وقفة مع المغالين في تقدير المستشرقين
وبعدما ذكرنا من واقع منهج البحث وملامحه لدى المستشرقين، وما أوردنا من حقائق موثَّقةٍ بهذا الشأن، يتساءل المرء: هل يحقُّ لأحدٍ أن يُصِرّ على إضفاء القداسة والنزاهة المطلَقة على بحوث المستشرقين، وعلى أنّ تمسّكهم بالمنهج العلميِّ القويمِ مسألةٌ من المسلَّمات التي لا يتطرق إليها شك؟!.
إسراف العقيقي في الثناء على المستشرقين وتقديرهم:
إن هناك بعضَ الباحثين العرب يجعل التزام المستشرقين بالمنهج العلميِّ في بحوثهم إحدى اليقينيات التي لا تحتمل الجدل، مثل ما كان من "العقيقيِّ" في كتابه "المستشرقون"؛ حيث يقرر أن المستشرقين هم أولو منهج علمي عرَفوه والتزموا به، ويقول في معرض حديثه عن المنهج العلميِّ: ((وقد التزمه علماء الغرب في كلِّ مناهجهم التزامًا شديدًا، وطبقه المستشرقون على علومنا وآدابنا وفنوننا تطبيقًا صحيحًا))[1].
ولا يُقِرّ أن هناك من هو صاحب دخيلة متحاملة، ونيّةٍ غيرِ سليمة، إلا مِن باب الافتراض الجدليّ، فيقول: ((إنا لنفرض جدلًا أن جمهرة المتصدين لتراثنا من شرقيين ومستشرقين لا تخلو أنفسهم من هوى ولا تبرأ من اعتلال...))[2].
بينما يؤكد أن المستشرقين فيما عدا نفرًا قليلًا منهم - حينما يبحثون فإن أحدهم ((يحارب هواه أو حتى يسالمه، فيأخذ نفسه بالمنهج العلميّ، فتراه يقطع الأمصار، وينفق الثروات ويفني العمر بين المخطوطات والآثار والمصنفات، مطّلعًا مستنطقًا مقارِنًا، فلا يتقدم بقضية إلا وهو يسوق لها الأسانيد والحجج التي تحسم كل خلاف وتنفي كل ريب))[3].
ويقول: ((ونيَّفَت آثار الكثيرين على المئات من أمثال: "إدوارد براون"، و"آثين بالاسيوس"، و"بروكلمان"، و"كراتشكوفسكي"، و"سارتون"، و"ماسنيون" ودون أن يُسِفَّ واحدٌ منهم في واحدة منها، وقد أكبرها العلماء في الشرق والغرب))[4].
مناقشة هادئة لهذه الدعوى:
والحقيقة أن في هذا الكلام نظرًا، بل ولا يخلو من مجازفة، فإن فيما ذكرنا من ملامح منهجِ البحث لدى المستشرقين في الإسلام ما يدحض كلام العقيقيّ، ويجعله في أحسن تقدير كما قلنا محلَّ نظر.
قومٌ منهم مَن يكذب، ومنهم من يفترض سلفا الفروض، ويتلمس التأييد لها بالباطل، ومنهم من يُزَوِّر في النصوص ويحرف النُّقول، ومنهم من يتقمّم المثالب وما يتوهمه معايب، ثم لا يدرسون الإسلام من مصادره المعتمدة...
أفبعد هذا يقال بأن التزامهم بالمنهج العلميِّ النزيه، وتطبيقَهم له حقيقةٌ لا ريب فيها؟!.
ويقال بأن أحدهم لا يتقدم بقضيةٍ ولا ينهض بدعوى إلا وبيده الأدلة والحجج والأسانيد التي تقطع كل خلاف، وتنفي كل ريب؟!.
وإن " ماسنيون " و"بروكلمان" وأمثالهما فيما خلّفوه من آثار لم يُسِفَّ واحدٌ منهم في واحدة منها؟!.
وهل ما عليه جمهرة المستشرقين من اعتقاد بشرية القرآن الكريم، وإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وجحد ربانية الإسلام، والقول بأنه مستمَدٌ من اليهودية والنصرانية... وغير هذا من آرائهم السيئة الجائرة في حق الإسلام وكتابه ونبيه صلى الله عليه وسلم، هل كل هذا مما يخلو من الإسفاف، ويتسم بالموضوعية والمنهجية العلمية، ويقوم على الأسانيد والحجج التي تحسم كل خلاف وتنفي كل ريب؟!.
إن كلام العقيقيّ قد يصدق في بعض جوانبه على دراسات المستشرقين في غير الإسلام، أمّا أن يُوسَم به منهج المستشرقين في الدراسات الإسلامية فهو في نظرنا مرفوض، وهناك مئات الأدلة على عدم صحته؛ منها ما ذكرنا، ومنها ما سيأتي ذكره في الفصل التالي.
وتبقى الحقيقة الثابتة، وهي أن المستشرقين حتى الآن لم يكونوا محايدين متجردين للحق، بعيدين عن الهوى في بحوثهم حول الإسلام، وأنهم إلى الآن لم يستطيعوا إلجامَ نزواتِ النفوسِ بنظرات العقول، ولم يتمكنوا من أن يربأوا بأنفسهم عن الإسفاف، والسقوط في مستنقعات التعصّب الممقوت، والحقد الأعمى.
كلام الأستاذ "أمين الخولي" مردود عليه:
ويحتج العقيقي لغلوه في تقدير المستشرقين والإشادة بأياديهم البيضاء على تراثنا، وإحاطتهم بهذا التراث، بما كتبه الأستاذ "أمين الخولي" بعد تمثيل الجمهورية العربية المتحدة في مؤتمر المستشرقين الدولي الخامس والعشرين، حيث قال "الخولي":
"قدمت السيدة "كراتشكوفسكي" بحثاً عن نوادر مخطوطات القرآن الكريم في القرن السادس عشر الميلادي، وإني أشك في أن الكثيرين من أئمة المسلمين يعرفون شيئا عن هذه المخطوطات، وأظن أن هذه مسألة لا يمكن التساهل في تقديرها"[5].
ونحن نقول: من أين للسيدة "كراتشكوفسكي" وأضرابها من المستشرقين الأوربيين بتلك المخطوطات النادرة وأمثالها؟
هل كان مقر تلك المخطوطات ومهدها برلين وباريس ولندن، وغيرها من مدن أوربا؟
أم أنها استقرت في مكتبات الغرب بفعل الفاعلين؟! أقصد السارقين!.
ثم ألم يُعمل الأستاذ "الخولي" ومعه "العقيقي" شيئا من التفكير في السبب الذي لأجله لا يعرف كثيرون من أئمة المسلمين شيئا عن تلك المخطوطات؟
إن السبب ببساطة شديدة هو أن الأوربيين كانوا يجوبون بلاد العالم الإسلامي، لا سيما عندما كانت تئن تحن قيود المستعمر الغربي، ويأخذون كل ما تقع عليه أيديهم من نفائس تراثنا بأية طريقة؛ مشروعة كانت أم غير مشروعة، فسطوا على مخازن الكتب والمخطوطات وانتهبوها ورحلوها إلى بلادهم، ثم منُّوا علينا بعد ذلك بنشرها، وأنهم حفظوها لنا.
وخير مثال على هذا: المستشرقون الذين كانوا مصاحبين للحملة الفرنسية على مصر، فقد سرقوا كل نفيس من الكتب والمخطوطات التي كانت تزخر بها القاهرة[6].
تلك حقيقة علاقة الاستشراق بالمنهج العلمي في دراسته للإسلام، وذلك واقع تعامله مع تراثه.
[1] المستشرقون 3/ 598.
[2] السابق 3/ 602.
[3] المستشرقون 3/ 603.
[4] السابق 3/ 601.
[5] المستشرقون 3/ 598، نقلا عن مجلة الشبان المسلمين، عدد ديسمبر 1960م.
[6] راجع: رسالة في الطريق إلى ثقافتنا، للعلامة محمود محمد شاكر، ص 142 - 146، ففيه تفصيل وتجلية لهذه الأمر، وتدليل عليه.
المصدر: https://www.alukah.net/culture/0/102419/#ixzz5llI7XAfD