تجارة اللُّبان والتواصل الحضاري

تجارة اللُّبان والتواصل الحضاري

سعيد السالمي*

تجارة اللُّبان والتواصل الحضاري
سعيد السالمي*

كان اللبان أحد أهم محاور التجارة في جنوب الجزيرة العربية قديماً وأحد أشهر الصمغيات ذيوعاً وأكثرها استعمالاً وأغلاها إقتناءً على مر العصور.

واشتهر اللبان بكونه إحدى الهدايا الثمينة التي قدمت إلى نبي الله سليمان من ملكة سبأ بلقيس مع المُّر والذهب، كما أنه أعتبر حينها من نفائس السلع وأشهر ما تاجر به تجار جنوب الجزيرة العربية، وكانت قيمة اللبان موازية للذهب لدى الإمبراطورية الرومانية.

ولأهمية هذه السلعة إضافة إلى اهتمام الشعوب بها فقد تعددت اللغات والمسميات ومنها لدى العرب "لبان "Luban وعرفت في اللغة اللاتينية بإسم "اوليبنانم "Olibanum ولدى الفرنسيون والألمان إسم "انسينس "Encense ولدى اليونانيون والإغريق "لبانوس "Libanos وسماها الهنود والفرس"كندر "Condur وتعرف في اللغة الانجليزية "فرانك انسيس "Frankincense، وتعرف شجرة اللبان عند أهالي محافظة ظفار بلسان حمير "ميغيروت والتليه".

وتتواجد أشجار اللبان في محافظة ظفار الواقعة في الجزء الجنوبي لسلطنة عُمان، وتنتشر أشجار اللبان على مساحات واسعة في المحافظة تغطي منطقة النجد(شمال جبال ظفار) وفي منطقة حاسك (شمال شرق) وفي منطقة الجربيب(غرب مدينة صلالة) ومنطقة الشزر(شمال غرب).

ظفار أرض اللبان(الموقع والجغرافيا)

تقع أرض اللبان(محافظة ظفار) في أقصى الجنوب الشرقي لشبه الجزيرة العربية، وهي الموطن الأصلي لشجرة اللبان والأفضل أنواعاً في العالم.

وتتميز محافظة ظفار بتنوع خصائصها الطبيعية والجغرافية حيث يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام رئيسية:

1 - المنطقة الساحلية وتتواجد عليها معظم حواضر المحافظة وتمتد على شريط ساحلي لمسافة 560كم من ولاية سدح شرقاً إلى ولاية ضلكوت غربا.

2 – المنطقة الجبلية: وهي السلسلة الجبلية المعروفة بجبال ظفار وتمتد من ولاية حاسك شرقاً وحتى الحدود مع الجمهورية اليمنية.

3 – المنطقة الصحراوية: وتحتل هذه المنطقة المساحة الأكبر من المحافظة وتمتد بمحاذاة المنخفضات الجبلية من الشمال إلى صحراء الربع الخالي.

وقد ساعد تنوع المناخ على نمو أشجار اللبان في المحافظة وعلى تفردها عن المناطق المجاورة في شبه الجزيرة العربية خاصة في فصل الخريف(يونيو/سبتمبر) حيث الرذاذ والأمطار الموسمية بسبب الرياح الموسمية القادمة من شبة القارة الهندية.

وساعد إرتفاع درجة الرطوبة النسبية وتوفر التربة الجيرية الكلسية إضافة إلى ارتفاع درجة الحرارة خاصة خلال الفترة من ابريل إلى أكتوبر على نمو أشجار اللبان في منطقة نجد. وأدى تنوع المناخ وتنوع التضاريس في محافظة ظفار إلى وجود ثلاثة أنماط من السكان:

1 – سكان الحضر: وهم قاطنو السواحل الذين اشتغلوا بالزراعة وصيد الأسماك والتجارة والخدمات المختلفة.

2 – سكان الجبال: وهم الذين استقرت حياتهم على تربية المواشي(الغنم والأبقار والإبل).

3 – البدو: وهم من ساكني النجد امتهنوا تربية قطعان الإبل والماعز إضافة إلى الترحال بحثاً عن موارد المياه.

شجرة اللبان

1 – وصف الشجرة وأماكن تواجدها

تتبع شجرة اللبان فصيلة البخوريات "Burseraceae" وهي كثيرة الأغصان وأوراقها خضراء داكنة، يتراوح ارتفاعها ما بين ثلاثة إلى خمسة أمتار تبعا للبيئة المتواجدة فيها كما أنها ذات جذع واحد أو متفرع عن القاعدة، وتحتوي على غدد لبنيه تحوي مادة الراتنج الصمغية.

وتختلف أشجار اللبان من حيث الحجم والشكل والجودة ونوعية اللبان المستخرج منها تبعاً إلى البيئة المتواجدة فيه، ويمكن التمييز بين ثلاث مناطق جغرافية بيئية مختلفة لأنواع اللبان:

1 – منطقة السهول والشعاب: وهي المنطقة الساحلية بين ريسوت والمغسيل(سهل عدونب) إلى الشمال الغربي من مدينة صلالة، وتنتج أشجار اللبان في المنطقة ما يعرف محلياً باللبان الشعبي أو السهلي وهو أقل أنواع اللبان الظفاري جودةً لتأثره المباشر بالأمطار الموسمية، كما تتواجد أيضاً في أودية ولاية سدح وأودية غورب.

2 – منطقة الشزر: وتعرف محلياً للمنطقة الواقعة إلى الشمال الغربي من جبال ظفار(جبال القمر)، وتنتج لباناً متوسط الجودة ويعرف باسم اللبان الشزري وتتأثر هذه المنطقة أيضاً بالأمطار الموسمية خلال الفترة ما بين يونيو وسبتمبر.

3 – منطقة النجد: وهي المنطقة الصحراوية خلف سلسلة جبال ظفار وتتوزع فيه أشجار اللبان من شمال جبال سمحان شرقا وحتى جنوب هرويب غرباً، وتعتبر هذه المنطقة شديدة الحرارة وقليلة الرطوبة، وهي من أكثر المناطق التي تتواجد فيها أشجار اللبان، وأكثرها جودة ونقاء.

ويعتبر اللون والنقاء مقياسيّ جودة اللبان، فاللبان الأبيض المائل للزرقة كزرقة السماء والخالي من الشوائب أجوده على الإطلاق وأغلاها ثمناً وتقل جودته كلما تغير لونه إلى الأحمر وامتزج بالشوائب.

ويقسم أهالي محافظة ظفار اللبان إلى أربعة أصناف تبعاً لاختلاف مناطقها الجغرافية والمناخية والبيئية ومن حيث الجودة واللون، فاللبان "الحوجري" أجودها وأغلاها ثمناً، ثم اللبان "النجدي" وهو في المرتبة الثانية من حيث الجودة ويتبعه اللبان "الشزري"، وأقل أنواع اللبان جودة وأرخصها ثمناً اللبان "الشعبي" أو "السهلي" أو "الرسمي".

2 – عملية استخراج اللبان

تبدأ عملية استخراج اللبان في شهر أبريل من كل عام، وتتمحور عملية إستخراج اللبان في إجراء جرح على جذع شجرة اللبان باستخدام أداة صغيرة تدعى "المنقف"(آلة ذات يد خشبية ورأس حديدي حاد مستدير الشكل) وذلك في عدة مواقع تتراوح ما بين 10 إلى 30 موضعاً تتباين من شجرة لأخرى وذلك على حسب حجم الشجرة. وتوجد ثلاث مراحل أساسية لإنتاج واستخراج اللبان:

1 – البدع أو التوضيع: وهوعبارة عن كشط القشرة الخارجية لأغصان وجذع الشجرة يتلوها نضوج سائل لزج حليبي اللون.

2 – السعف: تبدأ في اليوم الثالث أو الخامس عشر وهي عبارة عن تجميع إنتاج المرحلة الأولى وإحداث جروح أخرى على جذع الشجرة بحيث يخرج منه سائل مائل إلى اللون الأصفر ما يلبث أن يتجمد على الشجرة أو يتساقط منه على الأرض إذا كان الإنتاج غزيراً.

3 – الإدرار: أو السعف الثاني وتتم خلال فترة أسبوعين من المرحلة الثانية وتستمر هذه العملية لعدة مرات حتى ينتهي موسم الحصاد.

استعمالات اللبان وفوائده

تعددت استخدامات اللبان عبر العصور حيث اعتبرت شجرة اللبان في العصور القديمة شجرة مقدسة وأعتبر اللبان من أهم وأغلى الهدايا التي تهادى بها الملوك والحكام.

وقد استخدم المصريون القدماء اللبان في عملية التحنيط ومراسم الدفن كما كانت تبخر به هياكل الكنائس في الاحتفالات الدينية المختلفة، كما استخدم اللبان على مر العصور للأغراض الطبية والدوائية وذلك لعلاج العديد من الأمراض والطفح الجلدي، كما استخدمه الإغريق والرومان لعلاج بعض الأمراض وذلك بعد خلطه بعدة مكونات طبيعية اخرى.

كما إنه أستخدم كعلاج للسعال المزمن وعسر التنفس، وترطيب القصبة الهوائية ولتزكية مياه الشرب، ومعالجة اللثة والأسنان، وحالات الخمول، وكمادة مقوية للقلب ومنبهة للذهن ولغازات المعدة وأورام الطحال وآلام المفاصل0 وقد أجريت دراسة مختبريه طبية على اللبان كمستحضر من قبل أحد الباحثين العمانيين تهدف إلى معرفة تأثير اللبان على رفع وتحفيز جهاز المناعة وعلى تثبيط وقتل البكتريا وعلى صورة الدم وعلى وزن الجسم وعلى أنزيمات الكبد.

وأستخدم أيضا للعناية بالبشرة، كما أنه يصدر رائحة زكية عند احتراقه وهو أيضاً طارد للعديد من الآفات المنزلية لاحتوائه على مادة "الفينول "Phenol، ولا يزال اللبان حتى الآن يستخدم في تركيبات الأدوية المحلية وفي بعض المعتقدات الدينية مثل طرد الأرواح الشريرة، كما يستخدم في مناسبات كثيرة مختلفة وفي مراسم الزواج والأعياد.

تجارة اللبان والتواصل الحضاري

احتل اللبان أهمية كبيرة لدى الحضارات القديمة مما أعطى محافظة ظفار الصدارة في ذلك من حيث الإنتاج والتصدير، فقد أنشئت الموانئ والمراكز الرئيسية لتجميع اللبان والاتجار به وقامت صناعة تأمين القوافل التجارية البرية والبحرية.

كما أن تجارة اللبان ساهمت في التواصل الحضاري ليس بين ظفار والعالم فقط بل بين مختلف التجمعات السكانية في الجزيرة العربية وذلك بوجود مصالح شتركة في الاهتمام بشجرة اللبان وتنميتها بوصفها أحد أهم مصادر الرزق المتوفر. فقامت علاقات تجارية ومصالح مشتركة بين أصحاب ومالكي أشجار اللبان والعمال الذين يستخرجون اللبان ويعملون خلال فترات الحصاد مقابل نسبة معينة من جهة وبين تجار اللبان من أهل الحواضر الذين يقومون بتجميع اللبان في مراكز معينة قبل تصديره إلى الخارج من جهة أخرى، فشكّل اللبان حلقة اتصال بين الناس.

فمالك الأشجار لا يقوم بإستخراج اللبان بنفسه في الغالب وإنما يستأجر عمال مقابل نسبة معينة من المحصول تصل في بعض الأحيان إلى النصف، ويقوم العمال بدورهم باستخراج اللبان وتجميعه وحصده وتنظيفه ثم نقله إلى المدينة ليقوم التجار بدورهم في تهيئته وتجهيزه ليتم نقله وتصديريه إلى الخارج سواء بالقوافل البرية أو البحرية أو كليهما معاً.

وكانت تجارة اللبان تتم بطريقة المقايضة في الغالب بين التجار وملاك الأشجار أو العمال، حيث يقوم التجار بتوفير الملابس والطعام وضروريات الحياة المختلفة مقابل ما يستخرجه العمال من لُبان، كما أن عمليتي البيع والشراء تتم بالنقد المباشر.

وقد ارتبطت تجارة اللبان بين الشرق والغرب بالأهمية الاقتصادية البارزة في فترات مختلفة وأصبحت عُمان بذلك همزة وصل بين المحيط الهندي والبحر المتوسط، حيث أنه وبعد تجميع محصول اللبان في عدة مناطق رئيسية من محافظة ظفار أمثال أنظور وحنون وشصر يقوم بعدها التجار بتجهيزه للتصدير الخارجي بواسطة طريقتين:

1 – الطرق البرية: يربط بين مناطق تجميع اللبان في محافظة ظفار إلى اليمن أو شمال الجزيرة العربية، وكانت قوافل اللبان تعبر الربع الخالي مرورا بأراضي نجد وشمال الجزيرة العربية وحتى بلاد الرافدين أو عن طريق آخر مروراً بأراضي المهرة وحضرموت وممالك وموانئ قنا وقتبان وحمير ومأرب ومنه إلى المدينة المنورة ثم إلى بلاد الشام كالبتراء ودمشق، كما يتفرع طريق آخر إلى غزة في فلسطين فالإسكندرية وبلاد البحر الأبيض المتوسط.

2 – الطرق البحرية: تمثلت في موانئ خور روري(سمهرم) ومرباط والبليد وحاسك حيث كانت من أهم الموانئ في جنوب الجزيرة العربية وازدهرت بالتجارة البحرية بصفة عامة وارتبطت بتجارة اللبان بصفة خاصة، فكان ينقل في الغالب من نقطة تجميعه في خور روري ثم يصدَّر بحراً إلى ميناء قنا الميناء التجاري الهام والذي اعتبر أحد أهم نقاط تجميع اللبان قبل أن يعاد تصديره مرة أخرى إلى أفريقيا وسواحل الهند وبلاد الشام ومصر.

وأدى ازدهار تجارة اللبان وحتى في عصور متأخرة إلى ترابط وثيق وصلات حضارية بين منتجي اللبان ومستورديه إضافة إلى الوسطاء بينهما وذلك لتأمين وصوله والحصول على السلعة النفيسة، وأصبحت تجارة اللبان تلعب دوراً بارزاً في حياة الشعوب كما أثرت في اقتصادها واستقرارها.

وأشارت المصادر بأن اللبان قد استورد إلى بلاد ما بين النهرين، كما أن أقدم مبخرة حجرية وجد فيها بقايا لباناً محروقأ عثر عليها في رأس الجنز تعود إلى الفترة(2200-2100 ق.م) وتدل على إن إنتاج اللبان والمتاجرة به مع بلاد السند يعود إلى فترة النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد.

كما جاهدت مختلف القوى الإقليمية منها كممالك جنوب الجزيرة العربية أو الدولية كالرومان وغيرهم لبسط سيطرتها على هذه الطرق وأقامت مواقع لحراسة القوافل وأمنت طرقها. إلا أن هذه الممالك انهارت بعد أن منعت روما حرق اللبان وتوقفت التجارة المتعلقة بذلك وتراجعت القدرات الاقتصادية في كل من البتراء ومأرب الذي انهار سدها بعد ذلك.

****************

*) باحث من عُمان.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=317

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك