المواطنة والقومية والتعددية الثقافية

المواطنة والقومية والتعددية الثقافية

رضوان السيد*

1

نوقشت المسائل التعددية والاندماج في سائر بلدان الوطن العربي خلال القرن العشرين وبخاصة بعد الحرب العالمية الأولى. وكان للبنان حظ وافر في ذلك، بسبب التنوع في تركيبته السكانية، والدينية، والثقافية. وعلى حواشي الصراع على السلطتين السياسية والاقتصادية، ظهرت شعارات استندت إليها سائر الأطراف كأدوات في عمليات التحشيد والجمع والطرد والاستعباد، وكان من ضمن تلك الشعارات التوحدية في الأصل: العيش المشترك (المسيحي/الاسلامي) والتلاقي الاسلامي/المسيحي، والعروبة، أو بالعكس الفينيقية أو المتوسطية.

المسلمون في لبنان اعتبروا وطناً عربياً خالصاً، كما اعتبروا شعبه شعباً واحداً وإن اختلف الدين. فالمسيحيةُ الشرقيةُ عربية، والمسيحيون اللبنانيون والسوريون والفلسطينيون عربٌ أقحاح. ولذلك لا داعيَ للتفرقة الثقافية أو السياسية. بيد أنّ النُخَب الثقافية المسيحية خشيتْ على مواقعِها من هذه التسوية الاندماجية، فخاضت في نظرياتٍ حول الخصوصية السورية أو اللبنانية الفينيقية والكنعانية والمتوسِّطية، أو أنّ لبنان منفصلٌ بالجبال الشرقية عن سورية، أو أنه وطنُ الحريات وملجؤها وملاذُ الأقليات عبر التاريخ –وهي الأقلياتُ التي لاذت بجبال لبنان هرباً من الغَلَبة العربية أو الإسلامية. وبلغ الأمر بالأب سليم عبو(الذي صار رئيساً للجامعة اليسوعية في التسعينات) أن ألَّف كتاباً(1959م) عن الثُنائية اللغوية أو اللسانية، ذهب فيه إلى أنّ الخصوصية المسيحية/ اللبنانية تجلّت لغوياً عندما تحدث المسيحيون عبر التاريخ بلغاتٍ هي دائماً غير اللغة العربية! ومع الانزياحات الاستراتيجية الهائلة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، استقرَّ الوعي العربي/ الإسلامي لدى النُخَب القومية العربية، وهو القائل بوجود الأمة الواحدة والشعب الواحد، ولا يسمح لا بتنوعٍ ولا بتعددية. وما خدمَ هذا الوعي القومي الصعود السياسي لفكرة القومية العربية ومشروعها في المشرق العربي فقط؛ بل خدم أيضاً الإسلامية السياسية التي كانت تحمِلُ على الغبن الواقع بالمسلمين ضمن النظام الطائفي اللبناني. وهكذا ففي حين نشأت عصبويات طائفية مسيحية لحماية استقلال لبنان من المدّ القومي العربي، وحماية موقع المسيحيين المتقدم في الكيان اللبناني، أصرَّت النُخَب اللبنانية العربية والمتعربة على "العيش الواحد"، وعلى اعتبار لبنان جزءًا من الأمة العربية الواحدة؛ ولذلك فقد جرى احتضانُ الأحزاب والتيارات القومية العربية من البعث إلى القوميين العرب إلى الناصرين، وبعد انكسار مصر وسورية عام 1967م دخل الشبان القوميون واليساريون اللبنانيون ضمن فصائل المقاومة الفلسطينية التي كانت تستوعبُها منظمة التحرير بزعامة ياسر عرفات؛ باعتبار القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للعرب، واعتبار لبنان ساحةً مثاليةً لمصارعة إسرائيل.

ولا يمكن الزعْمُ طبعاً أنّ النزاع الداخليَّ اللبناني الذي انفجر عام 1975م، كان سببه الصراع بين شعاري العيش المشترك والعيش الواحد، بل العبء الثقيل للقضية الفلسطينية على المجتمع السياسي اللبناني. زالمشكلات اللبنانية الداخلية، ومن ضمنها الأفكار المختلفة حول هوية لبنان والتزاماته. بيد أن اختلاف التصورات حول التعددية الممكنة وغير الممكنة أدّى دورا بارزا ولا شكّ في شلّ الإرادة السياسية، وبالتالي تعطيل قدرة السلطة السياسية على التحرك بأيّ اتجاه. وفي الحرب الأهلية اللبنانية –كما في كلّ الحروب المشابهة ومنها الحرب الأسبانية، والنزاع في اليونان وعليها بعد الحرب الثانية، ونزاعات البلقان في الثمانينات والتسعينات- استُخدمت كلُّ أنواع الأسلحة الباردة والساخنة. وقد أضرَّ ذلك ولا شكَّ بفكرة التعددية السياسية لدى القوميين في البلاد العربية، ومنها لبنان. كما أن المخاوف ازدادت عند خصومهم. فمثلا في لبنان حتى العلمانية التي هي فكرةٌ اندماجيةٌ في الأصل، استخدمها الأيديولوجيون المسيحيون للحفاظ على الترتيبات الطائفية الباقية في الكيان اللبناني منذ أيام الفرنسيين. قال دُعاة الحركة الوطنية اللبنانية من القوميين واليساريين بإلغاء "الطائفية السياسية". وردَّ عليهم المسيحيون بأنه إمّا العلمانية الكاملة(التي لا يقبلُها المسلمون) وإمّا الإبقاء على النظام كما هو. وما جرت بعد وقائع منتصف السبعينات نقاشاتٌ جادّةٌ على الساحة اللبنانية حـول التعـايش الوطني من ضمن التعددية الثقافية والسياسية. فحتى في اتفاق الطائف، بقيت الترتيباتُ الطائفية، أو أنَّ التعددية ظلّت طائفية وليست سياسية؛ رغم نصّ الدستور الجديد على العيش المشترك، لكنْ الديني وليس السياسي - ومن هنا جاءت مقولة الرئيس سليم الحصّ أنَّ في لبنانَ كثيراً من الحرية، وقليلاً من الديمقراطية. وتحدَّث البطريرك الماروني- أمام عودة شعار إلغاء الطائفية السياسية- عن ضرورة إزالة الطائفية من النفوس قبل النصوص. وطرح البابا الراحل في السينودس المسيحي اللبناني، وفي زيارته للبنان(1997م) مقولته للعيش المشترك القائمة على أنّ لبنان أكثر من وطن، إنه رسالة؛ بسبب تلاقي الحضارتين المسيحية والإسلامية فيه.

2

قد لا تكون العودةُ إلى الوراء كثيراً مفيدةً فيما نحن بسبيله من قراءةٍ لمعضلات التعايش والوحدة الوطنية والتعددية في أوطان العرب ودولهم اليوم. فقد تغيّرت الأوضاع تغيراً كبيراً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة. وقد ضربْتُ فيما سبق لبنان مثَلاً للنقاشات التي دارت حتى السبعينات حول تصورات المجتمع والدولة والمجتمع السياسي. لكنّ لبنان يبدو لمراقبين وباحثين كثيرين حالةً خاصةً لا يمكن تعميمها، ولذا فالسؤال الآخر الحقيق بالطرح: هل اسهمت اندماجية الفكر القومي القاسية في بعث انقسامات طائفية وإثنية كالتي نشهدها اليوم في العراق وسورية ولبنان وبلدان عربية أخرى؟ وما دور الأديولوجيا الاندماجية هذه في قيام الأنظمة التوتاليتارية في البلدان العربية؟ ثم ما هو دور الفكر القومي العربي في ضرب التعددية السياسية أ الأحزاب السياسية وإمكانياتها الديمقراطية في الأربعين سنةً الأخيرة؟ ما عرف الفكر القومي العربي منظّرين كباراً. ومع ذلك يمكن الحديث استناداً إلى أفكار ساطع الحصري وأنطون سعادة وميشال عفلق وزكي الأرسوزي، عن "نظرية قومية" أو تصور كوربوراتي(جمعي) للمجتمعات وانضوائها في الأمة دونما تمايُزاتٍ في منطقتنا. وأُسُس التصور هذا ثقافيةٌ ولغويةٌ وتاريخيةٌ بشكلٍ عام. لكنْ هناك ما يدلُّ على أنّ هذه التصورات ما أثَّرت كثيراً في الوعي العامّ، أو أنّ التمييز بين القومية الاندماجية، والأمة غير الاندماجية، ظلَّ قائماً. فالجمهور ظلّت الوحدة تُهمُّهُ أكثر مما يُهمُّهُ "الوعي القومي" الذي اعتبره الأيديولوجيون القوميون شرطاً ضرورياً للنهوض العربي العامّ. وقد توضّح الجدالاتُ بين البعثيين والناصريين في الستينات ما أقصِدُهُ بذلك. فقد تحدث البعثيون عن "وحدةٍ مدروسة"؟ في حين ركّز الناصريون على إيمان الجمهور العربي بالوحدة. ومع ذلك فإنَّ أساسَ التصورات المختلفة واحد، بمعنى أنّ الفريقين يعتبران الوعي الجامعَ الثقافيَّ والتاريخيَّ مسلَّمةُ لا يمكن تصوُّرُ غيابها وإلاّ لانقضت مقولةُ الأُمّة ذات الرسالة الخالدة. إنما هل يعترفُ القوميون بوجود "فئاتٍ" أو "طبقاتٍ" ضمن الأمة، بحيث يكونُ هناك منفذٌ أو تسويغٌ للتعددية السياسية أو الحزبية؟ يقول العقائديون القوميون بالفئات، وعندما صاروا يساريين في النصف الثاني من الستينات قالوا أيضاً بالطبقات. لكنّ الفئات أو الطبقات عند القوميين العرب، نُسَخٌ عن بعضها البعض، ولذلك لا داعيَ للأحزاب المتنافسة والمتصارعة، بل هناك ضرورةٌ للالتفاف حول الحزب القائد أو القائد الفرد الذي يتفرد بتمثيل مصالح كلّ الفئات. فالقائد في الفكرة العقَدية القومية في الديار العربية وفي العالَم أساسيٌّ لتحقيق المشروع القومي. ولذلك اتّحدت قوى الشعب العامل في التصور الناصري، كما اتحدت في الجبهة الوطنية التقدمية لدى النظام السوري. فالدليلُ على وحدة الشعب الكاملة وجودُ الحزب القائد، أو القائد ممثّل الجميع دونما حاجةٍ لحزب. إنما هل العَقَديةُ القومية مسؤولةٌ فعلاً عن الاندماجية السياسية في شخص القائد؟ الواقعُ أنّ الحرب الباردة، والعقائدية اليسارية أو التقدمية مسؤولةٌ أيضاً عن كوربوراتية التجربة السياسية العربية وشموليتها في العقود ما بين الخمسينات والتسعينات من القرن الماضي. وما أعنيه أنّ فَرَضية "المجتمع الاندماجي" كان يمكن أن تشجّع التعددية الحزبية أو السياسية، باعتبار أنه لا خوفَ من الانقسام. ويظهرُ هذا الأمر في حالة مصر أو المغرب، أكثر من سورية والعراق. لكنّ الذي حدث أنّ الاصطفافَ في الحرب الباردة، والذي تفاقَمَ منذ مطلع الستينات، شجَّعَ على اعتناق الأَوحدية من القيادة إلى القاعدة، وبخاصةٍ أنّ الاتحاد السوفياتيَّ أنتج أنظمةً على مثاله، وكان مستعداً لدعم النظام المنحاز إليه، بغضّ النظر عن سياساته الداخلية.

ولا يحب الباحثون المصريون إلحاق مصر بنموذج التطور هذا. فهم يتحدثون عن "الجماعة الوطنية" فيها باعتبارها تطوراً خاصاً في القديم والحديث ولمصر وحدها. وكما لا ينقسمُ المجتمع المصريُّ عندهم انقساماً طائفياً، كذلك لا تتأسَّسُ الأحزاب السياسية على أُسُسٍ طائفيةٍ شأن ما حدث بلبنان أو حتّى بالمغرب. أمّا ضَعفُ الحركة فلا يرجعُ فقط إلى أوحدية النظام السياسي؛ بل إلى درجة التطور والتنوع الاجتماعي والثقافي. فالحزب تُنشئُهُ الفئاتُ الحديثة، وهو مختلفٌ في الفكرة والبنية عن التنظيمات التقليدية في المجتمعات العربية والإسلامية. وقد كان حزب "الوفد" هو الأنجح قبل ثورة 23 يوليو1952م، لأنه ما كانت له بنيةٌ مغلَقةٌ شأن الأحزاب الشيوعية ثم الإسلامية.

ولنعُدْ مؤقتاً إلى مسألة العيش الوطني والوحدة الوطنية وإمكان التعددية الحزبية في ظلّ هذه المقولة. لدينا من المرحلة الماضية مقولة القذافي: "مَنْ تحزَّب خان". وللفكرة أو المقولة تعليلاتٌ في "الكتاب الأخضر"؛ بيد أنّ أُصول الفكرة تكمُنُ فيما يُظن في الموروث التقليدي العربي والإسلامي، أو إنّ هذا الوعي حديثٌ نسْبياً، لأنّ المجتمعات الإسلامية الوسيطة كانت تعي اختلافاتها، وتحقّق وحدتَها في شمولية الأمة، وتعددية التنظيمات الاجتماعية والثقافية تحت سقفها. وقد ظلّت فكرة الأمة عابرةً حتى للدول حين قامت على أرضها عدة إمبراطوريات مثل العثمانية والأوزبكية والمغولية. وبمعنىً آخر فإنَّ أحداً –حتى عصر عبدالحميد- ما رأى أنّ تعدد الدول يؤدي إلى انقسام الأمة، أو تعدد الطرق الصوفية، يؤدي إلى انقسام المجتمع، أو تعدد المذاهب الفقهية يؤدي إلى الانقسام الديني. في عصر عبدالحميد، جرى العملُ بوعي على "الجامعة الإسلامية" التي عَنَت شكلاً من أشكال التوحد بين الأمة(الإسلامية) والدولة(العثمانية)، شأن الأفكار القومية السائدة في أوروبا آنذاك. وبذلك كان هناك عملٌ على فكرة "القومية العثمانية" على أساس المواطنة، وليس التوحد الديني أو الإثني الذي لم يكن ممكناً لتعدد الشعوب والأديان داخل الدولة حتى مراحلها الأخيرة. ومع ذلك، فعندما تحطمت الدولة العثمانية أو بقاياها في الحرب الأولى، وأُلغيت الخلافة عام 1924م، ما سقطت فكرةُ الوحدة، لكنها صارت إثنيةً أو دينيةً أو جغرافية أو سياسية. وبذلك تغيرت وجهةُ الاندماج وحدوده، دون أن تتغير نزوعاته الجمعية شبه القومية.

3

في عام 1976م، أي في عزّ المرحلة الأولى من النزاع الداخلي اللبناني، أصدر النادي الثقافي العربي -أعرق النوادي القومية بلبنان وبيروت- كتاباً تضمن أعمالَ مؤتمرٍ عنوانه: "لبنان، العيش الواحد". وفي الوقت نفسه صدرت عن مؤتمر سيدة البير، وهو دَيرٌ مسيحيٌّ، وثيقةٌ تؤسِّس على "الاختلاف الحضاري" تعدديةً واسعةً في كلّ شيء، من الحياة السياسية وإلى التربية. والطريف أنّ القوميين واليساريين اللبنانيين كانوا يدعُون للديمقراطية المتأسِّسة على الوحدة المجتمعية؛ في حين كان المسيحيون يتجاهلون الشعار الديمقراطيَّ، ويعتبر متطرفوهم أنّ هناك مجموعتين شعبيتين وليس هناك شعبٌ لبنانيٌّ في الحقيقة، وإنما عيشٌ مشتركٌ في المجالات التي تُهمُّ الطرفين المتغايرَين. والواقع أنّ عامة المسيحيين ما كانوا انقساميين، وإنما كانت نُخَبُهُم القومية واليسارية كذلك. وجاءت الشعارات لتغطّي الأعمالَ الحربية الدائرة، والتي ما كان هناك اتفاقٌ على أهدافها أو أسبابها حتى بين أهل الصفّ الواحد. فقد بدأ النزاع بتحزب القوميين واليساريين لحماية المقاومة الفلسطينية؛ في حين كان السياسيون والحزبيون المسيحيون يعتبرون السلاح الفلسطيني عملاً من أعمال الخروج على الدولة، واستدراجاً لإسرائيل لغزو لبنان وتخريبه.

لكنْ، كما سبق القول؛ فإنّ لبنانَ حالةٌ خاصّةٌ لا يصحُّ القياسُ عليها في ذاك الوقت، ولا في هذا الوقت. وإنما كانت البيئةُ الفلسطينيةُ في لبنان، حيث تجمعت فصائلُ منظمة التحرير، هي الممثّلة حقاً للتوجهات القومية واليسارية وحتّى الإسلامية السائدة في الوطن العربي في السبعينات. وقد تجمعت في "فتح" كبرى المنظمات الفلسطينية ثلاثة أجنحة أحدها إسلامي والآخر قومي والثالث يساري. المعروف أنّ مؤسّسي حركة "فتح" الكبار، كانت لأكثرهم ميولٌ إسلامية أو أنهم في الأصل أعضاء في حركة الإخوان المسلمين، إمّا لأنهم تأثروا بها في مصر في زمن وجودها وعملها(حتى العام 1954م) وإما لأنهم انضموا إليها أو تعاطفوا معها في الكويت في الخمسينات والستينات. وأذكر أنني سمعتُ في أَوساط فتح بالذات، وللمرة الأولى، نقاشاً في التعددية أو التنوع(عام 1977م). كان هناك رأيٌ يقول إنه لا حاجة إلى التعدد والتنوع والاختلاف مادامت المشكلة واحدة وغير خلافية: تحرير فلسطين. ثم يُوردُ هؤلاء أدلةً من القرآن والسنة على حُرمة الاختلاف. ثم يعودون لذكر نماذج من الاختلاف المذموم في مقولات التنظيمات الفلسطينية الأخرى. لكن كان هناك من قال أيضاً(وإن كانوا قلة) إنّ التعددية السياسية لا خَطَرَ من ورائها، ثم إنها تمثّل المصالح المشتركة التي يختلف نَظَرُ الأفراد فيها، كما تختلفُ مصالح الفئات، فتظهر الحاجة لأحزابٍ وتنظيماتٍ متعددة. بيد أنَّ الخَطِرَ هو التعددية الثقافية التي تعني إنقسام الشعب والأمة. وهذا المنطق هو منطقُ الإسلاميين المعتدلين، الذين حملوا اسم تيارات الإسلام السياسي بعد السبعينات. لكنْ في الوقت الذي نتحدّث عنه ما كانت هناك أحزابٌ إسلاميةٌ مشروعةٌ إلاّ في الأردنّ. وما كان الإخوان المسلمون الأردنيون آنذاك أصحابَ نظريةٍ في التعددية السياسية؛ لكنهم خاضوا الانتخابات، وكان لهم ممثّلون في البرلمان، ووزراء في الحكومة. أما الإخوان المسلمون المصريون فقد أبَوا دائماً اعتبار أنفسهم حزباً، وأصُّروا على التسمية بجماعة الإخوان المسلمين. ويعودُ ذلك إلى العام 1952/1953م حينما شاركوا في ثورة يوليو مع الضباط الأحرار، وكافأتْهم الثورة في شهورها الأولى بعدم حظرهم كما حظرت سائر الأحزاب، باعتبارهم جمعيةً دَعَويةً دينيةً وخيريةً وليست حزباً سياسياً. وفي العام 1954، وبعد حادثة المَنْشية بالإسكندرية، والتي حاول فيها محمود عبداللطيف العضو بالتنظيم السري للإخوان اغتيال جمال عبدالناصر، جرى حَظْرُ الجماعة، والقبض على المعروفين للبوليس المصري من أعضائها، وما تزالُ محظورةً حتى اليوم؛ وإن تكن تطوراتٌ كثيرةٌ قد استجدّتْ منذ مطالع السبعينات من القرن الماضي. وما جرى للإخوان، أو أكبر جماعات الإسلام السياسي في الوطن العربي، جرى على التنظيمات المشابهة في سائر أنحاء البلاد العربية، باستثناء الأردنّ. لكنْ أيضاً كان هناك توافقٌ بين سائر الجماعات الإسلامية في الخمسينات والستينات بل والسبعينات، على أنّ التعددية الثقافية، محرَّمةٌ دينياً، وأنّ التعددية السياسية إن لم تكن محظورة، فهي محوطةٌ بالكراهية. فالله -سبحانه وتعالى- يقول: ﴿إنّ هذه أمتكم أمةٌ واحدةٌ وأنا ربكم فاعبدون﴾. ومفرد الحزب يَرِدُ في القرآن دائماً في معرض الذمّ أو السلْب. إنما المهمُّ هو الأساس، أي العقيدة والثقافة. والعقيدة واحدةٌ فينبغي أن تظلَّ الأمةُ واحدة، وكذلك الدولة والمجتمع. وقد كانت هناك حيرةٌ في مسألة التعددية الدينية. فقد أقرَّ القرآن وجودَ اليهود والمسيحيين في المجتمع الإسلامي، وهم مُغايرون للمسلمين دينياً وثقافياً. وقد واجه الإخوان المسلمون المصريون والسوريون هذا التحدي التاريخي بأشكالٍ مختلفـة. وقد مال الإخوان السوريون بزعامة مصطفى السباعي، والذين تمتعوا ببعض الحرية والمشروعية فيما بين الاستقلال السوري والوحدة عام 1958م، إلى إقرار التعددية الدينية، على أن تكون القيادةُ في المجتمع للإسلام باعتباره دينَ الأكثرية. لكنهم شأنهم في ذلك شأن القوميين العرب- ما اعتبروا التعددية الدينية تعدديةً ثقافية؛ بل اعتبروا أنّ المسيحيين العرب هم أقرانٌ للمسلمين في الثقافة، ولا مبرر لنشوء جماعات ثقافية مسيحية أو أحزاب سياسية مسيحية. وقد تأثر الإخوان المسلمون الأردنيون والفلسطينيون بالتنظير السوري؛ بينما تأخر الإخوان المسلمون اللبنانيون(سمَّوا أنفسهم منذ العام 1963م: الجماعة الإسلامية) في التنظير للتعددية حتى الثمانينات، وتحت تأثير الاجتهادات المصرية. والواقعُ أنّ هذا الموروث الاندماجي أو الدمجي في بلاد الشام، ومن جانب القوميين والإسلاميين، سبق إليه وأثَّر في الآخَرين تقي الدين النبهاني مؤسِّس حزب التحرير، الداعي لإحياء الخلافة، والقائل منذ العام 1953م بإدانة التعددية الثقافية والسياسية. وعندما سمَّى جماعتَهُ حزباً، ظلَّ يعتبر الحزبَ حزبَ الخلافة، ويحرّم فكرة الديمقراطية أو مبدأها القائل بحجية الأكثرية أو سلطتها. إذ لا شرعية لأيّ سلطة –من وجهة نظره- إلاّ لسلطة الخلافة، والتي تُكسَبُ بالبيعة وليس بالانتخاب أو بالاقتراع.

4

ما كانت للإخوان المسلمين بمصر تجربةٌ إيجابيةٌ مع النظام السياسي المصري، لا في العهد الملكي ولا في العهد الجمهوري. ولذلك ظلَّ موقفُهُم من التعددية الثقافية والاجتماعية والسياسية متردداً أيام الملكية، وسلبياً أيام جمال عبد الناصر. ويظهر ذلك على خير نحوٍ في الكتابات السياسية لحسن البنا وعبدالقادر عودة وسيد قطب، ومنذ الأربعينات وحتى أواسط الستينات. وما كان حسن البنا يميلُ كثيراً للتنظير، ولا يحبُّ الصِدام مع النظام السياسي المصري. لكنه وجد نفسَه دائماً في مواجهة حزب الأغلبية، أي حزب الوفد. ولذلك ظلَّ موقفُهُ من فكرة الأغلبية أو الجماعة(رغم اسم جماعته) غامضاً أو متأرجحاً. فالواضح أنّ مفرد "الجماعة" تاريخياً هو المضادّ لمفرد "الفتنة"، وقد عنى في سياقاتٍ كثيرة: الإجماع. ثم ينبغي أن لا ننسى أنه يقترن بالسنة في التعبير عن الأكثرية الساحقة للمسلمين منذ تسعة قرون: أهل السنة والجماعة. وهكذا فقد كان هناك وعيٌ عميقٌ لدى هذه المجموعة الإحيائية الكبيرة أنها تمثّل الإسلام في مصر، ثم في المشرق العربي بعد أن انتشرت فروعها في سائر أنحائه. لكنْ في الواقع السياسي، وواقع الأنظمة، ظلّت الجماعة أقليةً مهمَّشة، وتؤثّر في ثقافة الجمهور ووعيه الديني والتربوي، أكثر مما تؤثّر في وعيه وتصرفه السياسي. ومع ذلك فقد كانت جماعة الإخوان المسلمين جماعةً حديديةً في التنظيم، وأثّرت صلابتُها في كل التنظيمات الإسلامية اللاحقة التي قامت جميعاً على مبدأ الطاعة للأمير وولي الأمر؛ وهو في العادة رأس الجماعة أو مؤسِّسها. وفيماعدا الأردنّ حيث كان الولاء مزدوجاً للملك ولمرشد الجماعة؛ فإنه في سائر البلاد العربية، كانت البيعةُ للأمير أو رأس الجماعة. وبذلك فبالإضافة للعقدية الدينية، التي لا تشجّع على التعددية، ما كان الواقع السياسي يشجّع على ذلك، ثم أُضيفت إليه عقائديةُ المشروع السياسي الذي اكتمل في الستينات من القرن الماضي: الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة، وليس لدى الإخوان المصريين فقط؛ بل ولدى سائر جماعات الإحياء في الوطن العربي، ولدى الجماعة الإسلامية بباكستان، أكبر جماعات الإحياء خارج الوطن العربي.

ومع أنّ انتكاسة الستينات العَقَدية والسياسية، نالت من الإخوان المسلمين السوريين أيضاً؛ فإنّ التجربة الإيجابية مع النظام السوري في الخمسينات ظلّت مؤثّرةً في بعض قادتهم، وأبرزُ هؤلاء الأستاذ محمد المبارك، الذي تجرّأ على التنظير للتعددية السياسية، مع استمرارٍ في إدانة وإنكار التعددية الثقافية. وما حدثت النقلة التدريجية لدى الإخوان المصريين إلاّ بعد أواسط السبعينات، بعد أن انفجر الصراع بينهم وبين جماعات التطرف المنشقّة في أكثرها عنهم بسبب الموقف من النظام المصري، ومن استخدام العنف. ما قال الإخوان المسلمون المصريون صراحةً بشرعية النظام القائم. لكنهم حرَّموا العنف وسفك الدم، ورفضوا الانقلاب العنيف، وأظهروا رغبةً بالمشاركة في الانتخابات، دونما تنظيرٍ صريحٍ للتعددية السياسية أو الحزبية. وفي أواخر السبعينات بدأ عدةُ كُتّاب- ذوو أصولٍ إخوانية أو إسلامية- التنظير للاختلاف والتعدد، واستناداً إلى القرآن، بعكس ما كانوا قد استنتجوا في السابق. فالطبيعة –بحسب محمد عمارة وفهمي هويدي ومحمد سليم العوا- متعددة، والبشر مختلفون في الطبائع والأديان والثقافات، وهذا التنوع الاجتماعي والثقافي يُنتج تعدديةً سياسية؛ ومع ذلك يظلُّ المجتمع واحداً. ولمصر بحسب كثيرٍ من الكتّاب الإسلاميين خصوصيةٌ في وحدة مجتمعها في التاريخ والحاضر. ولذلك يمكن القول بجماعةٍ وطنيةٍ(طارق البشري) إنما على أساس المواطنة، بالتوحد الثقافي، والتعدد الديني والسياسي. ومع أنّ الإخوان بمصر لم يتخلَّوا عن أُطروحة الدولة الإسلامية التي تطبِّقُ الشريعة؛ فقد أمكن لهم التحالُف على التوالي مع حزب الوفد ثم حزب العمل –وهما حزبان مشروعان- وإيصال العشرات من أعضائهم للبرلمان المصري. وفي العام 1994م أصدروا وثيقةً صرَّحت بالدعوة للديمقراطية؛ لكنهم ما لبثوا أن تراجعوا عنها أو تجاهلوها، مما دفع عدداً من شبانهم للانفصال ومحاولة تأسيس حزب "غير ديني" كما قالوا تحت اسم: حزب الوسط. وكما لم تعترف الدولةُ المصرية حتى اليوم لهم بالحقّ في إنشاء حزب سياسي، باعتبار أنهم جماعةٌ دينيةٌ والدستور لا يُقرُّ قيام الأحزاب على أساس ديني؛ فكذلك لم تعترف بحزب الوسط لأسباب متنوعة. وفي العام 2002م عادوا لإصدار وثيقةٍ ثانيةٍ تقول بالدولة المدنية، وبالتعددية السياسية والحزبية. وحاولوا في العامين 2004و2005م الدخول إلى المشهد السياسي المصري دونما تحالفاتٍ عن طريق إصدار البيانات السياسية، ثم القيام بتظاهراتٍ من أجل الحريات السياسية أو النقابية أو ما يجري في فلسطين والعراق أو من أجل إسقاط أحكام الطوارئ أو تعديل الدستور على مشارف انتخابات الرئاسة المصرية. لكنهم في إحدى التظاهرات قاموا برفع المصاحف، ثم في مفاوضات أحزاب المعارضة أخيراً على التحالف في وجه الحزب الحاكم أصُّروا على التمايز بشعار: الإسلامُ هو الحلّ! وقد استطاعوا في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، ورغم إجراءات النظام القاسية ضدَّهم، إيصال حوالي المائة عضو إلى البرلمان، وكانت تلك مفاجأة كبرى، ما غطَّى عليها التحشُّد الأمني والسياسي من حول صناديق الاقتراع؛ بل ظلّت ظاهرةً "غلاّبة" تخطف الأبصار، وتثير الرعب لدى الأنظمة والأحزاب غير الدينية.

ويستمر الإخوان المسلمون السوريون في إصدار بياناتٍ من المنفى تقول بالحرية والديمقراطية والتعددية، لكنْ ليس من المعروف كيف تجري التطورات بداخل تنظيمهم بعد الصدام المروّع لهم مع النظام السوري بين العامين 1978و1983م، والذي سقط فيه عشرات الألوف من الضحايا، وذهب بنتيجته عشرات الألوف إلى المنافي. وكان زعيمهم البارز سعيد حوى قد حمل وقتها على العلمانية والطائفية والطغيان والديمقراطية معاً! وقد شارك الإخوان المسلمون اللبنانيون في الانتخابات النيابية بعد نهاية النزاع الداخلي، ولزعيمهم الآن الشيخ فيصل مولوي آراء معتدلة في التعايش الوطني، وفي الديمقراطية. لكنهم ما عادوا يصرحون بشيءٍ حول مسألة الدولة والشرعية والنظام والمجتمع المتعدّد. وكان زعيمهم التاريخي فتحي يَكَن قد قال بإمكان المشاركة في الانتخابات النيابية، لأنّ النائب يستطيع أن يظلَّ معارضاً وناقداً دائماً؛ لكنْ ليس بالوسع المشاركة في الوزارة لأنّ معنى ذلك الإقرار بشرعية النظام بدون تحفظ! أمّا الإخوانُ المسلمون الأردنيون، والذين كانوا يشاركون في النظام دونما تنظيرٍ كثيرٍ؛ فقد تحطمت وحدتُهُم وعلاقتُهُم بالنظام على صخرة قضية فلسطين، ومصالحة النظام مع إسرائيل، والافتراق الظاهر بين الفلسطينيين والأردنيين في صفوفهم. وقد بدت حماس وهي في الأصل من نتاج إخوان الأردن حتى قبل ثلاثة أشهر من الانتخابات الفلسطينية- ممزَّقة بين المشاركة في العملية السياسية، ومتابعة النضال المسلَّح ضدّ الاحتلال الإسرائيلي. وقد سمعْتُ محمود الزهّار أحد زعمائها يقول في برنامج تلفزيوني تعليقاً على وثيقةٍ توافقت عليها تنظيماتٌ فلسطينيةٌ بشأن الانتخابات آخِرَ العام الماضي إنّ أحد بنودها الذاهب إلى تحييد المساجد، يعني عدم إمكان القول بالولاء والبراء! ولا تعددية سياسيةً أو غيرها مع هذا المبدأ الذي يشدّد عليه السلفيون، والذين سيطر فكرهم وسلوكهم على عقول وقلوب كثيرين من الإخوان بفلسطين والأردنّ واليمن في العقدين الأخيرين. والمعروف أنّ حركة حماس شاركت في الانتخاب الفلسطينية، وحصلت على الأكثرية في البرلمان بفارقٍ كبير عن فتح في حين رفضت حركة الجهاد الإسلامي المشاركة. وسيكون لنجاح حماس الانتخابي تأثيره على رأيها في الديمقراطية حتى لو لم تنجح حكومتها في البقاء في سُدّة الحكم.

وتبدو تجربة حسن الترابي بالسودان متميزة ومتمايزة. وقد تكون أكثر التجارب سلبيةً على الإسلاميين إلى جانب تجربة الجزائر. فالإسلاميون الجزائريون لم يصلوا للسلطة، أما حسن الترابي فقد شارك في السلطة أيام النميري وسمّاه أمير المؤمنين، ثم شارك في الانقلاب على التجربة الديمقراطية (1985-1989م) مع الضباط، وساد في النظام هناك حتى مشارف العام 2000م. وقد أيدَ تجربة الحزب الواحد، أي حزبه هو، وخاض حرباً عنيفةً ضد المتمردين بجنوب السودان على أساس الأوحدية الدينية والسياسية. وفي أواخر التسعينات مال فجأةً للتفاوض فالتحالُف مع جون قرنق، ودخل بالتالي إلى السجن لدى تلامذته من العسكريين. وهو يقول الآن إنه يقودُ حزباً معارِضاً في نظامٍ يريده أن يكون تعددياً وديمقراطياً.

هناك تيارٌ رئيسيٌ إذن لدى سائر الإسلاميين في الوطن العربي. وهذا التيار ضدّ العنف، وضدّ الديكتاتورية. وتتراوحُ شعبيتُهُ بين الـ30والـ40% من أصوات الناخبين في عدة بلدان. لكنه لا يملِكُ في الأعمّ الأغلب رؤيةً متناسقةً ومقنعةً للعيش الوطني، والتعددية الثقافية والسياسية. وهذا التيار لا يشكّلُ بالتأكيد قوةً تغييريةً مستقبلية، لكنه يتجه إلى أن يكون ربما مثل الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أوروبا بعد الحرب الثانية. ولا شكّ أنّ هذه النتيجة بعد خمسين سنةً من النضال، مخيِّبةٌ للآمال.

5

انهمك المثقفون العرب خلال التسعينات من القرن الماضي في مصارعة أطروحتي نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما، وصراع الحضارات لهنتنغتون. والواقع –رغم الاختلاف الظاهر بينهما- أنّ إحداهما تكمل الأُخرى. فالأولى تقول بالانتصار الكاسح للديمقراطية الليبرالية، والثانية ترى أنّ هناك بؤراً متخلّفة ومختلفة قد تكون ما تزالُ تشكّلُ عقبةً أمام هذا الانتصار، وفي طليعتها الكونفوشيوسية/ البوذية(الصين واليابان ودول الشرق الأقصى) والإسلام(والذي يملكُ تخوماً دموية). وبذلك فقد قال هنتنغتون بأنّ النزاعات مستمرة لكنّ طبيعتها تغيرت وصارت ثقافية! ثم إنّ العالَم المعاصر يتضمن ست أو سبع حضارات أو ثقافات باقية، وعمادُ كل واحدةٍ منها دينٌ معيَّن. ويمكن عندما نفهم أطروحة صامويل هنتنغتون على حقيقتها أن ندرك أسباب سُخط العرب والمسلمين عليها. إذ هي تتنبأُ بأنّ صراعاً عالمياً سينشب بسبب عدوانية الإسلام والمسلمين، وبذلك فإنها تجعل من المسلمين هدفاً للعدوان. لكنّ المشكلة كانت أنّ الإسلاميين العرب الذين سارعوا لمواجهة الأطروحة السطحية هذه، سبق لهم أن قضوا أربعة عقود وهم يذهبون إلى أنّ الصراع بين الإسلام والغرب صراعٌ حضاري! وهكذا فقد كانوا يغلِّبون –شأن المحافظين الغربيين- العوامل الثقافية في الخلافات والانقسامات. بينما الواقع أنّ الصراع الدائر ذا أبعادٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ واستراتيجية، ولا علاقة له بالدين أو بالثقافة. وعلى كل حال، فقد أجاب الإسلاميون بالتحدث مطوَّلاً عن بشاشة الإسلام وعدوانية الغرب. لكنْ ليس هذا هو ما يُهُّمنا هنا؛ بل ما أريد التوصل إليه أنه إذا كانت الصراعات تدور من الجانبين حول الثقافة والهوية؛ فإنّ ذلك يعني خلْق أجواء غير ملائمة للديمقراطية والتعددية. وربما كان ذلك وراء تراجُع الإخوان المسلمين عن أطروحتهم المعتدلة عام 1994م. ومنذ العام 1998م ما نزال تحت وطأة "القاعدة وأطروحتها" وهجماتها، والردود والمبادرات عليها، وكلُّها تجري تحت شعار الإسلام، أي أنّ المقاتلين يذكرون أنّ دوافعهم إسلامية، وأنهم يردُّون على العدوان الصليبي أو اليهودي- كما أنّ الأميركيين والبريطانيين بل وكل الأوروبيين، يقولون إنهم إنما يردُّون عسكرياً وثقافياً على الإسلام المتطرف، ويريدون مساعدتنا على استعادة الإسلام المعتدل. وفي كل الأحوال، وكما سبق القول، هناك فئاتٌ معتبرةٌ من الجمهور ومن النُخَب الثقافية تعتبر أنّ الأميركيين والأوروبيين إنما يمتهنون الإسلام ويهاجمونه، أياً تكن دعاويهم وفي ظروف "الخطر" يصعُبُ الانفتاح أو تصعُبُ الاستراحةُ إلى التعدُّد الذي يُظَنُّ أنه يتهددُ الهوية ويتهدد الوحدة والاستقرار.

إن التعددية قد تكون سبيلاً للمزيد من الاختراق والانقسام؛ كما قال مسؤولٌ عربيٌّ رداً على برنارد لويس الذي كان يطالب بها. ولهذا فقد اتسمت حقبة التسعينات بالجمود. إذ الأنظمة في هدنة، والإسلاميون لا يعرفون كيف يتصرفون مادامت الديمقراطية موضع شكٍ كبير، والليبراليون والعلمانيون منصرفون لتجذير مقولة المجتمع المدني وممارساته. ولا شكَّ أنّ مقولة المجتمع المدني، تملك أبعاداً تعدديةً وديمقراطية، لكنها حملت معها شُبهة التغريب، ثم إنها لم تستطعْ أن تُضْعِفَ من سلطة الدولة أو تدعَمَ الأحزابَ السياسية.

ثم حدث انفجار 11 سبتمبر عام 2001م فتغيَّر المشهد تماماً، وخرجت المنطقة من الجمود، لكنْ إلى الكارثة. شنّت الولايات المتحدة وحلفاؤها، بل العالَمُ كلُّه حرباً على الإرهاب(الإسلامي). وغزت أفغانستان والعراق بحجة الإرهاب أيضاً. لكنْ إلى جانب الحرب الفعلية، أراد الأميركيون ثم الأوروبيون شنّ "حرب أفكار" تتمثل في نشر الحرية والديمقراطية والتعددية. واستناداً إلى هذا الهدف، الذي جرت من أجله اجتماعات كثيرةٌ بالغرب، وتحدَّث عنه آلافُ الكتّاب والباحثين، وأقبل المثقفون العرب –بتشجيعٍ من الدول- على إصدار الوثائق عن الإصلاح السياسي وعن التعددية والديمقراطية. ولأنه كان من ضمن البرامج المعدة الانتصار للإسلام المعتدل، فقد ظهرت دراساتٌ كثيرةٌ تضعُ الصورة المتشددة للإسلام على محكّ النقد والمراجعة. ولذلك فقد كان هناك من قال ليس بالتعددية السياسية فقط؛ بل وبالتعددية الثقافية. بيد أنّ الوقائع والآثار المهولة لغزو العراق، تركت تأثيراتها أيضاً، وبخاصةٍ ما حدث من انقساماتٍ فظيعةٍ بعد سقوط نظام الحكم العراقي؛ بحيث خاف كثيرون من ظهور الثُنائية السالفة: ديكتاتورية أو فوضى باسم الدين أو العرقية!

وما اعترضت غالبية المثقفين العرب على الأطروحة الأميركية بحدّ ذاتها. بل كان هناك من قال إنّ الأميركيين كاذبون، وهم يريدون بذلك تغطية غزوهم. وكان هناك من قال إنّ الحرية والديمقراطية لا تُفرضان؛ بل هما نتاج ظروف الداخل. وما يزال أكثر المثقفين العرب مصرين على أنّ الغزو الأميركي للعراق فشِل، ولن تقوم ديمقراطيةٌ أو ما يشبهها. لكنهم صاروا أكثر حماساً للتغيير السياسي، واتصلت نشاطات جماعات المجتمع المدني وحقوق الإنسان بالأحزاب السياسية. وقد برز أمران اثنان في السنوات الأخيرة: أنّ الإسلاميين تقدموا العاملين في المجال السياسي المدني العام لجهتين؛ لجهة قبول فكرة المشاركة في الانتخابات بأي شكلٍ، حتى لو لم تجاوز ضوابُطها الحدَّ الأدنى. والأمر الآخر: النقد والمراجعة، بمعنى أنّ الإسلاميين صاروا يطوّرون مواقفهم استناداً للتجربة، واستناداً للأخطاء أو نقد المقولات السابقة.

صحيحٌ أن هناك أُناساً من بينهم ما يزالون يتحفظون على "فلسفة" الديمقراطية، أي الليبرالية، باعتبارها تُسرف في تأليه الإنسان، وتسوّي بين الخطأ والصواب. لكنّ الأكثرين يرون أنه لا داعيَ لمثل هذه المماحكات، ما دام المقصود أن يتولى الناس تدبير أمورهم بأنفسهم وليس من طريق الطليعة الثورية أو ما شابه. وقد عاد جمال البناّ(في كتابه: التعددية في المجتمع الإسلامي) لقراءة المسألة من خلال تأويلٍ جديدٍ للقرآن. لكنّ راشد الغنوشي، زعيم الإسلاميين التونسيين لا يرى داعياً لذلك؛ بل المطلوب من وجهة نظره قيام المجتمع السياسي التعددي، الذي تتكامل فيه البرامج والمصالح. ولا حاجة للتدليل على قول الإسلام بالاختلاف في المسائل الفرعية، ممن قاموا بالحركة الأولى أواخر السبعينات إلى حدود القول من جديدٍ بمرجعية الجماعة بدلاً من الشريعة التي اعتنقها الإسلاميون منذ الستينات.

إننا نُطِلُّ في ما يتعلقُ بالتعايش الوطني والتعددية على مشهدٍ جديد. ويوشك الأمر للمرة الأولى أن يصل إلى حدود "العقد الجديد" بين الفئات الاجتماعية والأنظمة السياسية. لكنْ هناك مخاوف عميقة على الوحدة والاستقرار لها ما يبرّرها بسبب التصدعات التي تنزل بالمجتمعات عند انهيار الأنظمة السياسية أو تعرضها لمشكلاتٍ قاسية. ثم هناك الخوف من "الحماقة الأميركية" التي تكون على استعدادٍ بالأمس لغزو بلدٍ من أجل الديمقراطية، كما تكون على استعدادٍ اليوم لضرب بلدٍ آخر من أجل منعها. فلا شكَّ أنّ الدعوة الأميركية في برنامج "الشرق الأوسط الأوسع" أو "الشرق الأوسط الجديد" للديمقراطية ما أفادت شيئاً، وكذلك مساعدات المجتمع المدني، وجولات الدبلوماسية العامة. فالمرارةُ عميقةٌ في العقول والنفوس والأجواء، لما يجري بالعراق وفلسطين ولبنان، ومن تحول الديمقراطية إلى بُعْبُعٍ لتخويف الأنظمة، دونما عملٍ جادٍّ على السير نحوها. ونتائج الانتخابات بمصر وفلِسطين من الأدلة على ذلك.

ويبقى أنّ "الاعتدال الإسلامي" ضمن الإسلام السياسي، ما بلغ مرحلة الطليعية أو الريادة في مجال التعددية، ولماذا يفعل ذلك وهو فريق الأكثرية؟!

6

يجتاز الفكر الإسلامي المعاصر إذن، وفي العقدين الأخيرين من السنين، مرحلةً حسّاسةً من مراحل تطوره بعد تجاوز سنوات التشدد في السبعينات من القرن العشرين. وقد ظهرت مسألة "التعددية" مطلع الثمانينات باعتبارها قضيةً سياسيةً بحتة. فقد بدأ بعض الإسلاميين آنذاك، وفي مصر وباكستان وإندونيسيا، بالإقرار أو الاعتراف بالتنظيم الحزبي, وبتعدد الأحزاب، وبإمكان التنافس السلمي على السلطة. وما كان ذلك بالأمر السهل، بسبب الطبيعة العقائدية للفكر الحزبي الإسلامي، أو فكر التنظيمات الحزبية الإسلامية. ففي الخمسينات والستينات من القرن العشرين ظهرت نظرية الحاكمية على يد المودوي في المجال الإسلامي العام، وعلى يد سيد قطب في المجال العربي. وصارت تلك النظرية جوهر فكر الجماعات الإسلامية كلها. وهي تتلخّص في أنّ الإسلام هو دينُ الله في الأرض, ولذلك فهو المرجعية العليا في النظام الإسلامي كلّه. ومن هنا فالدولة الإسلامية الحقيقية هي التي تطبّق الشريعة التي تعني نوعاً من الحكم الإلهي المباشر أو النوموقراطية الدينية. وترتب على ذلك أنّ وظيفة الحزبيين الإسلاميين إنما تكمن في إعادة فرض الإسلام(بجوانبه الشعائرية والتشريعية والسياسية) في المجتمع والدولة. وقد انحصر الخلاف وقتها بين التنظيمات: هل"الخروج" على الشريعة يشمل المجتمعات الإسلامية التاريخية، أم الخارجة فقط هي أنظمة الحكم؟ المتطرفون قالوا بكفر المجتمع والدولة، و"المعتدلون" قالوا بكفر الدولة فقط! وعندما بدأ الإسلاميون في الثمانينات يعيدون النظر في التعامل مع الأوضاع السياسية في المجتمعات الإسلامية، ويقرّون بالتعددية السياسية، ما تخلّوا في البداية عن نظرية الحاكمية. فقد ظلت المرجعية العليا عندهم لله وشريعته، لكن اعتبروا الشأن السياسي شأناً تدبيرياً يمكنُ فيه للمصالح والاجتهادات في تحقيقها، أن تلعب دوراً محدوداً دون أن يعني ذلك التخلي عن الهدف النهائي المتمثّل في إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة. ولهذا فقد اعتبروا الديمقراطية شكلاً من أشكال التنظيم للقضايا التي تمسّ مصالح الجمهور، ولا تتصل بمسائل الحِلّ والحُرمة (الدينية). وعلى هذا الأساس أقر التيّار الرئيسي بوجود أحزاب مختلفة، ذات برامج مختلفة، تحت سقف الشريعة. وشارك هؤلاء في الانتخابات، وأقاموا تحالفات مع أحزاب لا تقول بتطبيق الشريعة. وكان ذلك تكتيكاً سياسياً بناءً على الفهم الجديد للعمل السياسي من جهة، ولتخفيف الضغوط الواقعة عليهم من أنظمة الحكم التي استفردت بهم، ومن القوى الأخرى في المجتمع، ولكي يستطيعوا التأثير في مجريات الأمور، بدلاً من انتظار الثورة الشاملة(مثلما حدث في إيران)، أو الانقلاب العسكري(مثلما حدث في السودان).

وتغيّر المشهد في التسعينات. فالنظام الإسلامي في إيران، نظام "ولاية الفقيه" تعرّض لتحديات من جانب الليبراليين الإسلاميين، الذين حظوا بأكثريةٍ شعبيةٍ في الانتخابات. واستمر الاضطراب في السودان رغم سيطرة إسلاميي الترابي على نظام الحكم هناك. ونشبت حربٌ أهلية في الجزائر بسبب حصول الإسلاميين على أكثرية في الانتخابات. وخروج الروس من أفغانستان عام 1989م ونشب صراعٌ بين تنظيمات المجاهدين على السلطة رغم قولهم جميعاً بالحاكمية. وفي مصر خرج شبابٌ من جماعة "الإخوان المسلمين", وحاولوا إنشاء حزب سمّوه "حزب الوسط" فيه مسلمون ومسيحيون. وهكذا تبيَّن للإسلاميين أنَّ الشأن السياسي ليس شأناً تدبيرياَ بحتاَ، بل له علاقة بفكرة المرجعية أو لمن المرجعية؟ للنصّ والشريعة، أم للجمهور والجماعة؟ تحدث شباب "حزب الوسط" عن المجتمع المدني, وعن "حقّ الاختلاف", وعن الاعتراف بالآخر ليس في السياسة وحسب، بل وفي الثقافة والدين أيضاٌ. وعمد الشيخ محمد مهدي شمس الدين, رئيس المجلس الإسلامي الشيعي في لبنان, إلى طرح فكرة "ولاية الأمة على نفسها", وتأصيلها فقهياً من الفكرين الشيعي والسّني. وعمد آخرون للمطالبة بفصل السياسة عن الشريعة، وليس الدين عن الدولة، وقالوا إنَّ هذا الفصل كان قائماً في عصور الإسلام الكلاسيكية. وعندما ظهرت المشكلة بين نصر حامد أبو زيد والإسلاميين المتشددين، تحدَّث أناس عن "حق الإنسان في تحديد خياراته، بما في ذلك حقه في الردَّة أو ترك الإسلام"! واستشهدوا على ذلك بوضع ابن الراوندي في القرن التاسع الميلادي. ودار نقاشٌ طويل بين أستاذ الفلسفة المصري حسن حنفي، وأستاذ الفلسفة المغربي محمد عابد الجابري حول التعددية وسبب اختفائها من الفكر الإسلامي؛ فذهب حسن حنفي إلى أنّ فكرة "الفرقة الناجية" التي تحملها الجماعات الإسلامية المعاصرة تعود في أصولها إلى الإسلام القديم والتيار الاشعري بالذات؛ بينما رأى الجابري أنّ الفكرة حديثة وسببها الطبيعة العقائدية للفكر الإسلامي الحديث؛ وإن تكن لها جذورٌ قديمةٌ في بعض الآيات والممارسات. وبذلك صار النقاش حول النصوص الإسلامية القديمة، والتجربة الإسلامية الوسيطة، وهل هي الأصل في مُعاداة التعددية الفكرية والسياسية اليوم، أم أنَّ عواصف الحداثة هي سبب المشكلة؟

****

شاعت في منتصف القرن الثامن الميلادي مقولةٌ لقاضي مدينة البصرة آنذاك عُبيد الله بن الحسن العنبري، ونصُّها: كلُّ مجتهد مُصيب! ومع أننا لا نعرف البيئة والظروف التي دفعت العنبري لتقرير ذلك أو الدعوة إليه، فالواضح أنَّ الرجل كان يحاول إزالة أسباب النزاعات الدائرة بالذهاب إلى نسبية الحقيقة، وبالتالي إلى جواز الاختلاف، وتعددية الخيارات. لكن: ما هو الخلافُ الجائز، وأين تقع الحدود الفاصلة بين ما يجوزُ وما لا يجوزُ الخلافُ فيه؟ الظاهر أنَّ العنبري كان يُجيزُ الخلاف في الأصول والفروع أو بعبارة أخرى في العقيدة, وفي الفقه. والذي يدلُّ على ذلك أنه ما كان هناك أحد يستنكر الاختلاف الفقهيَّ أي الاختلاف في الفروع؛ وهي الأمور المتعلقة بحياة الناس اليومية، والتي ليس فيها نص أو أنّ النصَّ يحتمل التفسيرات المتعددة. وهكذا فقد كان الاختلافُ أو التعدد الذي يُثير المشكلات يتصلُ بقضايا ذات الله وصفاته والقضاء والقدر, والكفر والإيمان، وأجل الإنسان والثواب والعقاب وكيف يتمَّان يوم القيامة؟ وحول هذه القضايا بالذات ظهرت فِرقٌ متعدِّدة مثل القَدَرية والجبرية والمعتزلة في حين أدَّت الخلافات السياسية إلى ظهور المحكمة والشيعة؛ الذين صارت لديهم أيضاً آراء عقائدية يميزون أنفسهم بها عن الآخرين. ولا شكَّ أنَّ سؤال "النجاة" أو سؤال "العقيدة الصحيحة" أو الأورثوذوكسية هو مؤدَّى كل تلك الاختلافات. لكن هل قال العنبري بذلك لإيمانه بنسبية الحقيقة، كما قدَّرنا، أم لاستحال المعرفة اليقينية في هذه الموضوعات الغيبية أو الميتافيزيقية؟ لا نعرفُ بالضبط ماذا كان يقصد؛ لكننا نعرف أنَّ خصومَه ردُّوا عليه بأن الحقَّ في واحد, أو بعبارة أخرى: من بين الآراء والاجتهادات الكثيرة، لا يمكن أن يكون صحيحاً غير رأي أو اجتهاد واحد. ومعنى ذلك أن الآراء والاجتهادات يمكن أن تتعدَّد؛ لكن عندما يصل الأمر إلى العمل، لا بد من الأخذ بقولٍ أو رأيٍ واحد. والرأي في هذه الحالة –حتى لو أخذنا به– لا يمكن أن يكون يقينياً، بل هو غَلَبةُ ظنٍ تُمَكِّن رغم نسبيتها من العمل. وواضحٌ أنَّ هذا لا يكون إلاَّ في الفروع أو في مسائل الحياة اليومية, وليس في العقائد التي تتطلب يقيناً، ولا تقبل الشكَّ أو التردُّد, أو الاجتهاد الذي يمكن أن يخطىءَ أو يُصيب.

كان العنبريُّ متفرداً في رأيه إذن حول نسبية الحقيقة. ثم ظهرت الأورثوذكسيات –كما يسميها محمد أركون– لدى سائر الفِرق الإسلامية، وبذلك شاع التفكير حتى داخل الفرقة الواحدة. بيد أنَّ الارثوذكسية السنية صارت الاتجاه الرئيسيّ في عهود السلطنات التركية، لدى السُّلطات ثم لدى الجمهور، وما يزالُ الأمر على ذلك حتى اليوم. ولا شك أنَّ الأورثوذكسية السنية كانت استيعابية إذ إنها لا تملك عقيدةً رسميةً مُجمعاً عليها داخل فئاتها. كما أنها تسمحُ بتعدديةٍ مقبولةٍ بداخلها. فحتى في المسائل الاعتقادية هناك أربعة توجهات معترف بها لدى أهل السنة: الأشعرية والماتريدية والسلفيون والصوفية. لكنها مارست(عبر المتكلمين والفقهاء) تكتيكات العزل والتهميش باستمرار. فحتى الغزالي، أكبر متكلمي الأشاعرة أواخر القرن الثاني عشر الميلادي وأوائل القرن الثالث عشر، والذي كتب رسالةً دعا فيها إلى عدم ممارسة التكفير من رسالةٍ في الهجوم على الباطنية. أما ابن تيمية، أكبر سلفيي القرن الرابع عشر الميلادي، فقد هاجم أكثر الاتجاهات المخالِفة لاعتقاده حتى في التفاصيل، بما في ذلك الأشاعرةُ والصوفية.

ويريد بعضُ مؤرِّخي الفكر الإسلامي تعليل تراجُع حظوظ التعددية الدينية لدى أهل السنة في العصور الوسطى المتأخرة إلى تعرض دار الإسلام للهجمات الصليبية ثم المغولية. بيد أنَّ ظهور أيديولوجيات الجهاد، وتقسيم العالم إلى دار إسلام، ودار حرب، سابقةُ على ظهور الصليبيين في المشرق. ولا يمكن أيضاً اعتبار السنيين رواداً في مسائل التكفير والإقصاء. فالمعتزلة المعتبرون أهل العقل هم الذين بدأوا هذه المسألة إلى جانب المحكِّمة والشيعة ومنذ القرن الثامن الميلادي. وحدهُم المرجئة أبوا تكفير أحدٍ من المسلمين مهما اختلفوا، ويقال إنَّ العنبري ومعاصره محارب بن ديار كانا منهم. ولا شكَّ أنَّ هناك تمايزات بين مواقف السلطات، ومواقف المتكلمين والفقهاء. فالسلطة الإسلاميةُ كانت بشكلٍ عامٍ أكثر تسامحاً تُجاه أهل الكتاب، وأهل الذمة، من الفقهاء. لكنَّ المشكلة أنَّ الدولة –ومنذ القرن التاسع الميلادي– فقدت صلاحياتها التشريعية لصالح الفقهاء. ولذلك ما كانت تصرفات السلطات الحَسَنة أو السيئة تتحول إلى تشريع؛ بل تظلُّ إيجابياتٍ أو مظالمَ، تنتظر أحكام الفقهاء. على أنَّ الإيجابيَّ في هذه المسائل كلِّها، أنَّ فقهاء أهل السنة وضعوا – منذ القرن التاسع– صلاحيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيد الدولة. فيستطيع الفقيه أن يُدين هذا التصرف أو ذاك من جانب أحد أهل الذمة أو أحد الشيعة أو الإباضية؛ لكنَّ السلطة السياسية هي التي تملكُ أن تعاقبَ المتهم أو لا تُعاقبه. لذلك فكثيراً ما كانت الشرطة في أيام المماليك أو العثمانيين هي التي تحمي الأقليات الدينية من هجمات العامَّة التي حرَّضها هذا الفقيه أو ذاك.

وقد حاول أبو الحسن العامري –في القرن العاشر الميلادي– أن يضع قاعدةً للتعامل مع مسألة الاختلاف الديني والمذهبي؛ فقال إنَّ الدين نصٌّ وتقليدٌ واجتهاد. وهو يرى أنَّ النَّص القرآني يذكر ست ديانات غير الإسلام، وهي: اليهودية والمسيحية والصابئة والمجوس وأهل البُد (البوذيين والهندوس) وأهل الشِرك. لكننا نعرفُ أنَّ الإسلام ما اعترف لعُبَّاد الأوثان بالبقاء على دينهم. كما أن المسلمين ما تعاملوا مع البوذيين والهندوس على أساس الاعتراف المتبادل. أمَّا التقليد فهو أوسع؛ إذ إنَّ الفاتحين المسلمين سلَّموا بوجود المجوس والبوذيين والهندوس؛ وإن تعاملوا مع اليهود والمسيحيين بطريقة أفضل تجاوزت التسليم بالوجود، إلى أكل ذبائحهم والزواج من نسائهم. وقد استغلَّ رشيد الدين المؤرخ, الذي عمل وزيراً في البلاط الإيلخاني المغولي إبّان إسلام المغول، استغلَّ مسألة الاجتهاد ليعيد قراءة الآيات القرآنية الداعية للعنف، والأخرى الداعية للمسالمة، للذهاب إلى أنَّ القتال كان خاصاً بمشركي العرب الذين لم يعودوا موجودين؛ ولذلك لم يبقَ سارياً غير آيات المسالمة والموادعة. إذ إن الإسلام دينُ دعوةٍ ولا يُقِرُّ الإكراه في الدين. وقد رد عليه ابن تيمية بأن المغول تُخالف أفعالهُم أقوالهم؛ ولذلك فهم ليسوا صادقين. لكن ذلك يمنع تَحَوُّل المغول والتتار إلى جزء من الأمة. ويذكِّر موقف رشيد الدين بموقف السيد أحمد خان في ستينات القرن التاسع عشر, عندما أفتى مسلمي الهند بعدم جواز مقاتلة الإنجليز خشية الإبادة الجماعية بعد فشل تمرد العام 1857م.

7

إن الواضح اليوم أنَّ لجوء الإسلاميين المتشددين إلى النصوص الأولى للتصدِّي للانفتاح والنسبية في الدين والفقه والسياسة، إنما هو لجوءٌ على سبيل الرمز، إذ المشكلة حتى في وعيهم هي مشكلة حديثة. أما الإصلاحيون والتحديثيون فيلجأون اليوم إلى مقاصد الشريعة، وإلى مبدأ المصلحة أو المصالح. بيد أن هؤلاء الإصلاحيين ما استطاعوا التصدِّي بوضوح وصراحة لمسألة الإطلاقية في العقيدة، كما حدث في المجمع الفاتيكاني الثاني. ومن هنا يأتي العجز عن حلِّ مشكلة "الردة" مثلاً التي ما تزالُ المُقترحات حولها مقتصرةً على الحيل الفقهية. بيد أنَّ "الإطلاقية" والإقتصائية العقائدية، لا تعني بالضرورة عدمت قبول الآخر، أو عدم الاعتراف به على النحو الذي يريده هو لنفسه؛ هذا ما يقوله طارق البشري مثلاً. بيد أنَّ ذاك الآخر ما يزالُ بالنسبة لك كافراً، فهل تستطيع النظر إليه بنديةٍ وأريحيةٍ واحترام، رغم أنه من أهل النار؟ على أنَّ القضية السياسية منفصلةٌ فعلاً عن القضيتين الدينية والثقافية. وقد صارت التعددية السياسية والحزبية مسلَّمةً لدى الأكثرية الساحقة من التيارات والحركات الإسلامية.

فيبقى أن لا يعيِّر الخارجُ أو الداخل الإسلاميين بأنهم لا يقبلون التعددية والانتخابات لأنّ الطرفين ما كانا نموذجاً في ذلك، ولأنّ التجربة، تجربة المشاركة الحرة والشفافة مُفتقرةٌ حتى الآن. والحديث اليوم كثير عن فُرَص الديمقراطية والتعددية. لكنّ المتحدثين يقولون إنه لا بد من توافر "ثفافة ديمقراطية"! وهذه في كثيرٍ من الأحيان حيلةٌ لمنع الإسلاميين من المشاركة في الانتخابات، وفي أحيانٍ أُخرى حتى لمنع حدوث الانتخابات ذاتها. فقبل ثلاثة عقود اعتقد الدكتور قسطنطين زريق أنه يستطيع الدفاع عن القومية العربية بأنّ الفشل ليس ذنبها، أي ذنب الفكرة؛ بل سبب الفشل إنما هو غيابُ الوعي القومي. ولو تأمْلنا الوعي القوميَّ عند زريق لما رأيناه يختلفُ عن "ثقافة الديمقراطية" السالفة الذكر. فلتجر الانتخابات الحرة بالوتائر الدستورية، أنا على ثقةٍ بأنّ الثقافة الديمقراطية والتعددية ستأتي معها دونما تردد أو خوف.

****

قامت مقولة التعددية في المجتمعات الديمقراطية العريقة على أساسين اثنين: المواطنة، والدولة القومية الواحدة التي تسيطر من طريق التوافُق أو العقد –بحسب روسّو- على مجتمعٍ متعدد الفئات الاجتماعية والسياسية, لكنه يتمتعُ بقدْرٍ كبيرٍ أو متوسطٍ من التماسُك، أو غياب المشاريع الانفصالية القوية. بيد أنّ خمسة عقودٍ من الأنظمة الاستبدادية في الدول العربية الرئيسية ضربت فكرة المواطنة في الصميم, بسبب غياب مفاهيم الشرعية والقانون واستقلالية القضاء، وعلنية المجال السياسي وحريته. ولذلك فقد انكمش لدى مواطني أكثر الدول العربية الوعي بالحماية والضمان المتبادَلين بين المجال العامّ والمجال الخاصّ. إذ مع اختفاء المجال العامّ أو تضاؤله مابقي غير المجال الخاصّ أو ماتحت السياسي، والذي يتصل بوسائل الأمان الأُسَرية والإثنية، أو ما فوق السياسي، والذي يتصل بالعقائد والمُثُل الدينية. وبهذا فإنّ المجتمعات العربية شهدتْ حالةً من اللبننة ليس لأنَّ الدولةَ ضعيفةٌ فيها مثل لبنان؛ بل لأنَّ الدولةَ تغولت على المجتمعات في أكثر الكيانات العربية. ونتيجةَ ذلك قامت علاقاتٌ زَبونيةٌ بين النظام السياسي، وفئة اجتماعية أو أكثر، للسيطرة الأمنية والاقتصادية أُسَرياً أو إثنياً أو فئوياً أو مذهبياً.

وهكذا فإنَّ الانقسامَ الاجتماعيَّ الذي حفرتْ له الشموليات ضرب التماسُكَ التاريخيَّ والقوميَّ (وأحياناً الديني), ومهَّد لتحطُّم الكيانات التاريخية أو المستجدّة عند أول ضغطٍ يحصُلُ، نتيجةَ الصراعات الداخلية التي تُفكّكُ السطوةَ الاستبدادية، أو نتيجة الغزو الخارجي، كما حدث في الصومال وما يزالُ يحدُث، وكما حدثَ في العراق وما تزالُ وقائعُهُ تُروِّع العيونَ والأذانَ والقلوب. والمعروف أنّ السودان أيضاً يتراوحُ بين الاستبدادية والفوضى.

لقد أخافت ظواهرُ التفكك المتزايدة كثيراً من القوميين الإسلاميين. وفي حين كانوا يخشَون من قبلُ المستبدِّين الذين يقمعونَهم ويقمعون الجمهور، صاروا يخشَون -أو ازدادت خشيتُهُمْ– من القوى الأجنبية, ومن الأقليات الدينية والإثنية والقومية، والتي يمكن أن تستعين بالأجنبي من أجل المطالبة بحقّ تقرير المصير أو بالفيدرالية التي يعتبرها هؤلاء تعدديةً واسعةً نوعاً ما.

وقد قلّ في السنوات الأخيرة الخَلْطُ بين الديمقراطية والتعددية. فقد فهم الإسلاميون أنّ الديمقراطية تعني سلطة الأكثرية؛ وهي في كل الأحوال في العالَم العربي إسلامية. ولذلك فليس غريباً أن يقولوا بها ويمارسوها مادامت أكثريةُ الناخبين معهم. أما التعدديةُ فتعني الآخَرَ الدينيَّ أو الإثنيَّ أو السياسي. وهو يوشكون على تجاوُز السياسيين والأحزاب التقليدية أو الحزبية؛ وإنْ باسم الديمقراطية، بعد أن تجاوزوا عقدة صندوق الاقتراع. لكنّ مظاهرَ وشواهدَ التفكُّك الاجتماعي حتى في الأوطان العريقة مثل مصر, تثير لديُهم مخاوفَ كثيرة من التعددية التي لم تَعُدْ تعني في اعتبارهم "حقوق الأقليات" أو كما يقولون هم: امتيازاتها! وقد سمعتُ هذا الكلامَ في الجزائر وسمعتُهُ في المغرب وسمعتُهُ في مصر وسمعتُهُ في سوريا: هم يقولون: ليس عندنا مشكلة مع الديمقراطية بل مشكلُتنا مع التعددية، والتعددية الثقافية بالذات؛ لأنها تعني تفكيك المجتمع تمهيداً لخلْق الدويلات. وكنتُ أقول مُجيباً على ذلك: لكنكم لا ترون مانعاً في التعددية السياسية من الناحية النظرية؛ فإذا وصل الأمر إلى صناديق الاقتراع، لا يحصُلُ الآخَرُ الذي أو الإثزِ على تمثيل صحيح أو معتبرا. وهم يُقرون بأنّ هذه مشكلة فعلاً، سيكون عليهم التفكير فيها جيداً وفي القريب العاجل. ومع ذلك فهم يسارعون للقول: لسنا نحن من أحداث المشكلة، بل الأنظمة السائرة. وهذا صحيحٌ؛ لكنْ لا يجوزُ البقاءُ بين أحد ثلاث واقعات: الاستبداد أو الفوضى أو الاستيلاء على السلطة باسم الدين؛ وياحسرةً على العراق!

******************

*) مفكر وأكاديمي من لبنان، ومستشار تحرير مجلة التسامح.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=326

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك