من مكايد المستشرقين وتلاميذهم

 

يتمثَّل الاستشراق في دراسة علماء الغرْب ومفكِّريه لشعوب الشَّرق، وأديانهم ولغاتِهم، وتاريخهم وثقافاتهم وتقاليدهم، وكان من المفْروض أن تكون هذه الدّراسة علميَّة موضوعيَّة تتحرَّى الحقيقة وزيادة المعرفة، كما كان من المفروض أن تتناول الشّعوب الشَّرقيَّة كلَّها، إلاَّ أنَّ الجانِب البارز من الاستِشراق هو الجانب السَّلبي؛ لأنَّه - مع وجود استِثْناءات قليلة - انصبَّ على أمَّة الإسلام بصفة أساسيَّة، وأوْغل في الذَّاتيَّة عندما حكَّم ذهنيَّة الغرْب ومقاييسه وأطروحاته الدينيَّة والفكريَّة في التَّحليل والتَّفسير، وبدل أن يدرس ما هو كائن درس ما يَنبغي أن يكون عليْه الإسلام من وجهة نظره هو، ولم يعد يُنكر باحث مطَّلع ارتِباط الاستِشْراق بالاستعمار الَّذي غزا بلادَ العرب والمسلمين، فقد تلازم وجود ثلاثةِ جُنود غربيّين في احتِلال أرضنا: العسكري الحامل للسّلاح النَّاري، والمستشرِق الَّذي يدلّه على مواقع التَّسلُّل، والمنصِّر الَّذي يبشِّر بيسوع والخلاص الإنساني.

 

وقد التزم عامَّة المستشْرقين بالمنحى اللاَّهوتي في دراستِهم للإسلام، وبه فسَّروا ما درسوه منْه ليخرجوا بنتائج "علميَّة" صارمة، اتَّخذتها السياسات الغربيَّة برنامجًا سعتْ وتسعى لتطبيقِه في علاقاتها بالمسلمين على أكثر من صعيد، وتولَّت الجامعات تدْريس الإسلام وفْق الرّؤية الاستِشْراقيَّة غير البريئة، البارعة في القراءة الانتِقائية المغْرضة، الَّتي تعْتبر خصوصيَّات الإسلام والمنتسبين إليْه مثالب، فإذا ذكرت مَحاسن معيَّنة فلأنَّها متوافقة مع التّراث اليهودي - النصراني، أو لأنَّ مع الذِّكْر الجميل سُمًّا قاتلا في طيَّاته.

 

فعلى سبيل المثال، لا يرى معظم المستشرقين "الإسلام الجميل والإنساني" إلاَّ في التصوُّف الفلسفي ووجوهه البارزة: ابن عربي والحلاَّج بالدرجة الأولى، فالدّين الحقيقي الَّذي ينبغي إحياؤُه هو وحدة الوجود، والحلول والاتحاد، أمَّا الأدب المعبِّر عن "روح" الإسلام فهو: ألف ليلة وليلة، وكتاب الأغاني، وشعر أبي نُواس وعُمر بن أبي ربيعة وعمر الخيَّام.

 

لكنَّ هذا كلّه يهون مقارنة بنظرة المستَشْرقين لأصول الإسلام وتاريخِه العلمي والحضاري؛ لأنَّنا هنا أمام مقاربة هي غاية في الخطورة والمكْر، تهدف إلى نزْع الصّفة الدّينيَّة ذاتِها عن الإسلام وتَجْريده من أيّ تأْثير إيجابي في حياة البشريَّة.

 

وعلى أساس هذه الرّؤية الاستِشْراقيَّة التَّحريفيَّة، يَخوض بعض المفكِّرين والكتَّاب والصحافيّين في البلاد الإسلاميَّة حربًا فكريَّة وإعلاميَّة حقيقيَّة على الإسلام، يستوقِفُنا فيها ذلك الجانب الأكثر خطورة المتمثِّل في البحوث الأكاديميَّة المتَّسمة - حسبَهم - بالعلميَّة والموضوعيَّة، وهي في الواقع إمَّا تكرار لمقولات المستَشْرقين القدامى، أو "اجتِهاد" مستوْحًى من مناهجهم، يهْدف إلى كسر "الطَّابوهات" - كما يزعمون - والتحرُّر من التَّفاسير الدينيَّة والاجتماعيَّة والتَّاريخيَّة القديمة للإسلام، وتناوُل النّصوص والأحداث برُوح "مجرَّدة" وتأْويلٍ حديث أي - بوضوح -: إخضاعها لأنْماط تفكير دخيلة، لا تكْتفي بتجاهُل قدسيَّة الدّين، بل تُعاديه صراحةً أو ضِمْنًا باعتِباره شأنًا إنسانيًّا بحتًا، ونجِد للأسَف رجالاً بأسماء مسلمين؛ أمثال محمَّد أركون ونصْر حامد أبو زيد، يلتزمون هذا المنهج إلى منتهاه، وكأنَّهم مستشْرقون فرنسيّون أو إنْجليز يُريدون إعادة قراءة الإسْلام على أساس أنَّه تُراث بشري عاديّ يَجب إعادة صياغته ليوافق التصوُّر الغربي عن الله والإنسان والكون والحياة، فكانت أعمالُهم الفكريَّة انسلاخًا من الإصْلاح الَّذي يدَّعونه، وتحريفًا لمفاهيمِه وحربًا على نسقه المتميِّز.

 

ولا غرابة في ذلك، فقد برع المستشْرِقون في تنشِئة تلاميذ مسلمين وصناعتهم على أعيُنهم، صناعة متقنة يميِّزها الولاء المطْلَق للفكر الغربي، يتَّبعون أسلوب المراوغة العلْميَّة في خدمته بدَل مواجهة المنظومة الإسلاميَّة مباشرة؛ لعلمهم بعدم جدواها.

 

ويُمكن تلخيص خطاب المستشْرقين وتلاميذهم في محطَّات، تبيِّن موقفهم من الوحْي والنبوَّة والإنجازات الحضاريَّة الإسلاميَّة والحداثة:

1- الوحْي: يدور الخطاب الاستِشْراقي بين الإنكار الواضح والحاسم لظاهِرة الوحي الَّذي تنزَّل على الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبين ردِّه إلى مجرَّد حالات نفسيَّة كانت تعتريه - عليْه الصَّلاة والسَّلام - وتولَّى كِبْرَ هذا التَّفسير في العصْر الحديث الفيلسوف الماركسي الفرنسي مكسيم رودنسن، في حين يعتبره اتِّجاهٌ ثالث خليطًا من الكتُب السماويَّة السَّابقة، وهل هذا سوى إحياء لمواقف القُرشيّين واليهود من الوحْي عندما كان ينزل؟ فليْس للمستشْرِقين اجتهاد في الأمر؛ إنَّما هو فقط تكْرار لاتِّهام النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأنَّه كاذب أو مَجنون أو ناقل لصحُف ﴿ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [الفرقان: 5]؛ ولهذا يحرِص مفكِّرونا وصحافيُّونا المستغْربون على وصف الإسلام - في أحسَن الحالات - بالتُّراث، وفي بعْض الأحيان بالتَّقاليد البالية وعادات البدْو المتخلِّفين.

 

2- النبوَّة: تبعا لموقفهم من الوحْي يُنكر معظم المستشرقين نبوَّة محمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - تمامًا في حين يَحصرها بعضُهم - بِخُبث ومكْر - في العبقريَّة الخارقة؛ أي: يُجرِّدونه مِن النبوَّة والرّسالة، أمَّا آخرون فلخَّصوا أمرَه في الشَّهوانيَّة والنَّزعة الدمويَّة وحبّ العنف.

 

واستغلَّ هذه الأطروحات كلُّ المناوئين للإسلام، فحزْب البعْث - مثلاً - يعتبر الرَّسول مجرَّد عبقري عربيّ لا علاقة له بالسَّماء، وخصوم الصَّحوة الإسلاميَّة يركِّزون على عنصُر العُنف الَّذي يتمحور عليْه الإسلام قديمًا وحديثًا ودائمًا - بزعْمهم - وكلُّ هذا حدا ببعض بني جِلدتِنا إلى غمْز النَّبيِّ - عليْه الصَّلاة والسَّلام - بقوله: هؤلاء الأموات الَّذين يحكمونَنا، باعتباره رجُلا عاديًّا طواه الموت، فأنَّى له أن يكون قائدًا لنا وقدوة؟

 

3- الإنجازات الحضاريَّة: لا يظهر تحيُّز المستشرقين في قضية كظهوره في موقفهم من إسْهامات المسلمين في الحضارة الإنسانيَّة، فهم يتعمَّدون إنكارَها تمامًا - إلاَّ قلَّة منهم - ويَحصرونها في مجرَّد التَّرجمة عن الإغريق، وهكذا يتَّهمون الفكر الإسلامي بالجدْب والضَّحالة، ويتجاهلون إبداعَه للمنهج التَّجريبي بالإضافة إلى إنجازات علميَّة وأدبيَّة وفنّيَّة لا تخلو منها المجالات الإنسانيَّة والكونية، والملاحظ أنَّ هذا الحَيف الاستِشْراقي أصبح حُجَّة عند دعاة التَّغريب الَّذين يردِّدون بكل إمَّعيَّة تلك التُّهم غير المؤسّسة، ويُجاهرون بالرَّبط بين تخلُّفنا وبين الإسلام واللغة العربيَّة، في حين أنَّ الغربيّين أنفُسهم صاروا أكثر إنصافًا؛ إذْ بهرتْهم الأدلَّة المتراكمة فاعترفوا بأثَر جامعات الأندُلس - خاصَّة - في تكْوين الفِكْر العِلْمي لديْهِم، وبعْث نهضتِهم بعد قرونِهم الوسطى المظلمة.

 

4- الحداثة: كانت دعوة المستشْرِقين إلى "تحديث" الإسلام حثيثةً منذ مطلع القرْن العشرين على الأقلِّ، باعتباره العائق الأكبر أمام نهضة الأمم الشَّرقيَّة ورقيِّها؛ لأنَّه - عندهم - مظنَّة الخرافة والتَّواكُل والعقليَّة الغيبيَّة، والاستقالة من شؤون الحياة، ودعَوا في مجْملهم إلى علْمنة الإسلام ومعالجة مشكلة المسلمين الحضاريَّة بوصْفةِ الثَّورة الفرنسيَّة نفسِها، المتمثِّلة في الفصل بين ما هو ديني وما هو دُنيوي؛ أي - بعبارة صريحة -: التخلُّص من الإسلام ونسقه وضوابطه وإشعاعه، وتولَّى تلاميذ المستشْرقين خدمةَ هذه الدَّعوة في بلاد الإسْلام، وتحمَّس لها طوائف من المثقَّفين والفنَّانين والسياسيّين، وبعض المنتسِبين إلى العلوم الدينيَّة؛ أمثال عليّ عبد الرازِق، ومحمَّد حسين هيكل في فترة من حياتِه، ولاكتْ كلمة الحداثة أو العصْرنة الألسُن بعلم وبغير عِلْم، وتبنَّى التَّغريبيُّون - كما أمْلى لهم ماسينيون ومارجليوث وجولد زيهر - النَّموذج الغربي وكفَروا بسواه، ووضعوا النَّموذج الإسلامي في قفَص الاتِّهام متذرِّعين بنصوص مبتورة وبأوْضاع المسلمين المتردِّية، ومازالت الحداثة ذريعةَ خصوم الإسلام أَوَى إليها المتخوِّفون من الصَّحوة المباركة والمنهزِمون روحيًّا، فضلاً عن الجاهلين بدين الله تعالى، وما زالتْ كثير من الجرائد العربيَّة تسوِّد صفحاتِها بمناقشات بيزنطيَّة حول الأصالة والمعاصرة، لا يهْدف أصحابُها العلمانيّون إلاَّ إلى تعْميق الهوَّة المصْطنعة والتَّشويه المقصود، في حين يثْبت الإسلاميّون - عُلماء ودُعاة وطلبة ومؤسَّسات وتنظيمات مختلفة - كلَّما أُتيحت لهم الفُرصة من قِبَل الأنظمة العلْمانيَّة أنَّهم أصحاب تواصُل مبدع، يتناسق فيه الماضي والحاضر والمستقبل، وهذا ما يَعرفه المستشرقون وأتباعهم جيِّدًا؛ لذلك يعملون من أجْل التَّشويش عليه.

 

هذا هو خطاب المستشْرقين المتأثِّر بفكرة "الشَّعب المختار" الَّتي يؤمن بها الغرب بِحُكم خلفيَّته اليهوديَّة - النصرانية، التي سوَّغت له إنكار صواب أيِّ فكرة خارج إطار المرجعيَّة الغربيَّة، لكن اللَّوم لا ينصبُّ على الخصم بالأصالة بقدْر ما ينال العدوّ بالعمالة، الَّذي يرفض الوحْي وقوانينَه ومناهجه ولغته وتاريخه وحتَّى مستقبله، ليس عن قناعة ذاتيَّة؛ وإنَّما بسبَب التَّقليد الأعمى والخواء الرّوحي وسطْوة الشّبهات والشَّهوات، وصدق الله العظيم: ﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 46].



المصدر: https://www.alukah.net/culture/0/22343/#ixzz5llIhfdhq

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك