملة.
مواطنة ما بعد الحداثة:
يدل مفهوم المواطنة ما بعد الحداثة، إلى وجود قطيعة حقيقية بين الهوية السياسية والانتماء الوطني. والمواطنة في دائرة هذا التصور تنطلق من مبادئ العالمية والاستقلال والمسؤولية التي تؤسس لمفهوم ديمقراطية الحق والعدالة الإنسانية. فالهوية السياسية في هذا المدار تتقلص إلى صورة انتماء مدني عام خارج دائرة الانتماءات التقليدية الوطنية والقومية أو إلى أي صيغة انتمائية محددة المعالم. ويبقى الشرط الأساسي لهذه المواطنة في وجود حالة ديمقراطية فعالة تمكن الفرد من التفاعل مع وطنية مؤسساتية تتمثل في احترام القانون وتقدير الحقوق الإنسانية والخضوع لمتطلبات العدالة. وهذا كله ليس له آية: صلة أو علاقة بالمشاعر الوطنية أو القومية الكلاسيكية المعهودة. وهذا النوع من المواطنة يجري فالمواطنة في هذا المستوى ترتبط بوطن مجرد ينفلت من قيود مجسدة ومحددة للوطن التقليدي وهي تجري على مبادئ وقيم وطنية مجردة في الغالب.
وفي مواجهة هذه النظريات الجديدة، التي ترفض أي تصور يدور حول عقد اجتماعي من طبيعة سياسية، فإن هناك مجموعة من التحديات الكبرى الناجمة عن استبدال الهوية السياسية، التي ترتبط بمجال ثقافي محدد في مجتمع محدد، بهوية مدنية قائمة على مفاهيم مجردة ومبادئ عامة لديمقراطية افتراضية.
وفي مواجهة الرؤى الأحادية التي تفرزها العولمة، تتبدى منظومة من الرؤى المتعددة الرافضة لكل أنواع التوجهات العامة، وتؤكد على مظاهر التباين والاختلاف، وهي مشبعة بأفكار عنصرية وتعصبية في الغرب الأوروبي وفي أمريكا، كما هو الحال في كثير من بلدان العالم النامي. والولايات المتحدة الأمريكية كما هو الحال في أوروبا، حيث تشهد البلدان الإسلامية اليوم ولادة جماعات التطهير العرقي، والأصوليات الدينية المتطرفة التي تؤمن بالعنف شعارا ومنهجا وهدفا، وهنا تجدر الإشارة أيضا إلى الأصولية اليهودية المتطرفة في أمريكا وفي الشرق الأوسط، وهذه الجماعات هي بقايا أيديولوجية للنزعات القومية المتعصبة والفكر الشمولي مهما يكن حالها.
وعلى الرغم من خطورة وأهمية هذه الجماعات والأيديولوجيات المتطرفة، فإن هناك من ينظر إليها بوصفها ظاهرة جزئية وليست جوهرية في مجرى الحياة المعاصرة. ومع أهمية كل ما يقال في هذا السياق فإنه لا يمكن التقليل من أهمية الهوية الوطنية للمواطن، لأن هذه الهوية تكون راسخة في واقع الأمر فيما يتعلق بانتماء الإنسان إلى الدولة، أو إلى صيغ انتمائية ثقافية واجتماعية ذات طابع كلاسيكي. فالهوية القومية مهما كانت درجة توافقها مع مبدأ المواطنة الواسع، فإنها لا تستبعد توافقها مع معايير ثقافية عالمية أو ما بعد قومية. فالهوية أشبه ما تكون بكوكبة متحركة من الهويات الفرعية التي تتماهى في جوهرها مع صيغ ثقافية فرعية في دائرة الحياة الاجتماعية والثقافية العامة في المجتمع. فالرجل الكاميروني على سبيل المثال يتماهى في ثلاثة صيغ محددة للهوية فهو إفريقي وكاميروني ودوالا Doual أو باميليكي Bamiléké أو ماليمبي Malimba. وهي ثلاثة قبائل إتنية رئيسة في الكاميرون.
وفي مصر على سبيل المثال نجد عدة انتماءات في آن واحد، فالمواطن المصري يكون مصريا وعربيا ومسلما وإفريقيا في آن واحد(4). وكذلك هو الحال في أغلب المجتمعات العربية الإسلامية حيث نجد صيغ متعددة من الانتماء يتميز بعضها بطابع الشمولية، بينما يتميز بعضها الآخر بطابع الخصوصية(5). فالهوية السياسية -مهما تكن صيغتها قومية أو ما بعد قومية أو محلية للفرد- لا يمكنها أن تهمل أهمية الانتماءات الاجتماعية الصغرى للفرد. ومهما تكن طبيعة هذه الانتماءات فإنه يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار وأن تحظى بالأهمية. ولكنها مع أهميتها يجب ألا تشكل عقبة في تشكل الهوية القومية أو في بناء روح المواطنة عند الفرد ولاسيما في البلدان التي ما زالت فيها التنظيمات السياسية في طور التشكل والتكوين.
ومما لا ريب فيه أن الانتماء الاجتماعي للفرد يفرض نفسه كحاجة اجتماعية ضرورية لحياة الإنسان، لأن الإنسان كما يقول القدماء كائن اجتماعي بالطبع. وغني عن البيان أيضا أن الإنسان يتماهى بأحد انتماءاته الاجتماعية أو غيرها وذلك وفقا للحالة التي يعيشها. وكل شيء يجري بصورة عفوية بحيث تتداخل هذه الانتماءات في تشكيل سلوك الفرد في كل لحظة من لحظات حياتها. وبالتالي فإن هذه الآلية التي تعتمد على المفاضلة العفوية في حركة النماذج المتعددة للهوية، وفي نسق المواقف المتباينة وصيغ الحياة المختلفة، لا تعني هيمنة نموذج على الآخر، بقدر ما يعني ذلك حركة ذاتية من التجاوب الحر بين هذه الانتماءات لاتخاذ الموقف المناسب للحالة التي يعيشها الفرد في لحظة محددة. فهناك حوار داخلي هادئ وعقلاني لاشعوري بين هذه الانتماءات المختلفة، حوار يجري في عمق الشخصية من أجل اتخاذ الموقف المناسب الذي يتجاوب مع الحالة المعيوشة للفرد. فالإنسان العربي، من أي دولة عربية، يتصرف وفقا لهويته وفقا للدولة التي ينتسب إليها(سوري كويتي مصري)، ولكن هذا الإنسان عندما يسافر إلى الغرب فإنه يتصرف وفقا لهويته العربية أو الإسلامية. والإنسان السوري عندما يكون في داخل الوطن فإنه يواجه مواطنيه بهويته الفرعية كان يكون من الشمال أو الجنوب أو من الساحل أو الداخل. وهذا يعني أن الإنسان يتصرف وفقا لهويات مختلفة وكل هوية تفرض نفسها في المقام الذي يناسبها.
بين المواطنة القومية والمواطنة العالمية
لقد قمنا حتى الآن بدراسة تطور مفهوم المواطنة تاريخيا وبحثنا في دلالته الثقافية واستكشفنا الأيديولوجيات الحاكمة له، والآن يمكننا أن نبحث في الوضعية المعاصرة التي يشغلها هذا المفهوم في الأنظمة الفكرية المعاصرة.
يشكل العمل على بناء الوطن العالمي هاجس الإنسانية المعاصر، وتأخذ هذه الفكرة صورة طموح يتنامى بوتيرة واضحة وعالية، وكما يقول بوباكار كامارا Camara Boubacar، فإن الإنسان لا يستطيع أن يغض النظر عما يجري حوله، وبالتالي فإن شقاء البعض يجب ألا يكون منطلقا لسعادة البعض الآخر، لأن بؤس البعض يشكل بؤس الإنسانية برمتها(6). وفي هذا المقام يرى إدغار فور Edgar Faure أن الدول المتقدمة يجب ألا تدير ظهرها للدولة الفقيرة والنامية، وأنه يجب عليها أن تقدم العون والدعم الاقتصادي والتربوي للدول في طور النمو لأن هذه الدول تشكل جزءا لا يتجزأ من الكون الذي نعيش فيه جميعا(7). ويؤكد فور في هذا السياق أن التحولات التاريخية الكبيرة، التي يشهدها العصر، تهدد وحدة العنصر البشري كما أنها تهدد مستقبل وهوية الإنسان كإنسان. فالإنسانية تعاني من التفاوت الكبير وغياب العدالة المرعب بين البشر، كما أن شعوبا بكاملها تعاني الحرمان وتكابد الآلام البشرية، ولكن الأخطر من ذلك كله أن النوع الإنساني نفسه مهدد بالضياع والانشطار نتاجا لعملية التقسيم الاجتماعي المرعبة التي تقسم الناس إلى جماعات عليا وجماعات دنيا، أسياد وعبيد، أغنياء وفقراء، ما فوق إنساني وما هو أدنى. والخطر لا يكمن اليوم في الصراعات المرعبة الممكنة، وفي الحروب الهمجية المحتملة(فهناك اليوم أدوات للفتك والقتل والتدمير الشامل التي توجد في أيدي جماعات سياسية أصولية متمردة وقد لا تتورع عن استخدام أسلحة التدمير الشامل في التعبير عن ذاتها والانتقام للمظالم التي تتعرض لها) بل يكمن أشد الخطر في عملية تدمير إنسانية الإنسان ومثل هذه العملية لن توفر غنيا أو فقير صغيرا أو كبير.
ويشكل هذا الخطر العظيم، الذي يهدد الإنسانية في جوهرها، منطلق التفكير في بناء وطن إنساني عالمي يصون إنسانية الإنسان ويحقق المعاني السامية للنزعة الإنسانية. وهنا تجد التربية دورها ومهمتها التاريخية في عملية بناء هذا الوطن الإنساني على أسس القيم الإنسانية التي تتمثل بالمواطنة والسلام وحقوق الإنسان ونبذ العنف وتحقيق الحد المطلوب من العدالة الاجتماعية. وهنا يتوجب على التربية أن تعلم الأطفال والأفراد على فن العيش المشترك مع المختلفين وقبول الآخر على مبدأ الاختلاف، وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه التربية والحياة المجتمعية في القرن الحادي والعشرين(8).
وهنا يجب أن نعلم بأن المواطنة الفعالة ضرورية جدا من أجل مستقبل المجتمع الإنساني. وهنا يمكن القول بأن المجتمعات الإنسانية قد حققت تطورا كبيرا في اتجاه بناء هذه المواطنة، وهي تشهد جهودا حثيثة من أجل التربية على التسامح والسلام، وبالتالي فإن هذا المطلب التربوي لن يتحقق إلا عندما تأخذ هذه المجتمعات بأهمية التربية على المواطنة، وتؤكد على مضامين الإحساس بالمسؤولية العالمية في عمق هذه المواطنة وفي بنيتها ذاتها، وهذا يقتضي أيضا وبالضرورة العمل على تأصيل مبدأ المشاركة الحيوية الفعالة في نظام الحياة العالمي.
تمثل مقولة العيش المشترك السمة الأساسية في هذا العصر، والعيش المشترك هو مطلب فرضته حالة التطور الهائلة التي فتحت أبواب الضرورة على التعايش الثقافي والاجتماعي بين ثقافات وكيانات اجتماعية متباعدة جدا. وقد أصبح مؤكدا اليوم بأن التباين الثقافي بين الجماعات المختلفة يوجه اليوم في دائرة الممارسة الديمقراطية للدولة العصرية.
فالمواطنة الحديثة تتجه اليوم إلى تطوير تقاليد العلاقة بين المواطن والدولة. فالعلاقة التقليدية القائمة بين الدولة والمواطن تنطلق من مبدأ أن الدولة معنية بأن توفر الضمانات الأساسية لاحترام حقوق الإنسان وواجبات المواطن. وبالتالي فإن هذه الحقوق والواجبات مؤصلة في التكوين الأخلاقي للمواطن عينه وذلك من أجل أن يتمايز المواطن المعني عن الأجنبي والوافد في الوطن. والمواطن الجيد في المجتمعات الكلاسيكية يقدر ويقيم وفقا لقدرته على أداء واجباته ومعرفة حقوقه واحترام القانون الذي يحكم بلده والذي يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة والشخصية.
وفي ضوء الظروف الحضارية الجديدة فإنه يجب أن نأخذ بعين الاعتبار العوامل الجديدة التي تميز المواطنة الحديثة عن صيغتها التقليدية. فالمجتمع المدني يريد أن يكون مستقلا بذاته عن السلطة والدولة، وبالتالي فإن مؤسسات المجتمع المدني غالبا ما تكون حذرة وفي ريبة من السلطة والدولة. وذلك لأن الدولة لا تستطيع أن تفي بأغلب احتياجات المواطنين، ولذلك فإن هذه الجماعات تؤكد طابع الاستقلال الذاتي لحركتها ووجودها بعيدا عن سلطة الدولة وقوتها، وهذه الفعالية والنزعة نحو الاستقلال والتفرد تتم بوحي من الحياة الديمقراطية.
ومن البداهة بمكان القول بأن تكون مؤسسات المجتمع المدني قد شهدت ولادتها بداية في البلدان المتقدمة وليس في البلدان النامية، وهي الآن تشهد حضورها الخجل في البلدان النامية، وهي تعاني مع ذلك من قهر الدولة وهيمنتها. والدولة في البلدان النامية تريد أن تحافظ على سطوتها وهيبتها وهيمنتها إزاء هذه المؤسسات المدنية. وبالتالي فإن المواطن في هذه الدول يريد أن يشارك في المسؤولية وفي إدارة الدولة، إذ يريد أن يصوت وينتخب ويشارك في اتخاذ القرارات المصيرية للأمة، وذلك تحت شعار الديمقراطية وقيمها. وهذا يتطلب من الدولة في هذه البلدان أن تحترم هذه المبادرات الخاصة التي تجري في داخل مؤسسات المجتمع المدني والمحلي. وهذه المبادرات تمثل كما يقول مونيتوت A. Mougniotte شكلا متقدما من أشكال الحياة الديمقراطية الفعالة التي تتجاوز حدود اللعبة الديمقراطية الكلاسيكية التي تتمثل في مجرد العمليات الانتخابية(9).
ومن هذا المنطلق وفي إطار هذا المنطق تعمل مؤسسات المجتمع المدني على إيجاد الحلول للمشكلات والتحديات المجتمعية التي تهدد المجتمع، ولاسيما هذه المشكلات التي لا تستطيع الدولة أن تقدم حيالها شيئا، حيث تكون عاجزة عن معالجتها. فعلى سبيل المثال قد تعمل هذه المؤسسات على معالجة القضايا المدرسية المهملة من قبل الدولة (النظام المدرسي، المواد المدرسية، الأوضاع المحلية للتعليم، المعلمون... الخ). كما أنها قد تعنى بالقضايا الاقتصادية(سوق العمل، البطالة، الإنتاج... الخ).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما حدود التأثير الذي تمارسه السلطات العامة على المواطنين وما هي حدود التأثير الذي يمكن للمواطنين ممارسته على الدولة وذلك عبر مبادراتهم الديمقراطية والحيوية؟ والإجابة هنا تقتضي إعادة تعريف حقوق المواطن وواجباته إزاء الدولة.
