الردّة في التاريخ الإسلامي
الردّة في التاريخ الإسلامي
أسبابها وأصنافها وآيات الله في المرتدين
بدأت حركة الردَّة منذ العام التَّاسع للهجرة المسمَّى بعام الوفود، وهو العام الذي أسلمت فيه الجزيرة العربيَّة قيادها للرَّسول (صلى الله عليه وسلم) ممثَّلةً بزعمائها الَّذين قدموا عليه من أصقاعها المختلفة، وكانت حركة الردَّة في هذه الأثناء لمَّا تستَعلِنْ بشكلٍ واسعٍ، حتَّى إِذا كان أواخر العام العاشر الهجري، وهو عام حجَّة الوداع الَّتي حجَّها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ونزل به وجعه الَّذي مات فيه.
والواقع أن هناك أعدادًا ضخمة من العرب دخلوا في الإسلام في العامين الأخيرين من حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولم يدخل هؤلاء في الإسلام إلا انبهارًا بسيطرة المسلمين على الجزيرة العربية، فجاء الناس أفواجًا يدخلون في دين الله ، ولكن ليس كلهم عن اقتناع؛ فمنهم من جاء رغبًا في المال والغنائم، والارتباط بالقوة الأولى الجديدة في الجزيرة، ومنهم من جاء رهبًا من قوة المسلمين، ومنهم من جاء لا رغبًا ولا رهبًا، ولكن اتباعًا لزعمائهم وقادتهم، فَسَاقهم زعماؤهم كالقطيع فدخلوا في دينٍ لا يعرفون حدوده، ولا فروضه، ولا تكاليفه، ولم يفقهوا حقيقة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وحقيقة الرسالة، ولم يعيشوا مع القرآن، ولا مع السُّنَّة.
فلما مات الرسول (صلى الله عليه وسلم) اعتقد الجميع أن الدولة الإسلامية انهارت بموت من أسَّسَها كما تنهار الكثير من الأعمال المعتمدة على شخص بعينه إذا غاب هذا الشخص، وفوق ذلك هم لم يأخذوا الفرصة الكاملة والوقت المناسب لفقه حقيقة الإيمان ، فبدأ الجمر يتململ من تحت الرَّماد، وأخذت الأفاعي تطلُّ برؤوسها من جحورها، وتجرَّأ الَّذين في قلوبهم مرضٌ على الخروج، فوثب الأسود العنس باليمن، ومسيلمة الكذَّاب باليمامة، وطليحة الأسديُّ في بلاد قومه.
ولمَّا كان أخطر متمرِّدَيْن على الإِسلام، وهما الأسود العنس، ومسيلمة، وأنَّهما مصمِّمان ـ كما يبدو ـ على المضيِّ في طريق ردَّتهما قُدُماً دون أن يفكِّرا في الرُّجوع، وأنَّهما مشايعان بقوىً غفيرةٍ، وإمكانياتٍ وفيرةٍ؛ فقد أرى الله نبيَّه (صلى الله عليه وسلم) من أمرهما ما تقرُّ به عينه، ومن ثمَّ ما تقرُّ به عيون أمَّته من بعده، فقد قال يوماً وهو يخطب النَّاس على منبره: «أيها الناس! إنِّي قد أريت ليلة القدر، ثمَّ أُنسيتها، ورأيت أنَّ في ذراعيَّ سوارين من ذهبٍ فكرهتهما، فنفختهما، فطارا، فأوَّلتهما هـذين الكذَّابَيْن: صاحب اليمن، وصاحب اليمامة »
وقد فسَّر أهل العلم بالتَّعبير هذه الرؤيا على هذه الصُّورة، فقالوا: إِنَّ نفخه (صلى الله عليه وسلم) لهما يدلُّ على أنَّهما يقتلان بريحه؛ لأنَّه لا يغزوهما بنفسه، وإِن وصفه لهما بأنَّهما من ذهبٍ دلالةٌ على كذبهما؛ لأن شأنهما زخرفٌ، وتمويهٌ، كما دلَّ لفظ السِّوارين على أنَّهما ملكان لأن الأساورة هم الملوك، ودلا بكونهما يحيطان باليدين أن أمرهما يشتدُّ على المسلمين فترةً لكون السِّوار مضيقاً على الذِّراع.
وعبر الدُّكتور علي العتوم فقال: إن طيرانهما بالنَّفخ دلالةٌ على ضعف كيدهما مهما تاخم، فشأنهما زَبَدٌ لا بدَّ أن يؤول إِلى جُفاءٍ، ما دام هذا الكيد مستمَداً من الشَّيطان، فهو واهنٌ لا محالة؛ إذ أقلُّ هجمةٍ مركَّزةٍ في سبيل الله تحيلهما أثراً بعد عَيْنٍ، وكونهما من ذهبٍ دلالةٌ على أنَّهما يقصدان من عملهما الدُّنيا، لأن الذَّهب رمزٌ لحطامها؛ الذي يسعى المغترُّون بها خلفه، وأنَّهما سواران إِشارةٌ إِلى محاولتهما الإِطاحة بكيان المسلمين عن طريق الإِحاطة بهم من كلِّ جانب تماماً، كما يحيط السِّوار بالمعصم.
أسباب الردَّة
إِنَّ الردَّة الَّتي قامت بها القبائل العربيَّة بعد وفاة رسول الله لها أسبابٌ، منها: الصَّدمة بموت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ورِقَّة الدِّين، والسُّقم في فهم نصوصه، والحنين إِلى الجاهليَّة، ومقارفة موبقاتها، والتفلة من النِّظام، والخروج على السُّلطة الشَّرعيَّة، والعصبيَّة القبليَّة، والطَّمع في الملك، والتكسُّب بالدِّين، والشُّحُّ بالمال، والتَّحاسد، والمؤثِّرات الأجنبيَّة كدور اليهود، والنَّصارى، والمجوس، وسنتحدَّث عن كلِّ سببٍ بإِذن الله تعالى .
أصناف أهل الردَّة
وأمَّا أصنافها؛ فمنهم من ترك الإِسلام جملةً وتفصيلاً، وعاد إِلى الوثنيَّة، وعبادة الأصنام. ومنهم من ادَّعى النُّبوَّة. ومنهم من دعا إِلى ترك الصَّلاة. ومنهم من يعترف بالإِسلام، ويقيم الصَّلاة، ولكنَّه امتنع عن أداء زكاته. ومنهم من شمِت بموت الرَّسول، وعاد أدراجه يمارس عاداته الجاهليَّة، ومنهم من تحيَّر، وتردَّد، وانتظر على من تكون الدَّبرة، وكلُّ ذلك وضَّحه علماء الفقه، والسِّير.
قال الخطَّابيُّ: إِنَّ أهل الردَّة كانوا صنفين: صنفاً ارتدُّوا عن الدِّين، ونابذوا الملَّة، وعادوا إِلى الكفر، وهذه الفرقة طائفتان: إِحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة، وغيرهم؛ الَّذين صدَّقوه على دعواه في النُّبوَّة، وأصحاب الأسود العنس، ومن كان من مستجيبي من أهل اليمن، وغيرهم، وهذه الفرقة بأسرها منكرةٌ لنبوَّة سيدنا محمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) مدَّعية النُّبوَّة لغيره، والطائفة الأخرى ارتدُّوا عن الدِّين، وأنكروا الشَّرائع، وتركوا الصَّلاة، والزَّكاة، وغيرها من أمور الدِّين وعادوا إِلى ما كانوا عليه في الجاهليَّة، والصِّنف الآخر هم الذين فرَّقوا بين الصَّلاة، والزَّكاة، فأقرُّوا بالصَّلاة، وأنكروا فرض الزَّكاة، ووجوب أدائها إِلى الإِمام . . . وقد كان ضمن هؤلاء المانعين للزَّكاة من كان يسمح (بها) ولا يمنعها إِلا أنَّ رؤساءهم صدُّوهم عن ذلك، وقبضوا أيديهم على ذلك.
