التيارات (العربية – الإسلامية) في الفكر الصهيوني

سعد سعيد الديوەچي
 
الصهيونية حركة سياسية يهودية نشأت تاريخياً بعد السبيين الآشوري (72 ق.م)، والبابلي (586 ق.م)، وما أعقبهما من نكبات على أيدي اليونانيين والرومان، هدفها لمّ شمل اليهود في الشتات، وإرجاعهم إلى فلسطين..
وتمّ أخذ الاسم (صهيونية) من تلّة بالقرب من (القدس)، يجتمع عليها المسبيّون، ثمّ يظهر المسيح – الملك ليقيم مملكة إسرائيل الأبدية، بعد القضاء على أعداء اليهود في ملحمة تسمّى (هرمجدون).
والحركات الصهيونية الجديدة تبنّت هذا المفهوم بعد استعماله من قبل حركة أحبّاء صهيون، ثم أقرّها المؤتمر الصهيوني الأول في (بازل) (1897م)، وأخذت تعمل على تشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين لإقامة إسرائيل، حتى نجحوا بتأسيسها عام (1947م).
والحقيقة أن النجاح الذي حققه اليهود لم يكن بفضل نبوءات (التوراة)، بقدر ما كان بسبب تداخل المصالح

الاستعمارية مع الأحلام اليهودية في المنطقة، وتداخل الفكر الإنجيلي – البروتستانتي مع الفكر التوراتي في هذا الصدد، ويعتقد كلاهما بعودة مسيح منتظر لإقامة هذه الدولة.

انبثقت (المنظمة الصهيونية العالمية) كمؤسسة تضمّ كل المؤسسات اليهودية التي أقرّت مقرّرات (مؤتمر بازل) (1897م)، والتي كان هدفها الإسراع بإقامة وطن (قومي) لليهود، حيث كان (تيودور هرتزل) (ت 1904) لولب المؤتمر ومحرّكه.
ونحن ليس بصدد تفاصيل هذه الحركة، وما آلت إليه الأحداث، فهذا أمر تمّت دراسته بكثير من التفاصيل، ولا زال الشغل الشاغل لمؤسسات عديدة. ولكننا سنستعرض تداخل الجوانب الدينية فيه، خصوصاً أن أرض الصـراع (فلسطين) تتداخل فيها بعض مفاهيم الأديان السماوية، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، بشكل قلّ نظيره في التاريخ بين الأديان الأخرى، وخصوصاً بما يتعلّق بمسألة الانتظار وإقامة دولة العدل الإلهي.
فاليهودية تنتظر مسيحاً من نسل داود، يكون جباراً وقوياً ليعيد أتباعه إلى فلسطين.. والمسيحية تنتظر نزول المسيح (ابن الله)، لإقامة مملكته الألفية في (القدس)، وعندهم أن اليهود هم الذين صلبوه.. والمسلمون ينتظرون عودة المسيح ابن مريم، قبل قيام الساعة، حيث سيسود السلام، ويعمّ الخير!.
وعليه، فمسيح اليهود هو غير المسيح عيسى (ع)، لأنهم لا يعترفون به، ومع ذلك قامت إسرائيل بالقفز فوق هذه المفاهيم.
في هذا الخضمّ ظهرت مجاميع في الغرب تبنت ما يسمّى بمبدأ (الصهيونية المسيحية)، وهم مجاميع غربية تنحدر من الكنائس البروتستانتية على الأكثر، حيث تؤمن بالتفسير الحرفي للكتاب المقدس؛ في قسميه القديم والجديد، وتؤمن بقيام إسرائيل، تصديقاً لهذه النبوءات، لأنها تشكّل المقدمة لنزول المسيح من السماء إلى الأرض كملك منتصـر.. ولذلك فالدفاع عن الشعب اليهودي مسألة لا نقاش حولها، تمهيداً لهذا النزول، لأن اليهود سيؤمنون بالمسيح بعد نزوله.
ورغم ما يعتري هذا المعتقد من ثغرات عديدة، إلا أن كثيراً من المؤسسات الصهيونية وجدته باباً لاختراق الفكر المسيحي البروتستانتي، واستغلاله على أتمّ وجه. وكان (هرتزل) موفقاً إلى حدّ بعيد في هذا المجال، خصوصاً بعدما فهم الأطماع الاستعمارية البريطانية في المنطقة، والتي تلتقي معه على نفس الهدف، حتى أنه اقترح في إحدى لقاءاته مع رجال دين مسيحيين إلى تحويل اليهود مؤقتاً إلى الديانة المسيحية، في سعيه لكسب ودّهم ودعمهم.
والحقيقة أن الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية، وخصوصاً الشـرقية، لا تؤيد الكنائس البروتستانتية في توجهها هذا، وتتعارض معها بمسألة نبوءات المسيح، الذي أخبر أن القدس ستدوسها الأقدام حتى نهاية الزمن!.
ومن المواقف المعارضة، قول الدكتور (جورج عطية)، في (أبرشية طرطوس) للروم الأرثوذكس: "المسيحية لم تعرف لا بشرقها ولا بغربها، وعلى مدى قرون، أيّ ميل لقبول أيّ فكرة صهيونية، وذلك بسبب التصادم الجذري بين المفهومين".
ونحن لسنا بصدد التوسّع في الموضوع، ولكي نكون ملتزمين بالعنوان، فنادراً ما يخطر بالبال أن بعض تيارات الحركة الصهيونية، خصوصاً في القرن التاسع عشر، نأت بنفسها عن التقرّب إلى المسيحية، ومالت للتقرّب من الوسط العربي – الإسلامي، لأنه المحيط الذي ستعيش فيه، أي بين العرب والمسلمين، وتستند على حقيقة أن العصـر الذهبي الثقافي والاجتماعي لليهود كان في الأجواء العربية والإسلامية، عندما كانوا مضطهدين في أوروبا لقرون طوال.
ويعتقد كثير من الباحثين أن وقوف (بريطانيا) بجانب الدولة العثمانية، في حروبها المستمرة ضد الإمبراطورية الروسية، في القرن التاسع عشـر، يعود لأسباب دينية واستراتيجية، بعدما تمكّن الصهاينة من احتلال مواقع متقدمة في صناعة القرار البريطاني.
ويمثّل هذا الاتجاه أحسن تمثيل رئيس الوزراء البريطاني (دزرائيلي) (1804- 1881م)، حيث درس المسألة بهذا الجانب وبالتفصيل، المستشـرق ذائع الصيت (برنارد لويس)، في كتابه (الإسلام في التاريخ)..
ولد (دزرائيلي)، الذي خدم كرئيس وزراء لبريطانيا على فترتين من (27 شباط إلى كانون الثاني من عام 1868م)، ثم من (20 شباط 1874 الى 21 مارس 1880)، من أب يهودي اعتنق المسيحية عام 1817م.. و(دزرائيلي) ككاتب وكسياسي تركت عليه أصوله اليهودية بصمات واضحة في تكوين أفكاره وأحلامه المتعلّقة بعودة اليهود إلى أرض الميعاد، ولكن من منظور مختلف، نستطيع تسميته بالصهيونية الشرقية، التي تختلف عن التيار الآخر، الذي هو تيار هرتزل، أو ما يسمّى بالصهيونية الغربية.
والحقيقة أن (دزرائيلي) تنطبق عليه نظرية الكاتب والمستشـرق (إسرائيل ولفنسون)، القائلة بأن اليهودي حتى إذا بدّل دينه، تبقى جذوره الدينية ملازمة له.
والصهيونية التي مثّلها (دزرائيلي) كانت ترى في العرب والمسلمين صلة قرابة مع اليهود، كونهم ساميون مثلهم، وأن التوحيد الإسلامي قريب جداً من التوحيد اليهودي، وكلاهما يمتلك من الشرائع المتماثلة الكثير، بينما اليهودية على مفترق طرق مع المسيحية في هذه الاتجاهات.
لقد تعرّض (دزرائيلي) إلى هجمات من خصومه، كونه يطبّق سياسة يهودية وليس سياسة انجليزية، وأنه كان يتجاهل المصالح البريطانية لصالح أهداف وأهواء العاطفة اليهودية لديه.. وفي معرض مساندته للدولة العثمانية في حرب عام 1877م، التي كادت أن تطيح بها روسيا، اتهمه خصومه بأنه يفعل ذلك لأن الروس اضطهدوا اليهود، وأنه كان مصمماً على سحق روسيا ومساندة أعدائها.
 وأما المحللون المعاصرون، الذين يُعدّ (لويس) أحد أعمدتهم، فيرون أن اليهودي حتى إذا تطهّر روحياً بالتعميد، وصار مسيحياً، فإنه يبقى شرقيّ الهويّة، وأن ولاءاته مع آسيا ضد أوروبا، ومع الإسلام ضد المسيحية.
ويضيف (لويس) أن مثل هذه الأفكار التي تبدو غريبة الآن، بعدما حصل من حروب بين العرب واليهود، وما رافقها من أعمال وحشية، إلا أنه في زمن (دزرائيلي) فإن صداقة اليهودي، أو ميله للمسلم، تؤخذ على أنها حقيقة، وأن سياسة (دزرائيلي) تنبع من هذه القاعدة بشكل طبيعي، للأسباب التي ذكرناها آنفاً.
وقد كتب أحدهم آنذاك بأن ظاهرة التعاطف الفائق للعادة التي تبنّاها اليهود في كل مكان في العالم، الى جانب السلطان ضد القيصر، ملفتة للنظر!.
والقوة الاقتصادية لليهود الغربيين جعلت البعض من السياسيين آنذاك يحذّرون من التعاون أو التقارب بين المحمديين (هكذا كتبها لويس) واليهود، لأن المسيحيين سيكونون هدفاً مشتركاً.
ويضيف (لويس) بأنه في زمن الحروب الصليبية كان اليهود حلفاء للمسلمين ضد الصليبيين، وفي الأندلس كذلك، ولذلك لا بد لمثل هذا التحالف أن يكون قوياً حتى يترك هذه الآثار العميقة في التاريخ. وعلى هذا المنوال ركّز منتقدو (دزرائيلي) في سياساته تجاه المسألة الشرقية وغيرها.
لقد ذهب منتقدو خط (دزرائيلي)، بشأن سياسة التقرّب مع تركيا، بقولهم بأنه لا يمكن أن نضحّي بسياسة (انجلترا)، بل ورفاهية أوروبا، من أجل الحفاظ على المشاعر العبرانية. وحذّروا بأن اليهودي في كل مكان في العالم صديق للتركي، وعدو للمسيحي الأوروبي، وأن سياسات (دزرائيلي) الشرقية وصلت إلى ما هو أبعد من كل هذه الدوائر. وكما قال أحدهم بأن يهودية دزرائيلي الفطرية لا بد وأن تؤثر على سياساته، فاليهود الشرقيين يكرهون المسيحيين بكل مرارة، لأنهم عاملوهم بشكل لا إنساني.
إن اعتزاز (دزرائيلي) بأصوله اليهودية أمر معروف للجميع، كما يقول لويس. وكانت القصص التي كتبها، وخطاباته، تشهد على ذلك بكل وضوح، وعلى ميله البالغ للأتراك والعرب والإسلام، وعلى إيمانه بالأخوّة التاريخية التي تجمع بين اليهود والمسلمين.. فقد كتب مرة بأن اليهود يعدّون نسيجاً عربياً يشبه الفسيفساء، أو هم عرب يهود، وهم أنساب أو أسلاف العرب المسلمين، أو أن العرب هم يهود – فقط – على ظهور الخيل.
وذهب لأبعد من هذا، عندما اعتبر اليهودية والمسيحية والاسلام – تاريخياً - ديانات عربية!، ولكن اليهودية أقرب للإسلام من المسيحية.
وتبريراً لفكر (دزرائيلي)، في هذا المجال، فإن (لويس) يعزو ذلك الى ما يسمّيه بالوسواس العنصري الذي سيطر عليه عموماً، والعنصر اليهودي خصوصاً، فقد كان معجباً بالإسلام وبالفرس والأتراك والعرب، وأنه فكّر في شبابه في الانضمام للجيش التركي كمتطوع!.
من هذا نستطيع أن نقول إن تيار (دزرائيلي) لم تسنح له الفرصة لإثبات وجوده أمام التيار الذي تحالف مع القوى الاستعمارية آنذاك، واخترقها مالياً وعقائدياً، ثم نجح بإقامة (إسرائيل) بعد مخاض طويل، ليجد اليهود والعرب أنفسهم في مواجهة لن تنتهي أبداً، إلا إذا حدثت معجزة!
الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك