لعنةُ الإرهابِ: الفلسفة والأرواح الشريرة!!
سامي عبد العال
في تاريخ الرُّعب– إذا أَمْكّنَ التّأرِيخ له- لا يُخلصنا ذهابُ الأرواح الشّريرة من آثارها الباقية، فلديها القدرة على العودة إلى أقرب الأشياء. وربّما تتلبس اللّعنة ضحايا جُدداً من أبعد نقطة غير متوقعةٍ. كالأشباح الّتي تختفي كياناً لكنّها تحل في الأجساد بأساليب ورُسُوم أخرى. وليس داعش رُوحاً مظلماً خارج هياكل الثقافة العربية الإسلاميّة الّتي تُفرِّخ المزيد. أرواح شيطانية مماثلة تحمل الصفات الأساسيّة ثقافياً بما يُؤهّلها للانبعاث المتلَّون فيما بعد.
بحسب الدلّالة ( لَعَنَ – يَلْعنُ – مَلْعُون) تتجاوز اللّعنة مصدرها وذاتها لتصيب الآخرين، وبحدود الشّر المُروع تطُول كلّ ما يقف تحت سرها المخيف. والإرهاب يأتي مدمراً على صعيد المجتمعات بمصادره المقدّسة ونتائجه المدنّسة. إنّه يمارس الاثنين معاً في شر قابل للاتساع بلا مبرر. ومن هنا حينما تنطلق لعناته، تصيب المجتمع بعنف غير مسبوق وبهوس دموي فائق للوصف. إنَّ داعش تترجم ” الجنون والخبال والحمق” إلى آليات لإراقة الدماء؟! واللعنة التي تخلفها تنقل فيروس التطرف الذي يتكاثر في حاضنة الدين ورمزيته. من هنا تحمل اللعنةُ الإقصاء والعذاب والجحيم الواقع باسمها، بحكم أنَّ اللغة تهجس داخلها بقدسية المصدر(سلطة التكفير) فوق موضوعها (المجتمع) المنتَّهَك والمحكوم عليه سلفاً. فالإرهاب يكفّر النّاس وهم ينزفون في مواجهته ويكابدون شروره أكثر من مرّة. إحداها مع أحداثه وعملياته وأخرى عبر قوالب الثقافة الّتي تكرره.
خطورة الإرهاب أنَّ لعناته تُعرِّي المجتمعات الّتي تسكنها. تطرحها في صحراء الحياة كهياكل عظمية لعقتها الفوضى ومزقت أحشاءَها الكراهية ونخرتها ديدان التنظيمات المتطرّفة ومزقتها الجوارح فغدت جيفاً لدى أفرادها. المؤسف أنَّ اللّعنات تثبت وجود تصحُر بين المجتمع العربي وبين مفاهيم الدولة والفضاء العام والمؤسسات. وربّما لا رجاءَ من ذلك إلاَّ إذا تمَّ إحياء الجيف ككائنات حيةٍ مرة أخرى، إحياء الموتى بفعل أنفسهم. وهذا عينُ الصعوبة إنْ لم يكُّن المُستحيل!!
لكن المستحيل الوجودي غير المستحيل الثقافي، لأنَّ لعنة الإرهاب تجسد الأشباح الثقافيّة المخيفة الّتي تقْطنُ الوعي وآفاق الحياة وتأويلات الدين. فقط تحتاج المجتمعات (كالمجتمع العربي) إلى إدراك هذا السّؤال: كيف ينخر الإرهابُ في لحمه الحي بعناوين ومستويات أخرى؟! بعض الوجوه والأقنعة: إرهاب الدولة، إرهاب المجتمع نفسه، إرهاب القانون، إرهاب القبيلة، إرهاب العائلة، إرهاب المؤسسات، إرهاب الأحزاب، إرهاب الممارسة السياسية، إرهاب الفقهاء، إرهاب الشيوخ المودرن، إرهاب الفتاوى، إرهاب المثقّفين والمفكّرين، إرهاب التّعليم والأساتذة، إرهاب الإعلام، إرهاب الرؤساء والمسؤولين أصحاب الفخامة والسّمو. هذه لعنات حيّة تتبادل السخرية من أيِّ إنسان يستشعر إنسانيته ولو منعزلاً متَّوحداً بذاته… كما يكُون ضرورياً مصطلح ابن باجه ( تدبير المُتوحد).
هذه الفضاءات الموجودة باسم العالم المعاصر ونتاجاته الديمقراطيّة والليبراليّة مازالت نيئة (غير ناضجةٍ) في حياتنا العربية الإسلاميّة. حتّى أنَّ العالم العربي يُطلق أنَّها من أدوات (عدّة ) المطبخ السياسي. إذن ماذا وراء سياسات تطبخ كلّ ما يمس الفضاء العام في مطابخ السلطة دون شفافية ولا نقد ولا حريّة ولا عدالة؟!!
إنَّ أكلات وأطعمة: العصيدة والكسكسي والكبسة والمكرونة والمحشيات والملفوف والفول والفلافل… جميعها ليست فقط طعاماً يميّز قطاعات الشعوب العربية بالمحيط والخليج مروراً بمصر، إنَّما هي مطهية على فنون السياسة في البرلمانات وقصور الأمراء والرؤساء والملوك. لنتذكر أكل الملوخية Corchorus olitorius ( المُلوكية فيما كانت تُسمَّى) إذ كانت مقصورة – في إحدى حقب التاريخ المصري- على أفواه وبطون أصحاب القصور والملوك ورجال السلطة.
فقد أصدر الخليفة الفاطمي ” أبو علي منصور بن عبدالعزيز” الذي عرفه التاريخ باسم “الحاكم بأمر الله”، أمرًا من أوامره المشهورة حرَّم فيه على فئات الشعب نوعين من الطعام: أكل نبات الجرجير في البند الأول، ومنع زراعة المُلوكيِّة أو أكلها في البند الثاني. ثم انقلب حرف الكاف إلى الخاء( لتصبح مُلوخيَّة) بدلاً من ( مُلوكِّية ) حينما نزلت من قائمة طعام السلطة إلى الشارع. وقد أصبح تحريم أكلها واباحته للشعوب مستوجبين تغيير اللغة ( النحت الاصطلاحي الشعبي ) حتى يتركها الحاكم لعامة الناس. هذه الفنون(الغذائية – الثقافية – السياسية ) لم تبْرأ منها الثقافة العربية الإسلامية حتى الآن وبعد الآن!!
ينبغي على الفلسفة أنْ تفسح المجال لتدرك أنَّ غذاء البطون بإمكانه تلوين غذاء العقول في المجتمعات العربية. وربّما تقف الفلسفة مذهولة أمام هذا التشكيل التاريخي العجيب ولاسيّما أنَّها تهتم الميتافيزيقا أكثر من روث الحياة الجارية. ولئن كان التّفلسف منذ اليونان محصوراً في نطاق العقل بمعناه التجريدي فيسكن المدن الفاضلة معتبراً تدبير المُثل والرئاسة وطبقة الحكام هو الأولى، فغذاء العقول لدينا يمرّ بالبطون والثقافة تتسع في أمعائها إلى الهضم العام الّذي تستطيع معدة السلطة القائمة انجازه خلال عصور التاريخ. أي لِمَ لا يكون هناك فلسفة للطعام بمعانيه الروحية والفكرية والجسمية في عقل شرقي مختلط بها بامتياز سياسي؟!
لقد اشترط نيتشه ذات رأيٍ أنْ تكون صحة الأجساد شرطاً لصحة الكلام واللّغة، وتعامل مع اللّغة كطبيب ومع الأجساد كعالم لغةٍ. في هذا الضوء يجب أن تكون صحة العقول مرتهنة بصحة الثقافة التي يتنفسها الإنسان. والعقل الشرقي كان يهيم بالبهارات والمذاقات الحارَّة التي تحمل المزاج ذاته في التفكير، العقل الحريف الذي يحل من مجال إلى آخر بطريقة الأرواح الشريرة والأشباح. إذن مهام الفلسفة يجب اتساعها للبطون والأشباح معاً. وهذا اكتشاف لتكوين الفكر وكيف يتلون ويمارس دوره وما هي جذوره البعيدة التي تحل قريباً جداً من منابعها.
لم يفعل الدواعش إلاَّ ذلك خلال عروض دموية شهوية على مسارح الدين والسياسة. تقطيع الجثث والرقاب وأكل الأكباد ومضغ القلوب وطهي الرؤوس كغذاء للكراهية والعنف الديني. لأنَّ ممارسات أيِّ مجتمع بهذا المعنى إزاء ” إنسانية الإنسان ” توعز إلى التنظيمات الإرهابية بالعمل نفسه. ليس يصدِّق أيُّ عقل أنَّ ذلك غير مرتبط عضوياً بالميراث التاريخي السياسي. وهو ما يتجمع (كالدمامل) في الثقافة وأخيلتها ونتاجها الرمزي وأشباحها القصوى التي تتقافز على المسارح العامة.
ربّما يكون من يحارب الدواعش فصيلاً داعشياً (بمعناه الثقافي) في مجالات تالية ومجاورة. وسواء أكان الوضع محلياً و إقليمياً أم دولياً، فقد استعملت أنظمةٌ ديكتاتورية ورقة داعش كالعلكة التي يمضغها هذا الرئيس الملهم أو ذاك الملك المقدس أو غيرهما من أمراء النفط لقهر الشعوب ووضع اتهامات جاهزة لمعارضي الأنظمة الحاكمة. كما تلاعبت القوى الدولية بأشباح الدواعش للتواجد بالمنطقة العربية وقضمت أجزاء كبيرة من سيادة دولها ومن ثروات شعوبها وأغدقت المساعدات المجانية اقتصاديا وعسكرياً على إسرائيل وهي المضاد الجيو سياسي للعرب.
فلسفياً تشكل اللعنةُ طرفي المفارقة في سياسات مزدوجة لا تفهم إلاَّ بحضور الطرف الثاني. بمعنى أنَّ داعش يمثل الإرهاب بكل موضوعاته العنيفة والمُتخلفة، إذن لابد له من محمولات المقاومة المضادة.. أو ما سُمي بالحرب على الإرهاب. لتغدو المعادلة كالتالي: الحرب المقدسة(طرف الإرهاب) تقابلها الحرب على الإرهاب( الحرب الدولية + الإقليمية). في مقابل إهمال الشعوب وضياع حقوقها السياسية والإنسانية. ولكن ماذا لو اختفت داعش وتلاشت ككتلة متجلطة في دولة كالعراق وسوريا؟! حينئذ ستكون أشباح الدواعش هي الهدف الذي يعقد أطراف المعادلة مرة أخرى. ويتحول الوضع إلى ضرورة محاربة الدواعش بالمنطق نفسه الذي يوجد به الدواعش( حرب × حرب).
ثمّة خلل بنائي في المسألة، لأنَّ حركة الأشباح هاهنا مصنوعةٌ. أي ليست أشباحاً حقيقية، بل هي – في جانب غير قليلٍ منها- استراتيجيّة سياسيّة تشير إلى هيمنة كامنة في تلك الحروب المتبادلة من القوى الكبرى تجاه الإرهاب. هل هي حروب تغذيها أم تقضي عليها؟ هل كل أصناف الداعشية هي المقصودة أم تلك الصور من الأشباح؟ وكذلك يظهر الأمر السابق امتداد الداعشية على صعيد المجتمعات العربية… وإلاَّ لماذا شكلت ظاهرة إرهابية من الداخل إلى الخارج؟! وإذا كانت هي مجتمعات غارقة في الداعشية تاريخياً… فلِمَ لا تُقاوَّم هي الأخرى؟ وحتّى في حالة مقاومتها باسم الارهاب، فهناك دائرية فارغة تستقطب قدرات الأفراد والمؤسسات وتحول دون استمرارية كيان الدول. بهذا المعنى، دُمرت سوريا ومن قبلها العراق سواء باسم الداعشية المحلية من قبل الطوائف والجماعات الإرهابية وكذلك من قبل الداعشية العابرة للحدود.
من جانب آخر على طول الخط، تدل لعنة الأرواح الشريرة – في الموروثات الشعبية – على السُكنى الغامضة للأشباح في جسد ما، ليفقد سماته الذاتية الخاصة بالوعي والفكر والتحدث وقد أصبح متحركاً بهيئة غريبة ولساناً ليس هو ووعياً ليس معهوداً. وحين يتحرك الإنسان، فكأنَّ الروح الشريرة هي التي تقود الجسد ويتحرك بحركاتها واتجاهاتها. يُقال إنَّ فلاناً ممسوساً، أي تقمصته روح جنية( خفيَّة) خارج الرؤية ولا يمكن طردها بسهولةٍ.
ذلك الجانب المظلم يتكرر أيضاً داخل بنية الثقافة. وبالتفاصيل ستحدد الثقافة طرائق التقمص ومظاهره بشكلٍّ حي وفعالٍّ. فالثقافة العربية تأخذ وظائفها مثل الأرواح الشريرة من جهة الأثر، بينما الأجساد العامة كيانات ثقافية تعمل على غرار الممسوسين (لننظر إلى حواشي السلطة ورجالها). على أنْ المعاني هي الغالبة في مجالات متباعدة لكنها متضامنة(مع بعضها البعض) عبر المدى التاريخي. أكثر من هذا، فالجانب السابق يكشف طبيعة المجتمعات التقليدية وغير القابلة للتطور بسهولة. فقانون التطور والتغير ليس خارجيا ولن يكون، لكنه يحدد جوهرَ الممارسات التي تفضح الثقافة السائدة.
يفترض هذا نوعين من المعطيات:
أولاً: أنَّ الثقافة هي آلية هيمنة بالمقام الأول، وأنّها تغذّي جوانبها بصورة كليّة لا تفلت شيئاً دون آخر.
ثانياً: أنَّ الأفراد والجماعات والأفعال والمفاهيم عبارة عن ” كيانات ثقافيّة ” تردد بشكل لاواع وضمني ما تمارسه الآلية السابقة.
الإرهاب الديني والاستبداد السياسي والتّعليم القائم على الحفظ والتّلقين والممارسات الأبويّة في المجتمع وقمع النّساء والأطفال ..هي جميعها أشياء واحدة لها نفس الأسباب والأعراض والآثار والأساليب المتحولَّة. هي أخطر من بعضها البعض على الإنسان ويستحيل بناء فضاء عمومي دون الوعي بهذا التّكوين.
إنَّ أشباح داعش نمط من أنماط الحياة الّتي تضمّ هذه الأشياء إجمالاً، وأنَّ ثمة تضامناً تاريخياً يجعل ثقافة الارهاب مخترقةً لحياتنا طوال الوقت. وحين نحاول– في جانب الدين فقط- طرد الدواعش ومحاربتهم، فإنّنا نكثف الجهود لإخراج أرواحهم الشريرة من المجتمعات، ولكن ذلك عمل قاصر عن فهم الظواهر وكيف تتكون مثلما أوضحنا. إذ كان منطقياً بذات الأسلوب – لو أمكَّن الفهم المتجاوز- ملاحقة الاستبداد السياسي وتغييب الشعوب والقضاء على الممارسات الأبوية وإعادة بناء فرص الحرية وتحقيق العدالة وتوفير الحياة الكريمة.
الفلسفة تستطيع مطاردة الأشباح شريطة أنْ تكون أفقاً حراً وعلاقة مفتوحةً بالواقع والتاريخ والمجتمعات، وألَّا تشغلها السّلطة بزحام الأرواح الشريرة. الفلسفة تروِّض شظف الثّقافة بإتاحة الفرصة لأعمال النّقد واختراع الاختلاف والتّنوع. هنا لا تكون مهمة الفيلسوف إجراء طقوس التعزيم وطرد الأرواح، بل إنبات الفكر وتنميته عبر مساحات الظلام والتصحر. مثله مثل عمل الفلاح والبستاني وعمال المحاجر وحارثي الأرض غير الممهّدة. من التّنقيب في التراب تتحطم كهوف التّاريخ المسكونة بالشّرور، حيث يعود الإنسان والثّقافة إلى جذورهما.