وقريبٌ من هذا التَّقسيم لأصناف المرتدِّين تقسيم القاضي عياض، غير أنَّهم عنده ثلاثةٌ: صنفٌ عادوا إِلى عبادة الأوثان، وصنف تبعوا مسيلمة، والأسود العنس، وكلٌّ منهما ادَّعى النُّبوَّة، وصنفٌ ثالثٌ استمرُّوا على الإِسلام، ولكنَّهم جحدوا الزَّكاة، وأولوا بأنَّها خاصَّةٌ بزمن النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم).
وقسَّم الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود المرتدِّين إِلى أربعة أصنافٍ: صنفٌ عادوا إِلى عبادة الأوثان، والأصنام، وصنفٌ اتَّبعوا المتنبِّئين الكذبة: الأسود العنس، ومسيلمةَ، وسجاح، وصنفٌ أنكروا وجوب الزَّكاة، وجحدوها، وصنفٌ لم ينكروا وجوبها ولكنَّهم أبوا أن يدفعوها إِلى أبي بكرٍ.
بعض الآيات التي أشارت إلى المرتدين وحذرت منهم
أطلق الله ـ سبحانه، وتعالى ـ على المرتدِّين عن دينه عباراتٍ تشير إِلى هذا المرتكب الوبيء الَّذي تحولوا إِليه، منها الردَّة على الأعقاب، أو على الأدبار، والانقلاب بالخسران، وطمس الوجوه، وردُّ الأيدي في الأفواه، والارتياب، والتردُّد، واسوداد الوجوه.
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149].
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً } [النساء: 47].
وجاء في تفسير ابن كثير: وطمسها: أن تعمى، وقوله: فنردَّها على أدبارها: أي: نجعل لأحدهم عينين من قفاه، وهذا أبلغ في العقوبة والنَّكال، وهذا مثلٌ ضربه الله لهم في صرفهم عن الحقِّ، وردِّهم إِلى الباطل، ورجوعهم عن المحجَّة البيضاء إِلى سبيل الضَّلالة يُهرعون، ويمشون القهقري على أدبارهم.
وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 106].
نقل القرطبيُّ فيها جملة اراءٍ، منها رأي قتادة: أنَّها في المرتدِّين، كما نقل حديثاً لأبي هريرة وقال عنه: يستشهد به بأنَّ الآية في الردَّة؛ وهو: «يرد على الحوض يوم القيامة رهطٌ من أصحابي، فيُجلون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي! فيقول: إِنَّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إِنَّهم ارتدُّوا على أدبارهم القهقري ».
وفي روايةٍ أخرى لهذا الحديث: عن ابن عباسٍ، قال: قال رسول الله (ص): «يجاء برجالٍ من أمَّتي، فيؤخذ بهم ذات اليمين، فأقول: أصحابي! فيقال: إنَّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117] فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدِّين على أعقابهم منذ فارقتهم ».
مراجع البحث:
1. د. علي محمّد محمَّد الصَّلاَّبي، الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، دمشق، ص (176 : 179)
2. ابن حجر العسقلاني، فتح الباري شرح صحيح البخاري ، تحقيق الأستاذ محب الدين الخطيب، دار الريان، القاهرة، ط1، 1983م، 12/276.
3. السيوطي، الخصائص الكبرى، دار الكتب العلمية، بيروت، 2/456.
4. د. عبد الرحمن بن صالح المحمود، الحكم بغير ما أنزل الله، أحواله وأحكامه، دار طيبة، الرِّياض، الطَّبعة الأولى، 1420هـ 1999م ، ص239.
5. د. علي العتوم، حركة الردَّة، مكتبة الرسالة الحديثة، عمَّان، الطَّبعة الثَّانية، 1997م ، ص 18 – 20 – 65 – 66 – 110.
6. ابن كثير، تفسير ابن كثير، دار الفكر للطِّباعة بيروت، الطَّبعة الثانية 1389هـ 1970م. 1/507، 508.
7. النَّووي، شرح صحيح مسلم، المطبعة المصريَّة بالأزهر، الطَّبعة الأولى، 1347هـ 1929م، 1/203.
المصدر: https://islamonline.net/29494