المواطنة في البلدان العربية
إن الحديث عن المواطنة في البلدان العربية يتطلب منا أن نتساءل عن أوضاع الدولة ما بعد الاستعمار والكولونيالية. كيف تشكلت هذه الدول وكيف تأصلت هويتها؟ كيف تستلهم القيم الديمقراطية والتجربة الديمقراطية من الغرب؟ وما هي الكيفيات التي تعمدها هذه الدول في استقدام التجارب الغربية؟ هل تحترم هذه المبادئ والتجارب الديمقراطية التي تجري في العالم المتقدم؟ كيف تقاوم المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التقليدية وكيف تتعايش من أجل المحافظة على وجودها إزاء المؤسسات الحديثة؟
لقد قسمت البلدان العربية وفقا لاتفاقية سايكس بيكو إلى دول ودويلات، وجاء هذا التقسيم بوحي من مصالح الدول الكولونيالية الكبرى التي اعتمدت تقسيما إداريا يجعلها أكثر قدرة على إدارة هذه البلدان فيما بعد الكولونيالية. ولم تأخذ هذه الدول بعين الاعتبار أو الأهمية التكوينات الإتنية والعرقية والقبلية لهذه الدول بعين الاعتبار. لقد شطرت هذه التقسيمات القبائل العربية في عدة دول وشطرت القرى أحيانا إلى ثلاثة أقسام، وشتت العائلات الكبرى في دولتين أو أكثر. وقد عملت الكولونيالية هذه على تكوين دول وحرصت على بناء أيديولوجيات سياسية متكاملة مع الكولونيالية الأم.
وفي دائرة هذا التقسيم ترتب على الشعوب العربية أن تنمي انتماءها إلى صيغة الدولة التي شكلت بحدودها الكولونيالية. وهي دول حديثة التكوّن وقد فرضت على شعوبها من الخارج. وقد تطلب ذلك من كل فرد ومواطن أن يعترف بولائه لهذه الدولة أو تلك، من منطلق البحث عن السلام والاستمرار في الوجود، وأن يعلن عن نفسه "مواطنا" يؤدي واجباته ويمتلك حقوقه في إطار الدولة الحديثة، التي فرضت عليه دولة ينتمي إليها لأسباب استعمارية وليس لاعتبارات تاريخية أو حضارية. وهذا يعني أن الأمر تطلب من كل فرد شملته الدولة الحديثة، ألا يشعر بأن أجنبي يعيش في دولة لا ينتمي إليها. وقد اقتضى الأمر، أن يعيد المواطن تكيفه الجديد وأن يبدأ تدريجيا بتأصيل هذا الانتماء الجديد للدولة الكولونيالية الجديدة. وغني عن البيان أن الزعماء العرب في عهد الاستقلال لم يستطيعوا أن يمتلكوا مفهوما واضحا عن الدولة وطبيعتها وأسسها وإشكالاتها. وكانوا يجهلون ربما أن الروح الوطنية والقومية هي الأصل في عملية بناء الدولة. وكانوا يجهلون ربما بأن الدولة لا يمكنها أن تكون مؤسسة خاصة لحكامها.
لقد نشأت الدول القديمة على أساس الأمة Nation، فالأمة توجد في أصل الدولة L'ETAT، وقد تشكلت هذه الدولة بدساتيرها ومؤسساتها وفقا للروح القومية. ولكن وعلى خلاف ما هو معهود في التاريخ فإن الدول العربية هي التي تشكلت أولا، ثم هي التي أدت إلى ولادة الأمة(بالمعنى الضيق للأمة: الدولة القطرية). ونحن هنا إزاء قانونية معكوسة في تاريخ تشكل الدول والأمم. ولأن الدولة لا يمكنها أن تنشأ إلا في أحضان الأمة فإن الدراما السياسية في هذه البلدان ما زالت تدور في حلقة مفرغة.
ومن هنا فإن هذه الإشكالية المتعلقة بنشوء الدولة على نحو كولونيالي خارجي أدى إلى تشويش كبير في مسألة المواطنة والانتماء. ولم تتضح معالم مفهوم المواطنة في كثير من البلدان العربية المعاصرة. وليس غريبا جدا إذا قلنا بأن مشاعر القلق والتوتر، وغياب الأمن الوطني، وتداعي المشاعر بالشرعية، التي تمثلها الدولة، بقيت طاغية على أغلب الممارسات في الحياة الثقافية في البلدان العربية، ولذلك بقي الولاء مكرسا للوحدات الاجتماعية الجوهرية الصغرى، كالولاء للقبيلة والعشيرة والطائفة بوصفها كيانات اجتماعية أكثر رسوخا وأهمية من الدولة التي فرضت بمقتضى الأحوال الكولونيالية المعروفة.
أمن المواطن العربي
لقد عملت الأنظمة السياسية والديكتاتورية العربية، على تغييب القيم الديمقراطية في المؤسسات الثقافية، وتفريغها من المضامين الديمقراطية الحرة جميعها، وجعلت من مجرد التذكير بحقوق الإنسان والمواطنة والقيم الديمقراطية زندقة وكفرا، وجاء الحصاد في نهاية الأمر جراح دامية وعقول نازفة وتهديد اجتماعي لا يبقي ولا يذر.
لقد أدت وضعية النشوء غير الطبيعي للدولة إلى غياب الشعور بالأمن عن المواطن. فالدولة الحديثة المصممة على نماذج خارجية غريبة عن طبيعة المجتمع وهي تعاني صعوبة في الحصول على ثقة المواطن واقتناعه بمشروعيتها السياسية. وهذه الدولة تواجه تبعة إرثين مختلقين يتمثل أحدهما في التركة الثقيلة لكيانات اجتماعية تقليدية وما قبل تاريخية أحيانا، ويتمثل الثاني في إرث ثقافي وسياسي غربي محمل بتراث ديمقراطي إنساني بالغ النضج والتعقيد. وهذه الوضعية الانشطارية دفعت الدولة إلى استخدام العنف والإسراف في التسلط من أجل ضمان الأمن، وذلك لأنها عاجزة في الأصل عن عقلنة هذا الواقع الذي يتفجر بتناقضاته الماثلة بين الجديد والقديم، بين الحديث والمتجدد، بين التقليدي والحداثي، بين الدولة العصرية والتكوينات التقليدية للحياة المجتمعية، بين مفهوم المواطنة ومفهوم الرعاية(الرعية). وبالإضافة إلى ذلك يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الدولة نفسها بعيدة جدا عن الثقة بالمواطن نفسه. فالمواطن غالبا ما ينظر إليه بوصفه عدوا للدولة، والدولة هي العدو الأول للمواطن كما يراها المواطن نفسه. وهنا نجد أنفسنا في أجواء انعدام الثقة الكلية بين المواطن والدولة. وهذا بدوره يشوش الصورة التي يفترض أن تكون للموطنة وعلاقة الدولة بالمواطن. وعلى هذا الأساس فإن المواطن يعيش حالة توتر وقلق تتصف بالاستمرار والديمومة عندما يتعلق الأمر بالدولة وممارساتها القمعية.
غياب المشروعية والحرية
في ظل الدول ذات السيادة والتوجهات الديمقراطية يشارك المواطن في عملية بناء القوانين الخاصة بالحياة العامة، وله الحق أن ينظر فيها ويبدي الرأي حولها، وهذا الأمر لا وجود له في الغالب في الدول العربية ما بعد الكولونيالية.
فمبدأ المساواة لا يتطلب أن تكون القوانين والقرارات التي تشكل النظام حقيقية وواقعية فحسب، بل يتطلب أن تؤسس هذه المساواة على منظومة من القيم الضرورية والأساسية لوجود المجتمع الحرّ. وهذا يعني أن الأمر يقتضي وجود اتفاق اجتماعي حول القيم الأساسية المطلوبة للمجتمع الحرّ. وعندما لا يوجد مثل هذا الاتفاق فإن الوضع السياسي والاجتماعي يكون حرجا إلى حدّ كبير.
فالشعوب لا تشارك في صنع القرار أو القوانين وليس لها أن تخضعها للمراقبة، لأن الحكومات هي المعنية وحدها ببناء القوانين وإصدار التشريعات، والشعوب معنية إلى حدّ كبير باحترامها وتنفيذها، والمواطنون مطالبون باحترام هذه القوانين طوعا أو كرها، وعندما يخرجون عن هذا التصور فإنهم يعاملون بوصفهم عملاء للخارج وأعداء للأمة والوطن.
وفي هذا الجو المفعم بالخطر وغياب الأمن والشرعية فإن المواطن لا يجد أمامه خيارا آخر سوى التخلي عن حريته والتنازل عن كرامته من أجل أمنه الشخصي(10). فالنظام السياسي القائم، لا يحافظ على وجوده من خلال الاقتراع الحر، بل يعتمد مبدأ القوة العسكرية أو الأمنية، ومن هذا المنطلق فإنه يجب علينا أن نفهم لماذا تلجأ الحكومات إلى اغتصاب حقوق الإنسان وانتهاكها، ولماذا أصبح انتهاك هذه الحقوق قاعدة في السلوك السياسي في أغلب النظم السياسية للدول النامية؟
وعندما ننظر اليوم في العالم المتقدم نجد أن التعددية السياسية قد أصبحت اليوم عقيدة سياسية راسخة في الغرب ولاسيما في البلدان المتقدمة. وهذه التعددية هي المرتكز الحيوي لكرامة الإنسان واحترام حقوقه في التعبير والمشاركة السياسية. ومع أن الزعماء العرب يعلنون عن هذه التعددية، فإنهم في العمق يتنكرون لأي صيغة من صيغ التعدد السياسي التي تفرض نفسها في مختلف بلدان العالم. وهذا التنكر والرفض المبطن يفسر لنا غياب التعددية السياسية فعليا وحضورها شكليا. لقد واظب كثير من الحكام العرب على تغييب هذه التعددية تحت ذريعة العمل على تحقيق الوحدة الوطنية أو ذريعة التحدي الصهيوني، أو ذريعة التنمية والتعمير، أو الصمود والتصدي، وغير ذلك من الذرائع التي لا تصمد أبدا للمنطق والاختبار والنظرة الموضوعية.
في البلدان العربية يجب أن نأخذ بعين الاعتبار بأن الديمقراطية لا يمكنها أن تبنى وتحقق وجودها إلا من خلال بناء ثقافة ديمقراطية صبورة وبعيدة المدى، فالديمقراطية رهان تغير العقلية التقليدية السائدة عند أغلب الفئات الاجتماعية تشمل المثقفين والأميين والحكام والمحكومين والعمال والفلاحين. فالديمقراطية قضية يجب أن نتعلمها أولا ونمارسها ثانيا وأن تكون خيارنا ثالثا وأن نجعل منها منهج حياتنا أولا وأخيرا.
فالديمقراطية هي مثال ونموذج للحياة، بل هي نظام من القيم، إنها تقتضي إرادة إنسانية فاعلة ومؤمنة بالقيم الديمقراطية كما أنها تقتضي جهودا إنسانية كبيرة وبذلا هائلا وتضحيات عظيمة. هذه الديمقراطية تصبح مكروهة ومن غير جدوى في نظر هؤلاء الذين لا يستطيعون التضحية والعمل كما هو الحال بالنسبة لهؤلاء الذين يكرهون أغيارهم (من الغير).
********************
*) باحث من سورية.