العنف الديني أم التعددية الدينية؟

العنف الديني أم التعددية الدينية؟

وليام غالستون*

إنّ سؤال الساعة يتمثل في قابلية التقليدية الإسلامية بتقبل الديمقراطية. بيد أنَّ السؤال الأَولى بالطرح رغم الأهمية الفائقة للسؤال السالف الذكر: هل يستطيع التقليديون الإسلاميون استيعاب التعددية الدينية وصُنْعَ سلامهم معها، أو يُصرون على متابعة رفض التلاؤم، وإنشاب النزاعات التي لاتنتهي؟! وقد كان المراقبون الغربيون مقتنعين دائماً أنّ العنف باسم الدين هو تصرُّفٌ غير عقلاني، وأنّ العقلانية في التفكير والممارسة هي الحلُّ الأمثَلُ للمُشكِل. وأُريدُ هنا أن أقترح اتّباعَ مقاربةٍ أُخرى في فهم الأمر كلِّه. ذلك أنَّ تضاؤلَ حجم العنف باسم الدين في أوروبا ليس سببه انتصار الأفكار العقلانية؛ بل التجارب التاريخية المريرة التي أقنعت الناسَ بأنّ الاعتراف بالتعددية الدينية أقلّ كُلفةً وضرراً من النزاعات، كما أقنعتهم بضرورة التسامح. والواقعُ أنّ هذه الممارسات من جهةٍ ثانية قدَّمت نظرياً وعملياً دعماً للمؤسَّسات ولليبرالية الدستورية. ولذلك تصبحُ المسألة الأساسيةُ اليوم: هل هناك تطوراتٌ داخل الإسلام يمكن مع الوقت أن تجعل من التعددية أمراً جذّاباً وممكناً، حتى بالنسبة للمسلمين التقليديين الذين لا يحبون الليبرالية الغربية؟!

السياسة، الدين، التعددية: من الناحيتين الموضوعية والعامة، هناك أحد ثلاثة احتمالات للعلاقات بين السلطات السياسة والدينية.

الأول أن تسُودَ السلطة السياسية كلَّ شيءٍ في المجتمع بما في ذلك المؤسسة الدينية بحيث تُعتبرُ المؤسسةُ الدينيةُ أداةً لدعم سلطة الدولة(ولهذا كثيراً ما تسمىَّ تلك السلطة: مدنية). وهذا الاحتمال يؤدي إلى عدة صعوبات ومشكلات ومن بينها أنه يسخر المضمون الديني أو اللاهوتي للإيمان للضرورات والمصالح المدنية. وتشير النقاشات المشتعلة بفرنسا وبلدان أوروبية أُخرى بشأن الحجاب والرموز الدينية في المدارس العامة، إلى استمرار التنافُس والتجاذُب بين التقليد الجمهوري المدني أو العلماني من جهة، والوضع الديني أو الشعائري لدى المواطنين افراداً وجماعات من جهةٍ أُخرى، وميول السياسي للاستيلاء على الديني أو ضبطه.

والاحتمال الثاني: وهو احتمالٌ معاكسٌ للأول، ويتصور إمكان سيطرة الديني على السياسي في المجتمع، وإخضاعه لصالحه. وفي هذه الحالة يتكون شكلٌ من أشكال الثيوقراطية. ويكون الديني المسيطر في المجتمع فريقاٌ لاهوتياٌ واحدٌ على حساب الفرقاء الآخرين.

والإحتمال الثالث: تعايُشُ السياسي والديني، دون أن يسيطر أحدُهُما على الآخَر. وإحدى صِيَغ هذا التعايُش تفترض تقسيم الحياة الاجتماعية إلى مجالاتٍ وأبعادٍ يتقاسُمها الطرفان باتفاقٍ أو بدون اتفاق. وأحد الأمثلة أو التصورات لذلك مقولة: أعطِ ما لقيصر لقيصر ومالله لله! بيد أنّ الحياة الإنسانية لا يمكن فصْلُ مجالات أحدها عن الآخر بعمليةٍ جراحيةٍ قاطعة، إذ يستمرُّ التداخل والتجاذُب وتستمرُّ دعاوى الاختصاص والصلاحيات. وتحتاج الأمور في هذه الحالة إلى إيضاحاتٍ نظرية وتسويغاتٍ قانونية.

ومن جهةٍ أُخرى لا يقبل المؤمنون والمتدينون في الأغلب الأعمّ بوجهة النظر الجمهورية العلمانية الراديكالية التي تعزلُ القيم الدينية عن معظم مجالات المجتمع المدني. وتُشير تواريخ الأُمم الأوروبية، وبخاصةٍ في فرنسا وإيطاليا التي تملك تقاليد جمهوريةً عريقةً، أنّ محاولات عزل الدين واعتباره مسألة شخصيةً بحتةً، أدت إلى توتُّراتٍ عميقة، وفي بعض الأحيان إلى عنفٍ مُندلِع.

بيد أنّ الخيار الثيوقراطي لا يمثّل حلاًّ أفضل. وقد تكون الثيوقراطية خياراً مغرياً للمجتمعات ذات الأوحدية الدينية، بيد أنها تسبّب ولا شكَّ مشكلاتٍ أساسية في المجتمعات ذات التعددية الدينية. في مثل هذه الحالة تحاول المؤسسات الدينية القوية(وليس الرمزية أو الشكلية مثل كنيسة بريطانيا) أن تستخدم الإرغام لفرض وجهات نظرها على الجماعات الأُخرى التي ترفُضُ ذلك. وهنا أيضاً قد تندلعُ أحداثُ عنفٍ ناجمة عن مقاومة سطوة المؤسسة الدينية أو السياسية المسيطرة.

والواقع أنّ تفحُّص هذه الإمكانيات جميعاً يشير إلى أنّ خيار التعايُش هو الخيارُ الأَولى بالاعتناق، وهو خيارٌ أفقيٌّ وليس هرمياً، ولن يرضى عنه الثيوقراطيون ولا العلمانيون الراديكاليون. لكنه جديرٌ إذا أُخذ على محمل الجدّ أن يخفّض العنف والإرغام إلى أدنى حدٍ ممكن. فالعنف الممارَس باسم الدين لا يُقاوَمُ بالعلمانية؛ بل يُقاوَمُ ويُتجاوَزُ بالتعددية المؤسَّّسية. وإذا قارنّا العنف الجاريَ في الغرب اليوم باسم الدين بما كان عليه الأمر في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فسوف نجد أنّ الوضع تحسَّن تحسُّناً كبيراً. ولذلك فقد يمكن بدراسة المسألة وتاريخها الإفادة من التجربة الغربية، في الوصول إلى خفضٍ للعنف باسم الدين في النواحي التي ما يزال ملحوظاً فيها في أجزاء العالَم المختلفة.

ما هي العلاقةُ بين التعددية الدينية المؤسَّسَّية إذن وخفض العنف؟ إنّ هذه مسألة تستحق الاهتمام والمعالجة والإجابة. وأريدُ هنا أن أختلف مع الذين يعتبرون الدين مصدراً مستقلاً للنزاعات. إذ أُفضّلُ أن أرى العاملَ الدينيَّ بمثابة شاشةٍ تظهر عليها مظالم وشكاوي وعُقَد عميقة ناجحة عن الفقر والحرمان وذكريات الاستعمار وأحاسيس الإذلال. نعم، يفضّل كثيرون من الأميركيين اللجوء إلى تعليلاتٍ أسهل لأحداث مثل الحادي عشر من سبتمبر(2001م)؛ إذ يذهبون إلى أنّ الإرهابيين إنما هاجمونا لأنهم يكرهون حريتنا وأسلوبَ حياتنا، وليس انهم قاموا بذلك لأنهم لا يريدون وجودنا العسكريَّ في البلدان الإسلامية. وإذا بدأنا محاولة الإجابة على مسألة التنوير، وتجاوُز العنف باسم الدين، فأنا أميلُ بدايةً إلى عدم اعتبار التنوير ظاهرةً تاريخيةً متفردةً وواحدة(بغضّ النظر عن الظاهرة الأقدم والمتعلقة بلقاء الديانات الثلاث بالفلسفة الإغريقية). هناك تنويريةٌ راديكالية، مُلحدةٌ نظرياً، وعلمانية عنيفة في الواقع العملي. وقد أدّى ذلك بكثيرٍ من الناس، الذين دعموا الثورة الفرنسية في البداية، إلى الإعراض عن ذلك عندما خبروا ما أثارته من عنفٍ تحت اسم مُعاداة الدين. ومنذ الثورة الفرنسية وإلى سقوط سور برلين، تسببَت الراديكالياتُ التنويرية في عنفٍ ما عرف التاريخُ البشريُّ مثيلاً له على مدياتٍ طويلة. لكنْ كان هناك من ناحيةٍ ثانيةٍ تنويريون معتدلون، أرادوا سوادَ النزعة النقدية، وإتاحة الحرية للمختلفين والتعدد المُثرّْي. وبين هؤلاء يقع أكثر آباء الاستقلال الأميركي. أمّا الراديكاليون بينهم لهذا الجانب أو ذاك فقد اضطروا للاعتزال(أنظر نموذج توم يبين). وأودُّ الذهاب هنا إلى أنّ هؤلاء التنويريين المعتدين كانوا في الحقيقة من القائلين بالتعددية الدينية وإن لم يستعملوا هذا المصطلح. فجيمس ماديسون مثلاً في وصفه للضمير الديني، والذي صار جزءاً من التفكير السياسي والقانوني الأميركي، يتحدث عن سلطتين متعايشتين، لا تستطيع إحداهما أن تُلغي الأُخرى أو تسيطر عليها. ولكي نكون أكثر وضوحاً نقول إنه من الخطأ اعتبار الليبرالية المؤسسية متحكمةً بالقناعات الدينية أو محكومةً منها.

لكنْ من الخطأ أيضاً إعادة تضاؤل العنف باسم الدين في أوروبا في الأزمنة المعاصرة إلى التنوير وحسْب. حوالي العام 1640م كان قرنٌ من النزاعات الدينية قد ترك أوروبا مرهقةً وشديدة الخيبة. وقد بدأ العقلاء يتوصلون إلى قناعةٍ مؤدَّ لها أنّ العنف الدينيّ المتبادَل غير مقبولٍ ولا معقول، ولو كان سببه أو علته إنقاذ الأرواح الضالة. فالعنف باسم الدين يشكّل مشكلةً أكبر من الأمراض السياسية والأخلاقية الأُخرى. وقد وصف مفكّرون مُحْدَثون مختلفون مثل جوديت شكلير وليوشتراوس كيف تغيرت المواقفُ الأوروبيةُ وتحولت ضدَّ ماسمّاه ميكيا فيللي وكان سبّاقاً في ذلك: "الوحشية التقوية". ورغم أنّ هذا الحكم كان أخلاقياً أكثر مما هو نظري؛ فإنه فتح الطريق لانتصار فكرة التسامح وأُفُقه. قال البعض أنّ القهر باسم الإيمان ينقُضُ نفسَهُ بنفسِه ولذلك فهو محكومٌ عليه الفشل. بينما ذكر آخَرون أنّ الفهم الصحيح للمسيحيَه يجعلُ من المستحيل استخدام العنف للإرغام على اعتناقها. وذهب بعض المفكرين الشجعان إلى أنّ الله يمكن الوصول إليه بطرقٍ متعددة، ولذلك لاحقّ لأحدٍ بفرض السبيل الواحد. والواقع أنّ الرؤية الأكثر تمثيلاً لنفوذ التنوير هي فكرةُ "اللاهوت الطبيعي" أو بتعبير عمانؤيل كانط: الدين في حدود العقل وحده! لكن في حين تبرر هذه النظرة الإله والكَونَ لدى الفلاسفة؛ فإنها تترك كثيراً من العناصر التي تربط المؤمنين إلى اعتقادهم الخاصّ. بل والأسوأُ من ذلك، أنّ المعجزات والوحي والتجسُّد ربطت وتربط بين الله والإنسان. وقد أدرك كانط ذلك عندما ذهب إلى أنّ هقده الشهير للعقل المحض أو المجرَّد والذي ضيَّقَّ حدود العقل كان المقصودُ به إعطاء مساحة للإيمان. ولذلك فقد يكونُ من المعقول القول إنّ الفلسفةَ يمكن أن تُسهم في فهم النزاع بين الإيمان والعقل؛ لكنها ليست قادرةً عن حلّ ذاك النزاع. ولأنه لا حلَّ نهائياً لهذه المشكلة؛ فإنَّ أيَّ إجابةٍ سياسيةٍ سوف تحيطُ بهذا التوتر دون أن تستطيعَ إنهاءه. لكنّ هذا الأمر بالذات تستطيع الليبرالية المؤسَّسيةُ إنجازه إن جرى الأخذُ بصيغتها الأكثر تقدماً وإنسانية. ففي ظل الليبرالية المؤسسية يمكن أن ينجح الحلُّ التعايُشِ حتى لو كان كلُّ الناس مؤمنين متدينين. لكنْ يكونُ على هؤلاء المؤمنين التسليم بأنَّ الدين الحقّ لا يؤيد العنف أو الإكراه على اعتناق الاتجاه المعيَّن. وهكذا لا تستطيع الدولة أن تُرغم أياً من مواطنيها على اعتناق دينٍ معين أو البقاء على مذهبٍ معين؛ بل يكون عليها أيضاً أن تحمي المواطنين من محاولاتٍ كهذه. بيد أنَّ وقوف الدولة في وجه الإكراه باسم الدين أو المذهب، يثير أيضاً أسئلةً حول المعنى والحدود. فهناك من يقول إنّ مجرد وجود دولة تنصر أو تدعم ديناً معيناً يعني اختراقاً لمبدأ الحرية الدينية، وعدم الإكراه. بينما يذهب آخرون إلى أنّ المؤسسات الدينية الأوروبية أظهرت في الأزمنة الحديثة اقتناعاً عميقاً بالحريات الفردية؛ بما في ذلك الليبرالية الدينية. وقد ذهبت المحكمة الأميركية العليا، إلى أنّ تبنّي دينٍ معينٍ أو "دعمه" يخالف مبدأ عدم الإكراه، وهذا أقصى ما جرى التواصل إليه في الليبرالية المؤسَّسية. إنّ مبدأ "لا إكراه" يختلفُ عن إنكار الحقيقة الدينية بحدّ ذاتها، كما يختلف عن ممارسة التسامح إزاء التعددية باعتبارها إجراءً عملياً مؤقتاً، يجري التخلي عنه إن تغيرت الظروف!

الدين والعنف: بعض التمييزات: الدين: أريد أن أضع ثلاثة تمييزاتٍ بين الديانات. الأول تختلف الديانات في بنيتها الأساسية، فهناك دياناتٌ تركز على العوالم الداخلية، بينما تركّز دياناتٌ أُخرى على السلوك الخارجي. وهذا التميز يسري على الشعائر التعبدية، كما على التعليمات التي تحكم الحياة العامة. والثاني تختلف الديانات من حيث دعواها أو نصيبها أوسيطرتها على الحياة العامة. فهناك دياناتٌ تدعي السيطرة الجزئية فقط(أعطِ مالقيصر لقيصر..). وهناك دياناتٌ تدعي أو تطلب السيطرة على سائر مناحي الحياة. والثالث تختلف الديانات من حيث شمول دعواها، وهل تعتبر نفسها نهجاً للنجاة لسائر شعوب العالَم، أو أنها ترتبطُ بشعبٍ معيَّن(1).

إنّ الذي أراه أنّ كل تمييزٍ من هذه التمييزات يؤثّر في موقف الدين وأهله من التعددية الدينية في المجتمع الذي يسود فيه. والذي يبدو لي أنّ الأسهل قَبولاً للتعددية هم أولئك الذين يتبعون ديناً يقول بالتوجه الداخلي والشخصي، وبذلك فهم لايهتمون كثيراً للشأن السياسي، ويريدون أن يُتركوا شأنَهمُ. وعلى العكس من ذلك؛ فإنّ الديانات التي تتخذ صنعة القانون مضطرة للإهتمام بالشأن العام مثل اليهودية التقليدية والإسلام. ولذلك تصبح العلائق بين القانون الديني والقانون العام رقيقةً ومتشابكةٍ. والمسألة الأخرى أنّ ديانات التي ترى أنّ صلاحيتها القانونية محصورة من الأرجح أن تتعايش براحبةٍ أكبر مع التعددية من تلك التي تملك دعوى شمولية. أنّ الذين يمارسون في دينٍ يعتبر كلُّ شيءٍ مهماً من تناول الطعام وإلى الشأن السياسي، يجد نفسه مضطراً لإستخدام القوة السياسية في تطبيق دينه، أو على الأقلّ حماية ممارسته. وقد يؤثر ذلك في ممارسات أهل الديانات الأُخرى، فضلاً عن غير المتدينين داخل تلك الجماعة السياسية. وبذلك فأنّ صعوبات الاعتراف بالتعدد تأتي من جه إعتبار الدين نفسه ذا شموليةٍ توحيديةٍ عامه، كما هو الشأن في الإسلام التقليدي. فسيد حسين نصر العالم المسلم المعروف يقول أن الإسلام لا يعترف بالتمييز(بخلاف المسيحية) بين الدين والدنيوي أو المقدس والمدنَّس؛ بل إنَّ كلَّ ذلك يحكمه مبدأٌ واحد. وإذا أخذنا بوجهة النظر هذه فإنّ ذلك يعني إلغاء الفكرة القائلة بوجود عالمٍ من الدنيوية والحرية والتعددية المستقلّ عن الدين. إنّ ذلك يحملُ تهديداً مميتاً بالوثنية أو الجاهلية جاهد ضده الإسلام منذ نشوئه(2).

وأخيراً فأن الديانات العالمية تمتلك موقفاً أقلّ تلاؤماً إتجاه التعددية حينما ظهرت. ففي الحد الأدني سيعمد إتباع الدين العالمي أو الذي يمتلك دعوةً عامةً إلى الدعوه والتبشير لتوسيع نطاق جماعته. وإذا وجدوا منافسةً أو سهولةً أكبر فيمكن اللجوء إلى وسائل ضغطٍ من أجل اعتناق الدين. ونعرفُ من الألفي عام الماضية أنَّ بعض الأديان استخدمت القوةَ فعلاً في كسْب الأنصار للدين. أننا نتحدث هنا عن رؤيةٍ أو موقفٍ عامٍ وشامل. إذ تميل الدياناتُ ذاتُ التوجه الخارجي والقانون العامل والدعوى الشاملة إلى اتخاذ مواقف أقلّ انفتاحاً تجاه التعدد والتنوع وقد تلجأ للقوة لمنع ذلك. وفيما يتصل ببعض الفِرَق البروتستانتية؛ فإنّ دعوتَها العالمية أو نزعتها التبشيرية العامة، تتوازنُ بعض الشيء من خلال توجهها نحو التعبد الداخلي من جهة، وعدم ميلها لاستخدام الصفَ في الانتشار من جهةٍ ثانية. ورغم أنّ اليهودية الربينية القديمة تميلُ للرسوم والشعائر الخارجية؛ فإنها من ناحيةٍ ثانية تمتلك نظرةً جزئيةً ذات خصوصية لأمور العالَم. ولذلك فإنّ وجهة نظري أنّ الإسلام والكاثوليكية هما الأقلّ ميلاً لتقبُّل التعددية ولتجنُّب العنف. ولدى الإسلام الأمر أصعب، فالشريعة الشاملة تعبيرٌ عن إرادة الله التي لا تتغير، وهي أكثر شمولاً وإلزاميةً من التعليمات المدنية والدينية للكنيسة الكاثوليكية.

العنف: إن التمييز الذي تحدثنا عنه بين المجال المنحصر والآخَر الشامل، والإيمان المتجه للداخل والآخر الخارجي، يسمح لنا بالتمييز بين العنف الديني الدفاعي والآخَر الهجومي.

إنّ الأديان القائلة بالمجال المنحصر والخصوصي تنسحبُ من العمل في المجال العام، ولا تشارك فيه إلاّ مع الآخَرين، ولا ترى داعياً لممارسة العنف إلاّ دفاعاً عن حرية ممارستها الدينية، وهي تتقبل التعددية حتى لو لم تحبّها ما دامت شعائرها وعباداتها مصونةً وحُرَّة. أما الديانات الشمولية فهي دياناتٌ هجوميةٌ، وتميل لاستخدام القوة لغرض سيطرتها على الآخَرين. وهناك أربع خصائص إن توافرت صار الأمر خطراً: الرؤية غير متسامحَه، والموقف غير ممكن التراجع عنه، وتوقعاتهم شمولية، وتصرفاتهم عنيفة عندما يرون ذلك ضرورياً. وهذه "الأيمانات" إن توافرت فيها أو تجلّت تلك الخصائص تكون مُعاديةً للتعددية من أي نوع وتستحق الحذَر. وهناك خصيصةٌ خامسةٌ أذكرها هنا للنقاش لأني غير متأكدٍ منها: هناك ديانات تستخدم العنف بطريقةٍ عمليةٍ وعندما ترى ذلك مفيداً. وهناك متدينون يستخدمون العنف غرائزياً أو تلقائياً عندما يرون شيئاً لا يعجُبهم. ولا شكَّ أنّ تجنُّبَ العنف الأداعي سهلٌ من طريق عروضٍ وإغراءاتٍ وضغوط، أمّا العنفُ الآخَرُ التلقائي والذي يقسّم العالم طهورياً إلى مقدَّسٍ ومدنَّسٍ فهو صعبُ المعالجة. ولنذكرْ نموذجاً لهذا الأمر سيد قطب أبو الأصولية العربية. فقد اشمأزّ جداً بجامعة كولورادو من نمط العلاقات بين الذكور والإناث الأميركيين. وظلّ هذا الانطباع المنضِّر لديه سنواتٍ بعد ذلك. وقد تكون مسألة المرأة وتحررها إحدى الموضوعات الشائكة في التحرر الإسلامي.

التعددية والعنف الديني: دراسة ثلاث حالات: لاتتحدد الأشياء والموضوعات بالأفكار وحسْب؛ بل بالتطورات التاريخية أيضاً. ولذلك فسأذكر الخاتمة ثلاث حالاتٍ لبلورة العلائق بين الدين والعنف.

تطورات الكاثوليكية: إنّ الذين ينزعجون اليوم من تقليدية الإسلام، وحصريته ولا عقلانية بعض الأفكار والممارسات، ينسَون أنّ المسيحية الكاثوليكية حتى القرن التاسع عشر كانت الأكثر رجعيةً ومعارضةً لليبرالية والتعددية والتنوير على ظهر الأرض. وقد أشار ديفيد أو بريان إلى ذلك عندما ذكر أن الكاثوليك لا يتقبلون المجتمع التعددي لأنه مستحيلٌ عليهم فرض رؤيتهم الاجتماعية فيه وعلية. وذلك قبل مجمع الفاتيكان الثاني(3). والواقع أنّ أوبريان لا يتشددُ في فهم المشكلة الكاثوليكية آنذاك. ففي العام 1864م أصدر البابا بيوس التاسع وثيقةًًً أراك فيه مبدأ سلطة الشعب وحرية التعبير وحرية الضمير والعبادة، وذكر ثمانيه وهماً أو خطأً في الحياة الثقافية والعامة ينبغي تصحيُحه من حرية الضمير والعبادة، وضرورة مصالحة البابا مع البروتستانت ومع الحضارة الحديثة. لكن منذ ذلك الحين وصولاً لمجمع الفاتيكان الثاني ضاقت الهوةُ بين الكاثوليك والليبرالية والتعددية. ففي مقررات المجمع الفاتيكاني حديثٌ طويلٌ عن كرامة الإنسان والضمير الإنساني والحرية الدينية والتعددية. وهو ما ذكره أوبريان وفصّل القول فيه لإيضاح الفروق بين ما قبل مجمع الفاتيكان الثاني وما بعده(4). والمُلاحظُ أنّ أكثر الأمور لفتاً للانتباه هو تأكيد المجمع على حرية التعبير(5)، وتأكيده على قبول التعددية(6) الدينية التي ظلت على مدى القرون الماضية أكثر المحرمات هَولاً. فما تريده الكنيسة اليوم ليس الموقع المفضَّل أو الأول في الدولة والعالم؛ بل الإحساس بالحماية للعيش وممارسة دورها ضمن المجتمع التعددي(7).

ولاشك أنَّ قدْراً كبيراً من النفور بين الكاثوليكية والتعددية حتى القرن التاسع عشر يعود إلى السياسة اللادينية العنيفة للتنوير الراديكالي المعادي للكنيسة والكهنوت في أوروبا وقد وجدت الكاثوليكية في الولايات المتحدة حالةً متخلفةً عن أوروبا. ففي الولايات المتحدة أنُاسٌ ضدَّ المؤسسة الدينية والكهنوت القاسِ، لكنهم ليسوا ضد الدين؛ وهذا هو التنوير المعتدل. وكما لاحظ ألكسيس دي توكفيل ففي أميركا بعد الثورة(بخلاف فرنسا بعد الثورة) ما ظهر هناك تناقُضٌ بين الدين والحرية. وقد أدت هذه التجربة الجديدة للعيش المشترك أو المتعدد دينياً وسياسياً إلى التأثير في التفكير الكاثوليكي شأن ما حدث مع جون كورتني موراي الذي حاول التوفيق بين كرامة وحريات الشخص الإنساني، ومسائل الخير العام. وجاء انتخاب جون كنيدي رئيساً للولايات المتحدة وهو كاثوليكي خاتمةً للمسافة بين الكاثوليك والمواطنة الأميركية. وقد كان من نتائج ذلك تصالح البابوية مع الحداثة في مجمع الفاتيكان الثاني(1962-1965م) أيام يوحنا الثالث والعشرين.

والذي أراه أنّ المسلمين يمكن أن يحصل هلم في ديار الهجرة والديمقراطيات الليبرالية ما حصل للكاثوليك في الولايات المتحدة من تقبلٍ للتعددية، وبخاصةٍ أنّ المسلمين ليس عندهم بناءٌ هرميٌّ كهنوتي.

السياسة والإيمان في اليهودية: قد يخطر للمراقب أنّ اليهودية القديمة كانت تميلُ للثيوقراطية. وهناك فعلاً تياراتٌ بداخلها كانت تفضّل هذا الأمر. ولوسيطرت تلك التيارات لكان صعباً على اليهودية أن تقول بالليبرالية والسياسات الدستورية. لكنْ في الواقع هناك تأويلاتٌ توراتيةٌ وتلمودية قادت في النهاية للقول بالحكومة المدنية. من الناحية النظرية فإنّ السلطة التي أسَّسها موسى كانت ثيوقراطية. وإذا أخذنا سفْير القُضاة باعتباره تاريخاً فإن الثيوقراطية امتدت بين اليهود لأزمنةٍ طويلة. وفي سفر القُضاة(23: 8) يقول جدعون للذين أرادوه أن يتولى المُلْك: لن أكون أنا ملكاً عليكِمَ وكذلك اني ملككم الدائم هو الله نفسه! لكنْ إذا كان الله هو الحاكم فإنه يحكم من خلال أدواتٍ بشرية أو وُسطاء بشريين. وهؤلاء الوسطاء أو القُضاة يتوقف عليهم صلاحُ النظام فصموئيل آخير القُضاة كان رجلاً مستقيماً؛ لكنّ أولاده لم يكونوا كذلك. واجتمع حكماء بني إسرائيل وطلبوا من صموئيل أن يولّي ملكاً عليم لإدارة شؤون العدالة وللقيادة في الحرب. ورغم اعتراض صموئيل فقد كان لابد من ذلك(سفر صموئيل 8: 1). وهكذا وخلال التطورات اللاحقة فإنّ الملكية اعتُبرت نظاماً مدنياً للحكم. وقد دعا نِسيم غيروندي، زعيم يهود برشلونة إلى سلطتين: واحدة لإجراء أحكام العدالة بحسب الشريعة اليهودية، والأُخرى لحفظ النظام العام. واحتج غيروندي بأنّ ذلك كان جارياً في الزمن القديم بوجود السنهدرين، والملك في الوقتِ نفسِه. ويسلّم غيروندي للسلطة الملكية. بحق استخدام العنف، ولو بدا ذلك أحياناً غير متلائمٍ مع التوراة. بل إنه رأى إمكان أن تكون هناك إجراءات وقوانين لدى "الأمم الأخرى" أكثر فعاليةً في حفظ النظام مما هو في التوراة(8). بتشكل السلطتين صار مطروحاً السؤالُ عن العلاقة بينهما؛ وبخاصةٍ بعد سقوط الجماعة اليهودية وانتشار اليهود في العالم. شموئيل أحد أعلام الفترة التلمودية المبكرة قال ما صار قانوناً شبه عام: "قانون المملكة هو القانون". وقد عنى ذلك بمعنىً ما تقديم الإجراء السياسي على الآخر الديني في حياة الجماعة اليهودية. ثم جاء موسى بن ميمون في "مشنا التوراة" فتحدث عن الحماية المتبادَلة أو المتساوية، والتي جرى استخدامُها للتفرقة بين القوانين العادلة والأُخرى التحكمية: فكل فانونٍ يستخدمه الملك ليكون سارياً على الجميع هو قانونٌ مقبول. أما ما يأخذه الملك من شخصٍ منفرد ليس من خلال قانونٍ معروف، بل وبواسطة العنف؛ فإنه يُعبَر اغتصاباً وسرقة(9). وهكذا فالقانون ينبغي أن يخضع لمقتضيات العدالة، وإلاّ كان للجماعة أن لا تطيعه أو تقبله، بل وأن تقاومه إن كانت الظروف تسمح بذلك، وانطلاقاً من هذا الاعتبار حرب العملُ خلال العصور على تحديداتٍ للقانون الوضعِي أو المدني الذي يستحق الطاعة، أو كما قال إسماعيل من مودنّا لنابليون بونابرت عندما سأله عن حدود طاعة القانون لدى اليهود: لقد جرت تفسيراتٌ كثيرةٌ لمقولة شموئيل، والحقٌ أننا نطيع القانون ما لم يتناقض مع شريعة التوراة(10). فالساري حتى اليوم بين المتدينين اليهودي أنّ القانون المدني مشروعٌ ما لم يتناقضْ بوضوحٍ مع أحكام التوراة(11). لكنْ ليس معنى ذلك العصيان والتمرد للقوانين في كل الحالات. نعم في حالةٍ واحدةٍ فقط لابد من الثورة وذلك إذا جرى فرض عبادة الأَوثان، أمّا قيما عدا ذلك فيجبُ النظرُ في الظروف وفي عواقب عدم الطاعة الأفراد والجماعة. والواقع أنه في السنوات الألفين الماضية ما كانت لليهود دولة, وبذلك سقطت التقاليد الدينية وتقاليد المُلْك معاً، وما عاد اليهود إحيائها حتى بعد قيام دولة إسرائيل. وقد أمَّل بعَض اللاهوتيين عن قيام الدولة في عودة القانون الديني أو الشريعة. وقد كانت تلك وجهة نظر إسحاق هاليقي هرتزوغ(12). وهو ما كان يرى وجودَ سلطتين أو إمكان ذلك مع وجود شريعة التوراة(13). وفي النهاية قام نظامٌ للتعايُش بين الدين والدولة، وهو تعايُشٌ مايزالُ صعباً ومتعّراً لكنْ تسودُ الآن الآلياتُ المدنية والدستورية في الحياة العامة. في حين يسيطر الى خام الأكبر على الأحوال الشخصية لليهود، ويعود لرجال الدين في الديانات الأُخرى أمر السيطرة على أحوالهم الشخصية؛ ففي إسرائيل ليس هناك زواجٌ مدني. وليس من السهل القول إنّ الديمقراطية المدنية صارت هي السائدة نهائياً في الدولة العربية. فهناك تأثيراتٌ وصراعاتٌ متبادلة. وما جرى حتى الآن إنما كان تحت تأثر التنوير الأوروبي الذي عمل فيه يهود كثيرون، وتحت تأثير ضرورات الدولة الحديثة. وهناك روحٌ لاهوبيٌّ وثيوقراطيٌّ قويٌّ مايزال يصارع ويقوى ويضعُف؛ بيد أنّ التعايُش مستمرٌّ وساري المفعول.

التعددية والعنف والإسلام التقليدي: إنّ الذين يرون أنّ للوصول إلى الله طرقاً متعددة؛ والآخرين الذين يَرَونَ أنّ مقاصد الله سبحانه لاتُدرَك، وأنه هو الذي يحدّد الصراط المستقيم؛ هؤلاء يجدون أنه من السهولة بمكان تقبُّل التعددية الدينية. بيد أنّ المسلمين التقليدين لا يستطيعون تقبُّل هذه الأمور. وفي التقليد الإسلامي في الحقيقة نصوصٌ وأعرافٌ يتقبل بعضها التعددية وبعضها يرفضها. وهناك مَنْ يتقبل أنه لا إكراه في الدين، لكنْ هناك من يرى حِلَّ ممارسة العنف. وفي القرآن الآيةُ الشهيرةُ التي تشير إلى تقبل الطرق المتعددة لله والدين الحق: ﴿إنّ الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولاهم يحزنون﴾. بل وهناك النصُّ الصريحٌ الذي يقول: إنه(لا إكراه في الدين). وفي مقالةٍ حديثةٍ يقول رضا أرسلان: لقد كان الإسلام دائماً دين تعدد. أما ما يذهب إليه الوهابيون من أنه كان هناك عهدٌ للسلف الصالح على الدين الواحد الذي لا اختلاف فيه، ثم ظهرت فِرَق البِدَع والخروج على السبيل الحقّ؛ فذلك وهمٌ ليس له أصلٌ تاريخي. ذلك أنّ الشيعة والصوفية على سبيل المثال كانوا موجودين منذ الحقبة الأولى للإسلام. وكلا التقليدي يجد مستنداً له في الكتاب وسيرة الرسول. فالله واحدٌ أصلاً أما الإسلام التاريخي فليس لذلك قطعاً(14). وهكذا فإنّ الأمر يتوقف على مقدرة المسلمين القائلين بالتعددية على كسْب الجمهور المسلم لهذه المقاربة. وهذا أمرٌ صعبٌ فيما يبدو. لأنّ التطورات التاريخية في المجتمعات الإسلامية، ثم الظروف المعاصرة؛ كلُّ ذلك يجعلُ من التقليدين المسلمين أكثر ميلاً للمقاربة الثيوقراطية وذلك بخلاف ما حصل ويحصل في الدين اليهودي ولدى اليهود التقليديين ولأسبابٍ تاريخيةٍ وليست نصيةً أيضاً.

فخلالُ العصور الوسطى والأزمنة الحديثة انصبّ جهد اليهود التقليديين على إبراز استقلالية الجماعة اليهودية، وتخفيف التناقضات بين القوانين والأنظمة الحديثة من جهة، وأحكام التوراة وتعاليمها من جهةٍ ثانية. وقد اتّسمت تلك الجهودُ جميعاً بالصبغة الدفاعية للحفاظ على تماسُك الجماعة، وما كانت أبداً هجومية. وعندما قامت الدولة اليهودية بعد الحرب الثانية، ما كان ممكناً إيجاد تقاليد ثيولوجية للكيان الجديد بعد أن مضت أَعْصُرٌ طويلةٌ على التهميش السياسي، والتركز الديني الداخلي. فبالإضافة للطبيعة القومية الحديثة للتنظيم الصهيوني، ما كان متصَّوراً في هذه المدة القصيرة تطويع الدين اليهودي التاريخي كلِّه –إذ يتطلب ذلك مراجعةً راديكُالية– للضرورات السياسية البازغة. ويختلف الأمر من الناحية التاريخية قطعاً بالنسبة للإسلام وشريعته وفقهه. فقد تطور الفقه الإسلامي الكلاسيكي في ظلّ كيانٍ سياسيٍ إسلاميٍ كبير، وفي مجتمعاتٍ سياسيةٍ غالبيتها إسلامية. ولذلك فإنّ بينة الفقه تملك توقعاتٍ تشمل الجوانب الشخصية والداخلية كما تضمُّ المجالَ العامّ. وبذلك فإنَّ الأمر كان كما قال خالد أبو الفضل أنّ الفقهاء المسلمين الكلاسيكيين اعتبروا أنّ أفضل أنظمة الحكم هو "نظام الخلافة القائم على تطبيق الشريعة، والذي يحقق العدالة والمشروعية ويلتزم به الحكام والمحكومون". ولذلك فقد كانت فكرة النظام المدني الذي تتمايزُ عنه الشريعةُ من جهة، وتخضع له من جانبٍ آخر، صعبة الهضم بالنسبة للفقهاء المتمسكين بمثال الدولة الإسلامية الكلاسيكية التي اعتادوا عليها وعملوا في ظلّها. وقد كانت ردة الفعل على حَدَث الدولة الحديثة اعتبار تلك الدولة غريبةً وغربية. وكمثالٍ على هذه المقاومة لمسألة النظام المدني الحديث، ما جرى في العراق بعد ثورة العام 1958م عندما قام الجنرال عبد الكريم قاسم باشتراع قانونٍ موحَّدٍ للأحوال الشخصية يُصادمُ الشريعة في مسألتي تعدد الزوجات والإرث. وكانت النتيجة أنّ الفقهاء السنة والشيعة بالعراق قاوموا ذلك القانون، وكانت تلك المقاومة أحد أسباب سقوط نظام عبدالكريم قاسم، حيث قام الانقلابيون على قاسم بإلغاء ذلك القانون بعد نجاحهم في قتله عام 1963م. وعندما وصل البعثيون منفردين إلى السلطة عام 1968م؛ فإنّ صدَّام حسين تحدث عن عدم مناقضة الشريعة، لكنه شجّع إلى حدٍ بعيدٍ مسألة المساواة بين الجنسين. واستناداً إلى التطورات الكلاسيكية والمعاصرة؛ فإنّ الدعوةَ إلى تأسيس القانون المدني على الشريعة أقوى بكثيرٍ في أوساط المسلمين، منها في أوساط اليهود حتى المتدينين منهم. فمن المعروف أنه على مشارف الانتخابات العراقية واشتراع الدستور الجديد، أصرَّت الأكثرية الشيعية على تأسيس القوانين على الشريعة وعلى الأخصّ في مجال الأحوال الشخصية. هكذا ذكر الشيخ كاشف الغطاء وآخرون عن عملوا ويعملون في التأثير على صياغة الدستور والقوانين. ولذلك فسيظل رجال الدين الشيعة والسنة يتحكمون وحدهم تقريباً في مسائل الزواج والطلاق والإرث والوصاية على الأطفال وحقوق المرأة. وقد وقع الأميركيون المسيطرون في العراق اليوم بين تناقضين: احترام نتائج الانتخابات والعملية الديمقراطية من جهة، ومراعاة حقوق الإنسان الأساسية كما يفهمونها من جهةٍ أُخرى. وقد عبَّر بعض المسؤولين الأميركيين بالعراق عن خيبة أمله لهذه الناحية(15).

بيد أنّ هذه التطورات لا ينبغي أن توحيلَنا لنتائج أو استنتاجاتٍ سريعة أو متسرِّعة مفادُها أنّ التقليدية الإسلامية تقتضي الاحتفاظ بقدْرٍ من النزوع الثيوقراطي الذي يجعلُ من التعددية بعيدةَ المنال، ويفسح المجال للخيارات الابتسارية أو العنيفة. ذلك أنه يمكنُ ببعض التبصُّر والتعقُّل والإصغاء للمصالح الاستراتيجية إفساح المجال لتعدديةٍ ورحابةٍ من نوعٍ ما سبق للإسلام الكلاسيكي أن عرفهما. لكنّ هذه الصيغة التي ما تزال غامضة تفترقُ عن الحلّ الأتاتوركي العلماني العنيف أو الثوري الفرنسي قطعاً؛ كما أنها لا تتطابقُ والفصلَ الودود القائم بين الدين والدولة في التجربة الأميركية. إنني أستطيع أن أصوَّر حلاًّ إسلامياً مُشابهاً لما جرى في هولندا، حيث تحظى دياناتٌ وجماعاتٌ مختلفةٌ بمساعدة الدولة من الناحية المادية، وبالذات في المجال التربوي. والإمكانية الأُخرى التي يمكنُ تصوُّرُها نظامُ المِلَل الذي كان سائراً في الدولة العثمانية(وأُعيد إنتاجُهُ في الدولة العبرية المعاصرة مع تعديلات). وفي هذا النظام هناك فئةٌ مسيطرةٌ، لكنها تُشارك المجالَ العامَّ مع دياناتٍ ومذاهب أُخرى تتمتع باستقلاليةٍ وسُلُطاتٍ في مجال الأحوال الشخصية. ما أذهبُ إليه هنا ليس بعيدَ التصور بل تدلُّ عليه وثيقتان إسلاميتان هما إعلان القاهرة لحقوق الغنسان في الإسلام. والإعلان الإسلامي العالمي لحقوق الإنسان. صحيحٌ أنَّ الإعلانين يقولان بتفوق الدين الإسلامي في مجال حقوق الإنسان؛ لكنهما من جهةٍ أُخرى وفي باب "حقوق الأمكيات"، (الفصل العاشر) يؤكدان على أنه "لا إكراه في الدين" كما يؤكدان على الحريات الدينية والاجتماعية للجماعات الدينية الأُخرى، وحقّها في الاستقلال بأحوالها الشخصية. وهكذا فلا سببَ يدعو للاعتقاد أنّ "سيادة الشريعة" تعني التهميش للآخرين أو الضغط عليهم. يقول نوح فيلدمان في كتابه: "مابعد الجهاد، أميركا والكفاح من أجل الديمقراطية الإسلامية": "إذا كان كثيرون في الغرب يعتقدون أن لا ديمقراطية بدون فصلٍ بين الدين والدولة؛ فإنّ كثيرين في العالَم الإسلامي يجدون أنّ الشرعية الديمقراطية في مجتمعاتهم لاتتأمنُ بهذه الطريقة. ومن حسن الحظ أنه لاشيء في الديمقراطية يفرض الفصل بين الدين والدولة. ذلك أنَّ الحكم الديمقراطي يقوم على حرية الضمير والاعتقاد، وهما الأمران الضروريان لثبات النظام وتطوره. وإذا كانت الديانةُ السائدةُ لا تضطهد الآخرين ولا تهمّشُهُمْ دينياً أو بدوافع دينية، وتنحفظ حقوق مواطنتهم؛ فإنَّ الإسلام يتلاءمُ بسهولة "مع الديمقراطية"(16).

والذي أراهُ أنّ نوح فيلدمان مُحقٌّ في المبدأ. وهناك مفكرون مسلمون عديدون يقولون بالتعددية، ويؤسسونها على المبادئ الإسلامية، وليس على الميراث الغربي. بيد أنّ المشكلة أنّ هؤلاء مايزالون قليلين، وما تزال أصواتهم غير مسموعةٍ لدى الجمهور المسلم الأَوسع. وتتحدث جوسلين سيزاري عن مشكلة الجاليات الإسلامية بالغرب المعاصر، وأنهم يواجهون قضايا جديدة(17)، كما أنهم يشعرون بالغربة والتهميش، فتتصاعد لديهم الميول الأصولية(18). وترى سيزاري أن الشأنَ في الإسلام، مثل الشأن مع الكاثوليك والبروتستانت والذين تطورت لديهم تقاليد وممارسات للفردية والشخصية الإنسَانيّة والديمقراطية والتعددية تحت وطأة التطورات وقضايا الحداثة والعصرنة. ويوشكُ هذا الأمر أن يحدثَ لدى المسلمين، لأنهم يواجهون الظروف نفسَها وإنْ اختلفت التجربة التاريخية. وتسمّي سيزاري هؤلاء المسلمين الذين تثير لديهم الحداثة تلك الأفكار التطويرية منذ القرن التاسع عشر: الأقلية الصامتة(19)، وتأمل أن يصبحوا أكثر إفصاحاً وجرأةً وشعبية. ولقد سبق أن ذكرتُ تأثيرات النظام الأميركي على المفكرين الكاثوليك مثل جون كورتني موراي. لكنّ الإسلام يختلف عن الكاثوليكية في أنه لا يملك هرميةً مركزيةً إذا تعصرنت تعصْر ممارساتُ المتدينين؛ فهل يمكن أن يكون هناك مجمعٌ إسلاميٌّ على شاكلة مجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965م)؟! إنّ الأَولى والمأمولَ حدوثُه داخل الإسلام ربما يكونُ نتاجَ عمليةٍ طويلةٍ المدى بدأت قبل مدة، ويقومُ بها مسلمون يعرفون الغرب بعمقٍ، ويستطيعون الإيضاح لإخوتهم المسلمين فوائد الانفتاح وهجران الخصوصيات الضيقة، وأنّ ذاك الانفتاح والتسامح يتلاءمُ مع دينهم فكراً وممارسة.

**************************

الهوامش:

*) أستاذ الدراسات الدينية بجامعة ماريلاند – الولايات المتحدة.

1) يفضِّل جيف سبنَّر هاليف نموذجاً آخر للمقارنة استناداً لدراسته للهندوسية، ويقوم على التفرقة بين الأديان القائمة على حرية الضمير، والأخرى القائمة على الشعائر والسلوكات العملية.

2) سيد حسين نصر: Islamic Life and Thought,2001, P.7, 14.

3) ديفيد أوبريان في مقالةٍ بعنوان: "قرن من التفكير الاجتماعي الكاثوليكي، في كتابٍ لجون كولمال عن ذلك (1991).

4) المصدر نفسه، ص22-24.

5) روايه، في: المعجم الكاثوليكي للفكر الاجتماعي، ص623.

6) مقالة لبرايان هاهير في كتاب كولمان السالف الذكر، ص63.

7) المصدر نفسه، ص59-61.

8) الاقتباسات عن جيروندي استقيتُها من كتاب Walger عن التفكير السياسي اليهودي، الجزء الأول: السلطة، 2000.

9) موسى بن ميمون: مشنا توراه، قوانين الغصب والأملك المفقودة، م5/ص14.

10) ولزر، ص451.

11) اقتباس من كتاب ولزر لمقالةٍ كتبها أو فاديا هدّايا، ص477.

12) ولزر، ص473.

13) ولزر، ص475.

14) أصلان، في مقالةٍ عن مستقبل التعددية في العالم الإسلامي؛ بالكتاب السفوي للتربيةِ، 11-14 (2005).

15) مقال لفرناز فصيحي في دول ستريت جورنال عن المرأة العراقية وقضاياها في العهد الجديد (9 مارس، 2005).

16) أخدت الإعلانيين الإسلاميين عن الانترنت في الترجمةالانجليزية الرسمية لهما.

17) جوسلين سيزاري في كتابها عن المواجهة بين الإسلام والديمقراطية (2004) ص45.

18) قارن بمقالةٍ جوول ستريت جورنال لأيان جونسون وجون كاريو عن المسلمين وأوروبا، 11 يوليو، 2005.

19) جوسلين سيزاري، المرجع السابق، ص46.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=328

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك