الحرية في ظلّ الله: المفهوم الغربي للحريات الدينية ومقاربةٌ للرؤية الإسلامية
الحرية في ظلّ الله: المفهوم الغربي للحريات الدينية ومقاربةٌ للرؤية الإسلامية
مايكل نوفاك*
1- في البداية بحثاً عن المعرفة: أنتهز فرصة الكتابة في موضوع الحرية الدينية بالولايات المتحدة، للتعرف على أمورٍ تتعّلق بكيفية تفكير المسلمين في مسألة الحرية.إنّ موضوع هذه الورقة بالفعل إيضاح مفهوم الحرية الدينية لدى الأميركيين؛ لكنّ الهدفَ الآخر أيضاً التعرُّف من الأصدقاء المسلمين عن كيفية تفكيرهم المختلف أو المتوافق في هذه المسألة بالذات. وأعتقد أنني سأُفاجأُ بوجود مشتركاتٍ كثيرةٍ بين الطرفين في الأمر. ومع ذلك فقد يكونُ ما أظنه وهماً ناشئاً عن عدم المعرفة. أخبرني أصدقاء مسلمون، أنّ هناك ثوراناً كبيراً هذه الأيام بين الشعوب الإسلامية، وأشواقاً عميقةً إلى الحرية، وسعياً إلى الاعتراف بالكرامة والحريات الفردية. وذكروا أنّ هذا السعي الحثيث يمضي في اتجاهاتٍ أربعة: شخصية ودينية وفلسفية وسياسية. ويعتقد هؤلاء أنه من الممكن بل والضروري أن تكون مسلماً حقاً، وأن تتمتع بالحرية في الوقت نفسه. من الممكن أن تكون مسلماً وربما أن تقف في الوقت نفسه تحت مظلة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان متمتعاً في الوقت نفسِه بالحريات والاحترام والفُرَص الاقتصادية مثل سائر الناس على هذه الأرض فالله -سبحانه- الذي وهبنا الحياة وهبنا الحرية بالقدْر نفسه. والذي أراه أنّ هؤلاء المتحدثين قد صَدَقوني القول. إنّ آلامَ المائة عامٍ الأخيرة الناجمة عن الظلم وخيبات الأمل وسفك الدماء، وانتهاك حقوق الإنسان، والإساءة إلى الكرامة الإنسانية، في أنحاء العالَم الإسلامي؛ كل ذلك بعث لدى المسلمين الإحساس بأنّ العالَم لم يتعاملْ معهم بالقدْر نفسه من الإنصاف الذي تعامل به مع جهاتٍ أُخرى ضمن الإنسانية. وهذا المسارُ الصعب يشكّل عقبةً؛ لكنه يشكّلُ دافعاً أيضاً. والذي أعتقده مرةً أُخرى أنّ هذه الأسئلة والتساؤلات جميعاً هي بتصرف الأصدقاء المسلمين، وهم وحدهم يستطيعون التعامُلَ معها، والإجابةَ عليها.
2- كيف توصل الملحدون إلى القول بالحرية الدينية؟ يملك الملحدون الأوروبيون فهمهم الخاصّ طبعاً للحرية الدينية. إنهم لا يعتبرون الدّين أمراً مهماً؛ لكنهم يتقبلونه باعتباره واقعةً اجتماعيةً تستحق الاعتبار والاهتمام. من الناحية السياسية، ومنذ قيام الثورة الفرنسية عام 1789م أصرُّوا دائماً على استبعاد الدّين من المجال العام، وقَصَروا الدينَ على المجال الخاصّ، وتجاهلوا أدوارَه الأُخرى خارج الحياة الشخصية. وقد حاولوا دائماً تقديم الدولة على الكنيسة والكنيس والمسجد؛ بحيث يسيطر النظام السياسي على كل جوانب الحياة العامة. وبذلك فقد همَّشوا المؤسسات الدينية، وتركوها بدون أنياب. وهذه العملية هي ما يسميه الأوروبيون: لائيكية أو بشكلٍ أعمّ علمانية. وقد أَمَلَ العلمانيون من وراء ذلك كلّه أن يأتي زمانٌ يختفي فيه الدين ككل الأشياء القديمة التي تجاوزَها الزمن. وتابعوا أنّ الأزمنة المقبلة سيكون التديُّنُ فيها أقلّ من اليوم- وسيكون ذلك أمراً جيداً.
أمّا الولايات المتحدة فإنّ الأمور والتطورات بشأن الدين كانت مختلفةً بعضَ الشيء. هناك طبعاً بين الأنجلو- أميركيين أُناسٌ شاركوا الملحدين الفرنسيين آمالهم وتوقُّعاتهم. بيد أنّ أكثر الأميركيين ظلوا يَرَونَ أنّ الدينَ له مكانتهُ البارزة المقبلة سيكون التديُّنُ فيها أقلّ من اليوم- وسيكون ذلك أمراً جيداً.
بيد أنّ أكثر الأميركيين ظلوا يَرَونَ أنّ الدّينَ له مكانتُهُ البارزة في المجالين الخاصّ والعام في بريطانيا والولايات المتحدة. والواقع أنّ الأنجلو-أميركيين طوَّروا رؤيتين للحرية أو حرية الضمير: الأولى تتأسَّس على مقدماتٍ غير دينية، مفتوحة للملحدين وللمؤمنين بالله. والثانية تتأسس على المفاهيم الدينية النابعة من الدين الإبراهيمي الذي يقول بالخالق والقادر والسامي فوق كلّ الأشياء. تقول الرؤية غير الدينية أنّ الإنسان بطبيعته قادرٌ ومسؤولٌ عن قَبول أو رفْض هذا الأمر أو ذاك استناداً إلى ضميره، وهو بذلك مسؤولٌ عن اختياره وقراره في حياته ومصائره. وهذا الحقُّ ضروريٌّ ولا يمكن إنكارُهُ أو التعرض له. إذ لا يستطيع أحدٌ أن يتخذ قراراً بهذا الشأن مكان أيّ فردٍ آخر. وبهذا المعنى يُعتبر الضمير الإنساني السلطة الأعلى بالنسبة للأفراد. ومع أنّ هذا الدفاع عن الحرية الفكرية لا يتناول الحرية الدينية بالتحديد، لكنه يدافعُ عن حرية الضمير، ومن ثم عن الحرية الدينية بوصفها اختياراً إنسانياً حقيقياً للضمير الحرّ. وحتى إذا كان الملحدون يرفضون هذا الاختيار لأنفُسهم؛ فإنهم يقدرّون الفضيلة الاجتماعية والفكرية باحترامه لدى الآخرين. إنهم لا يوافقون على الاختيارات الدينية لدى الأفراد، لكنهم يحترمون حقَّهم في اتخاذ تلك الاختيارات.
إنّ دفاع المدنيين عن الحرية الدينية، أو بشكلٍ عامٍ حرية الضمير، مختلفٌ بعضَ الشيء. وسأعرض هنا تفكير كلٍ من توماس جيفرسون، وجورج ماسون، وجيمس ماديسون، وفرجينيين آخرين، كان لهم دَورٌ في صياغة إعلان فرجينيا للحريات الدينية عام 1776م والدفاع عنه. وقد سبق لي أن عرضْتُ لهذا المنطق بالتفصيل في كتابي المبكّر بعنوان: "على جناحين: الإيمان والحسُّ العامّ في التأسيس الأميركي"*؛ وذلك في فصلٍ بعنوان: "كيف علَّل الفرجينيون الحريات الدينية". ولذلك سأُلخّص الموضوعَ هنا بطريقةٍ مفهومة. قال الفرجينيون: إنّ هذا العالَم أوجده خالقٌ رحيم، قادرٌ على كل شيء. وقد أراد –سبحانه- أن يَلْطُفَ بعباده الذين هم أحرارٌ وليسوا عبيداً، وهو يريد أن يؤدَّى له الشكر من طريق عبادته بالروح وبالحقيقة وبطهارة الضمير. وبكلماتٍ أخرى، فإنّ الله –سبحانه- لا يمكنُ خداعُهُ بالأعمال الظاهرة، بل إنه ينظر مباشرةً إلى سرائر الناس. وباختصار فإنّ هذه الرؤية تتضمن أربعة مبادئ: عَظمة الله –سبحانه- وتعاليه فوق كل الأشياء- وواجب المخلوق في الاعتراف به –سبحانه-، وبشكره وعبادته- والثالث حرية الروح التي وهبها الخالق للإنسان للقيام بهذه الأعمال- والرابع المودةُ مع سائر الناس التي يريدُها الله، ويدعو للمشاركة فيها؛ والحرية التي تتضمّنُها تلك المودَّة.
استناداً إلى هذه المبادئ الأربعة، وأخذاً لها بالاعتبار؛ فإنّ إعلان فرجينيا، وكذلك، "اعتراض" جيمس ماديسون على حاكم فرجينيا والذي حاول جمع توقيعات عليه، استخدام الحجج التالية. أنّ كل مخلوق بشري، يتأمل النعم التي أنعم الله بها عليه، فيتكون لديه وعي بتقديم فروض الطاعة والولاء للخالق، بالروح وبالحقيقة، وذلك في ضوء الضمير الفردي، ودونما إرغام من أي نوع. إنّ هذا "الواجب" (واجب العبادة) مقدس، وسابق على الواجبات التي يقتضيها الاجتماع المدني(وحتى تجاه الأهل والأصدقاء) والواجبات تجاه الدولة. فالواجب الديني الذي يعيه العقل والضمير موَّجهٌ أساساً إلى الخالق، بدون وسيط. بيد أنّ هذا الواجب يستتبع حقاً أيضاً. إنّ واجب المخلوق تُّجاه الخالق، يسبق كلَّ وعي آخر، ويتقدم عل كلّ حق إنساني آخر. وهذا معناه أنه يقتضي حقاً لا مردَّ له يتمثل في إقدار الإنسان على ممارسة هذا الواجب/ الحقّ. والذي لا يمكنُ إعَاقتهُ من جانب أيِّ قوةٍ أرضية. إنه حقٌ بَدَهيٌّ يتعلقُ بطبيعة الإنسان ذاتها. وهو بين الروح الإنساني وخالِقِه وهو يتقدم كلَّ حقٍ آخَر. وبدون ثنائيةٍ أو إرغام؛ لوجه الله -سبحانه-. وهكذا فإنّ مسألة الحرية الدينية تبدأ مع نشوء العلاقة المباشرة بين الخالق والمخلوق. الخالق الذي يَلْطُفُ بالإنسان ويهبهُ مودَّتَه ومحبتَه، والتي يقبلها الإنسان أو يرفضُها بكل حريةٍ وبدون إرغام؛ بل بالإحساس العميق بالمسؤولية تُجاه ذاك الاختيار الأبدي. ويتضمن ذلك كلّه مبادئ الوجود الإنساني الفطرية، كل الناس أحرار ومتساوون أمام الله من خلال تلك الحرية التي وهبها إياهم –سبحانه-، والتي تعني استقلاليةً تامةً عن الدولة وقيصر. وعلى هذين الأمرين يستندُ التعليلُ الديني للحرية الدينية، كما عبَّر عنها إعلان فرجينيا، وهي التي تؤسِّسُ للحق الطبيعي للإنسان؛ إذ إنّ الحرية هبةٌ إلهية. الحقوق إذن أساسيةٌ وفطريةٌ، ولذلك فهي ليست قاصرةً على اليهود والمسيحيين، بل تتعداهم إلى كلّ خلائق الله – من المسلمين والهندوس والبوذيين وكذلك الملحدون والشكَّاك. لأن هؤلاء جميعاً يستمدون حريتهم مباشرةً من خالقهم عندما خَلَق الخَلْقَ. فقبل الزمان، يعرف الله –سبحانه- كلَّ الخلائق الأفراد بأسمائهم، وهو يدعو كُلاًّ منهم بمفرده. لكنه -عزَّ وجلَّ- يسمح لكلٍ منهم واجباً وحقاً، أن يقبل أو يرفض تلك الدعوة، بحسب ما يرشده ضميره إلى ذلك.
إنني أرى أنّ هذا التسويغ جميلٌ بشكلٍ خاص، لأنّ أولئك الذين توصلوا إليه أولاً، وعرضوه للموافقة العامّة؛ التي حصل عليها الإعلان، أقرّوا بأنّ الاختيار الحرّ هو حقّ لكل البشر بالتساوي، وحتى أولئك البعيدين عن دائرتهم المباشرة. فهم لم يدعوا حقاً لأنفسهم لم يُقروا به للآخرين من بني البشر. وهكذا هو السبب الذي من أجله تحدثوا عن الحقوق الطبيعية. فهذه الحقوق لم تتأسس على الثقافة أو الإثنية أو العشائرية أو النزعات الدينية المسيطرة؛ بل على أنّ البشر جميعاً متساوون. وصحيحٌ أنّ الجذور التاريخية لذاك الحق جرى اكتشافها من جانب مجموعة دينية في التاريخ الإنساني؛ بيد أنّ الأصولَ الفلسفية والعملية(إذا كانت حقيقيةً) فهي كونية.
3- بعض التأملات في "الكنيسة والدولة" (المسجد والدولة؟):
إنّ الأميركيين الأوائل ما تكونوا من الفرجنييين فقط؛ بل كان بينهم أبناء بنسلفانيا الذين كانت لهم إسهاماتهم, وقدَّموا لمسألة الحريات الدينية أفكاراً وممارساتٍ كانت ربما أكثر نجاحاً وكذلك الأمر مع أهل ماساشوستن الذين قدَّموا بدورهم إضافاتٍ مهمة، شأنهم في ذلك شأن أبناء الولايات الثلاث عشرة الأُولى. لقد وضع هؤلاء جميعاً دستور الولايات المتحدة عام 1787م، وإعلان الحقوق الذي صار قانوناً عام 1792، واستطاعوا إقناع الكونغرس الاتحادي أنه ليس من حقّه إصدار قوانين بشأن سداد دينٍ معيَّن، أو التأثير على حرية الممارسة الدينية ذاتها. وكانت تلك هي الطريقة التي تأسَّس عليها الفصلُ بين الكنيسة والدولة. فهم لم يقبلوا أن يفرض الكونغرس على الأميركيين ديناً معيناً.
بل أخرجوا الحكومةَ من مجال التدخل في الشأن الديني. وبذلك حالوا دون أن يتحول أيُّ دينٍ في الولايات المتحدة إلى عقيدةٍ رسميةٍ للدولة، مفروضة على الناس جميعاً (وقد حاولت بعض الولايات فرض دينٍ معينٍ لجيلٍ أو جيلين؛ لكنّ ذلك أثبت عدم جدواه وصلابته بالنسبة للدولة وللكنيسة معاً). فقد أرتْهُمُ التجربةُ أنّ الكنيسة والدولة تزدهران معاً إذا كان رجال الدين لا يستنصرون بالدولة في ممارساتهم الدينية، كما أنّ الدولة لا تستطيع فرض أمرٍ من الأمور باسم الدين. فاعترف قادة الدين والسياسة على حدٍ سواء بأنّ على كلٍ منهم أن يقتصر على ممارسة اهتماماته ومصالحه، دونما تعّدٍ على عمل الجانب الآخر. ولا شكَّ أن الكنائس والمذاهب المختلفة ازدهرت في الولايات المتحدة بهذا التوافق، أكثر مما أفادت الكنائس الرسمية في أوروبا.
بيد أنّ اعتبار الحلَّ الأميركي للمسألة الدينية فصلاً بين الدين والدولة، ما كان اعتباراً موفَّقاً. إذ هو في التطبيق يشبه أن يكون تلائماً أو توافقاً على الاعتراف المتبادل والاحترام المتبادل. ففي الشعائر الدينية، كان رجالات الدولة يظهرون بطريقةٍ رسمية. وفي أعمال الدولة، كثيراً ما تبدأ المناسبة بصلاةٍ يتلوها أحدُ رجال الدين. وفي الاحتفالات كثيراً ما توضَعُ كلمةٌ أو مُلاحظاتٌ دينيةٌ تنتهي بصلاة. وقد وصف المعلّق البريطاني الساخر ج.ك.
سترون أميركا بأنها "أمةٌ لها روح كنيسة". كما لاحظ أنّ إعلان الاستقلال والدستور يعُامَلان كأنما هما نصَّان مقدَّسان. كما أنّ الأميركيين يتحدثون غالباً وبسهولة عن "الإيمان الأميركي" وهم يقولون بتواضُع: "إننا نتمسك بهذه الحقائق لكي نكون واثقين". وفوق ذلك يتحدث السياسيون الأميركيون غالباً عن الله، وأحياناً بجديةٍ وتفان.
إن الطريقة الأميركية في النظر إلى علاقة الكنيسة بالدولة، مختلفةٌ عن الطريقة الفرنسية. ويمكن وصفها بأنها احترامٌ متبادَلٌ أو تلاؤم. لكنَّ الأميركيين حريصون على حرية واستقلال كلٍ منهما، في مكانها الخاص. والمواطنون يستطيعون التميز بسهولة بين ما هو لله وما هو لقيصر. وطبقاً لذلك فإنّ كلَّ جيل لديه رؤيته الخاصة بشأن الخطوط الفاصلة. فقد لاحظ كثيرون مثلاً أنّ الرئيس جورج بوش الابن ينظر إلى الدين بجديةٍ زائدة، وهو يتحدث عن الله عَلَناً وبقدْرٍ كبيرٍ من الاحترام. بل ولاحظوا أيضاً أنّ الرئيس بيل كلنتون كان يذكر الله علناً أكثر من بوش. وقد كان مهتماً بأن يُرى في الكنيسة في أيام الآحاد. وهذا يعني أنَّ الرؤساء الأميركيين يذكرون الله لأنهم يعرفون أنّ الشعب الأميركي, وهو شعبٌ متديِّنٌ, ينتظر ذلك منهم ويتوقَّعه. ودعْكَ من الانطباع الذي يتركه أفلام هوليوود وبرامج التسلية. وبكلمةِ أُخرى فإنّ فصل الدين عن الدولة تعبيرٌ غير موفَّق؛ ومع ذلك فهو يشير إلى اختلافٍ مهمٍ في الأدوار وفي فهم الشأن العامّ. وهذا ليس شأناً واحداً في كل المجالات. مثل امتزاج الدين والمجتمع في المساحة العامة مثل المباريات الرياضية الكبرى حيث من المعتاد أن تؤدَّى صلاةٌ علنيةٌ في البداية. فالدين والدولة أو الكنيسة والدولة، لا تحتلان المكان نفسه في ثُنائية الكنيسة والمجتمع. إنهما مفهومّ مؤسَّسي، لا يُقارنُ بالحقائق الأوسع للحياة اليومية. فالمواطنون الأميركيون لهم الحق في ممارسة دينهم في الحياة الخاصة، وفي الفعاليات العامة والمتنوعة للمجتمع المدني. ولهم الحق أيضاً في اتباع ضميرهم الديني في الحياة العامة، بالتلاؤم مع الأمانة لواجباتهم العامة، والأمانة لدستور الولايات المتحدة. وهم يستطيعون ممارسة حقوقهم في المجال العام متلائمين مع القواعد الديمقراطية للأخذ والعطاء ومع الفضائل المدنية لقناعاتهم الدينية أو الدنيوية في الموضوعات الكثيرة للحياة العامة؛ بما في ذلك القوانين المتعلقة بالزواج والولادة والموت.. وأمور أخرى كثيرة. إنّ الحياة المدنية تصبح أكثر حيويةً بالدين، وبخاصةٍ إن لم تتدخلّ فيها إرغامات الدولة.
4- الرؤساء الأميركيون والصلوات العامة: أودُّ أن أذكر أمثلةً قليلةً للتلاؤم بين الدين والدولة، وبين الدين والمجتمع، وكيف يبدو ذلك في الحياة الواقعية. وذلك من طريق ذكر أمثلةٍ لتصرف الرؤساء الأميركيين منذ الفترة المبكرة لأعمال واشنطن العامة؛ بادئاً بالرئيس جيفرسون(1800-1808م). فقد كانت تقامُ صلاةٌ عامةٌ في كنيسة البيت الأبيض يحضرها الرئيس غالباً كلَّ يوم أحد. وتعزفُ الموسيقى فيها فرقة البحرية الموسيقية، وكثيراً ما قرر مجلس الكونغرس قبل جيفرسون وبعده إقامة صلاةٍ في عيد الشكر أو الصوم أو التواضع والطاعة في ساعة الشدة. وقد فعل ذلك مَثَلاً الرئيس جورج واشنطن عام 1789م متبعاً تعليمات الكونغرس إثر صدور قانون. وتلك الكلمة التي ألقاها الرئيس حافلةٌ بالشكر لله، وباللجوء إلى عنايته ورحمته. أما الرئيس أبراهام لنكولن فقد صلَّى عام 1863م وسط الحرب الأهلية من أجل رحمة الله وعنايته وهبة السلام والأمن والطمأنينة ونعمة الحياة، والخلاص من دمار الحرب. وقد استمر الرئيس لنكولن خلال الحرب في التأكيد على الأرضية الدينية المشتركة بين الأميركيين، خلال الحرب الأهلية، ليبعث روح المصالحة، ويدفع باتجاه التوحُّد وإنهاء الانقسام والعنف. ولنلاحظ أنّ ذكر الدين ما خفّ أو تضاءل في العهدين الأخيرين للرئيس كلنتون، والرئيس جورج بوش. ففي خطابه الأول بعد انتخابه شرح كلينتون برنامجه ثم اعتبر أنّ عمل الأميركيين إن هو لخدمة الله والإنسان. كما أنّ الرئيس مصِّر على ذكر الله في سائر كلماته العامة؛ من مثل خطاب الاتحاد في العام 2003م مثلاً، وفي مناسباتٍ أُخرى كثيرة.
لكنّ في الوقت الذي يُصُرّ فيه الرؤساء الأميركيون على الملاءمة بين الكنيسة والدولة والدين والمجتمع تبعاً للتوليد الأميركي.. يكونُ علينا أن نعترف أنّ قبضةً صغيرةً لكنها مهمة من الإلحاد والعلانية وحتى العراء تُجاه الدين ما تزال تنمو داخل فئاتٍ بارزةٍ ضمن النُخَب الأميركية؛ وبخاصةٍ في دوائر التسلية والترفيه(السينما والتلفزيون) والصحافة والحياة الأكاديمية. ما يزال الأميركيون متدينين؛ لكنّ قدْراً كبيراً من الاستخفاف بالدين يشوبُ تفكير وتصرفات الإنتلجنسيا، وهذا الأمر يشير بالفعل إلى وجود تعدديةٍ صحيةٍ وتنوعٍ كبير. لكنّ ذلك كلَّه ليس دون خَطَر. ذلك أنه "ثقافة المقاهي" اللادرية وغير الملتزمة في أوروبا العشرينات(من القرن العشرين) هي التي شهدت للفاشيات وللشيوعية التي ضربت جذوراً عميقة (أكثر مما تجددت في الطبقات العاملة). فأيديولوجيات الإرهاب، والعنف والإجرام، تحتاج لصعودها إلى ضعفٍ في مفاهيم القانون الطبيعي، وأخلاقيات العقل والدين. وهذا ما يدفعُ إلى اعتبار الدين والعقل على حاشية التهميش.
5- مسألة العلمانية: اتفق البابا نبديكتوس السادس عشر ورئيس مجلس الشيوخ الإيطالي مارسللوبيرا، على كتابة كتابين: بدون جذور وأزمة أوروبا؛ يتحدثان فيها عن الأزمة الأخلاقية في الغرب من خلال ارتفاع شأن العلمانية؛ وفي السياق ذاته إحياء النسبية بل والعَدَميهَ. لقد وسط محْنةٍ مُشابهةٍ من قبل، فلماذا العودةُ إلى هناك؟
وإذا بدأنا بالعلمانية، يكون علينا أن نلاحظ أنها بدت بمثابة تقدم نحو التعددية، بعد عهودٍ من الحروب الدينية؛ أو الحروب التي أدَّتْ فيها الأديان دوراً معيناً(إذ غالباً ما تحدث تلك الحروب بسبب صراعات القوى السياسية، والعداوات، والمصالح). وكذلك الأمر مع الإلحاد واللاأدرية. إذ كثيراً ما تابع أصحابها حياتهم الأخلاقية والمنتجة والمتأثرة بالماضي الديني والقيم الدينية. وفي بعض الأحيان بدا هؤلاء أكثر إقبالاً على الحياة الأخلاقية والإحسان، من المتدينين أنفُسِهم. بيد أنّ الإلحاد، كما ذكر بينديكتوس؛ والذي يظهر أحياناً بمظهر الالتزام العاطفي، لا يمكن أن يكون موقفاً للعقل. فلا أحد يعرف بما فيه الكفاية عن سياقات الوجود، لكي يصل بالتأكيد إلى عدم وجود الإله. ولهذا السبب يبدو أحياناً أنّ اللاأدرية هي الموقف الأكثر إقناعاً، والأكثر جاذبيةً واقتراباً من الموقف الأخلاقي. وفيها من الجاذبية ما يدعو للإعجاب! بيد أنّ البابا الكاثوليكي يتابع قائلاً إنّ النظرية شيء، والتطبيق والواقع شيءٌ أخَر. فاللاأدرية قد تكون جذابةً في النظرية والتخيُّل؛ باعتبار أنها تُظهر هدوءاً وتواضعاً – لكن في الواقع لا أحد يستطيع البقاء على الحياد. إذ في الحقيقة إنّ على كل امرئٍ أن يحيا إما باعتبار الله موجوداً أو باعتبار أنه غير موجود! وإذا كان الأمر بهذه الخطورة؛ فإنّ لذلك نتائج شاسعةً في المجال العملي, على تفكير وتصرف الأفراد "الأدريين" و"اللاأدريين". إنّ الذهنَ المفتوحَ على الله يكون مفتوحاً أيضاً على الاحتمالات والأفكار كافة؛ في حين تختفي الاحتمالات كلُّها مع تراجُع فكرة الوجود الإلهي، وتُصبح الأخلاقية الإنسانيةُ عُرضةً للدمار.
يضع البابا بينديكتوس المسألة على هذا النحو: إنّ المجتمع العلماني الخالص الذي يؤمن بالعيش بدون إله، يميل إلى تقديم الحرية الفردية على كل اعتبارٍ أخَر. وذلك لأنّ هذه القيمة أو الفضيلة هي مبدأٌ ديمقراطي، وباعتبار أنّ السياسات الأُخرى أكثر أخطاراً وتهديدات على الديمقراطية. بيد أنّ هذا التقديم لا يمكن التمسك به، وإلاّ أفضى إلى الكثير من التناقُضات. وعلى سبيل المثال؛ فإنّ المرأة المتفردة والتي اختارت أن تجهض جنينها، ربما بدت لأول وهلةٍ باعتبارها تمارسُ حقاً من حقوق الإنسانية. لكنّ وكما نعلم فإنّ تصرفها هذا يعني تدمير حياةٍ إنسانية أُخرى، هي الطفل المتحرك في الرحم، وهو ليس استنساخاً عنها جسدياً أو روحياً بل هو حياةٌ إنسانيةٌ أُخرى ومتفردة. وهكذا فإنّ العلمانية تنتهي بأن لا تقول بالمساواة أو بالحقوق المتساوية لبني البشر في الحياة؛ بل يصبحُ الأمر تقديماً لبعض الناس على البعض الآخر. بالإضافة لذلك فإنّ العلمانية تنتهي بتدمير مبدأ أساس من مبادئ الديمقراطية؛ في الوقت الذي تدعي فيه أنها وحدها تحافظ على الديمقراطية. وذلك لأننا عندما نُعطي المرأة الحامل حقَّ إجهاض طفلها فإننا نقدّم طرفاً قوياً على طرفٍ ضعيف؛ وبذلك نقدّم اعتبارات القوة على الضَعف. وهكذا تقعُ العلمانية في تناقُضاتٍ أخلاقية ادعت من قبل أنها هي التي تحافظ عليها؛ الديمقراطية والتعددية. والواقع أنّ الإجهاض ليس المسألة الوحيدة التي تُوقِعُ في التناقُض الذاتي. فالخطر الأكبر للعلمانية أنها تُمعنُ في ضرب كل المبادئ؛ الحق الطبيعي، والعقل الأخلاقي، والدين. فباسم تقديم الحرية الفردية، والذوق الفردي، والحق الفردي في الاختيار؛ تقول بدايةً بالنسبية الأخلاقية، ثم تستمُّر في الانزلاق باتجاه العَدَمية الأخلاقية. فلا يبقى شيءٌ في المخزون الأخلاقي لدفع الاتجاه الثقافي إلى الانحطاط، أو تشجيع موجة من التخلخُل الأخلاقي. تتمسمر العلمانيةُ الإلحاديةُ على الفرد باعتباره الوحدة الأساسية في التحليل الأخلاقي، وأنّ الاعتبارات الفردية مقَّدمة على العقل الموضوعي، وأنّ الإرادة مقَّدمة على الذكاء. وبذلك يصلُ الأمر بالعلمانية للقول إنّ الحقيقة الأخلاقية لا يمكنُ للعقل الإنساني أن يدركَها. وهكذا فالذي تريده فعلاً هو ما تفضّلُهُ الذات الفردية. ولذلك ففي النزاعات الاجتماعية؛ تُصبْح القوةُ هي السلطة الأخيرة، القوة التي تتجرد عن اعتبارات الموضوعية العقلية.
إنّ هذا هو المنطق الداخليُّ للعلمانية. لكننا تجنبنا حتى اليوم نتائجه الأسوأ لأنّ التقاليد الدينية والثقافية تراجع ببطءٍ ولا تنهارُ دفعةً واحدة؛ وبخاصةٍ في الثقافات القوية. إنّ العلمانية ليست أساساً قوياً للديمقراطية. وهي لا تملكُ أيَّ أساس أخلاقيٍ يُجدِّرُ الحسَّ بها. كما أنها لا تملك الفضائل التي تحمي ممارسة الديمقراطية. وأودُّ التذكير هنا بما ذكره أبراهام لنكولن عن "المدفعية الصامتة للزمان"، والتي تشير إلى الدوافع والقوى التي اكتسبتها العلمانية من الماضي. ولكي توضع النقاطُ على الحروف؛ إنّ العلمانية لا تملكُ غير مصادر قليلةٍ لتسويغ مقولة أنّ الناس وُلدوا متساوين والتي لا تسندها الملاحظة التجريبية، ولا النداء من أجل التآخي أو الحرية. الحرية التي تتناولُ البشر وحسبْ، وليس الحيوانات؛ أعني الحرية الأخلاقية، وليس الحريات الغريزية والشهوية التي تعرفُها الكائناتُ الأُخرى أيضاً. وكذلك الأمر مع القيمة الكبرى للحداثة والتقدم, وأعني بها الليبرالية، فأين الالتزامُ الأخلاقيُّ بالفقراء والضعفاء؟ وما هي المقاييس العمليةُ للتقدم ذي الأبعاد الأخلاقية؟ إنّ التفضيل العقلاني للمسألة لا يجعلها ضروريةً أو لا يحوِّلُها إلى دافعٍ قويّ ٍ يحرّك الإنسان بالاتجاه الأخلاقي الصحيح.
إنّ الذي بدا في العقود الأخيرة أنّ ما يسميه الغربُ علمانية يستندُ إلى حدٍ بعيدٍ على الموروث الإبراهيمي. وهذا هو المصدر العميق -غير الملحوظ- للأُطروحة المنسوبة لليبرالية والتي تتمثل بالحرية والأخوة والمساواة والالتزام والتقدم. فالواقع أنّ انهيار الشيوعية بدون دمٍ كثيرٍ علتُهُ القيم المسيحية الآتية أو المستمرة من الماضي، في مثل عمل نقابة التضامن ببولندا، وكل المنشقِّين الآخرين. إذ الواقع أنّ الشوعيات والفاشيات تستنصرُ بالقانون الطبيعي للوجود الإنساني، والذي يقومُ على أنتروبولوجيا أخلاقية مشوَّهة. وإذا كان للديمقراطية أن تزدهر, فإنها لا تحتاجُ إلى التأسُّس على العلمانية. ذلك أنّ العلمانيةَ هي أساسٌ غير مأمونٍ للبقاء في ظلّ الديمقراطية.
6- سؤالٌ إلى الأصدقاء المسلمين: هي يمكنُ القولُ إنّ التقاليد العريقةَ للإسلام, تتضمنُ فلسفةً للحرية أو حتى فلسفةً للديمقراطية قائمة على التعددية الدينية, والتي يمكنُ أن تظهر ويدركُها الآخرون أيضاً خارج عالَم الإسلام؛ إنّ الذي يبدو بسيطاً وأساسياً أنّ كلَّ دينٍ يقومُ على الجزاء(الإتابة أو العقوبة) هو دينٌ يتضمنُ بالمعنى العميق نظريةً للحرية. إنّ الحرية لها في الحقيقة ثلاثة أبعاد: شخصية فردية، واجتماعية، وسياسية. ويمكن أن يجري تأمُّلُها من أكثر من وجهة نظر: ظاهراتية تتأسس على التجربة الشخصية. وفلسفية، وقانونية، وسياسية، وثقافية. وليس القصدُ هنا معالجة سائر هذه الأبعاد. ففي الختام أُريُد أن أسألَ الأصدقاء المسلمين الإيضاح والإرشاد في شأن هذه التساؤلات, التي تفيدُ في عمليات التلاؤم والفهم المتبادَل. وفي الاحترام المتبادَل ليست هناك حاجةٌ أو ضرورةٌ للتطابُق الدائم. لكنْ في ظلّ أساسياتٍ كهذه، يجري تجنُّبُ سوء الفهم من جانب أحدنا للآخر. وهذا أساسٌ مهمٌّ للفهم المتبادل، والعيش المشترك.
************
*) مفكر وأكاديمي من أمريكا.