موقف المستشرقين من العربية الكلاسيكية
اللغة الكلاسيكية كما رآها بعض المستشرقين بنظرة تاريخية، هي تلك اللغة غير المحددة في دراستها بزمن معين، وفي الوقت ذاته المكتسبة لصفة القِدم، والتي تعتبر مرحلة من تاريخ اللغة – طالت أم قصرت - بينها وبين المراحل التالية لها كثير من الاختلافات الموزَّعة على مستويات اللغة المختلفة. فهم يرون "تاريخ اللغة، أيَّ لغة، على أنه سلسلة من المراحل المتباعدة تاريخيًّا، حتى يصبح الفرق واسعًا بين ماضي اللغة وحاضرها، ويشمل الاتساع في الفروق بين المراحل اللغوية جميع الجوانب اللغوية من نحو وصرف وصوت ومعنى"[1].
ولذلك فمفهوم " الكلاسيكية عند المستشرقين مرتبط بالقِدم وأما مفهوم المعاصرة فمرتبط بالحداثة. وتاريخ اللغات الأوروبية يعرف هذين المفهومين، وما يترتب على كل منهما من تغيُّر واسع بين ماضي اللغة وحاضرها في جميع جوانبها"[2]
وبناءً على وجود هذين المفهومين في الفكر اللغوي الغربي، فقد تأثر به المستشرقون في معالجتهم للعربية تأثرًا انعكس على نظرتهم لها – كما لغيرها من اللغات - على أن لها مرحلةً تاريخيةً تُعرف فيها بالكلاسيكية، ومن ثم استخدم البعض منهم مصطلح (العربية الكلاسيكية)، فهم "يسمونها العربية الكلاسيكية على نحو ما يسمون اللغات القديمة كاليونانية واللاتينية"[3].
فمن الواضح أن المستشرقين اعتمدوا في استنباطهم لمفهوم الكلاسكية في اللغة وخصائصه على نظرتهم للاتينية أو للغاتهم القديمة التي بينها وبين لغاتهم الحديثة أوشاج مقطوعة، وإلى هذا الحد فلا مشكلة في تلك النظرة، وإنما تطل المشكلة برأسها حينما يجعلون مفهوم الكلاسيكية مقياسًا معياريًّا صالحًا لأن تخضع له اللغاتُ كلها؛ مما يُعد بعدًا عن المنهج العلمي السديد الذي لابد فيه من مراعاة تميز بعض اللغات وتفردها عن غيرها، ويترتب عليه بعض الآثار السلبية على النحو التالي:
آثار هذه النظرة:
وقد ترتب على هذه النظرة للعربية القديمة بعضُ الآثار السلبية، التي منها:
1- سخرية البعض منهم من تعلُّق العرب بالفصحى مع كونها من اللغات التي هُجرت منذ أمدٍ بعيدٍ أو في طريقها إلى الهَجْر، يقول المستشرق وليم بولك في تقديمه لكتاب (العربية الفصحى الحديثة) لـِ: ستتكيفتش - ساخرًا من تعلُّق العرب بالفصحى: "أليست اللغة قبل كل شيء مجرد وسيلة اتصال، ومن ثم تقوم بصورة أساسية في ضوء الجوانب العملية؟ وإذا ما وجدت وسيلة أفضل متوفرة ألا ينبغي اتخاذها؟ أيمكن أن تكون ثمة مزية حقيقية في المحافظة على لغات لا تفي بما يطلب منها؟ لغات هجرت منذ أمدٍ أو في طريقها إلى أن تهجر؟"[4].
2- اتهام البعض منهم للعربية الفصحى بالجمود والربط بينها وبين اللاتينية الكلاسيكية من هذه الوجهة، فكارل فولرس في كتابه (اللهجة العربية الحديثة في مصر) لم يفته " أن يندد في نهاية مقدمته بجمود العربية الفصحى وشبهها باللاتينية الكلاسيكية، وشبه العلاقة التي بينها وبين اللهجة المصرية بالعلاقة التي بين اللاتينية الكلاسيكية، والإيطالية الحديثة "[5].
فهذا المقياس الذي وضعه الأوروبيون للغة الكلاسيكية يعمد المستشرقون إلى تطبيقه أثناء دراستهم للغة العربية بتاريخها المديد، غير منتبهين أو مبالين بما لها من خصوصيات ليست لكثير من اللغات، منها على سبيل المثال:
أولًا: أن للعربية بُعدًا دينيًّا في غاية الأهمية، وفي تجاهله تجاهل لخاصية أصيلة، فعلى سبيل المثال فإن كثيرًا من "المستشرقين لا ينظرون إلى اللغة العربية من خلال ربطها بالرسالة المنوطة بها، وهي حفظ القرآن الكريم، فكيف إذا جَمَعَ بعضهم إلى ذلك سوء النية المبيت"[6] ولذلك فإن كثيرًا من الدعوات الداعمة للعامية لا تلقى قبولا في بيئتنا العربية؛ لتجاهل الداعين إليها البعدَ الدينيَّ لهذه اللغة، يقول أحد الباحثين: " إن مرد التوتر الناشب بين دعاة العامية وحماة الفصحى يعود بالدرجة الأولى – في رأيي- إلى اختلاف الفريقين في صلة الدين؛ أي دين باللغة؛ أي لغة، فصلة الدين باللغة عند دعاة العامية من المستشرقين والنصارى العرب لا تختلف عن صلة التجارة والحرب والسياسة بها. ولذلك تراهم يعتبرون التحول عن الفصحى إلى العامية أمرًا طبيعيًّا، في حين يراه دعاة الفصحى يعني الهلاك والفناء والاندثار؛ لأن صلة الدين الإسلامي عندهم – وعندي- ليست بأقل درجة من صلة الروح بالجسد، وترى أنصار الفصحى يكتبون في هذا الشأن وكأنهم في المحراب يصلون صلاة المودع، أما كتّاب الغرب وأشياعهم فلا يعيرون صلة الدين باللغة أهمية أكبر فإن أمرَهم يختلف تمامًا فيما يكتبون"[7]
ثانيًا: لا بد من التنبه إلى أن الوشائج المقطوعة بين اللاتينية واللغات الأوروبية الحديثة ليست هي نفسها الوشائج التي بين العربية الفصحى القديمة وما بين أيدينا الآن منها، ذلك " أن العربية تختلف عن سائر اللغات الأخرى في أصولها وتاريخها وحياتها، فالعربية حتى اليوم لا تزال قائمةً على أسسها المتينة، وأعمدتها الصلبة، لم تصبها الهزات التي أصابت اللغات الأخرى، فالنصوص التي بنى عليها الدارسون أبحاثهم وملاحظاتهم وخرجوا منها إلى القواعد والقوانين لا تزال معينًا لا ينضب، ولا تزال القيم التي تعد معايير للفصاحة والبيان الناصع للشعراء والخطباء والكتاب والمؤلفين هي هي... وذلك كله إنما ثبت بالنسبة للعربية ولم يثبت لغيرها من اللغات؛ لأن العربية تناسلت تناسلا طبيعيًّا، واحتفظت بأصالتها، وأصولها التركيبية والدلالية والصوتية والبنائية منذ أقدم عصورها فيما تناقلته الأجيال العربية من نصوصها الأدبية.. في حين فقدت اللغات الأوروبية هذه الخاصية، فانبتت أصولها، وابتعدت عن أمها اللاتينية التي أصبحت في عداد اللغات الميتة.. ومن هذا المنفذ دخل البنيويون ينظرون إلى اللغة على أنها الموجودة بين أيدينا، لا نعرف لها أصلا، ولا ننظر في تراثيتها، ولا نقارن بينها وبين ما كانت عليه، وإنما ينظرون إليها نظرة (آنية شمولية). ويعني ذلك أنهم مضطرون إلى هذا المنهج من الدراسة اللسانية لما تميزت به اللغة المدروسة من خصوصيات. فهل يا ترى حصل للعربية هذا الانبتار عن الأصل، حتى نضطر إلى تطبيق المنهج من جديد لدراستها ووضع قواعدها وفقا لمتطلبات مرحلتها؟! وما أظننا لو طبقنا المنهج البنيوي في دراسة نصوص العربية الصحيحة خارجين بأكثر مما خرج به النحويون العرب من أحكام وقواعد." [8]
[1] بحوث في الاستشراق واللغة (328) د. إسماعيل عمايرة، مؤسسة الرسالة- دار البشير، ط. أولى 1417هـ- 1996م.
[2] السابق (329).
[3] المستشرقون والمناهج اللغوية (89).
[4] العربية الفصحى الحديثة (بحوث في تطور الألفاظ والأساليب) (18، 19) ستتكيفتش، ترجمة: محمد حسن عبد العزيز 1985م. وينظر: المستشرقون والمناهج اللغوية (112).
[5] تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر (25) د.نفوسة زكريا سعيد، ط: الأولى، 1383هـ- 1964م.
[6] المستشرقون والمناهج اللغوية (113).
[7] قراءة جديدة في قضية الدعوة إلى العامية (77، 78) د. عبد الله أحمد خليل إسماعيل مجلة الجامعة الإسلامية، المجلد الخامس- العدد الثاني، 1997م.
[8] البحث اللغوي وصلته بالبنيوية في اللسانيات (56، 57) بتصرف يسير. د. رشيد عبد الحميد العبيدي، مجلة الآداب بالجامعة المستنصرية- بغداد، العدد الثاني عشر، 1985م.
دلالة الألفاظ، د. إبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو المصرية، ط: خامسة، 1984م.
المصدر: https://www.alukah.net/culture/0/106976/#ixzz5lfX5xPuC